فيقول لنفسه: «إن الفتاة تحاول توريطي، والتغرير بي.» وهذه الفكرة تستثير كل ما يكمن في نفسه من غرائز العناد والإصرار والمحارنة.
ويقول لنفسه: «ألا إنه لا يرغمني على إعطاء الوعود مرغم، إني أعد الوعد متى شئت، فأما قبل ذلك فلا.»
ثم يقول لها بسكون ورباطة جأش، وبلهجة جافية عرفية: «أشكرك على قول هذا.» ••• (الآن بعد مرور هذه الحوادث وانقضاء هذه المأساة، يقضي إصطفيان الليل الموحش البطيء بالأرق والسهاد، فتتمثل له الفتاة ماثلة أمامه كما كانت في تلك الليلة، وتتراءى لعينه صفرة ذلك الوجه الحزين، تتراءى لعينه صفرة ذلك المحيا الكاسف الحزين في كل آن ولحظة - الآن - بعد فوات الفرصة وضياع الأمل، أما في تلك الليلة فلقد أعماه العناد عن صفرة ذلك الوجه الحزين، فأعماه عن منهج السداد، وعن سبيل السعادة والنعيم!)
هذا الرجل الذي قضى من عمره خمسا وعشرين حجة يتلمس الحب الصادق، والوداد المحض ولا يناله، لما هداه الحظ إلى بغيته، وساقه القدر إلى أمنيته؛ داسها بقدمه الأثيمة، وهو لا يكاد يشعر بما يجني ويقترف! •••
لقد أصاب جوابه الأخير كبدها بجرح يعجز الأساة، وبطعنة حرام رأبها حتى الممات.
2
فوجمت، وخيل إليها أنه يستحيل البتة عليها أن تفوه إليه بكلمة أخرى، ولكن ما يجيش بصدرها من سعير الهيام والوله، يحفز عزمها إلى ركوب الخطة العوصاء، والمسلك الخشن العسير كرة أخرى.
فتقول: «أهذا كل ما تستطيع أن تقوله لي؟ ألا تحفل بي مطلقا.»
فينظر إليها ويتردد، وتناجيه نفسه قائلة: «لله ما أحلى وما أجمل! وما كل هذه الرقة والتلطف والتودد والتزلف والحياة والخفر، وهي مع كل ذلك تفيض حبا وغراما وشغفا وهياما، هذا وأيم الله الهوى العذري، والحب الصادق! فما لي أرده ردا وأرفضه رفضا؟»
وكأني به الآن وهو ساه ساهر نهب الهواجس والوساوس، يعض بنانة الندم أسفا، ويقطع نفسه حسرة ولهفا، يشبه نفسه بالغواص الذي قضى حينا يكابد الموج ويكافح اللج ويدافع التيار ويصارع الغمار، ويرسب إلى القرار، حتى إذا صعد بالدرة العذراء، واللؤلؤة الغراء، داخله الشك في حقيقتها، وارتاب في مبلغ خطرها وقيمتها، ثم عراه مع ذلك شيء من اللوثة والخبال، فقذف بها في حومة الماء، ثم أفاق فأدرك عظم نكبته، وهول محنته، أقول: كأني به يشبه نفسه بذلك وبأمثال ذلك، وتناجيه نفسه بما يشبه قول القائل:
Неизвестная страница