لم يرفع أصبعيه من أذنيه، وأشار إلى الزجاجة وقال: في مجلس كمجلسي هذا لا أسمح بأن يتصل بيني وبين أحد كلام، إن لم يكن سكران مثلي، وإلا خلا المجلس من اللياقة وتعذر فيه التفاهم.
أفهمته بالإشارة أنني لا أشرب فقال بقلة اكتراث: هذا شأنك، وهذا شرطي!
وملأ لي كوبه، فتناولته في رضوخ وشربته، وما إن استقر في جوفي حتى اشتعل، فصبرت عليه حتى ألفت عنفه، وقلت: إنه لشديد، وأظن آن لي أن أسألك عن ...
لكنه أعاد إصبعيه إلى أذنيه، وقال: لن أصغي لك حتى تسكر!
وملأ الثاني فنظرت إليه مترددا، ثم تغلبت على احتجاجي الباطني، وشربته دفعة واحدة، وما إن استقر في موضعه حتى فقدت إرادتي. وعلى أثر الثالث ضاعت ذاكرتي، وعقب الرابع اختفى المستقبل، ودار بي كل شيء، ونسيت ما جئت من أجله. أقبل علي الرجل مصغيا، ولكني رأيته محض مساحات لونية لا معنى لها، وهكذا كل شيء بدا. ومر وقت لم أدره حتى مال رأسي إلى مسند الكرسي وغبت في نوم عميق، وفي أثناء نومي حلمت حلما جميلا لم أحلم بمثله من قبل. حلمت بأنني في حديقة لا حدود لها، تنتثر في جنباتها الأشجار بوفرة سخية، فلا ترى السماء إلا كالكواكب خلل أغصانها المتعانقة، ويكتنفها جو كالغروب أو كالغيم. وكنت مستلقيا فوق هضبة من الياسمين المتساقط كالرذاذ، ورشاش نافورة صاف ينهل على رأسي وجبيني دون انقطاع. وكنت في غاية من الارتياح والطرب والهناء، وجوقة من التغريد والهديل والزقزقة تعزف في أذني، وثمة توافق عجيب بيني وبين نفسي، وبيننا وبين الدنيا، فكل شيء حيث ينبغي أن يكون بلا تنافر أو إساءة أو شذوذ، وليس في الدنيا كلها داع واحد للكلام أو الحركة، ونشوة طرب يضج بها الكون. ولم يدم ذلك إلا فترة قصيرة فتحت بعدها عيني. أخذ الوعي يلطمني كقبضة شرطي، ورأيت ونس الدمنهوري ينظر إلي بإشفاق، ولم يكن بقي في الخانة إلا بضعة أشخاص كالنيام. وقال الرجل: نمت نوما عميقا، لا شك أنك جائع نوم.
فأسندت رأسي الثقيل إلى راحتي، ولكنني رددتها في دهشة ونظرت فيها، فرأيتها تلمع بقطرات ماء، وقلت محتجا: رأسي مبتل!
فقال بهدوء: نعم، حاول صاحبي أن ينبهك! - أرآني أحد على هذه الحال؟! - لا تغتم، إنه رجل طيب، ألم تسمع عن الشيخ زعبلاوي؟
فانتفضت قائما وأنا أهتف: زعبلاوي؟!
فقال بدهشة: نعم، مالك؟! - أين هو؟ - لا أدري أين هو الآن، كان هنا ثم ذهب.
هممت بالجري، ولكن إعيائي كان فوق ما قدرت، فما لبثت أن تهاويت فوق الكرسي، وصحت بيأس: ما جئتك إلا لألقاه، ساعدني على اللحاق به أو أرسل أحدا في طلبه!
Неизвестная страница