ثم ختمته بيد ثابتة رصينة وخرجت من مكتب البريد، وألقت الكتاب في صندوق التوزيع وانطلقت في أحد الأزقة.
وكان الليل هادئا قارسا، والقرة تتزايد وتشتد، والجو مرتكم الظلمات حالك الأديم تلتمع فيه نجوم الشتاء، وكان السكوت من ورائها وأمامها ويمينها ويسارها لا يكدر صفاءه أدنى ركز أو جرس من عالم الإنسان، والبحر عن يسارها ينداح وينفسح راكد اللج جامد الموج كأنه جني هائل الجثة رائع الجسامة.
فدلفت إلى الساحل عجلى.
سعت إلى الخضرم الخضم تلك الفتاة اللدنة الغضة الصبا، الممتلئة ميعة وقوة وحياة، الراجحة النصيب من ذلك النشاط الذهني العظيم الثمرات عند توجيهه في سبيله، الوبيل العاقبة إذا انعكس على ذاته وارتد على نفسه.
إن روحها لتصرخ من كل ذرات كيانها هاتفة: «ماذا كان يكون حبي وإخلاصي له وعبادتي إياه لو أنه شاء ذلك!»
انحدرت إيزابلا عن السهل المنفسح المشرق إلى حافة الماء الرطبة المظلمة، وكان دافعها الوحيد المستولي على ذهنها وروحها، هو التسلل من عالم الشعور إلى عالم النسيان، والفرار من هذا الإحساس الأليم الذاهب بالعقل والصواب، هو اطراح ذلك الشعور الموجع المضاض وخلعه وإلقاؤه في لجة الماء كما يخلع الرداء!
فهي ترنو إلى بريق الماء ولألائه مرتاحة مطمئنة لا يعروها خوف ولا وجل. وإن وميض البحر وبصيصه أقر لجفنها القريح، وأروح لقلبها الجريح من فراشها في غرفتها الموحشة، حيث طالما قضت الليل الطويل بالأرق والسهاد والحسرة والجوى، أما ها هنا فليس إلا الراحة والسكون والنوم الهادئ الطويل الذي لا تستيقظ العين من رقدته على صياح كريه موحش، وكأنما قد فقد الموت في ذهنها معناه وتجرد من صفاته ، أو كأنما قد سقطت فكرة الموت البتة من عقد أفكارها، وسلسلة خواطرها. ولا يخفى أن الرغبة في حسم الألم عند إفراطه أشد وأقوى من الرغبة في الحياة ذاتها.
تتعثر قدماها على الشاطئ الأسود المبلول حتى تنتهي إلى البقعة اللزجة اللثقة، والزحلوقة الزل الزلقة، كأنما قد غمر الرملة زيت يتحير على وجهها ويتربع.
ثم تمضي قدما فيرتفع الماء إلى كعبيها ثم إلى ركبتيها ثم إلى خصرها، وحينذاك تنطرح على الماء ملاقية ذوائب الموج بذوائب شعرها المتموج، ولاثمة ثغر الحباب بثغرها المضاهية رونقا وغرة، وشبما وقرة. وكذلك رمت بنفسها في أحضان الموج كما حدثتها النفس مرة أن تلقي نفسها على صدر حبيبها.
ثم تمد ذراعيها على الماء وبها كالنشوة من السرور، وتبدأ في السباحة تؤم الأفق، وتناجي نفسها والماء يطوق خصرها: «هذا كذراعيه!» ويمس ثغرها فتقول: «هذا كشفتيه! ويشبه برودة عواطفه!» •••
Неизвестная страница