إنه لم يبل أحد بمثل ما بلي به رجل انتصب للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وذب العباد عن طرق الفساد، ودعاهم إلى الهدى والرشاد، لأن دواعيهم إلى المقبحات متوفرة، وصوارفهم عن الطاعات حاضرة، والنفوس مجبولة على كراهة من صدها عن شهواتها ومراداتها، وجذبها إلى مكروهها وغير عاداتها، والمحاول لذلك رجلان: أحدهما حاوله من طريق التلطف، والتدخل بالرفق، وليس له يد قهر، وهذا أمره على النفوس أهون، وتحاملها عليه أدون، والآخر بين رجلين ذي يد قاهرة فيقهر الناس على ما ذكر، ولا يستطيعون لأمره ردا، ولا محيص لهم عن الدخول في طاعته، ويتصرف فيهم كيف أحب، فهذا أمره على الناس شاق صعب، إلا أن عظم سطوته وقوة دولته وتقوي يده دمغهم، فينكتم ما في أنفسهم بالكلية ويؤول أمرهم إلى التحبب إليه وإظهار الاعتماد عليه، ولا يعالجونه إلا بالتقرب لديه، وإظهار طاعته، وأنهم منه وفي يده ويتمنون خفية أن يستريحوا منه وتمكنهم الفرصة من إهلاكه، ولا يظهر تحاملهم عليه إلا إذا لحقته نكبة، أو زالت دولته، فحينئذ يرى منهم في أمره العجب العجاب، وذي يد لا هي بالقاهرة جدا -بحيث أنه لا يد عليها- ولا معارض لها، ولا تخلو من حكمة وطرف شوكة، فهذا الذي يقع من الناس في الداء العضال لأنه جمع بين جذبهم إلى ما يكرهونه، وصدهم عما يألفونه، ومعالجتهم بالشدة مع عدم القهر الحقيقي الذي لا معارض له، فيظهر طغيانهم، وتكشف دفائنهم، وسوء أخلاقهم إليه، ويعودون بصريح السباب والذم والسب، ومحاولة النكاية، وابتغاء الغوائل، ومن كان هذه حاله وصفته فليس له من دفع بليته ومحنته إلا الفزع إلى الله، والتوكل عليه، والثقة بالله، والإلتجاء إلى الله، وإدراع الصبر، ولزوم ساحته، واستشعاره في كل أمر، والالتزام بعروته، وهذه حالتنا مع الناس، من غير زيادة ولا انتقاص، فإنا ما حظينا في حقهم بالقهر الحقيقي التام النافذ، ولا اقتصرنا على مجرد الدعاء برفق من غير شوب قهر، فليلنا من أجلهم سهر، ونهارنا من بليتهم فكر، ونحن لا نخلو من سفر بعد سفر، لا يستقر بنا قرار، ولا تطمئن بنا دار، ولا ننفك عن خصام وشجار، واغتمام وأكدار، ومن دخل في شيء من أمرنا وتولى شيئا من التكاليف المتعلقة بنا، أخذ من محنتنا هذه بحصة، على قدر ما تولاه بكثرته وقلته، واهتدى من تولى أمره وغوايته، وإنك ممن عاين من أمر هذه الجهة التي تولاها ما عرفت من الخلائق المتنكرة، والطبائع المتغيرة، والنفار عن قبول الحق والهدى، والولوع بطرق الغي والغوى، فكان في مبتدأ الأمر مالا يعزب عنك من الإمتحان الكلي، والترقب لبطلان الأمر، والإشراف على الوقوع فيما يخاف، والمقاساة لعدم الإنصاف، فصبرت وصبرنا، وما تركنا ما نحن فيه ولا نفرنا، حتى أعان الله سبحانه بازدياد قوة شوكة الحق، وضعف قوى الباطل، وتسهل الأمر عليهم بالاستمرار، وثبوت العادة، وصارت الحكمة أقوى وأبين، والمعارضة أوهى وأدون، وحمدنا الله سبحانه على ذلك وشكرناه، وأملناه زوال الشوائب ورجوناه، ولم نشعر حتى لاح لنا أن يدك لما استحكمت وتقوت، والمعارضة لك عدمت أو قلت، طمعت في الزيادة على هذه الحال، وأفرطت في التحكم على الرجال، وسلكت بهم في بعض الحوادث والأمور مسلكا غير معتاد، وصرت في التشدد والتقوي عليهم في ازدياد، حتى عادت قلوبهم إلى النفار، وعرضت لهم عوارض الاستكبار، وكدنا نعود نحن وهم إلى الحالة الأولى، والطريقة التي ليست بمثلى، لا لسوء قصد منك، ولا لجور فيما حكمت به عليهم، ولا لإرادة إثارة محنة منهم، بل عن لك أمران:
أحدهما: الرغبة الكلية في نفوذ أحكام الحق، ودمغ هام أولي العناد والشق.
الثاني: شفاء ما كان من الغيظ في المدة الماضية لتغلب العصاة وتمردهم، وما كانوا عليه من التمادي في النكر، وكثرة الأذى والهجر، ووثقت باستمرار ما قد فتح الله به من عدم المعارضة والمناقضة، وتمكن اليد وقوة القاعدة وطاعة الرعية.
Страница 432