فتجلت الدهشة في عيني حسين، وتوثب إلى مزيد من المعرفة، ولكن سرعان ما بدا على الآخر ما يشبه الندم على ما فرط منه، وأبى أن يزيد كلمة واحدة. - يبدو أن عملكم شاق حقا. - حياتنا تفنى بين أوراق القضايا.
واضح جدا أنه مرهق بالعمل، كما كان وهو طالب، رهبنة نبيلة وكفاح متصل، وثمانية أولاد، وتصوف! - مع ذلك يرى الموظفون في كادر القضاء جنة النعيم!
فقال مبتسما: لنا الجنة!
وعرض عليه الصورة المدرسية، فنظر فيها باهتمام، فأشار حسين إلى حامد زهران متسائلا: ألا تذكر هذا الطالب؟ - كلا! - حامد زهران، من ساقطي البكالوريا، مدير شركة، 500 ج. م. شهريا.
فحملق في الصورة كأنما يحملق في طبق طائر، فقال حسين: ظننت الخبر لا يهز الصوفي!
وانطلقا معا يضحكان. وسأله عمن يعرف في الصورة من زملاء الدراسة، فجرى ببصره عليها، ثم وضع إصبعه على وجه في الصف الثاني، وهو يقول: محمد عبد السلام، كاتب بالنيابة، وعمل معي أول عهدي بالخدمة في أبو تيج، ولا أدري الآن عنه شيئا!
واضطر إلى السفر إلى المنيا؛ ليقابل محمد عبد السلام في مقر عمله الأخير. بدا له أكبر من سنه بعشرة أعوام على الأقل، ووجد في هيئته الرثة وشعره الأبيض الأشعث وثنيتيه المفقودتين ما يذكر بالخرابات. ولم يتذكره الرجل ولم يقتنع بدعواه حتى أطلعه على الصورة القديمة. وجلسا في حجرة استقبال سائبة المفاصل في شقة قديمة مكتظة بالذرية. - لا أعرف أحدا في هذه الصورة، طول مدة خدمتي، وأنا أتنقل من بلد إلى بلد.
ووجد حسين في قلبه نغز ألم، وشعر نحو الرجل برثاء واحترام عميقين، وسأله عن درجته، فقال: الدرجة الخامسة منذ عام، اكتب هذا يا أستاذ، ويا حبذا لو تنشر صورتي مع الأولاد، ست بنات وأربعة أولاد، ما رأيك؟ أليس من الجائز أن يكون الله قد أرسلك لي فرجا بعد الشدة؟!
ووعده بكل خير! واستدرجه للحديث عن ذكريات العمل، ورجاه أن يكتب له بالتفصيل ميزانية أسرته في عام مثلا. وأشار إلى صورة حامد زهران قائلا: هذا الزميل القديم يتقاضى اليوم 500 ج. م. شهريا.
فذهل الرجل حتى خيل إليه أن وجهه ازداد شحوبا، وتساءل: ماذا يعمل؟ - مدير شركة. - ولكن الوزير لا يقبض نصف هذا القدر! - هذا شيء وذاك شيء! - فتساءل في دهشة: كيف وفيم ينفقها؟
Неизвестная страница