Duroos of Sheikh Khalid Al-Mosleh
دروس للشيخ خالد المصلح
Жанры
النموذج الثاني في تعامل الصحابة مع القرآن
في الصحيحين من حديث ابن مسعود ﵁ قال: (إن الله جل وعلا لما أنزل على رسوله ﷺ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام:٨٢]) وهذه الآية فيها البشارة من الله جل وعلا لمن آمن وسلم من أن يخلط إيمانه بظلم، فقوله تعالى: ﴿َولَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام:٨٢] أي: لم يخلطوه بظلم، ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام:٨٢] لهم الأمن في الدنيا والآخرة، وهم مهتدون أيضًا في الدنيا والآخرة؛ لأن الهداية المسئولة والمثبتة لأهل الإيمان ليست فقط في الدنيا بل الهداية في الدنيا والآخرة، وهداية الآخرة أعظم من هداية الدنيا، لكنها لا تكون إلا لمن اهتدى في الدنيا؛ لأن هداية الآخرة بها النجاة من أهوال ذلك الموقف العظيم الذي تشيب فيه الوالدان ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج:٢] ففي ذلك اليوم يحتاج الإنسان إلى هداية يخرج بها من تلك الأهوال، وينجو بها من تلك المزالق، ويجوز بها الصراط، فإنه لو لم يهده الله جل وعلا إلى اجتياز الصراط ما اجتاز، وما تمكن من السلامة من صراط ورد في وصفه: (أنه أدق من الشعر، وأحد من السيف).
أيها الإخوة! إن صحابة رسول الله صلى الله وعليه وسلم لما نزلت عليهم هذه الآية أتوا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم -وقد شق عليهم الأمر- (فقالوا: يا رسول الله! أينا لم يظلم نفسه؟!) يعني: مَنْ منا لم يقع في الظلم؟! كلنا واقع في الظلم، وهذه الآية تدل على عدم حصول الأمن والاهتداء إلا بالإيمان الذي لم يخلط فيه الإنسان ظلمًا، فشرط حصول الأمن والاهتداء ألا يقع الإنسان في الظلم، ففهم الصحابة أن هذا يشمل كل ظلم: الدقيق والجليل، الصغير والكبير، الشرك فما دونه، فجاءوا إلى النبي ﷺ فشكوا إليه؛ لأنه لا سلامة من الظلم، بل كل إنسان ظالم كما قال النبي ﷺ: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، وكما قال الله جل وعلا -قبل ذلك- في شأن الإنسان: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب:٧٢] حيث حمل الأمانة وقد أعرضت عن حملها السموات، والأرض، والجبال: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب:٧٢]، وهذا الوصف لا يختص بفرد من الناس، ولا بجنس منهم، بل هو لعموم الناس، فكلهم ظالم جهول، ولا يسلم الإنسان من هذين الوصفين إلا بالاهتداء بكتاب الله وما جاءت به الرسل عن الله ﷾.
أيها الإخوة الكرام! لما جاء الصحابة ﵃ إلى النبي ﷺ يشكون ما في هذه الآية من مشقة قال لهم: (ليس الذي تظنون -أي: ليس الظلم هو الذي ذهبتم إليه- إنما هو الشرك، كما قال الله جل وعلا في وصية لقمان لابنه وهو يعظه: ﴿يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان:١٣])، فالظلم الذي في الآية هو الشرك، فهان الأمر على الصحابة ﵃.
والشاهد -أيها الإخوة- أن الصحابة ﵃ لم يتلقوا القرآن تلقيًا باردًا، بل تلقوه للعمل، وأخذوا به على أنهم هم المعنيون، يقول ابن مسعود ﵁: إذا سمعت الله جل وعلا يقول في كتابه: (يا أيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك -يعني: أصغ إليها، وأعطها أذنك- فهي إما خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه.
وهذا لكونهم أخذوا القرآن للتلقي والعمل، وأن كل ما فيه خطاب لكل من سمعه، وخطاب لكل من بلغه، وليس المخاطب به قوم مضوا ولم يبق لنا منه إلا أن نتعبد ونتقرب إلى الله جل وعلا بما فيه من الألفاظ، وما فيه من الكلام الذي جرد عن معناه، ولم يقصد ما تضمنه، لا؛ بل إن الصحابة ﵃ ضربوا في هذا أمثلة رائعة، وانقادوا لما في كتاب الله جل وعلا انقيادًا تامًا، فهذا أبو بكر ﵁ تتهم ابنته عائشة في عرضها! ويبرأها الله جل علا في سورة النور في قصة الإفك، وتبين أن من جملة من رمى عائشة وتكلم فيها: مسطح بن أثاثة، وهو قريب لـ أبي بكر ﵁، وكان أبو بكر يصله ويعينه، وكان فقيرًا، ثم لما تبين الأمر وتبينت براءة عائشة ﵂ حلف ألا يصله -بعد أن فعل ما فعل- شيئًا من عطاياه، فأنزل الله جل وعلا قوله ﷾: ﴿أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [النور:٢٢] فقال أبو بكر ﵁: بلى بلى، فانتهى عن الامتناع مما جرت به يده ﵁ من الصدقة والإحسان على مسطح بسبب ما كان منه من إساءة لـ عائشة رضي الله عن الجميع.
2 / 9