الفرن‏

القهوة‏

بربارا‏

الأسد يموت‏

الديك‏

الشاعر‏

لماذا نسيتني؟‏

أحلام الفارس القديم في رحلة السندباد الأخيرة‏

جلسة عائلية في الحديقة‏

الوصية‏

دموع البلياتشو‏

أوراق صينية‏

الحكيم يملي دموعه المؤجلة‏

الفرن‏

القهوة‏

بربارا‏

الأسد يموت‏

الديك‏

الشاعر‏

لماذا نسيتني؟‏

أحلام الفارس القديم في رحلة السندباد الأخيرة‏

جلسة عائلية في الحديقة‏

الوصية‏

دموع البلياتشو‏

أوراق صينية‏

الحكيم يملي دموعه المؤجلة‏

دموع البلياتشو

دموع البلياتشو

مجموعة قصصية تنشر لأول مرة

تأليف

عبد الغفار مكاوي

جمع

عطيات أبو السعود

مقدمة

بقلم عطيات أبو السعود

رحل عبد الغفار مكاوي يوم الاثنين الموافق 24 ديسمبر 2012م بعد أن داهمه التهاب رئوي لم يمهله سوى يومين، وكان للرحيل المفاجئ والسريع وقع الصاعقة علي، فقد كان قبل يومين فقط يواصل عمله اليومي في مكتبه ولم يسقط قلمه من يده على الإطلاق، ظننا جميعا أن إصابته بالالتهاب الرئوي هي وعكة بسيطة وسرعان ما يتعافى منها، ولكن شاءت الأقدار أن تتدهور الحالة في غضون 48 ساعة فقط لينتهي كل شيء بصورة غير متوقعة.

وجدت نفسي أنظر حولي في ذهول، وربما لأول مرة أجدني أتساءل بشكل وجودي عن معنى الحياة والموت، ووقفت أمام المفارقة الكبرى الحياة والموت، الحياة بكل ما تعنيه من حيوية ووجود ولحظات أمل، والموت بكل ما يعنيه من سلب للوجود وانطفاء للوعي ووأد كل الآمال، وقفت أتساءل:

كيف يمكن لهذا الذهن المتقد لآخر لحظة أن يتوقف؟ كيف يتحول هذا الشغف والعشق للقراءة والكتابة - حتى الرمق الأخير - إلى سكون أبدي؟

كيف يمكن لهذه الروح المسكونة بالحياة والحب والعطاء أن تسلم بهذه السرعة؟

كيف يمكن لهذا الوعي الحاد أن ينطفئ فجأة بدون مقدمات؟

ظللت لفترة طويلة بعد هذا الرحيل المفاجئ لا أملك الشجاعة لدخول حجرة مكتبه - أو صومعته كما كنا نطلق عليها - وظلت غرفة مكتبه مغلقة لفترة لا أتذكر مداها الآن، فلم أكن أستوعب أن أفتح الغرفة ولا أجده، وهو الذي كان يمكث بها بالساعات الطويلة، منعزلا عن كل شيء إلا كتبه وقلمه، كانت غرفة مكتبه هي المحراب الذي يفقد فيه الإحساس بالمكان والزمان محاطا بكتب المفكرين والشعراء والفلاسفة الذين عاش أفكارهم وفلسفاتهم مواقف وتجارب حياتية عاشها بكل كيانه، كابدها وعاناها.

عاش عبد الغفار مكاوي كاتبا وفنانا ومبدعا يلتمس الهدوء والسكينة، يعمل في صمت وبلا صخب ولا ضجيج إعلامي، عازفا عن الأضواء، زاهدا في شهرة أو تملق سلطة، كان يقول دائما: «إنني أومن بالعمل الصامت الصادق في الظل، وسواء جاء شيء من التقدير في حياتي أو بعد موتي أو لم يجئ على الإطلاق، فيكفي أنني تخليت وعكفت وأخلصت قدر طاقتي المحدودة.»

اضطررت في النهاية تحت إلحاح الأصدقاء أن أدخل المكتب لفحص الأوراق، والوقوف على ما كان يعكف عليه، فوجدت على المكتب آخر أوراق كان يكتبها، وهي عبارة عن مشاهد ولقطات متفرقة من فصول لمسرحية فرعونية، وبطبيعة الحال لم تكن مكتملة، ولكني عثرت على بعض القصص القصيرة ضمن أوراق مبعثرة في أدراج مختلفة من المكتب، بعضها مكتوب بخط يده، وبعضها الآخر منسوخ على الآلة الكاتبة. وهذه المجموعة القصصية هي التي بين أيديكم الآن، وقد حاولت بمساعدة بعض أصدقائه معرفة هل تم نشر هذه القصص القصيرة من قبل أم لا؟ وبعد بحث طويل تبين أنها لم تكن ضمن مجموعاته القصصية المنشورة (ابن السلطان - الست الطاهرة - الحصان الأخضر يموت على شوارع الأسفلت - أحزان عازف الكمان - يونس في بطن الحوت - بكائيات - النبع القديم - القبلة الأخيرة)، فذهب تفكيرنا أنه على الأرجح كان ينوي تجميعها ليعدها للنشر كمجموعة قصصية جديدة.

وجدت أيضا مجموعة أخرى من القصص القصيرة استبعدتها من هذه المجموعة التي بين أيديكم؛ لأننا مع البحث وبمساعدة صديق قديم له، تبين أنها نشرت في مجلات أدبية متفرقة في فترة الستينيات والسبعينيات، فآثرت أن أقدم فقط ما تبين أنه لم ينشر من قبل، وأتمنى أن يجد فيها القارئ شيئا ما أو مغزى ما يستحق عناء القراءة. لقد كان عبد الغفار مكاوي يردد دائما أن أمة «اقرأ» لا تقرأ؛ لذلك كان يقول: «لو عاشت لي قصة واحدة أو عمل واحد في ضمير قارئ واحد، فسأغمض عيني في النهاية وهي قريرة وسأقول لنفسي: لم يضع العمر هباء.»

كان عبد الغفار مكاوي يعرف تماما أن كل كائن حي فان، ولا بد أن تكون له نهاية، ولكنه عندما سئل عما هو الإنسان؟ أجاب: «الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يقاوم الموت بكل أشكاله، وهو الإنسان الذي يواجهه الموت بكل أشكاله المختلفة، وهو الإنسان الذي يؤكد مجد الحياة والعقل والحرية بما يبنيه من حضارة وما يبدعه من فن وأدب، وكأنه كائن يتحدى الموت دائما وكأنه يقول للوجود:

إذا كنت سأنتهي للعدم، ولكنني لست عدما، فسأترك ما يدل على وجودي.»

ولقد ترك عبد الغفار مكاوي ما يدل على وجوده، فغياب الجسد لا يعني الغياب المطلق؛ لأن له حضورا يخترق حواجز المكان والزمان.

الفرن

1

دفع الباب الكبير بيده المرتعشة المتثاقلة فلم ينفتح، وإنما خرج منه صوت مبهم كئيب يشبه عواء كلب مريض، وعاد فضغط عليه بكلتا يديه، ومرت كفه النحيلة الطويلة الأصابع، الباردة العروق تتحسس جداره الخشن، عن يمين وعن شمال، وتتلمسه كما تتلمس حائطا أثريا لا طاقة لها على دفعه، ثم ألقى بوجهه المهزول على الباب، وأخذ يديره على الملمس الخشن، يعلو ويهبط، وكأنه يترنح مع خواطره الدائرة في هذا الرأس المتعب، يعلو معها ويهبط، أو يتمثل صورة الثور العجوز الرابض في «دويرة» جاره الحاج عبد اللطيف حين يحك رأسه بالجدار، ويهرش لحمه بالحائط، ولكنه لم يطل لبثه هناك، بل استند بجسده كله على الباب، ودفعه بكتفيه، فأحدث عواءه المتقطع المتثائب، ثم تسلل منه كما يتسلل الطيف، صحا لتوه من مقبرة.

ودار محمود بعينيه الغائرتين في المكان فلم يتبين شيئا، وخطا خطوة أو خطوتين وفتح عينيه جيدا، ومال بهما إلى حيث يأتي إليه بعض شعاع ظل يدافع موج الظلام طويلا حتى أدركته عيناه.

وهناك وجد اللمبة نمرة «5» كما تركها منذ قليل، معلقة على المسمار في الركن القصي، وعلى زجاجتها هذا الهباب الأسود الثقيل الذي لا يغادرها أبدا.

كان كل شيء في هذه القاعة (التي لم يكن يكره في دنياه شيئا مثل أن يسميها بالغرفة، وكيف لا ؟ أوليست أكبر من هذه وأرحب مسافة؟) كما تركه هامدا جامدا، قد شنقته حبال الصمت. أما زوجته فها هي كما تركها وراءه منذ لحظة، والقاعة تموج بالناس، ساكتة كالسكوت، حية كالميتة، صاحية كالنائمة، وإن محمودا ليستطيع أن يجزم في نفسه بأنها لم تحرك حتى رموش عينيها، واقترب منها حتى كاد يلامسها، وظل واقفا حتى تعبت قدماه، وأراد أن يحرك يديه فيعلو بهما إلى فوق ثم يهبط بهما قليلا، لعل ذلك أن يوحي بالحزن، وأراد أن تتحرك شفتاه المقفلتان بصوت، ببحة خافتة، بصرخة تسمعها امرأته، ترفع إليه وجهها، وتقول له في صوت لا يمكنه أن يسمعه: «إنني أشكرك يا محمود»، وأراد محمود أن يتنهد بملء صدره، أن يخرج الهواء من رئتيه قويا لافحا يشبه الريح الساخنة، الزافرة، فتومئ إليه امرأته، وتهدهد رأسها وتقول له اجلس إلى جانبي، فقد أتعبتك بالحزن كثيرا، وود محمود لو يستطيع أن يلقي هذا الثقل الذي احتمله على كتفيه مسافة بعيدة، وها هو يعود بعد أن أفرغه من جسد كان فيه، أراد أن يقذف بهذا القماش الطويل العريض، المشئوم، على الأرض، فتلتفت إليه امرأته، وتصنع له شكرا.

وانكمش محمود بجسمه الطويل في بطء، وأراد أن يبرر فعلته، ويفسره لنفسه، فأقعى أمام امرأته ومد ذراعيه النحيلتين كالعصوين الجوفاوين وخفض رأسه حتى لقد كادت أن تلمس الأرض، واستند بخده على ذراعها، وأخذ يضغطه عليها ضغطا خفيفا ثقيلا، ثم تمتمت شفتاه في صعوبة «ز... ي... ن... ب» وما كاد يلفظها حتى أحس بيدها تبحث عن يده، حتى إذا وجدتها ضغطت عليها في رفق، وقنع محمود بذلك، فأخذ يهز رأسه الهزيل المعروق، ويترنح به يمنة ويسرة يريد لو يستطيع أن يخرج لسانه الذي لا يحسن كلمة واحدة أن يبل به كفيها، وكل قطعة من فستانها الأسود الكالح في السواد، ثم هب واقفا على قدميه، ودار على نفسه دورة أو دورتين، ثم ألقى بالأكفان التي أتعبت كاهله في الركن الأجوف المنور من القاعة، ومد يديه في فجوة يعرفها جيدا ويحتجزها له وحده فأخرج لباسا أزرق شديد العتمة، أخذ يعالجه حتى وضع فيه جسده، ودار على نفسه دورة أو دورتين ثم دلف إلى الباب ففتحه في عناء، وأغلقه من خلفه في عناء كذلك.

2

كانت «زينب» حين غادرها زوجها، وحين عاد إليها، جالسة على الحصيرة البالية، مستندة على حائط الفرن العتيق، وكانت عيناها قد دارتا في المكان، وتعلقتا بكل ما يحتويه، وتوقفتا عند كل شيء فيه، عند هذه الكنبة الملقاة في جانب منه، عند هذه اللمبة «5» التي ما انفك الناموس يطنطن من حولها، والهباب الأسود يحجب زجاجتها شيئا فشيئا، عند هذه الوسادة التي كانت أمها الميتة مسجاة عليها في أول النهار، عند هذا القماش الفضفاض المكوم في ركن من القاعة والذي ألقاه زوحها عن كتفيه منذ قليل. غير أن هذه الأجسام كلها لم تستطع أن تخطر ببالها فكرة واحدة، ولم ترجع بها إلى ذكرى من الماضي واحدة، ولم تربط بينها وبين أمل أو خوف، أمل واحد، أو خوف واحد. وحاولت زينب أن تجد شيئا يحمل إليها ما يميز بينها وبين هذه الأشياء جميعا. جهدت في أن تلتمس شيئا، فكرة، حركة، فعلا، يضع بينها وبين هذه الأشياء كلها سورا فارغا، ولم تقدر على أن تجد ما يقول لها، ويصرخ في أذنها: أنت زينب، وهذا الجدار الذي استند عليه جسدك منذ الصباح ليس وإياك شيئا واحدا. وأحست أنها لا بد أن تفعل شيئا، وأنها لا بد أن تجد في وعيها دفعة واحدة تنأى بها بعيدا عن هذا الفرن الذي يكاد أن يصهرها ويأكل بالنار جسدها وعظمها وفكرها، وتذكرت أنها جائعة، وأن أمعاءها قد تقلصت وتقبضت ولم يعد بد من أن تلقي إليها بلقمة أو لقمتين، فشالت ظهرها عن الحائط، وارتكزت بيديها على الأرض ثم نهضت على قدميها المخدرتين المتململتين، وخطت خطوة واحدة إلى القفة المعلقة بالحائط وأخرجت منها رغيفا كانت قد أكلت بعضه، ومرت به على جلبابها تمسح عنه السواد العالق به، وأرادت أن تعود إلى حيث كانت قابعة، وتعلقت عيناها «بمخدة» وراء الباب، وترددت كثيرا قبل أن تمد إليها يدا، وتلفتت حولها كأنها ترى عينين مفتوحتين ترقبانها في الظلام، ولكنها لم تحفل بشيء، فانتزعت المخدة المطوية، وقعدت عليها، وأسندت ظهرها إلى الفرن، وراحت تلوي في فمها لقمة خشنة فتحدث صوتا خشنا.

3

على هذه المخدة نفسها جلس أبوها حين كانت صغيرة، نعم، لقد كان ذلك منذ زمان طويل، ولقد تعلمت منه أن هذه المخدة له وحده، وأن صوته الخشن المتحشرج لا يزال يطرق أذنها قويا، منذرا، متوعدا: «زينب، حذار أن يقترب أحد غيري من المخدة.» يوصيها بذلك في أول النهار، حين يتأهب للخروج كعادته، وفي آخر النهار حين يتربع عليها ثم يتنحنح ويعطس ويخرج أصواتا غريبة تسعى إلى أذنيها دائما من النوم الذي يرنق أجفانها. هل كانت هذه المخدة حجابا من الأحجبة التي لا ينفك أبوها يحشده بالأسرار؟ هل كانت حرما مقدسا يضاف إلى المقدسات التي ملأ بها أبوها عليها هذه الحجرة ولو شاء لما ترك من العالم حيزا من المكان لم يضع فيه محرما؟

وذكرت زينب ذلك كله، ثم تحسست هذا الشيء الناعم الداني من تحتها، وتذكرت أباها.

4 - أمي، ذا هو أبي قد عاد. - كيف عرفت؟ - آخ. تف. يخرجها من فمه ومن أنفه، حين يكون على رأس شارعنا، إن أذني تتعرف عليهما في كل يوم، أليست هذه علامة كافية؟ - آه يا ابنتي، كم أحس بالجوع! ليته يعود «بالبقجة» وفيها أثر من الزاد.

كان الشيخ عبد الغني مقرئا من هؤلاء المشايخ الذين تكتظ بهم القرية حتى لتكاد أن تكون صناعة من لا صناعة له. صحبته زينب منذ تعلمت كيف تسير على قدميها، فقد كان رجلا ضريرا. تلك سنوات طويلة قضتها وهي تجره إلى حيث يريد لها أن تسير، غير أنها لا تذكر من ذلك كله إلا الوجه الصلب، والسحنة المتجهمة، والوقار الذي يتكلف الجد حتى يصير طبيعة لازمة، والفم المغلق الذي لا ينفتح إلا عند تلاوة القرآن، ولقد عرفت مداخل البيوت جميعا، ولكن قدميها لم تكونا تتعديانها أبدا. - بيت من هذا؟ - الشيخ منصور ناظر الوقف.

ثم يضرب أبوها الباب بعصاه مرة أو مرتين، ويمد يده إلى حبل قصير فيجذبه إليه، ويتحرك الترباس الغليظ، ثم يدلف من العتبة إلى الداخل وهو يطلق صوته القوي الواضح: يا ساتر. ويكرره مرة أو مرتين، ثم يميل على ابنته: ألا ترين أحدا؟ وحين ترد عليه بالسلب يضع جسده المتعب الثقيل على الكنبة ويتربع ثم يبدأ في قراءته، وهي تذكر الآن مجلسها هناك، عند هذا المدخل الذي لم تجتزه أبدا إلى ما وراءه، وهي تذكر أن عينيها لم تكونا تستقران، فقد كانت ترسلهما في قلب البيت تنقبان عن سر مجهول في داخله، ولكنها كانت تخرج من البيوت جميعا كما دخلتها، لم تتخط العتبات إلى ما وراءها، ولقد كان أبوها يتوقف عن قراءته ويميل عليها مستفسرا بسؤال لم يكن يتمه أبدا: ألم يأت أحد بالراتب؟ ثم لا ينتظر منها جوابا، بل يمضي في قراءته ليعود بسؤاله لها: العيش، ألا ترين دخانا يتصاعد؟ ولكنها لم تكن تجيبه أبدا، بل ترسل عينيها الباحثتين أمامها، وحين ينتهي أبوها يشد من جلبابها ويقول لها: إلى دكان الأسطى السيد.

وكان الأسطى السيد هذا سمكريا في الشارع الضيق القريب، ولقد كانت تبلغها دقات القواديم وأصوات الصفيح المطروق وتصليح البوابير وهي في طريقها إليه، وكان الشيخ لا يسألها عن مكانه أبدا، فكان يرفع صوته في جهد قائلا: «السلام عليكم ورحمة الله.» فكانت ابنته تنبه إلى أنهما لم يدركاه بعد، حتى إذا اقترب منه صاح قائلا: «السلام عليكم.» فتعود ابنته لتقول له وهي شبه غاضبة: «لسه شوية.» ويزمجر الرجل، وتتمتم شفتاه باستغفاره المألوف.

ويتخذ الشيخ عبد الغني مكانه المنزوي في داخل الدكان، ويظل يرفع في صوته ويجود في قراءته، ويدخل عليها هذا الإيقاع المنغم الذي لا يحسنه إلا قارئو المآتم، ويشق على حنجرته المتعبة لكي ينفذ صوته من خلال الطرقات الصاخبة إلى الآذان، وحين ينتهي من قراءته ويتأهب لوضع حذائه المتهالك في قدميه يصيح به الأسطى سيد مستغربا: «يا شيخ عبد الغني أفلا قرأت علينا شيئا من كتاب الله؟» - ولكن يا أسطى سيد، لقد قرأت عليك جزء عم بأكمله. - آه، إنني لم أسمع منه حرفا. - لقد كنت أصيح كلما ازدادت القواديم لجبا أن استمعوا. - إذن فمر بنا غدا. - ولكن ...

ويقاطعه الأسطى سيد ويصيح: «نحن معذورون يا شيخ عبد الغني، غدا، غدا، يا لله.»

وكانت زينب حين يدور هذا الحوار اليومي بين الرجلين تحرص على أن تكون يدها الهزيلة الخائفة ممدودة نحو السمكري، وكيف تنسى أن تفعل؟ وهل تهمل تعليم أبيها لها؟ يدك، يدك يا زينب، لا تريحها أبدا، لا أريدك أن تضعيها إلى جانبك كما يفعل بقية الناس، بل مديها إلى إمام، إن الرزق لا يهبط على الأيدي المنقبضة المقفولة.

5

وعاد أبوها يوما إلى بيته مهرولا، فكانت زينب تلتقط أنفاسها في صعوبة وهي تلهث وتجري لتلحق به، وحين دفع الباب صاح وهو يكح في عنف ويستعيذ من الشيطان: «الموت حق، الموت حق.» واندفعت نحوه امرأته قائلة: «ما لك يا شيخ عبد الغني؟» ثم مرت بكفها على جبهته وتلمست يديه ومسحت على رأسه وهي تستعيذ بالملائكة من كل شيطان، وقالت في أسى: «أنت دافئ الليلة.» وأمر الرجل بمخدته، فأخرجت من مكمنها ووضعت له، وحين استراح عليها اطمأن إلى أنه سعيد حقا، وأنه مرتفع عن الأرض كثيرا، وأنه أعلى من سواه شأنا.

هذه المخدة الطرية الناعمة تبعده عن عذابه الخشن القاسي، أولم ينس حياته البائسة حين يعود إلى بيته فيستند عليها ويتلمسها؟ ثم يهتف عاليا: «ما أكثر نعمك يا رب!» وتحسس الرجل حذاءه واطمأن إلى أنه قد وضع أمامه، ثم هتف بامرأته وابنته أن اقتربا مني، ونفخ يده كما يفعل كل مساء، وأخذ يقرأ آيات كثيرة مما ألف أن يتلو قبل نومه، ثم مر بيديه على رأسه ومسح بهما وجهه وجسده حتى قدميه.

وحين تم أوراده مد يده في حذر إلى جلبابه فرفعها، ثم غاص إلى حزام عريض من الصوف قد لفه على بطنه، ودسها فيه وقتا غير قصير، ثم اتجه إلى امرأته وهمس في أذنها: «هل أنت شجاعة يا امرأة؟» ولكنها لم تقل شيئا، فعاد يسألها: «هل أنت شجاعة يا امرأة؟» ولم تدر كيف تجيب، فلقد تعلقت عيناها باليدين القابضتين على شيء لا تدريه تمتدان إليها في حذر وإبطاء لكي تلقيه في حجرها. - ما هذا يا شيخ عبد الغني؟

إنها ثروة العمر، سبعة جنيهات، أجل، سبعة جنيهات قد حفظتها لألقي إليك بها الساعة. - ولكن ...

ووجدت زينب أباها يبحث عنها، فاقتربت منه خائفة، ومد الشيخ يديه إليها، ثم جذبها إليه في قوة وضمها إلى صدره، وهمس في أذنيها: سبعة جنيهات يا زينب، ستدخلين بها الفرن، سبعة جنيهات يا زينب، اشكري أباك الذي صنع لك مستقبلا، وسألته زينب عن هذا الفرن وماذا عساه أن يكون؟ ولكنه وضع يده على فمها فسكتت، وسمعته يقول: «نحن فقراء يا رب، ولكننا مذنبون، وهذا الفرن، والنار التي تتضرم فيه، فكيف بنا على احتمال نارك الحامية؟» وكان رأسه يهتز ويترنح وصوته يختلج وينساب فيه الندم، ثم يندفع في نشيج متصل لا يهدأ، ويعود كالمستيقظ من نوم متعب لكي يذكر امرأته بالنار، وبأن فرنها هذا الماثل أمامها ليس إلا شبحا للفرن الذي أعد للمذنبين، وللفقراء، وبأن دموع الندم وحدها هي التي تطفئ لهبه. والحق أن زينب لم تدرك من ذلك كله شيئا، ولم ترد أن تفهم منه حرفا، وإنما ثبتت عيناها عند الصرة الملقاة في حجر أمها، المحجوبة تحت رأسها المطرقة في خشوع، ثم التفتت إلى الوراء فوجدت الفرن كما هو، يشكو من أن ناره حامية، وأن عذابها كبير. ولقد فكرت زينب طويلا في ذلك الفرن الآخر الذي ستدخله بهذه الجنيهات السبع الملقاة في حجر أمها، وسألت نفسها إذا كان الناس يعذبون ويؤجرون بالمال أيضا، ولما لم تفهم شيئا تركت أباها في نشيجه المحزن ذلك، وأمها التي لم تزل تندب ذنوبها وأيامها التي ضيعتها في غير الاستغفار، ثم طلعت على الفرن، وسحبت اللحاف، واستسلمت لنوم هادئ لا يعكره شيء.

6

وهي تذكر أن أباها قد لبث على حاله تلك سبعة أيام متتاليات، يصحو في الصباح فيضم زينب إليه، ثم يهمس في أذنيها بأنه قد حفظ لها على مدى العمر سبعة جنيهات، وبأنها ستدخل دنيا جديدة لم ترها من قبل، وكان في أغلب حالاته يقول لها: «هيه يا زينب! إنك ستدخلين الفرن بهذه الجنيهات، فاشكري أباك.» وهي تبحث الآن في ذكرياتها عن اليوم الذي مات أبوها فيه، ولكنها لا تحفظ من ذلك أثرا، فإن مشهدا آخر يزحم كل ذكرياتها، ويتقدمها، ويمثل أمامها في صورة أمها المتشحة بالسواد تقترب منها وتنهي إليها في كلمات قصار: «سنذهب بك غدا إلى المنصورة.»

وهي لا تجد في مخيلتها من هذه الرحلة الغريبة في البلاد الغريبة إلا أنها قد صحبت أمها إلى دكان امتلأ بالذهب، وأن أمها قد جلست أمام الخواجة الذكي الثرثار منشرحة الصدر سعيدة ضاحكة كما لم تسعد أو تضحك في يوم من أيام حياتها الطويلة. كانت أمها ضعيفة البصر، نصف عمياء، فراحت تقلب بين يديها ما يعرض أمامها من الأساور والحلقان والعقود، فتتحسسه بكفيها النحيلتين، أما هي فقد كانت صامتة ساكنة، لم يكن الأمر يعنيها في شيء، لقد قضت حياتها متفرجة على الأشياء والأحياء.

وهي تذكر أن أمها، من فرط فرحتها قد تناولت من يد الخواجة أسورة ذهبية، ثم عالجتها في يدها، وأخذت تدفعها في معصمها وفي ذراعها، وتتحسسها بين الحين والحين، وتخرجها من يدها ثم تعود فتحاول أن تدفعها في ذراع كالعصا الجوفاء صنعت من القش الواهي.

ولقد كانت أمها تميل عليها وتهمس في أذنها بأنها في زمانها لم تستطع أن تشتري ذهبا ولم تدخل محل جواهرجي، بل قنعت بالزواج الخشن، من الزوج الخشن، على الفراش الخشن. ولقد ابتاعت أمها من الخواجة الذكي الثرثار قطعة أو قطعتين، ربطتهما في صرة من القماش قبضت عليها في اعتناء وحذر، كما يقبض الميت على ثروة يود لو يستطيع أن يستأثر بها وحده وأن يصحبها معه إلى قبره، لتقبض عليها يداه، في الظلام الخالد.

وحين عادت زينب مع أمها في قطار البراري كان الليل قد نشر عتمته على راكبي الدرجة الثالثة، وجلست وأمها على مقعد خشن، تنفذ إليهما الريح كألواح الثلج من نافذة متخرقة، ليلتحم الراكبون وتلتف أجسادهم، لتدفئ برد الشتاء وقسوة الليل، ثم تنطلق أفواههم بأحاديث لا ينصت لها قائلوها، وتدور أعينهم في الوجوه الجامدة المتعبة، قانعة بالتفرج لأنها لا تريد أن تؤول شيئا مما تراه، وكل ما تراه متماثل واحد لا يتغير ولا يتفاضل أبدا. ولقد احتضنتها أمها، واشتكت لها من أنها لم تعد تقوى على احتمال البرد، فانعطفت وضمتها إليها في إصرار، ومسحت خديها بكتفها ووجهها، وأرادت أن تقول شيئا ولكنها لم تجد صوتا تحرك به حنجرتها فقنعت بالصمت، ووجدت أمها تهمس في أذنها ضاحكة: «ليس لك أن تشتكي من البرد، فالدفء ينتظرك في بيتنا، أولست ستدخلين الفرن عما قريب؟» ولقد سرت في جسدها رعشة خفية، وغامت أمام عينيها سحابة من هم، وحاولت أن تفهم هذا الفرن، وراحت تستعيد ما قاله لها أبوها، ثم تهز رأسها وإن كانت في صميمها تشتاق إلى تعرف هذا الفرن، والتلظي بناره.

ولقد عادت في مساء ذلك اليوم إلى بيتها، تحمل في رأسها صورة غامضة عن الفرن الذي سيلقى بها فيه، وتحمل أمها في يدها صرة قبضت عليها في حذر. وحين أرادت أن تضع المفتاح في باب حجرتها، ألفت شبحا يتحرك في الظلام، فتراجعت، ولكنه اقترب منها، وحرك شفتيه بأصوات مرتفعة، ودت لو أنها كانت في الظلام همسا، ثم التفتت إلى أمها فوجدتها تقبل ضاحكة مستبشرة، ثم تربت على كتفه وتشير له إلى ابنتها ثم تعود إلى ضحكها، وتفتح له يدها، لتريه الصرة، ثم تفتحها أمامه، وتعرض عليه أسورتين نحيلتين من الذهب، تلقفهما في يديه، وأخذ يقلبهما مشدوها.

ولقد عرفت فيما بعد أن محمودا كان ينتظرهما قلقا متشوقا، وأنه قد لبث واقفا أو قاعدا أمام بابهما طيلة ذلك اليوم حتى انتصف ليله أو كاد، فلما أن عاد دلف معهما إلى الداخل، وأخذ يتحسس كل شيء يجده في طريقه متهللا، فرحا، ثم اقترب من الفرن الرابض في هذه الغرفة فطلع عليه، وأخذ يتمرغ عليه، ويضحك ويقهقه، ويدعو زينب وأمها، بإشارته ، إلى الضحك.

وفي هذه الليلة نفسها اشترك محمود في حوار مع أمها لم تشهد زينب نظيرا له من قبل، فقد عرفت أن الرجل أصم، وأنه لذلك كان يستعين برجليه وقدميه، وكل خلجة في جسده، وأنه كان يرفع صوته عاليا، فتشير لها أمها أن تحتمل، نعم أن تحتمل، وقد احتملت زينب كثيرا، ومالت عليها أمها، ثم همست في أذنها أنها لن تشاركها في نومها الليلة، وأن محمودا زوجها هو وحده الذي سيملأ عليها فراشها دفئا، وأن أمها قد ضحكت ضحكة خفية وأسرت إليها أنها لذلك ستقضي ليلتها نائمة على عتبة حجرتها، ولقد استنكرت زينب ذلك منها وقالت لها بصوت دامع بالأسى بأنها ضعيفة ومريضة، وأنها لن تحتمل برد الليل، وأنها لا تدري كيف تنام أمها على التراب في ليلة زواجها. ولقد بكت زينب كثيرا، وألحت على أمها أن تبيت معها، ولكن أمها كانت عنيدة الرأي، فما لبثت أن تركتها، وتناولت غطاء رقيقا، ثم أغلقت الباب من ورائها. وظلت أمها على هذه الحال سبع ليال متتالية، وأمس، دخلت من الباب زاحفة على ركبتيها تسعل، وتشهق وتغمغم قائلة: «إنني مريضة يا ابنتي، إن أمك قد أصبحت كالقش المحترق.» وتهرول إليها زينب، وتمسك بيديها، وتحاول أن تلومها على صنيعها، ولكن أمها تقع على الأرض كما يلقى الشيء، ساكنة، لا ينبض فيها عصب، ولا يتردد نفس.

وها هو زوجها قد دخل عليها في هذا الصباح يحمل أكفانا، ويلقيها على الأرض، ثم يلقي بنفسه أمامها، يريد لو يسكن من حزنها، ويقبض على يدها في حنان، ثم يتركها في جلستها تلك، ساكنة جامدة.

ولقد لبثت زينب تفكر في شيء غير الحزن على موت أمها، وغير التفجع على حياتها البائسة، كانت تفكر في هذا الفرن الذي مات أبوها ولم يفسر لها كنهه، وماتت أمها ولم تكشف لها عن حقيقته، وستموت وزوجها قبل أن تفهم من سره شيئا، لقد قضت مع محمود ليالي سبعا، ولقد ضمها إلى صدره كثيرا، ولثمها، وأشبعها تقبيلا، ولقد كان ينضو عنها ثيابها جميعا ويلقي بجسده على جسدها، ويظل ليله عاكفا عليها، يهمس في سمعها بسعادته تلك، ومحبته لها، هل كان ذلك هو الفرن الذي حدثتها عنه أمها، عن دفئه، وحرارته؟ وعاد إليها زوجها في آخر النهار، ثم أمسك بيدها، واقتادها إلى حيث تناهت إليها موسيقى مختلطة بالزغاريد والغناء وموكب من الرجال والنساء يزف عروسا، ولقد ضحك زوجها كثيرا، ودعاها إلى الضحك معه، ثم همس في أذنيها: «إن جارتنا الجميلة ستدخل الفرن الليلة.» وهزت زينب رأسها مستفسرة، وتنقلت عيناها بين الموكب وبين زوجها، وخرج منها صوت لم يحاول أن يتبينه لأنه لن يسمعه، وغمغمت ضاحكة، باكية، واختلج جسدها كله، وقالت في نفسها: «هل كتب على أهل قريتي أن يدخلوا الفرن كما دخلت؟ ألا يوجد فيهم من يفلت من مصير البائسين؟»

وضغط زوجها على يدها، ثم سار معها إلى غرفتها، فأغلقها من خلفه في إحكام.

الثقافة، 5 يناير 1953م

القهوة

صحوت يا ابني من النوم؟ أعمل لك شاي؟ قهوة؟ القهوة المرة إياها؟ آه يا ربي! يا ما نفسي تجربها بالسكر، ولو ملعقة واحدة، تقوي دمك وتمسك أعصابك، طيب جرب مرة واحدة، طيب أنا نفسي العجوزة المهدمة لو شربتها عند أحد أو مع الضيوف قلت لهم يضعوا فيها ملعقتين ثلاثة، لازم الواحد يرحم قلبه، بلاش؟ طيب، على كيفك، أنت الجاني على نفسك، وعلى رأي المثل: عقلك في راسك اعرف خلاصك، طيب وحياة الحبيب النبي لو أعطوني ملك قارون ما أشربها من غير سكر، إنما أنتم يا شبان تقتلوا أنفسكم، شبان؟ أنا قلت شبان؟ طيب والله ثلاثة أبوك الله يرحمه كان شكله أصغر منك، صحة وعافية ولا سبع الغابة، أبو زيد لكن اسم على مسمى، إن راح أو جاء الناس تقول شوفوا أبو زيد الهلالي! حتى وهو يطالع في الروح، نفسه شديد، عينيه عينين صقر، صدره طالع نازل ولا القفص الحديد، ولو شاف ساعتها عزرائيل كان هجم عليه وداس على رقبته لغاية ما طلع روحه، لكن الزمن تغير، والدنيا أصبحت غير الدنيا، القهوة أهيه! أصبها لك؟ لأ؟ طيب يا ابني، أنت حر، أف! الدنيا حر هنا، أفتح لك الشباك يدخل نسمة هواء؟ لا؟ طيب باب البلكونة؟ لا؟ على راحتك، أنت ومزاجك، خلي العرق يصب عليك وبعدها تبرد وترقد في السرير وتقول يا ليتني سمعت كلامها، أصب لك القهوة بعد ما تطفئ السيجارة؟ قطعت السجاير وسنينها ويوم ما اخترعوها، كان يوم أسود من الفحم، إيديكم بقيت فحم، صدركم فحم، أسنانكم فحم، يا ريت يا ابني تبطلها، أو حتى تقلل منها، أسكت؟ يعني كلامي دائما ثقيل على قلبك؟ قسمتي ونصيبي، طيب يا ابني، أروح أنا؟ أرجع على حجرتي؟ لا يلزمك شيء طيب، طيب، الله يعينك يا حبيبي، لا تسهر أكثر من اللازم، ولا تنس اللمبة قبل ما تنام، نسيت أسألك المغرب وجب يا ترى؟ لأ؟ نصف ساعة عليه؟ طيب أقعد معاك أسليك؟ تلاقي نفسك زهقت من قعدتك لوحدك، هه! الكنبة كانت فكرتها عظيمة، الواحد يقدر يريح جنبه ويركن رأسه على كيفه، أفتح الشباك؟ حاجة بسيطة. النسمة يا ابني تغير جو الدخان، يا سلام يا أولاد، أول ما الواحد يقعد يظهر عليه تعب الدنيا كلها، نسيت أحكي لك، يعني لا سألتني ولا حاجة، وتلاقيك ولا على بالك، كانت ليلة لها العجب، نعم، نعم، ليلة أول البارحة، أما فرح ولا كل الأفراح، حاجة تشرح القلب صحيح، ناس ولا الباشوات في زمانهم، صحيح الأصل له عمل، البيت يشف ويرف، منور من بعيد ولا قصر من الجنة، والميكروفون ينادي على التائهين، أعرف أنك تكره الميكروفونات، لكن الرقص والمغنى يا ابني لازم ياخد حقه، والصوان على السطوح، العين ما تعرف له آخر، والمعازيم، ستات ورجال، شيء ما يحصره العد، تقول موج البحر! تقول رمل وبدروه على الأرض! صحيح الناس كثرت يا ابني، شيء ما له وصف، وكلهم ياكلوا الشوكولاتة ويشربوا الشربات ويتعشوا ويضحكوا ويتكلموا في نفس واحد، شيء يفرح القلب صحيح، تقول لأ؟ طول عمرك تكره الزحمة، لكن يا ابني الناس لبعضها، وبني آدم منا خلقه ربنا لأجل يعيش مع البني آدمين، هي الدنيا من غير الحبايب تساوي التراب؟ القصد، أول ما سميرة هانم لمحتني جرت علي، أهلا وسهلا بالست أم سامي، يا ألف وثلاثمائة مرحبا، بالحضن يا حبيبتي. ناس من أصل صحيح، ناس أكابر يفهموا في الذوق والإنسانية، وراسها وألف سيف لازم أسلم على العروسة، هه؟ قلت حاجة؟ لا؟ طبعا، كانت قاعدة على الكوشة، وجهها ولا القمر، بدر ومنور يا حبيبي، عمري ما عيني شافت حلاوتها ولا جمالها، رحت سلمت عليها، طبعا، أخذتها بالحضن؟ لا والنبي، هي التي أخذتني بالحضن، ملت عليها بستها من الخدين، سألتني عنك، فيها الخير، قالت: يا ليت كان سامي معك، نزلت الدمعة فرت من عيني، سقطت على فستانها، قالت لي: الله؟ سامي جرى له حاجة؟ قلت لها: يا بنتي، سامي بخير والحمد لله، يسلم عليك، كذبت عليها وقلت لها عندك شغل، لولا الشغل كنت حضرت معي، وسلمت على عريسها طبعا، شاب طيب وابن حلال، أمه داعية له قبل ما تموت، بخته من السما، مال وجمال وأخلاق، والواحد يطلب أكثر من هذا؟ وهو شاب مسكين يتيم لا أم ولا أب ولا وراءه ولا قدامه، لكن البخت والنصيب، قلت في نفسي لو كنت يا سامي في مكانه! لو كنت سمعت كلامي يا حبيبي! كانت لك وأنت لها، لائقين لبعض، حتى الطول واحد والجسم واحد، وكلنا أهل بعض، سميرة هانم على كل حال قريبتنا، وزوجها الله يرحمه كان صاحب والدك، ألف رحمة تنزل عليه، وعلى كل حال ولا كانوا طلبوا منا مهر ولا حاجة، الشبكة كنا دبرناها من أي طريق، ناس تعرف ظروفنا وتعذر حالتنا، وكلنا أهالي بعض يا حبيبي، بذمتك يا سامي، فتحية كنا بها عيب؟ بنت مؤدبة وأميرة وتحبك، أي والله تحبك، لا، لا تصدق! قلت لك والله سألتني عليك، حتى وهي على الكوشة وعريسها على شمالها سألتني عليك، بنت مؤدبة وبنت ناس وتحبك، أبعد أنا عن سيرة الحب؟ تهز رأسك؟ لولا عندك كان قلبي استراح، كان بقي لك بيت وواحدة تنتظرك وتسأل عليك، وتأخذ بالها من عيالك، في أي وقت تلاقي الأكلة حاضرة والهدمة نظيفة والبيت فيه نفس، ترجع بالليل تلاقي لمبتك مسروجة وفرشتك دافئة ولقمتك جاهزة، يعني لا ترد علي، ساكت والذي في دماغك في دماغك، طيب قول كلمة واحدة، أبعد عن سيرة الزواج؟ علبة السجائر؟ يا ابني أنت شربت كثير، وصدرك بقى مثل الطاحونة، طول الليل يزيق، يعني الواحد يدخل في صدره نار؟ حرام عليك يا شيخ، طيب أبعد الدخان عن ناحيتي، يووه! والنبي ولا مدخنة الطاحونة، والأصابع، ولا الفحم المحروق، آه يا ناري لو كان أبوك شافها، كان عرف صحيح شغله معاك، تضحك؟ طول عمرك عنيد، دماغك حجر، ولا أحد يأخذ منك حق ولا باطل، نرجع للفرح، لأ؟ طيب وآخرتها معك؟ تقضي عمرك على هذا الحال؟ طول النهار قاعد قعدتك، ولا تمثال الفرعوني في زمانه، لا كلمة ولا همسة، عينيك في السقف، يا ترى شايف إيه هناك؟ ساكت ولا تتكلم ولا تكلم أحد، الكتاب في يدك أو الجرنال، الله يقطع سيرة الكتب والجرانيل، كوم فوق كوم، على الأرض، فوق المكتب، في الدولاب، جنب الحيطان، كتب كتب يعني أخذت منها حاجة غير ضياع العمر والصحة والكتابة ليل ونهار؟ الله يلعن المدارس وأصحابها، كان ما لنا وما لها، كنا عشنا في الأرياف، على الأقل تشم هواء نظيف وتسرح الغيط وتأكل زبدة ولحم، وتفرح وتتزوج ويصبح لك عيال وذرية. أبعد عن سيرة الزواج، أنا عارفة، الجرح هو هو في قلبك، الله يلعن التي كانت السبب، لو كنت أعرفها أو أراها قدامي، طبعا، كنت قطعتها بأسناني، يعني كنت شحاذ وهي بنت السلطان، كلهم بنات حوا يا ابني، والبنات مالئة الدنيا، بس اطلب أو اتكلم، والله أخطبها لك، حتى لو كانت بنت السلطان، ولا قعدتك وحدك يا ابني، لا تكلم أحدا ولا أحد يكلمك، يعني يعجبك تصبح مثل عمك سليمان، نعم جارنا عم سليمان، عجوز ومكسر وغلبان زمانه، يا ليتك تشوفه وهو طالع على السلم، البواب يسنده سلمة سلمة، لغاية ما يلفظ النفس، يأخذه من يده لغاية ما يدخل باب الشقة، وهدومه يخلعها له ، لا واحدة تسليه ولا ابن يؤنسه، والعجوز الخادمة تسرقه عيني عينك، يوم الخميس ضرب الجرس فتحت له، قال لي وهو يصرخ تصوري يا ست أم سامي، تصوري، بعد العشرة الطويلة، الولية العجوز تسرقني، تغلي علي كل حاجة، حتى علبة الكبريت تغليها علي، هل فيه أحد يصدق أن ثمنها ستة مليم؟ يا عالم! يا هوه! الرحمة ضاعت، الناس ذمتها خربت، بصيت في الساعة؟ تقول المغرب وجب، طيب يا ابني، أنا قايمة أصلي، ربنا قادر يستجيب دعوتي، قادر ينور قلبك ويهدي لك سكتك، قلت حاجة يا ابني؟ لأ؟ يعني كلامي كله في الهوا، يعني لا حس ولا خبر، طيب قم من مطرحك ساعة زمن، مشي رجليك، نزل عينيك من السقف، حكمك يا ربي! أنت حكمت علينا، أمرك يا حبيبي، هه؟ أنا بابكي، لا يا ابني، أبدا أبدا. ولا حاجة، دمعة وفرت من عيني، خلاص راحت لحالها، كان نفسي قبل ما أموت ألاقيك في وسط عيالك، أنت نسيت؟ يوم من الأيام ينتهي الأجل على كل حال، تحضر من الشغل تلاقيني، على السرير، أو يمكن على الأرض، طالع مني السر الإلهي. أبعد عن سيرة الموت؟ طيب يا حبيبي، أنا ماشية، قبل ما المغرب يفوت، لكن لو كنت تسمع كلامي، حتى ربنا وصى على الوالدين، قال في حكم كتابه وبالوالدين إحسانا، هيه! يا أم هاشم، نفسك معنا يا بنت الحبيب، تقول أعمل لك فنجال قهوة؟ طيب أعمل فنجال حلبة أو حتى ينسون؟ لأ؟ يعني لازم القهوة تكون مرة؟ هي الدنيا يا ابني ناقصة مرارة؟ طيب جرب معاها ملعقتين سكر، ولو ملعقة واحدة، لا؟ دائما لا؟ طيب قل كلمة واحدة، كلمة تجبر بها خاطري، أسكت أنا؟ طيب سكت، آخذ الصينية معي، أنت بتبكي؟ لأ؟ لكن الدمعة نازلة على خدك، ولا شيء؟ آخ يا ربي! لو كنت أعرف السبب! لو كنت تفتح لي صدرك، طيب طيب، أنا ماشية، خلاص سكت، مصيري في يوم أمشي من الدنيا كلها، هه؟ القهوة؟ حاضر يا ابني، مسافة ما الكنكة تسخن، بس لو كنت تشربها بسكر.

عبد الغفار مكاوي

بربارا

تعودت أن أراها كل يوم، فما أكاد أفرغ من محاضرات الظهيرة في الجامعة حتى أتجه إلى هذا المطعم القريب لأتناول وجبة الغذاء، وأشرب قدحا من البيرة الشهيرة، ويستقبلني الوجه الصغير وعليه ابتسامة عذبة: نهاري سعيد. - نهارك سعيد يا بربارا. - ماذا يأكل الهر اليوم؟ - ألا تحضرين قائمة الطعام؟ - لست في حاجة إليها، فأنا أحفظ ما فيها عن ظهر قلب، عندنا اليوم سجق. - كل يوم سجق يا بربارا؟! - إذن سأحضر لك بفتيك بالبطاطس أو هل تحب طبقا من الحساء بالمكرونة وذيل الحصان؟ أو ... - هاتي ما يعجبك يا بربارا، هاتي ما يعجبك!

وتنقلت بسرعة كأنها دمية لطيفة، وتعود بعد قليل تحمل صينية عليها أطباق الطعام، ثم تجلس أمامي وتعقد يديها على صدرها، كأنها متهم ينتظر الحكم عليه بين شفتي القاضي، وتتململ قليلا في مقعدها قبل أن تسألني: هل أعجبك؟ - لذيذ جدا!

وانتظرت أن تقولي لي «شهية طيبة» كما تعودت أن تقول لي كل يوم، ولكن صيحة ندت عنها نبهتني إلى أن زوارا جددا قد أقبلوا. - هالو هرشتاين، هالو فراوشتاين. - هالوا بربارا، كيف حالك؟

وتعود بربارا بعد قليل، وتجلس إلى جانبي وتقرب شفتيها من أذني كأنها تفضي إلي بسر خطير الهر شتاين وزوجته يحضران هنا كل أسبوع، هل تعلم أين يسكنان؟ في الغابة السوداء، هل رأيتها؟ - لا يا بربارا، لم أرها بعد. - آه! هي غابة كبيرة، كلها أشجار، أشجار، إذا سرت فيها لا ترى الشمس، لهذا سموها الغابة السوداء. - ولماذا يعيش الهر شتاين حيث لا تظهر الشمس؟! - فلاحون، ناس مساكين، يقطع الخشب ويربي الخنازير.

وفي كل يوم أحد ينزل إلى المدينة هو وزوجته، ها هي تجلس إلى جانبه يتنزهان في الشوارع، ويتفرجان على المحلات الكبيرة المنورة، ويشتريان الحاجات، يوم الأحد عندهم يوم عيد ولكنهما لا يأكلان إلا في مطعمنا، نعم، لا يأكلان إلا في مطعمنا، منذ ثلاث سنين كل يوم أحد الساعة الواحدة. ناس مساكين! - ولماذا هم مساكين؟

وتضع بربارا يدها على خدها وتسكت لحظة ثم تقول: آه! هذه حكاية طويلة، بابا حكاها لي منذ أسبوعين، ألا تلاحظ أنهما يلبسان السواد؟

والتفت لأتأكد من صحة ما تقول، كان الرجل يرتدي سترة صغيرة سوداء حشر فيها جسده النحيل، فبدا كأنه موسيقي بائس عجوز، أما المرأة فكانت تتدثر في رداء بسيط كأنه قبل أن تفصله على قدها كان راية سوداء ترفع على المباني العامة في أيام الحداد.

واستطردت بربارا تقول: بابا قال لي إنهما كان لهما ابن، ابن وحيد يسكن معهما في الغابة السوداء، كل صباح يركب الدراجة إلى الجامعة، مسافة طويلة، أليس كذلك؟ كان للهر شتاين أمنية واحدة: أن يرى ابنه «بروفسير» في الجامعة. بروفيسير عظيم، على عينيه نظارة كبيرة، وفي يده حقيبة سوداء، ورأسه كبير جدا؛ لأنه يفكر كثيرا، مثل كل البروفسيرات، وكان الهر شتاين يقاب كل إنسان ويقول له: كيف تكلمني هكذا؟! إن هي إلا أيام وسترى أنني أبو البروفسير، هنري - وكان هذا هو اسمه - سيصبح بروفسيرا في الجامعة، وسيسكن في المدينة، وسنسكن معه في المدينة، ونترك الغابة السوداء، ولكن هل تعلم ماذا حدث؟ - ماذا حدث يا بربارا؟ - آه! الحرب! الحرب الشريرة، هل عرفتم الحرب أيضا في بلادكم يا هر؟ كل شيء «كابوت»! بابا يقول دائما إنه زمن شرير. زمن شرير وحرب شريرة، هل تشرب قدحا من البيرة؟ نعم؟ فاتحة أو غامقة؟

كنت قد فرغت من طعامي، وجلست أنتظر عودة بربارا، أطالع وجوه الحاضرين، وأنقل بصري بين الصور المعلقة في الحائط، وأقبل صاحب المطعم بكرشه الضخم ووجهه الأحمر المكتنز وجسده القصير السمين فحياني تحيته المعتادة: نهارك سعيد. - نهارك سعيد. - أرجو ألا تكون بربارا قد ضايقتك. - على العكس يا سيدي. - لطيفة هذه البنت، لطيفة وعزيزة علينا.

وضحك ضحكته المجلجلة التي أعرفها منه، ثم تركني وراح يتنقل بين الموائد يحيي الزبائن: شهية طيبة، مرحبا بكم، شهية طيبة.

وأقبلت بربارا مسرعة ووضعت قدح البيرة أمامي وهي تقول: لحظة واحدة، سأعود حالا، حذار أن تذهب!

ثم رأيتها تقبل على رجل يجلس وحده في الركن المواجه لي، وتبينت من خلال ضحكاتها الحلوة بعض كلماتها: سجق بالبطاطس، شربة بالمكرونة وذيل الحصان!

وانقضت لحظات قبل أن تعود إلي وتجلس في مواجهتي. - هل تعلم حكاية هذا الهر؟ - وما هي حكايته يا بربارا؟

وعقدت يديها على خديها، وأغمضت عينيها الخضراوين الجميلتين، وبدت كأنها تسترسل في حلم طويل، وطال صمتها، فقلت: يا بربارا! هل نمت؟!

قالت وهي تتأملني بعينيها الحزينتين: أنا حزينة من أجل الهر فريدريش. - ولماذا يا بربارا؟

فعقدت جبهتها وقالت غاضبة: هل تعلم أنه لم يبع شيئا أمس؟

قلت: وماذا يبيع الهر فريدريش؟ خضارا أو فاكهة؟

قالت مستاءة: أوه! إنك لم تفهم، لم يبع ولا قصيدة!

قلت: إذن فهو شاعر؟

قالت في حماس: نعم، نعم، كتب في الأسبوع الماضي قصيدتين جديدتين وطاف بهما على كل الجرائد والمجلات في المدينة، آه! زمن شرير، ناس شريرون، ولا جريدة قبلت أن تنشر له بيتا واحدا، أوف فيدرزين! أوف فيدرزين هر شتاين. إلى الأحد القادم تحياتي للغابة السوداء. وكل الخنازير التي فيها. أوف فيدرزين!

كان الفلاح وزوجته قد تهيآ للانصراف، أقبل الرجل على بربارا فسلم عليها، وانحنت زوجته فطبعت قبلة على جبينها، وأحنيت رأسي لأرد على تحيتها، ثم تنقلت ببصري إلى الشاعر الذي يجلس وحده. كان يجلس إلى المائدة وظهره لي، ورأيت كيف يكون الشعر الطويل المنفوش ضرورة للفنانين والشعراء، قلت في نفسي: لا بد أن يكون له وجه نحيل مستطيل، وعينان باكيتان وقامة شامخة.

تنهدت بربارا وقالت: مسكين!

قلت ضاحكا: كل الناس عندك مساكين؟

قالت تشير بإصبعها كأنها تتهم العالم كله: زمن شرير، ناس شريرون.

هل تعلم كيف يعيش الهر فريدريش؟ - وكيف يعيش يا بربارا؟ - فوق السطوح، في حجرة صغيرة، تصلح أن تكون مصيدة للفيران. - وماذا يعمل إذن؟ - إنه يعمل في «الألجمينه تسايتونج» يصحح أخطاء المطبعة، تصور! شاعر عظيم مثله، يقوم بعمل كهذا، يمكن أن تقوم به بربارا! مسكين! - وهل يعيش وحده؟ - اسمع، سألته مرة: لماذا تعيش وحدك يا هر فريدريش؟ قال لي: ومع من أعيش يا بربارا؟ قلت: مثلا تتزوج امرأة. قال لي : وهل أجد امرأة تتزوجني؟ قلت: بالتأكيد، امرأة تحبك. فضحك وقال: النساء لا تحبني يا بربارا، لا تتعبي نفسك! هل تعلم ماذا فعل في اليوم التالي؟ كتب قصيدة اسمها «بربارا»، اسمي أنا! وأقبل في مثل هذا الوقت وقال لي: أحضرت إليك هدية، قلت ماذا أحضرت؟ قطعة شوكولاتة؟ قال بل قطعة شعر، وجلس في هذا الركن نفسه، على هذه المائدة نفسها، وراح يقرأ علي قصيدته.

بربارا! حولي عينيك عني

عينيك الحزينتين

لكي لا تفضحا سري

لكي لا تفضحا سري يا بربارا

وإذا رأيتني أدخل وحيدا

فلا تسأليني:

لم لا تتعلق امرأة بذراعك؟

لأن النساء لا تحبني،

لا تحبني يا بربارا. - حذار أن تخطئ في شعري.

ورفعت رأسي فوجدت رجلا مديد القامة يخلع قبعته ويحييني، واحمر وجه بربارا، وتلعثم لسانها وهي تقول: لا يهم، ما دمت ستصحح خطئي، أليس هذا هو عملك؟ وانحنى الرجل عليها، وأخذ يدها بين يديه وقبلها وهو يقول: آه! يا نجمتي العزيزة الوحيدة! إلى الغد، إلى الغد يا نجمتي الوحيدة! ورفع قبعته مرة ثانية، قالت بربارا: هل تعرف يا هر؟ إنني أتمنى أمنية واحدة؟ - وما هي يا بربارا؟! - أن أستيقظ من النوم فأجد نفسي امرأة طويلة وكبيرة جدا.

قلت: ولماذا تستعجلين يا بربارا؟

قالت وهي ترفع صوتها تحيي زائرا دخل لساعته: جوتن تاج! ونهضت متعجلة وهي تقول: ألا ترى أن الهر فريدريش يعيش وحيدا؟! لحظة واحدة، حذار أن تنصرف قبل أن أعود، وجرت مسرعة تحيي الزائر الجديد، وسمعتها من بعيد وهي تداعبه: أنا دائما في خير، وأنت، جوت؟ هل شهيتك مفتوحة اليوم؟ عندنا سجق بالبطاطس، وشربه بالمكرونة وذيل الحصان.

وجرت نحو أبيها الواقف خلف «البوفيه» كأنه جبل من اللحم، ثم عادت إلي مسرعة: هه؟ أنت بالطبع لا تعرف حكاية الهر أرنست؟

قلت وأنا أنظر في ساعتي: ولا أريد أن أعرف!

قالت وهي تلوي شفتيها وترمقني بنظرة يائسة: أنا غاضبة منك!

قلت: تأخرت يا بربارا، لا بد أن أنصرف الآن!

هتفت في حماس: لا! لا! ليس قبل أن تسمع حكاية الهر أرنست .

كانت قد نطقت الاسم بصوت مرتفع، وخشيت أن يكون قد سمعها فوضعت يدها على فمها وعضت إصبعها والتفتت وراءها، ثم قالت: الحمد لله! لم يسمع! هل تعرف أنه كان بحارا؟ طبعا لا تعرف، وهل تعرف أن سفينته غرقت بكل من فيها عند الساحل الأفريقي؟ طبعا لا تعرف! وأنه نجا هو واثنان فقط ممن كانوا معه! وأنه أخذ يسبح في الماء المالح سبعة أيام وليال، سبعة أيام في الماء المالح حتى انتزع جلده؟ طبعا لا تعرف!

قلت: الساعة الآن الثالثة يا بربارا يجب أن أذهب.

قالت غاضبة: لن أكلمك بعد اليوم!

ورن في القاعة صوت مخيف: بربارا! لا تضايقي الهر!

وأطرقت برأسها الصغير إلى الأرض ووضعت إصبعها في فمها.

قلت وأنا أرتدي معطفي: ألا تسلمين علي؟

رفعت رأسها وقالت: هل تأتي غدا؟

قلت: بالطبع، لأسمع حكاية البحار الذي غرق في الماء المالح.

قالت: لا لا! الهر أرنست لم يغرق، ها هو يأكل هناك!

قلت: إلى الغد إذن.

ومدت رأسها الصغير فانحنيت وقبلتها على وجنتيها. - أوف فيدرزين! - أوف فيدرزين!

12 / 1957م

الأسد يموت

دفع العمال القفص الحديدي الكبير إلى السور المحيط بالحلبة، وتقدموا منه يعالجون الأقفال الضخمة واحدا بعد الآخر، فيدوي صوتها وهي تفتح كصليل أغلال تفك عن عبيد أو أسرى حرب، وحبس الناس أنفاسهم وهم يرون الحارس العجوز النحيل بشعره الأشيب وظهره المحني وبذلته الزرقاء اللامعة الأزرار، يتجه في خطوات مهيبة نحو القفص، وقبل أن يضع يده على الباب الكبير مد ذراعه اليمنى إلى أقصاها، بحركة يعرفها المتفرجون ويصفقون لها، ثم راح يدور حول نفسه في كل اتجاه ويلاحظ مغتبطا راضيا أن التصفيق يشتعل من الأكف المتحمسة مع كل لفتة من لفتاته، إنه يعلم بخبرته الطويلة أن التصفيق لا يدل دائما على الإعجاب، بقدر ما يعبر عن رغبة مخلصة في تشجيعه، أو في العطف عليه والرثاء له.

ومن كان أولى منه في تلك الليلة بالتشجيع أو بالرثاء؟ أليس العمدة نفسه حاضرا بين المتفرجين، ومع مشايخ البلد، ومأمور المركز، ورجال الحكومة ؟ وهل تتاح له مثل هذه الفرصة لإظهار فنه واستعراض براعته إلا مرة أو مرتين في العمر كله؟ دعا الله بالستر والأولياء الصالحين بالبركة وتقدم من القفص الكبير ففتحه بيده، بينما اليد الأخرى تمسك طرف عصاه الحديدية، ونزل الأسد العجوز من القفص بعد أن تثاءب وحك رأسه الأشقر بالقضبان وتأمل طويلا وجه الحارس، لم ينزل من القفص إلى الأرض قفزا كما اعتاد في شبابه، بل ترك نفسه يسقط عليها كمن هده التعب والإعياء، ويظهر أنه تردد طويلا وأخذ يقلب عينيه الواسعتين الجميلتين بين الأرض ووجه الحارس، فلما وجد أنه لا يسنده ولا يربت على رقبته أو كتفه، بل ينظر إليه نظرة استغاثة واستجداء، تحامل على نفسه وزحف إلى الأرض زحفا كالتمساح البطيء، مد رأسه أولا، ثم دفع مقدم جسمه بجهد كبير، وأخيرا ترك مؤخرته وساقيه الخلفيتين تلحقان بهما، وقع الأسد على الأرض ولم ينهض، قال الناس لأنفسهم لا بد أنها لعبة يقوم بها أو خدعة تمرن عليها، وازداد شكهم حين رأوا الحارس يتقدم منه وينحني على أذنه ويهمس. قال الحارس: أرجوك، شد حيلك معي. هز الأسد رأسه ونفض شعره الذهبي المهيب بقوة، ثم نظر لحظة إلى الحارس في صمت وأطرق برأسه وأغلق عينيه. مال الحارس على أذنه مرة أخرى، ولم ينس في أثناء ذلك أن يمد ذراعه إلى أقصاه في الهواء، ويتلقى عاصفة من التصفيق المنبعث عن خوف حقيقي على حياته، قال: في عرضك، قم واستر عرضي، الليلة غير كل ليلة.

لم يبد على الأسد أنه سمع كلامه أو فهمه، عاد يتطلع إلى وجهه في صمت، ثم يغمض عينيه أو يقلبهما بين وجوه الحاضرين أو يتثاءب أو يدفنهما بين مخلبيه الأماميين، ألح الحارس عليه في صوت باك وقال: وحياتك لا تكسفني، العمدة هنا الليلة، العمدة بنفسه ومعه الأعيان وحضرة المأمور، حركة واحدة من حركاتك المشهورة تخزي العين، قم الله يسترك واسمع الكلام.

بدا كأن الأسد يستجيب له، حرك ذيله عدة حركات، وفتح فمه الواسع وتأوه، ومد الحارس يده ليسنده من صدره ، ولا بد أنه بذل مجهودا كبيرا جعل الأسد يقف أخيرا على أطرافه الأمامية والخلفية، كما جعل الحاضرين يحيونه بالتصفيق والهتاف، استدار الحارس نحوهم، رفع قلنسوته الزرقاء بيد وأرسل إليهم قبلة باليد الأخرى، لكنه تمتم في سره: اللهم فوت الليلة على خير.

سار في نشاط ملحوظ إلى وسط الحلبة فدفع كرسيا عاليا ذات درجات نحو الأسد، وسحب كرباجه الطويل من حزامه ودوى به في الهواء قبل أن يهتف: يا بركة أم هاشم، تصفيق يا جماعة، يالله، وانتظر أن يتحرك الأسد ويقفز قفزته المشهورة فيكون في لحظة فوق المقعد الطويل، غير أن الأسد ظل جامدا في مكانه، يقلب فيه عينيه الحزينتين اللتين لمح الحارس فيهما برغبة في البكاء، رفع كرباجه في الهواء مرة أخرى فدوى الصوت في الحلبة، وعاد يهتف: توكل على الله، يا لله، ولكن الأسد ظل جامدا في مكانه، ولم يبق هناك شك في أنه يذرف الدموع، أراد الحارس أن يداري خجله بصنعة ماهرة، فصفق بيديه وقال وهو يلتفت للحاضرين: والآن ترون اللعبة العجيبة، اللعبة المشهورة، هيا يا رجال، هاتوا الطوق، هاتوا النار، ومد إليه عامل الطوق الحديدي من وراء القضبان، وفرقع بالكرباج في يديه لحظة فصفق المتفرجون وهم يشهقون، ثم أخرج علبة كبريت من جيبه وأشعل النار فيه، وتقدم من الأسد والطوق الملتهب في يده، غير أن الأسد رفع إليه رأسه وراح يتطلع في وجهه، وبدلا من أن يقفز قفزته المشهورة وينفذ من الطوق تهاوى على الأرض في هدوء، سكتت الموسيقى النحاسية التي مهدت للعبة الخطرة، وأخذ الناس ينظرون إلى بعضهم البعض وبدا كأن الموقف قد أفلت من يد الحارس فتقدم من الأسد في محاولة جديدة، راح يربت على شعر رأسه وكتفه ويلاطفه ويداعبه، بل لقد مال برأسه عليه وراح يلثم شعره، قال له الحارس: قم يا رجل، قم لأجل خاطري.

تأوه الأسد آهة مسموعة ودفن رأسه بين مخلبيه.

عاد الحارس يهمس في أذنه: قم يا رجل قم، خل الليلة تفوت على خير، العمدة هنا وحضرة المأمور، ومشايخ البلد والأعيان، يرضيك الناس تشمت فينا؟

تأوه الأسد آهة طويلة، زفر زفرة تقطع القلب، تحامل على نفسه ونهض بصعوبة، فرح الحارس وعاد يقدم إليه الطوق الملتهب بكلتا يديه، لكنه بدلا من أن يقفز منه زأر زأرة مخيفة جعلت الحارس يبتعد عنه، ولما تقدم منه من جديد هبشه بمخلبه في صدره، فوقع على الأرض وكادت النار تحرق صدره وتمتد إلى ملابسه.

صاح المأمور من بعيد: اضربوه بالنار يا عساكر، صرخ الناس وقاموا يريدون الهرب، رفع الحارس ذراعه وصاح: لا، لا، حاسبوا عليه، ابني وأنا أعرفه. عاد المأمور يهتف: اضربوه بالنار قبل ما يأكله. تقدم الأسد في خطوات بطيئة من سور الحلبة، اقترب من الموضع الذي يجلس فيه العمدة والأعيان وحضرة المأمور، وقف أمامهم قليلا ثم برك على الأرض وتأوه، صاح صوت: الأسد تعبان، مريض وظاهر عليه الموت، فتح الأسد فمه مرتين وأغلقه قبل أن يزفر ويخرج صوتا يشبه الكلام: نعم يا ولدي، تعبت وظهر علي الموت.

التفت الناس لبعضهم، خيل إليهم أنهم يسمعون كلاما كالذي ألفوه، تشجع العمدة وسأل: قل يا أسد، تكلم بحريتك.

قال الأسد: الله يحفظك يا سيدي العمدة، تعبت، تعبت، تعبت.

نهض العمدة من على مقعده وأشار للناس بالسكوت، طلب من العساكر أن تبتعد ببنادقها عن القضبان، تأكد له أن الأسد يسمعه ويرد عليه، فسأل: اطلب ما تشاء يا أسد، هل تأخذ إجازة؟

قال الأسد: إجازة؟ الله يحفظك يا عمدة.

بدا للعمدة أن الأسد يتهكم عليه، أعاد سؤاله مرة أخرى: هل تحب أن نلغي اللعبة؟ هل تعود للقفص؟

قال الأسد: تعبت يا عمدة من الأقفاص.

قال العمدة: ولكن القفص ضروري يا أسد، ضروري للمحافظة على الأمن، للمحافظة على أرواح الناس.

قال الأسد: وروحي أنا يا عمدة؟ هل فكرتم فيها؟

قال العمدة: بالطبع يا أسد، فنحن نكرمك ونعجب بك ونرسل لك أحسن لحم في البلد ونسميك ملك الحيوانات.

تأوه الأسد: ملك الحيوانات؟ كان هذا قديما يا عمدة، أما الآن ...

قال العمدة: والآن أيضا يا أسد، الناس تهابك والوحوش والطيور تخافك ، فأنت كما يعلم الجميع ملك الحيوانات، ملك الغابة.

قاطعه الأسد قائلا: الغابة؟ لا تذكرني بما مضى يا عمدة، أين أنا الآن من الغابة؟ إنني أموت.

قال العمدة متأثرا: الموت علينا حق يا أسد، لو سمعنا أنك مريض لأرسلنا إليك الطبيب في الحال.

قال الأسد متأوها: الطبيب؟ وماذا يفعل الطبيب في مرض العصر يا عمدة؟

سأل العمدة: مرض العصر؟ هذا شيء لم نسمع به في الأرياف يا أسد، ما هو هذا المرض؟

قال الأسد: الملل يا عمدة، الممل.

سأل العمدة: من أي شيء يا أسد؟ مع أن السيرك تحت أمرك، والأهالي معجبة بك، انظر.

قال الأسد: مللت السيرك والناس يا عمدة.

سأل العمدة: عجيب يا أسد، وماذا تريد؟

قال الأسد: أن تهدموا السيرك، أن أرجع لعريني وزوجتي وأولادي، أن أجري وراء الغزال والحمار الوحشي وأتعارك مع الوحوش وأنعس في الشمس كما أشاء، أريد أن أعود أسدا كما كنت في ماضي الزمان.

نظر العمدة إلى المتفرجين حوله، خيل إليه أنهم يتابعون كلام الأسد ويتعجبون، شعر أنه يتحدث بلسانهم فتشجع وقال: ولكن الناس هنا معجبون بك، إنهم لم يحضروا إلى السيرك إلا ليروك.

قال الأسد: تعبت من السيرك، تعبت من الحراس والقضبان والقفز على الكراسي العالية وفوق ظهور الخيل.

ضحك العمدة وقال: ولكنك تعلم أن هذا نظام السيرك في العالم كله.

شاركه المأمور الضحك وقال: ومنذ أن وجد الإنسان وهو يقيم السيرك ويروض الأسود، وأجدادك كانوا يلعبون أمام الرومان كما تعلم ويبهجون الناس في كل مكان.

قال الأسد: سئمت الناس، وسئمت الرومان.

سأل العمدة: ألا يرضيك أن تفرح الأهالي؟ ألا يعجبك أن يصفق لك الأطفال والفلاحون كل ليلة؟ ...

قال الأسد: تعبت من التصفيق يا عمدة، تعبت من رؤية الوجوه البائسة التي تضحك علي، ألا تراهم يخرجون من السيرك فيعودون إلى حزنهم وبؤسهم من جديد؟

قال العمدة: ولكن هذا هو السيرك في كل الدنيا، يدخل الناس ويفرحون ساعات ثم يرجعون إلى التعب والجري على الأرزاق.

قال الأسد: وأنا أقول لك: فرح كاذب، أريد لحظة صدق واحدة، أريد أن أعيش بلا قيود ولا أقفاص ولا عربات.

قال العمدة: ولكن لا بد من النظام يا أسد، نحن البشر أيضا لا نستغني عن القيود والأقفاص.

قال الأسد: افعلوا ما تشاءون بالبشر، افرضوا عليهم القيود وضعوهم في السجون والأقفاص، سنوا لهم القوانين كما تشاءون، ولكن اتركونا في حالنا، دعونا نرجع أسودا كما كنا، دعونا نعش حياتنا.

قال العمدة: إن بقية زملائك لا يشكون، إنهم يقفزون ويلعبون ويتعلمون، وهم جميعا سعداء بوجودهم معنا وتسليتهم لنا، الكلب سعيد لأنه يتعلم القراءة في السيرك ويدخل المدرسة، والقرد سعيد لأنه يلبس البذلة والنظارة ويزف إلى عروسه آخر الليل، والحصان سعيد لأنه يرقص على الواحدة ويحمل البهلوان على ظهره، والنمر سعيد لأنه يتعلم قفزات جديدة غير التي علمتها له الطبيعة ويكتسب فنونا عويصة لم يكن ليتعلمها بنفسه، والجميع سعداء لأنهم يسلون الأهالي ويدخلون الفرح على قلوبهم، وحتى زملاؤك الأسود في الغابة يتمنون أن يعيشوا عيشك ويتمدنوا مثلك، أليست هذه من علامات الحضارة التي أدخلناها على عالم الحيوان؟

قال الأسد: الحضارة؟ ولكنني أريد أن أتركها لكم.

سأل المأمور: وهل يعقل أن يخلو السيرك من الأسد؟ هل يقبل الناس عليه إذا عرفوا أنك لست فيه؟ إن الكلب والقرد والحصان والفيل والدب تسليهم، ولكنك تبهرهم وتوقظ فيهم مشاعر الرهبة والجلال وغموض الغابة العذراء، صدقني يا أسد، زملاؤك في الغابة يحسدونك على فنك وألعابك.

قال الأسد: وأنا أحسدهم لأنهم مازالوا أسودا، أنا ملك الغابة أصبحت عبدا، أنا سيد الوحوش أصبحت قردا ومهرجا، أنا الذي كنت كونا بأسره أصبحت أخاف من لذعة السوط وعصا الحارس ومنظر القضبان، أنا الذي كان النجم في عيني والرعد في صوتي والموت في مخلبي.

قال العمدة: ما زلنا نكن لك الاحترام من قلوبنا، ما زلت مثلنا الأعلى في العظمة والمجد والشجاعة والجلال.

قال الأسد: أرجوك يا حضرة العمدة، اتركني في حالي، أطلق سراحي، أخرجني من القفص.

قال المأمور: محال يا أسد، ضرورات الأمن لا تسمح بهذا، أرواح الناس.

وأيده العمدة فقال: نظام السيرك ، نظام المدنية والحضارة .

تأوه الأسد ثم زأر بصوته العميق المخيف، وقف على ساقيه الخلفيتين ومد مخلبيه كأنه يستعطف القديس القديم الذي نزع منهما الشوكة، فتح فمه مرتين ليشرب الدموع المنسابة من عينيه، وأفاق الحارس العجوز في هذه اللحظة من إغمائه الطويل وجرى فرحا إلى الأسد، عانقه وغمر عرفه الذهبي بالقبلات وهو يقول: بارك الله فيك يا ولدي، كنت متأكدا أنك ستبيض وجهي أمام حضرة العمدة وتسترني أمام الأهالي والأعيان وسعادة المأمور، جزاك الله عني خيرا يا ولدي، هيا يا سبعي، هيا إلى المقعد العالي، هيا اعرض عليهم قفزتك المشهورة من الطوق الناري، هيا متعهم وفرح قلوبهم.

تخلص الأسد من الحارس بصعوبة: تأوه وزأر زأرة خفيفة، ثم شهق شهقة خيل للحاضرين أنه يلفظ معها آخر أنفاسه.

وتهاوى على جنبه وتمرغ على الأرض وعفر رأسه الذهبي بالتراب قبل أن يقول: أنا أموت، أموت.

ثم اختلجت أطرافه وانتفض جسده لحظة قبل أن يلقي الحارس العجوز نفسه عليه.

قال العمدة: الأسد مات.

هتف المأمور والمشايخ والأعيان: مات الأسد.

أما الناس فقد تعجبوا كثيرا حين قالوا لهم بعد الخروج من السيرك إن الأسد كان يتكلم، مع أن الأسود - وهذا أمر معلوم - لا تعرف اللغة العربية، كما أن هذه اللغة - وهذا أمر معروف أيضا للجميع - لغة عويصة يصعب حتى على البشر أن يتكلموا بها كلاما مفهوما.

عبد الغفار مكاوي

الديك

كانت أمي هي التي اكتشفت غيابه، لا أدري إن كان الإلهام الإلهي هو الذي أوحى إليها بذلك، أو افتقادها لصوته القوي عندما قامت لصلاة الفجر، أو ذهابها إلى السطوح كعادتها في كل صباح لإطعام الدجاج والبط والحمام.

لا يهم الآن كيف عرفت أن الديك الذهبي، الديك الأحمر، الجميل الذي سمته على اسمي وربته من أجلي قد اختفى من البيت، فلم يكن لدي وقت ولا بقيت عندي رغبة في أن أسأل كيف أو لماذا أو ما الذي دعاه للاختفاء، إن الديك الذهبي، الديك الأحمر الجميل لم يعد له أثر، هكذا واجهني الخبر عندما عدت من المدرسة في يوم قائظ من أيام الصيف، قابلتني أمي قادمة من على السطوح فقالت: العوض على الله يا ابني.

لم أطمئن بلهجتها ولا لنبرة الحزن في صوتها فسألت: خير يا أمي؟

قالت وهي ترفع يدها إلى السماء: ربنا وحده يعلم مصيره.

سألت وقد نفد صبري: مصير من؟ ما الحكاية؟

قالت: الديك يا حبيبي، الديك الأحمر.

عدت أسأل وقد بدأت أحس بالفجيعة: الديك ما له؟

قالت وهي تتطلع إلى السطوح وتهبط بيدها إلى الساتر الخشبي: يا محلاه يا ابني وهو واقف على الساتر، يا ترى يا ديك أنت سافرت على بلد تانية أو وقعت على الأرض وخطفوك العيال؟

رميت حقيبة الكتب من يدي، اقتربت منها ونظرت في وجهها وعينيها، لم يبق لدي شك في سحابة الحزن التي تكسوهما، سألت: الحكاية جد؟ الديك راح؟

قالت مستنكرة: يعني أنا يا ابني أضحك عليك؟ قلت لك الديك راح، لا لقيته على السطوح ولا عند الجيران.

وقبل أن أسمع بقية كلامها كنت أقفز على السطوح السلالم، فتحت باب السطوح وجريت أبحث في كل مكان، كانت الدجاجات منكمشة في جانب، كأنها في مأتم على الزوج والأب والحبيب، دخلت الحجرة الصغيرة التي تبيت فيها، فتشت في الأقفاص والفرن وبرج الحمام، نظرت إلى سطوح الجيران، لا أثر للديك، الديك الذهبي الجميل، الذي ربته أمي وسمته على اسمي وقضت الشهور والأيام تطعمه وترعاه وتسقيه، نزلت وثبا من السطوح ودخلت كل الغرف، بحثت وراء الدواليب وتحت السراير والكنبة وبين الكراكيب الملقاة في الشرفة، تسمعت صوته المحبوب في كل مكان، الديك اختفى حقا، الديك الذهبي الأحمر الجميل لم يعد له وجود.

قالت أمي: يا ابني لا تتعب نفسك.

قلت: سألت عند الجيران؟

قالت: سألت يا ابني، كأنه فص ملح وذاب.

قلت: الديك في البيت، ولازم ألاقيه.

قالت: قلت لك يا ابني لا تتعب نفسك من غير فائدة، عين وأصابته، يا ترى رحت فين يا ديك؟

قلت: لازم ألاقيه يعني لازم ألاقيه.

قالت: إن كان لك فيه نصيب مصيره يرجع يا حبيبي، كله على الله يا ابني .

جاءت الخادمة من السوق، سألتها عن الديك فرمت سبت الخضار من يدها ولطمت على صدرها وبكت، زعقت فيها وقلت: اخرسي يا مجرمة، لازم بعتيه من غير ما ندري، زادت في البكاء واستشهدت بستها قائلة: يا ندامة يا سيدي، طيب اسأل ستي، والنبي أنا كنت أعزه زي ما يكون أخويه.

ضحكت لكلامها السخيف وصممت أن أمضي في البحث عنه، جاء أبي على الهيصة عائدا من السوق، سأل: إيه الحكاية يا أولاد؟ ولما علم بما جرى للديك غمغم مستعيذا بالله: يا خسارة الفلوس، لو كنتم فتحت عينيكم ما كان ضاع. زمجرت أمي: يعني نعمل عليه حرس يا أولاد؟ اتجه إلى حجرته مكتفيا بقوله: ديك إفرنجي ما له وجود، الناظر قال لي خد بالك منه يا أبو محمد ولا تفرط فيه، خسارة على الصبح، يا فتاح يا عليم، ردت أمي غاضبة: يعني نقطع نفسنا؟ إن كان لنا نصيب فيه مصيره يعرف البيت.

تدخلت لأمنع شجارا يوشك أن يندلع بسببي، قلت أسترضي الجميع: إن شاء الله نلاقيه، خلوا المسألة علي.

قالت أمي وهي ترمق باب الحجرة التي أوصدها أبي على نفسه بنظرة غاضبة: كله على الله يا ابني، ولا نسمع كلمة تنغصنا على الصبح، بدأنا أنا والخادمة السوداء ذات السحنة العجيبة والضب الكبير في البحث من جديد، لم نكن نخفي على أنفسنا أن الأمل ضئيل في العثور عليه، ولكن العناد أو انتظار معجزة غامضة هو الذي كان يحركنا في أرجاء البيت وفي زواياه وأركانه، ولا بد أن هذه المعجزة الغامضة هي التي هدتنا إلى مكانه، هكذا بمحض الصدفة وفي مكان لم نتوقع أبدا أن يكون فيه، فقد ساقتني قدماي إلى فتحة المنور، لا لأنني أردت أن أبحث فيه، بل لأن الخادمة كانت قد سبقتني إليه، ودلت رأسها الصغيرة كالبلية السوداء من فتحته، ربما كنت في الحقيقة أريد أن أجذبها بعيدا عنه، أو ربما راودتني الرغبة في ضربها على قفاها لأنها تفتش في مكان لا أمل فيه، المهم أنها سبقتني إلى الصياح فجأة: سيدي سيدي . قلت: ما لك يا بنت؟ جرى لعقلك حاجة؟ قالت: الديك يا سيدي، الديك والنبي. قلت: يا مجنونة، ابعدي لا تقعي. قالت: وحياة النبي الديك هنا، حتى اسمعه بيرفرف أهه.

أدخلت رأسي في فتحة المنور فلم أر شيئا، فالدنيا عتمة والكراكيب تملأ شبكة الحديد المسلح والخرق المهملة وقطع الخيش وزوج أحذية قديم وثلاث زجاجات فارغة وعلب سجائر فارغة كلها تسد عيون الشبكة، أمسكت الخادمة من ظهرها وأمرتها أن تمد ذراعيها وتخرج الكراكيب، أخذت أشجعها وأمنيها بهدية مناسبة فجاءت أمي على الصوت وفي يدها بصلة لم تفرغ من تقشيرها، قالت: يا ابني حرام عليك، البنت تقع تموت، قلت دون أن ألتفت إليها: تموت تموت، المهم الديك. قالت: والديك ما له وما للمنور؟ ابعدوا يا ابني ربنا يهديكم. أشرت إليها أن تسكت، قربت أذنها من فتحة المنور ثم مصمصت بشفتيها وعادت إلى المطبخ، وفرغت الخادمة من تنظيف الفتحة وأخذنا نتصنت، صاحت: سامع. حبست أنفاسي وأسندت أذني على الحاجز، قفزت إلى المطبخ وأنا أهتف: لقينا الديك، لقينا الديك.

أنكرت أمي واتهمتني بالجنون، جاءت بنفسها وأدخلت رأسها من الفتحة وقالت: والنبي أنتم عبط، يمكن خفاش ولا وطواط. قلت: هو الديك بعينه. نصحتني أن أشعل عود ثقاب أو أحضر الوناسة، فعلت بما أشارت به فتحققت المعجزة، ارتفع الصوت المشقوق كأنه يخرج من عالم آخر، من قبر مظلم أو من جب عميق. تذكرت يوسف في الجب وهتفت، وأنا أقبل أمي والخادمة اللعينة بلا تمييز: أنا الراعي، اطمئن يا يوسف. لم تفهم أمي شيئا، ولم أحاول أيضا أن أفهمها شيئا، بل جريت أنزل السلالم إلى الجيران.

بعد قليل عدت أجرجر خطواتي الثقيلة، رأت أمي سحنتي فقالت: ما لك كفى الله الشر؟ قلت: الجيران في إجازة. قالت: من يا ابني؟ قلت: عم منصور أفندي. قالت: آي صحيح، لو سألتني كنت وفرت على نفسك نزول السلالم. قلت غاضبا: لازم نشوف طريقة ونفتح الشقة. قالت: الصول في إجازة يا ابني، والست بتاعته قالت لي إنهم ناويين على المصيف . جلست على حاجز المنور وقلت: وما العمل؟ قالت كأن الأمر لا يعنيها: العمل عمل الله يا ابني، ننتظر لغاية ما يرجعوا. صرخت: ننتظر؟ والديك يموت من الجوع والعطش؟ قالت: آدي الله وآدي حكمته، ربنا يتولاه يا ابني. هتفت الخادمة: نرمي له الأكل يا ستي. زعقت أمي فيها: قدامي على المطبخ يا بنت. وبقيت وحدي أسند وجهي حينا على حاجز المنور وأدخل رأسي حينا آخر في فتحته، كان الظلام دامسا في القاع، وكان رفيف الأجنحة يصل إلى أذني على فترات متباعدة، أيها الديك المسكين، كنت تقف على الساتر وترفرف بجناحيك وتنفش ريشك وترفع صوتك المبحوح بالصياح، كنت تمد منقارك إلى السماء كأنك تريد أن تنقر حبات النجوم، كنت توقظ النيام وتعلن موكب النور وترفع القناع عن وجه الفجر، وها أنت مخنوق في الظلام، مدفون بالحياة في البرد والرطوبة، لماذا لا تسرح في شقة الصول كما تشاء؟ لماذا لا تبحث فيها عن بقية طعام أو شربة ماء؟ لا بد أنك وقعت في شبكة الحديد فلم تستطع تخليص نفسك، لا بد أنك يئست من طلوع الفجر فانقطعت عن الصياح.

أصبح همي منذ ذلك الحين أن أنزل له الطعام، أقنعت أمي أننا يجب أن نفعل المستحيل لنبقيه على ظهر الحياة، كنت ألاحظ أنها تشك في مجهودي، ولكنها لم تكن تضن علي بما أطلبه: فتات الخبز المتبقي من الطعام، حبات الشعير والأرز المطبوخ، أعواد الفجل والجرجير، قطع من قشر البطيخ والشمام. صحيح أنها كانت تبدي شكها في وصول الطعام إليه، وكنت أنا أيضا أستبعد بيني وبين نفسي أن تصل بقايا الطعام من الدور الثالث إلى الدور الأرضي، بل وأشك أيضا في أن يعثر عليها الديك، أو يجد له نفسا فيأكلها إذا عثر عليها.

ولكنني كنت على كل حال أحاول كل ما أستطيع، وأغوي نفسي بأن الديك المسكين جائع، ولا بد أنه سيتلقف كل ما يجده، ومع أنني كنت أضع في حسابي أنه يعيش الآن في شبه ظلام دامس، وأن الرطوبة لا بد أن تكون قد أثرت عليه ويبست أطرافه ونفذت إلى جسده، وأنه يفتقد الهواء المنعش كما يفتقد نور الشمس بالنهار وبريق النجوم بالليل وصياح الدجاج من حوله، ودفء الإحساس بالشهامة والقوة والتسلط والكبرياء، مع هذا كله فقد كنت لا أكف عن إرسال ما أستطيع إرساله إليه من الطعام، كنت أقذف به حينا بكل قوتي، على أمل أن يصل إليه جزء قليل منه، أو أكومه في ورقة ألفها عليه وأرميها من الشبكة، أو أربطها في حبل طويل أدليه بعناية وحذر، ويظهر أنني كنت نسيت أن الديك يحتاج إلى الشراب إلى جانب الطعام، لولا أن نبهتني الخادمة إلى ذلك، وقد فكرت طويلا في طريقة أوصل بها الماء إليه، ولم يبق أمامي سوى أن أصب كل يوم من القلة، مع علمي أنني ربما كنت أؤذيه بهذا الماء الذي لا شك أنه سيزيد من الرطوبة التي يعيش فيها، كما أنه سيسيل على الأرض ولن يستطيع المسكين أن يشرب منه شيئا، المهم أنني كنت أجد العزاء الحقيقي كلما أسندت رأسي على فتحة المنور فسمعت رفرفة الأجنحة أو تبينت أثرا ضئيل للحياة، كنت أحس بأنني أمام قلب ينبض في الظلام والرطوبة بعيدا عن النور والهواء، ولكنها حياة على كل حال، تطالبني في كل لحظة بأن أفعل في سبيلها شيئا.

صحا أبي من النوم بعد الظهر وجاء يطلب الشاي، رآني في جلستي على حاجز المنور، فسألني عما أفعل، حكيت له الحكاية وقلت له: إنني متأكد من أن الديك سقط في المنور، قال: إن حضرة الصول في إجازة، وإنه ربما لا يعود قبل شهر. قلت: إن المهم أن يبقى الديك حيا بأية وسيلة. قال إنني أضيع وقتي من غير فائدة والديك سيموت.

انزعجت لأنه قال هذا ببساطة كأنه يقرر أن الجو حار وأن الشاي ثقيل، قلت: إنني سأفعل كل شيء لأنقذه، فهو يعلم كم أحبه، قال متهكما: إن الديك مات وإن سيدنا المسيح نفسه لن يحييه. قلت: إن الديك حي وسيظل حيا بأمر الله. سألني إن كنت أنوي أن أبيت عندي أو أسهر وأعد النجوم ، فهمت أنه يلمح للمذاكرة وعمل الواجب، فقمت واتجهت إلى حجرتي.

لم يأتني نوم، لم تنفتح نفسي لقراءة كتاب ولا كتابة حرف. رقدت على السرير مفتوح العينين. كان الديك يبدو أمامي مرة وهو منكمش ذليل في قاع المنور، وأخرى وهو يصيح على السطوح أو يقف بأبهته وكبريائه فوق الساتر، لم يكن في الحقيقة بسيطا عاديا بالنسبة لي، فقد اهتممت به منذ أن حضر إلى البيت - بعد أن سبقته سمعته وأصله وفصله - كما رحت ألاحظه وهو يكبر وينمو ريشه ويحتل مكانه بين الدجاجات كرب أسرة مسئول، لا بل كواحد من أفراد أسرتنا نحن، أو كقطعة من نفسي عزيزة، بحكم الأنانية على الأقل، فقد كان كما قلت يحمل اسمي الذي أطلقته أمي عليه على سبيل المزاح أو الجد لا أدري.

دخلت أمي الحجرة وتركت الباب مواربا وراءها، سألتني إن كنت لا أزال صاحيا، قلت: إنني لا يأتيني نوم. قالت: هو أجله يا ابني. قلت: الديك حي يا أمي، لا تنسي أنه حي. قالت: يا ابني ما يعرف الحي من الميت إلا الله، زمانه مات من العتمة والرطوبة. قلت: أنا متأكد أنه حي، سمعته بأذني، قالت: أوهام يا ابني، تلاقيه خفاش أو وطواط. صحت فجأة: قلت لك هو الديك بعينه، أنا أعرفه وأعرف دقة قلبه. ضحكت وهي تشد شعري بيدها وقالت: يعني حطيت عليه الساعة؟ ولا يعني دكتور؟ قلت غاضبا: قلت لك الديك لسه حي ولازم نعمل حاجة! قالت في حسرة: العمل عمل الله يا ابني، وإيه اللي نعمله؟

قلت: أنزل له تحت بأي طريقة.

قالت: والمسلح؟ تكسره بأسنانك؟

أيقنت من عبث الفكرة فلو وافق أبي عليها بمعجزة فسوف يبقى أن نأخذ رأي صاحب البيت، والله أعلم إن كان سيقبل مناقشتها على الإطلاق.

قلت: ننزل له قفص في حبل؟

ضحكت من قلبها وقالت: هوه بهلوان يا ابني؟ وإيه اللي ها يعرفه أن القفص عشانه؟

ضحكت أنا أيضا من سخف الفكرة، وسألت نفسي لماذا لم يخلق الله للديكة عقولا يميزون بها إذا وقعوا في مثل هذه الورطة.

عدت أقول: إذن نفسخ الشقة.

دقت أمي بيدها على صدرها وصاحت: عاوز الصول يقتلنا؟

قلت وأنا أحس بعبث الفكرة: امرأته صاحبتك.

قالت: وأدخل بيتها يا ابني وهي غائبة؟

قلت: لو عرفوا أننا دخلناها عشان الديك ...

قاطعتني قائلة: حتى لو كانوا أصحابنا الروح بالروح، والجيران، والناس كلها تقول علينا إيه؟ حرامية؟

فزعت للكلمة الأخيرة، رنت في أذني رنينا مخيفا وإن كان صادقا، تبين لي بالفعل أن عقلي صغير كما قالت أمي، هتفت من يأسي: والعمل يا أمي؟ العمل؟

قالت وهي تغطيني وتقرأ الفاتحة على رأسي قبل أن أنام: العمل عمل الله يا ابني، العمل عمل الله.

ومضت الأيام بطيئة مملة، كنت أكرر محاولاتي التي تزيدني يأسا كل يوم، وكانت تراودني أفكار أفزع منها حين أفكر فيها بعد ذلك، أفكار يمكن أن تجعل مني لصا يفتح الشقق وأصحابها غائبون، أو مجرما يحاول إحراق بيوت الجيران، أو معتوها يحاول أن يطعم ميتا أو ينقذ محكوما عليه بالإعدام أو يمد يده إلى السماء ليتلقى معجزة أو يبدد السحب من على وجه النجوم. كنت أعرف أن الديك يعيش الآن، ولم يكن عندي شك في أنه يعيش وأنني أسمع رفرفة جناحيه وانتفاض ريشه ودقات قلبه، بل ويخيل لي أني أسمع صوت صياحه المشروخ المبحوح، كلما أشعلت عود ثقاب أو قربت الوناسة من فتحة المنور المظلم العميق، ومع أن أبي كان يواصل سخريته بي أو شخطه في كلما رآني مشغولا بإرسال الكل إلى الديك أو رش الماء فوقه أو مناداته بأصوات أقلد بها أصوات الدجاج، حتى وصل الأمر به ذات يوم إلى تهديدي بالضرب أو الطرد من البيت إذا حاولت أن أدلي مصباحا من المنور أو أقرب النار منه خوفا من الحريق. ومع أن أمي كانت قد سلمت أمرها في وفي الديك إلى الله، وبدأ عطفها علي يتحول إلى إشفاق، ثم يصير بعض الوقت غضبا من تصرفاتي الصبيانية، وسخطا لتضييع وقتي عبثا، وخوفا على صحتي من انشغال الفكر وإهمال المذاكرة، ومع أن الخادمة كذلك كانت تضحك كلما رأتني أحاول محاولة جديدة في توصيل الطعام والشراب والنور أو في التسمع للصوت العزيز المكتوم، ويتحول ضحكها مع الزمن، بل ومشاركتها لي في بعض الأحيان في مجهوداتي إلى نوع من الرثاء أو الدعاء بأن يشفيني الله.

مع هذا كله فقد ظللت على اهتمامي بالديك وكل ما يتعلق به وبحياته وموته الذي كنت أحاول أن أبعد شبحه عنه بجهد المستميت، بل لقد شغلني موضوع الديوك كلها إلى ما وراء حدود البيت، فرحت أسأل أصحابي ومعلمي في المدرسة عن الديوك وأنواعها وصفاتها وتاريخها وتطورها، حتى لقد بلغ بي الأمر أن كتبت عنها موضوع إنشاء قدمته لمعلم اللغة العربية الذي رضي عنه وقرأ سطورا منه أمام زملائي في الفصل. وأذكر أنني تكلمت عن الديك وفصيلته ووصفت مزاياه، وبينت لماذا كان دائما صديق الإنسان الذي ينبهه للزمن ويحذره من اللصوص ويعلمه تحمل المسئولية واحترام الأسرة ورعاية الأولاد، كما أذكر أنني بدأت ذلك الموضوع وختمته بهاتين العبارتين:

رسول الفجر الذهبي سقط في الجب، فأين الراعي الذي يخرجه منه؟

صوت النور المبحوح اختنق في الظلام، فمن يا ترى ينقذه؟

ولا بد أنني كنت أكرر هذين السؤالين كلما أسندت رأسي إلى حاجز المنور لأتسمع نبضات قلب الديك ولاختلاجة جناحيه أو لما كنت أحسبه كذلك، ولا بد أيضا أنني كنت أكررهما لنفسي كلما تذكرت - بعد ذلك بزمن طويل - قصة ذلك الديك المسكين.

الشاعر

لا يدري الإنسان، حين يغادر عتبة بيته، ما الذي سيلاقيه في يومه، قد تعثر قدمه بحجر أو ينزل على قشرة موز فينكفئ على وجهه، وقد يقابل عزيزا لم يره منذ سنوات فيأخذه بالأحضان، وقد يسقط في الطريق فاقد الوعي أو تصدمه عربة أو يرفسه حمار أو حصان، فيعود إلى بيته محمولا على الأكتاف أو لا يعود، هذا شيء يتعرض له كل إنسان في كل يوم، وربما تقول إن في هذا تشاؤما وقدرية، في وقت يريد فيه الناس أن يكونوا سادة قدرهم والمتصرفين فيه، ولكنك قد تراجع هذا التفاؤل إذا علمت ما حدث لألطاف هانم في يوم من أيام هذا الصيف القائظ اللعين.

كانت قد خرجت من محل شملا في ظهر ذلك اليوم، تحمل في ذراعها اليسرى كيسا منتفخا بملابس الأولاد؛ ملابس داخلية، قمصان للصيف، مايوهات ملونة للبحر، وأحذية على مقاس الأقدام الصغيرة المحبوبة، وتضع ذراعها اليمنى في ذراع زوجها الأستاذ سعيد مهندس التنظيم، وكانت السعادة تملؤها لتوفيقها في الشراء من الأوكازيون، فالبائع كان لطيفا سمح الوجه، واختيار البضاعة لم يكن عسيرا، والثمن الذي دفعته لم يكن باهظا على الإطلاق، فكان الشعور بالرضا والارتياح يغمرها ويفيض عليها سعادة هادئة تبدو في عينيها المرحتين الصافيتين، ومشيتها الرزينة المطمئنة، وإحساسها اللذيذ بالقرب من زوج طيب ودود ينم وجهه الأبيض الهادئ عن الرجولة والاعتداد والحنان، وكانت هذه المشاعر الهادئة تصرفها عن ملاحظة الجو الخانق الذي يكتم الأنفاس، وتبعد عنها السخط والضيق والنكد الذي كانت تحس به عادة من الزحام في هذه الساعة التي يخرج فيها الموظفون والعمال، بل إنها - لفرط سعادتها ورضاها - وجدت ذلك كله شيئا طبيعيا، وبدت كأنها تقرأ في الوجوه الملولة المتعبة التي تقابلها، والمركبات العامة التي تميل هياكلها وتئن عجلاتها تحت وطأة الزحام والصراخ والسباب والأشجار الهامدة التي تتلهف أوراقها الجافة على نفسة من الهواء، والضجيج المزعج الذي ينبعث من الأبواق والحناجر وأجهزة الراديو التي يحملها المارة بدت كأنها تلمح في هذا كله نوعا من النظام الطبيعي الخالد الذي يسير كل شيء فيه على ما يرام. كانت تتمنى لو استطاعت أن تغني أغنيتها المفضلة التي ترددها بإصرار مضحك في المطبخ والحمام، أو تقبل سعيد قبلة مفاجأة لا يفهم سرها كعادته، ولكنه يتلقاها منها في رضا وسرور.

وراحت تداعب في خيالها صورة أولادها الثلاثة الذين سيستقبلونها بالصياح والهتاف والأيدي الممدودة إلى الجيوب والأكياس، كما ترتب في ذهنها أطباق الغذاء على المائدة، والقمصان الجديدة على أجسام الصغار، والأحذية والصنادل في أقدامهم، والبهجة التي ستشع من كل مكان في المسكن الأنيق.

كانت تقترب مع زوجها من محطة الأوتوبيس الذي سيحملها إلى مصر الجديدة وتداعب هذه الأفكار المشتتة كما لو كانت تجلس في زورق يهتز فوق موج هادئ، عندما رأته فانقلب الزورق فجأة وغاصت مفزوعة إلى القاع. من المبالغة بالطبع أن يقال إنها عرفته أو تذكرته من أول نظرة، فقد كان يقف هناك على الرصيف قبل منتصف الشارع المؤدي إلى المحطة المزدحمة بالناس، كما يقف آلاف الشحاذين في كل مكان. اتجهت إليه أول الأمر مدفوعة بنفس الشعور الهادئ الذي عرفناه فيها منذ قليل، وسحبت ذراعها برفق من ذراع زوجها لتتمكن من فتح حقيبتها وإعطاء الشحاذ المجهول ما فيه النصيب. كان من الممكن أن تمد يدها إلى يده المتصلبة المفتوحة أمامها بالقرش أو القرشين وتمضي في هدوء دون أن تنظر في وجهه أو تنتبه إلى دعوته للمحسنين، وكان من الممكن أيضا أن تمر عليه مر الكرام دون أن يحرك منظره في نفسها نزعة الإشفاق التي تميتها في العادة كثرة الشحاذين، أو تتأمله في صمت وتمضي في طريقها في عدم اكتراث، لولا أنه كان يقف هناك كالقدر أو كالمفاجأة الحية التي تطل برأسها من بئر الذكريات. هذا الوجه الشاحب المجدور المستطيل الذي يبدو وأن الشيخوخة قبعت فيه منذ الطفولة، وحولته إلى وجه مومياء مصفرة لم يستطع العفن ولا الزمن أن يصل إليها، أين رأته من قبل؟ وهاتان العينان المغمضتان كعيني أعمى، تحت جبهة عريضة ناصعة لا تتناسب مع الوجه المغضن الصغير، برموشهما السوداء الطويلة المنسدلة كمظلة مقفولة الأطراف، هل تكونان هما نفس العينين الجائعتين الصامتتين اللتين هجرتاها منذ أكثر من عشر سنوات؟ وهذه اليد الممدودة المتخشبة كيد ميت، صفراء نافرة العروق دقيقة الأصابع قذرة الأظافر ملتهبة ومحمرة من أثر التدخين، أهي نفس اليد التي كانت تتعجب من صغرها وهزالها ودقة تعبيرها من بؤس مزمن وعميق؟ ولماذا تمتد الآن بين زحام الأجسام والأصوات وضجيج الشارع كسؤال أخرس تعيس، وكانت تضم أصابعها النحيلة على ألوان من الكتب والصحف والمجلات وتتشبث ببقايا سيجارة رخيصة مريضة الدخان؟ يا إلهي! كم تتغير الأيام.

تاهت يدها في حقيبتها لحظات، يبدو أنها طالت أكثر مما ينبغي، واستغرقها التأمل المشدود في الوجه المصفر، والعينين المغلقتين، والكف المتصلبة، والقميص المتسخ الذي صار أشبه بكفن صغير، والبذلة الحقيرة المملوءة بالرقع والثقوب في أكثر من موضع، والحذاء المتهرئ من الأمام والخلف حتى صار يكشف عن بقايا جورب ممزق وملطخ بالطين، ووقف زوجها لحظة يرمقها في هدوء وابتسام، فلما طال مكوثها أمام الشحاذ أخذ يتسلى بالنظر إلى التمثال القميء المنصوب على قاعدة منخفضة في وسط الشارع، ويبحث في نفسه عن مبرر واحد لوجوده في هذا المكان. إن القاعدة قد امتلأت بالكتابات والتعليقات بخط قبيح وألوان مختلفة، والتمثال نفسه قد نقش الحمام على ظهره آثار فضلاته وليس هناك عابر سبيل يتعطف عليه بنظرة واحدة، كما أنه لا يستطيع أن يجذب انتباه إنسان واحد. استدار الأستاذ سعيد وتقدم من زوجته ووضع ذراعه في ذراعها وهو يضحك قائلا: هذا التمثال يكفي للحجر على كل مهندسي التنظيم.

هزت ألطاف هانم رأسها كمن يفيق من كابوس وسألت: ماذا تقول يا حبيبي؟

أشار إلى التمثال وقد ازداد ضحكه وقال: من المؤسف أن يكون هذا مصير كل الزعماء.

التفتت إلى حيث يشير بإصبعه وقالت: يجب عليكم أن تنظفوه.

قال بسرعة: بل قولي يجب أن تزيلوه.

التفتت إلى الشحاذ المتسمر في مكانه وتذكرت أنها لم تعطه شيئا، وسألت زوجها عن فكة، فبحث في جيوبه ولم يجد سوى قرش واحد، قال لها وهو ما يزال ينظر للتمثال: الزعيم أولى به.

لم تضحك كما كان ينتظر فكتم ضحكته. خلص ذراعه من ذراعها وأمسكت يده بيدها وشدها؛ كي تجري ليلحقا بالأوتوبيس، كانت لا تزال تنظر إلى الشحاذ وتتلفت في كل لحظة لتقارن بين تمثاله الحي وبين صورته التي تقفز نحوها من الماضي البعيد، توقفت وقائلة يائسة: سعيد، الدنيا زحمة، تعال نأخذ تاكسي.

أسرع سعيد يقول: على كيفك يا حبيبتي.

وفي لحظة كان صوته القوي المرح ينادي على التاكسي، وفي لحظة كان قد انطلق بهما وعبر الميدان في طريقه إلى شارع رمسيس.

مضى الأستاذ سعيد يتحدث بغير انقطاع، وكان صوته الممتلئ الوديع يتدفق في أذنيها فتحس بالاطمئنان الذي يكاد يبعث فيها الرغبة في النوم.

وراحت تنظر إليه بين حين وحين وذهنها شارد عنه، ربما لتثبت له أنها تتابع كلامه الذي يتنقل بسرعة من التمثال إلى رخص الأوكازيون إلى مشكلة المواصلات إلى الحرب في فيتنام، ولاحظت بارتياح أن السائق التقط الخيط منه، واستغرق معه في حديث خطير عن غلاء المعيشة والخنافس وواجب استعمال العصا في المدارس، أما هي فلم تعرف في أي شيء تفكر على وجه التحديد، كانت صورة الشحاذ المتشنج اليدين تصدم وجهها باستمرار، بل إن وجهه المجدور الذابل كان كثيرا ما يتداخل مع وجه زوجها الأبيض الناعم، والعينان المغمضتان تهتزان أمامها وتقفزان من زجاج النافذة ومصابيح الشارع ورءوس الأشجار وأعمدة البيوت، وكما تتداخل صور المرئيات مع صورة الشحاذ المتصلب المسكين، تداخلت الأفكار وراحت تتشكل لها وجوه وعيون وألسنة طويلة وأيد تمسك برقبتها أو تصفعها على خديها، حاولت أن تبعدها بالتفكير في مشكلة الزحام وطاف بعقلها دون سبب اسم مالتس ونظريته التي أخذتها في الجامعة ولم تحاول الآن عبثا أن تتذكر صيغتها التي كانت تحفظها عن ظهر قلب، وهمت أن تسأل زوجها لولا أن وجدت صورة الشحاذ تصدم وجهها بشدة فرفعت يديها تغطيه بسرعة وخوف؛ مما جعل زوجها يلتفت ويسألها جزعا عن حالها فأجابت في هدوء: لا شيء يا حبيبي، مجرد صداع.

كانت تراه في كل صباح، هناك منذ عشر سنوات أو تزيد، على محطة الأوتوبيس الذي كانت تركبه إلى الجامعة، لم يعد لديها شك في ذلك، لم يعد لديها أدنى شك فيه، بالطبع لم تسأل نفسها عنه في الأيام ولا الأشهر الأولى، ولا حاولت أن تفكر لحظة واحدة فيه، كان يقف بقامته القصيرة، وهيئته الرثة، وشعر رأسه المهوش الذي يسقط على أنيه وينعقد كأكوام من الطين المتناثر على رأسه وقفاه، ولم يكن يسترعي انتباهها منه في البداية سوى كومة الأوراق التي كان يحملها تحت إبطه في معظم الأحيان، لم يكن منظره منظر طالب، ولا كانت هيئته أو سنه أو حتى مجموعة اللفائف التي في يده تسمح بهذا الظن، ولا بد أنها كانت تبتسم في سرها لمنظره، وربما تعلمت مع الزمن أن تتعجب لقذارته المزمنة (التي لم تكن فيما يبدو متعمدة، بل عن بؤس أكيد)، وترثى لحاله في النهاية، وتسأل نفسها إن كان له أهل في هذه الدنيا، وأين يأكل وينام ويعيش، ويظهر أن بائعة الجرائد العجوز لاحظت أن اهتمامها به يتزايد مع مرور الأيام، فكان أن غمزت لها بعينيها وهي تشتري منها إحدى المجلات النسائية قائلة: أصله شاعر.

سألتها باستخفاف: قرأت له؟

قالت البائعة وهي تشوح بذراعها: الله يسترك، ما ناقص إلا الشعر.

سألتها في يوم آخر: من أين عرفت أنه شاعر؟

قالت البائعة: زبون دائم عندي، في يوم فتح مجلة وأشار لصفحة فيها وقال في فرح الأطفال: الحمد لله، نشروا قصيدتي. قالت له البائعة: شعر؟ يعني حضرتك ما شاء الله شاعر؟

ابتسم ومضى يقرأ قصيدته في سره وهتف غاضبا: كلها أخطاء مطبعية. قالت له البائعة: بركة دعا الوالدين.

ابتسم في حزن وقال: تعيشي أنت يا حاجة.

سمعت ألطاف ذلك ولم تهتم به، فما لها والشعر وهي تدرس المالية والمحاسبة والاقتصاد؟ إنها تذكر شيئا مما كانوا يسقونه لها في حصة العربي والإنشاء، وحاولت أن تذكر منه بيتا واحدا يمسك بعضه فلم تستطع، قالت لنفسها: ما كل ما يتمنى المرء يدركه. لكنها لم تذكر الشطر الثاني، ولم تعرف إن كان لشوقي أو حافظ أو النابغة الذبياني، وضحكت في سرها للاسم الأخير، وقالت لنفسها إن نطقه وحده يميت من الضحك، ومع الأيام راحت تتابع الشاعر المجهول، كانت تراه في معظم الأيام واقفا كالتمثال في انتظار الأوتوبيس، ويبدو أنها كانت قد فرغت من ملاحظة هيئته وملابسه الرثة وحفظت قميصه القذر الذي لا يتغير وبذلته البنية الداكنة التي صارت كالخرقة المهملة، ولا بد أن المصادفة وحدها هي التي جعلتها تنظر مرة إلى عينيه، بدت لها، بعكس ملابسه ووجهه وكل شيء فيه، كأنها هي الشيء الوحيد الذي يدل على الحياة فيه، كانتا ضيقتين، تلمعان لمعة غريبة، وتتحركان باستمرار في قلق وحزن لا يطاق، وقد فطنت بغريزة الأنثى أنه يسلطهما عليها في شوق أخرس مكتوم، ومع أنها كانت تنفر منهما وتحاول أن تتجاهلهما على الدوام، فقد بدأت تسأل نفسها عما تريده منها نظرته الخرساء، إذ ليس هناك أفظع من عينين صامتتين حزينتين تقولان لك: إنني أحبك ولا أريد منك شيئا، هل كان هذا المخلوق البائس الزري يحبها؟ وماذا كان يرجو من وراء هذا الحب الأخرس الصامت المخبول؟ إن جدارا هائلا كثيفا من التقاليد والظروف يبعدها عنه، لا بل يسحقه كالحشرة الذليلة أو الدودة البائسة، وهل يعقل أن تبادله النظر أو تطمعه بأدنى إشارة أو لمحة؟ يا له من صعلوك خائب مجنون! في يوم من الأيام جاءت متأخرة عن موعدها قليلا إلى محطة الأوتوبيس، كان هناك زحام غير عادي وجماعة من الناس يتحلقون حول رجل ممدد على الأرض، وشاب يجري له تنفسا صناعيا ويصيح بالواقفين أن يبتعدوا لكيلا يمنعوا الهواء عنه، وآخر يصرخ في طلب الماء، وحشرت نفسها لتلقي نظرة فرأت الشاعر ممددا على الأرض ببذلته الداكنة وقميصه وحذائه الباليين، ووجهه المصفر المجدور الذي يشبه وجه ميت، وبعد قليل نهض واقفا ونفض التراب بشدة عن ملابسه، وراح يعتذر إلى الناس ويشكرهم، ثم تقدم من سائق عربة كارو كان يقف في خوف بعيدا عن الجمع المحتشد، وإذا به يتقدم منه خجلا كالفتاة العذراء، فيعتذر إليه بصوت مسموع ثم يحتضنه فجأة ويقبله، بادرتها بائعة الجرائد العجوز قائلة: مجنون، بدل ما يطلب التعويض.

سألتها: هل داسه العربجي؟

قالت البائعة: داسه؟ قولي دهسه، العجل يا عيني فات عليه، لولا ساتر ربنا كان بقى نصفين. والآخر يعتذر له.

أزاحت شعرها الأسود الفاحم عن عينيها وقالت باسمة: ما هو شاعر. وجاء الأوتوبيس فقزت فيه.

إنها لا تزال تذكر الآن كيف بدأت تهتم به وتعطف عليه، كانت تلاحظ أن نظراته تتابعها، نفس العيون الصامتة الخرساء، العيون الحزينة البائسة بلا أمل في الأرض ولا في السماء، العيون الذليلة المجروحة التي تقول في انكسار: أحبك، ولا أريد منك شيئا ، وبدأت هي أيضا تهتم بنفسها، كانت تطيل الوقوف أمام المرآة قبل أن تخرج إلى الشارع، وبدأت - ربما لأول مرة - تأمل وجهها الصغير الجميل وتلاحظ أنفها الدقيق ووجنتيها البارزتين، وفمها الواسع قليلا، وشفتيها الرقيقتين، اللتين تبتسمان دائما في سخرية عذبة كانت هي طابعها الأصيل، أما عيناها السوداوان، المستديرتان فكانتا تشعان بنظرة لم تلتفت إليها من قبل، نظرة نارية ثائرة، فيهما كبرياء وبعد، ولكن فيهما مع ذلك حزن عميق يرسم مع الشعر الأسود الفاحم الطويل الذي ينسدل دائما على جبينها العريض وإحدى عينيها صورة من الخيالات والأحلام العذراء التي تحيط الفتيات في عمرها بهالة من الغموض، والتمنع والحياء. ها هي نظرته تتابعني، لكن ماذا يريد؟ آه من هذا الأخرس المخبول، إنه لا يقول شيئا، لا يتحرك لا يهتز فيه عرق واحد، هل كان ينظر إلي حقا أم كان يسبح مع أشعاره؟ وأي أشعار هذه؟ هل هي مثل أشعار شوقي وحافظ؟ هل ينشرونها حقا في الجرائد والمجلات؟ هل يكسب منها عيشه؟ هل يغنونها في الراديو؟ إنه يتابعني دائما، بالنظرة الذليلة المجنونة الصامتة الصارخة بالحب واليأس والعذب والانكسار.

لكنها تذكر الآن كيف انقلب اهتمامها الطارئ به إلى سخط وحقد واشمئزاز، إنها لن تقيم وزنا لهذه النظرات الجائعة الخرساء ولو صرخت في الأبواق بأنها تحبها حتى الموت. ماذا يقول الناس؟ ماذا تقول العائلة؟ والعرسان الذين يحومون حولها من الآن ويسألون عنها بل ويتقدمون لأبيها؟ مهندسون وأطباء وضباط وموظفون محترمون، وها هو الآن قد خرج من حياتها التي لم يدخلها قط، واختفت نظرته وهيئته المزرية وجسده الضئيل ووجهه الشاحب الصغير، كلها اختفت إلى الأبد خلف السور الشائك الذي أقامته من الاحتقار والكبرياء والتعقل.

يا إلهي، ما الذي يوقفه هذه الوقفة في أكبر ميدان؟ ما الذي انتهى به إلى هذه النهاية؟ هل طردته الجريدة التي كان يعمل فيها؟ هل أفلس من الشعر؟ هل مات كل أهله فوقف في طريق الحياة كبقية شجرة قطعت من جذورها؟ هل أصابه العمى من كثرة القراءة والكتابة أو من كثرة البكاء أو من كثرة النظر اليائس الأخرس الحزين؟ ما الذي أدى به إلى هذا المصير؟ ما الذي جعله يمد يده المتشنجة لكل عابر سبيل؟ ألا يكسب الشعراء من شعرهم؟ ألم يكن شوقي كما يقال أمير الشعراء؟ ألم يكن شاعر البلاط الذي ينعم بخيرات الخديوي وذهبه وألقابه؟

إنها لا تذكر بيتا واحدا من الشعر، ما كل ما يتمنى المرء يدركه، لكن لا بد أن صاحبه لم يكن شحاذا ولم يضطر إلى الوقوف في ميدان، تحت شمس محرقة، وسط زحام خانق بين آلاف العيون التي تنظر فترحم أو تمر بغير اكتراث. هل دخل المسكين السجن فعذب كما سمعت من الناس أو علق جسده من قدميه كما تعلق الذبائح عند الجزارين، أو سلطت عليه الكلاب المتوحشة أو أغرق بالماء إلى رقبته في زنزانته؟ هل كان من الشيوعيين والسياسيين أم ماذا جرى له؟

كان الأستاذ سعيد لا يزال مستغرقا في نقاش مع سائق التاكسي، وأصغت قليلا فوجدتهما يتحدثان عن مشكلات التنظيم والمدينة التي ضاقت وضجت بعرباتها وسكانها، وحاولت أن تتذكر قانون مالتس، وخطرت لها كلمة المتوالية الهندسية والمتوالية الحسابية، ولكنها لم تفلح في العثور على صيغة القانون، وهتف السائق: لا بد من تعمين الحبوب وجعلها بالمجان، فقال زوجها: ولو؟ الأرانب هي الأرانب وحياتك. وضحكا ضحكة فاضحة جعلتها تدير وجهها إلى الناحية الأخرى.

وقف التاكسي أمام باب العمارة، نزل زوجها أولا ومد إليها يده ليسندها، كم هي رخصة هذه اليد وسمينة وبيضاء ومريحة، عشرة أعوام وهي تمسك بيدها وتربت على كتفها وتمنحها الثقة والعطف والحنان، لكن العيون الخرساء الجائعة تقف أمامها الآن، عيون ضيقة تلمع ببريق التعاسة والقلق واليأس والذل والعذاب، أأكون مذنبة أيتها العيون؟ أكان في وسعي أن أفعل شيئا ولم أفعله؟

لماذا لم يقل كلمة واحدة؟ لماذا لم ينطق بحرف؟ لم يصدر إشارة؟

كنت بالطبع سأزجره وألزمه حده، لكن ربما كان هذا على الأقل مصدر عزاء لي الآن، ومن يدري؟ فربما كنت أجبته بكلمة، تصدقت عليه بنظرة، شجعته بابتسامة، مستحيل أن أتصور أنني كنت سأزيد عن ذلك، مستحيل أن يكون قد خطر لي أن أكلمه مرة أو أمشي معه خطوة واحدة، وماذا كانت تقول الناس والجيران والعائلة، والعرسان الذين يحومون حولي؟ ها هو سعيد يفيض علي حبه وعطفه منذ سنين، لقد هيأ لي البيت السعيد، ووهبني الأولاد السعداء، كأنما يقسم أن يجعل كل يوم من أيام حياتي نظيرا لاسمه، عندي كل وسائل الراحة والهناء والحياة المستقرة المريحة، وماذا تطلب الزوجة أكثر من المرتب المضمون، والثلاجة والبوتاجاز والغسالة والسخان والتليفزيون؟ وهل تسمح لنفسها بعد هؤلاء ألا توفر له البيت السعيد وتملأه بالأطفال السعداء؟ ما كل ما يتمنى المرء يدركه، ليتني أعرف فقط إن كان هذا الكلام لشوقي أو حافظ.

سألها زوجها وهما يدخلان من باب الشقة ويسمعان صياح الأولاد الثلاثة، هدى وهابي وهناء، فيم تفكرين يا حبيبتي؟

قالت شاردة: في بيت من الشعر.

هتف وهو يحتضن هناء: اسألي ماما عنه يا هناء.

قالت ألطاف وهي تغتصب ضحكة: نسيته يا سعيد.

قال سعيد وهو يقبل هدى وهابي: لازم كان من المعلقات.

أقبل على الأولاد يريهم القمصان الجديدة والمايوهات والصنادل، ما أطيبه وما أكثر حبه لها ولأولادها، وما أشد ثقتها فيه واطمئنانها بجانبه، إنها لا تذكر أنه أغضبها يوما بكلمة حادة أو خارجة، أو أخر لها طلبا من نفسها، أو بخل عليها بملبس أو مأكل أو نزهة.

وراحت تخلع ثيابها في صمت وترتدي ملابس البيت، كان شيء كالخدر يزحف من قدميها إلى رأسها، ومن رأسها إلى قدميها، شيء ثقيل كالصداع أخذ يدق بضرباته فوق عينيها ويجثم على أنفاسها ويزحف مع نبضها ودمها، وارتمت على الفراش وكل شيء يهتز أمام عينيها ويدور ويخلط كدوامة من الألوان والأصوات والحركات، واتسعت العينان الجائعتان الصامتتان أمامها، وتحجرت فيها النظرة الفظيعة الخرساء، وامتدت أمامها اليد المتشنجة كيد ميت تخترق النعش فجأة، وأخذت تتقدم منها وتتقدم حتى أحست أنها تلكمها في وجهها لكمة شديدة، صرخت مفزوعة، ثم انفجرت باكية، وحين أسرع سعيد إليها وسألها ملهوفا عما بها ألقت ذراعيها حول عنقه ودفنت رأسها في صدره وقالت وهي تنشج: لا شيء يا حبيبي، لا شيء أبدا.

لماذا نسيتني؟

ارتعشت يد الخفير العجوز لحظة قبل أن تضع المفتاح الأسود الغليظ في ثقب الباب، ومال برأسه الصغير إلى الأمام ليتطلع في وجه الزائر الغريب، ثم دفع باب المدفن الصفيحي فصر صريرا مخيفا كاد يغطي على الصوت الرقيق الذي يسأله: ألا تعرفني يا عم عوض؟

قال الرجل وهو يدعوه أن يتفضل بالدخول، ويمر بعينيه الكليلتين على الوجه الأبيض الذي لا يذكره: لا مؤاخذة يا سيدنا الافندي، العتب على النظر.

ضحك الزائر قائلا: هل نسيت حسني يا عم الشيخ؟

مر الشيخ عوض بيده المعروقة على وجهه المتجهم كأنه يحاول أن يتذكر أو يحتج احتجاجا أخرس على الضحكة التي رنت في غير مكانها، ويجبرها على التراجع أمام هيبة الموت ووحشة القبور: حسني بيه؟ ابن الحاج جابر؟ والله سلامات، يا مرحبا بأهل مصر، الله يرحم والدك.

قال الأستاذ حسني بعد أن خطا خطوتين في داخل المدفن وطالعته ثلاثة قبور تداخلت في بعضها البعض، فبدت كظهور موجات غطاها الزبد الأبيض: الله يرحم الجميع.

نفض عم عوض التراب بجلبابه عن مرتفع صغير أعد للزائرين، ودعاه للجلوس وهو يتمتم بالفاتحة، ثم أراد أن يستأذن في الانصراف معتذرا بإتمام حراسته حين سأله الأستاذ حسني في خجل: لا مؤاخذة يا عم عوض، من عشر سنين وأنا غائب عن البلد، المرحومة أمي مدفونة هنا، قبل الحاج بسنين، هل تعرف ...

قال عم عوض وهو يرفع يديه ويعيد تلاوة الفاتحة: أستغفر الله، طبعا يا ابني، هنا يا سيدنا البيه، الله يرحمها ويحسن إليها، راسها تحت الشاهد تمام.

أقبل حسني على القبر الأوسط في خشوع شجع الخفير على الاعتذار مرة أخرى والانصراف إلى نوبة حراسته، وحين وجد نفسه وحيدا بعد أن أغلق الباب عليه لم يدر على التحديد ماذا يفعل.

مد يده إلى القبر وأخذ يمسح بها عليه، تمنى لو تسعفه الدموع أو يشهق بالبكاء كطفل وحيد تعيس، غير أنه كان يعلم أن دمعته بعيدة، وأنها طالما خذلته في مواقف كثيرة لا يستعصي فيها البكاء على أعتى الرجال، وأخذ يفتش عن آية يحفظها من أيام المدرسة فلم تطاوعه إلا الفاتحة التي أخذ يرددها دون تفكير، وأحس بوجهه يلتهب بالخجل، فأخذ يبلغ ريقه كالمتهم الذي وقف الكلام في حلقه أمام المحكمة، كان الوقت بعد العصر بقليل، والهدوء الساكن حوله يزيد من ضربات قلبه ويملأ صدره بالوحشة والرعب، وكانت القبور تنتشر حوله في كل مكان، كلما تلفت وجدها صامتة مستسلمة، غير أنها تبدو كما لو كانت تتعمد هذا الصمت والاستسلام، بل ربما كانت تتربص به أو تدبر شيئا لن تلبث أن تنفجر فجأة لتهدده به، ومع أنه رجل عاش حياته للعلم ونذرها لمحاربة الأوهام والخرافات، فقد كان هناك شيء يقبض على عنقه وصدره ويكاد يخنقه، شيء لم يستطع أن يتبين إن كان خوفا أو خجلا أو توبة من ذنب قديم أو رهبة أمام المجهول الساكن المنتشر كالوحش غير المنظور في كل ذرات الهواء الذي يتنفسه حوله، ولا يدري أيضا لماذا قفزت إلى ذهنه صورة حيوانات بدائية منقرضة كان قد رأى ظهورها في مناسبة لا يذكرها، ربما في أحد الأفلام أو في كتاب علمي قرأه منذ سنوات.

كان التعب يخدر أعضاءه، واجتمعت حرارة الجو اللافحة مع عرق ممزوج بتراب السفر، راح يتصبب من جبينه وسالفيه ويدخل إلى فمه قطرات مرة مقززة، وكاد يندم على أنه نزل من العربة على الطريق الزراعي ولم يكمل سفره إلى البلدة، فقد كان في استطاعته أن يزور أخته الكبرى وأخاه المقيم في بيت العائلة، ثم يعود إلى زيارة أبويه في الصباح، ولكنه نفى هذه الوساوس عن نفسه بسرعة، قائلا إنها لا تليق بعالم مثله، وماذا ترك إذن للجهلة والفلاحين؟! بل ماذا ترك للعجزة والأطفال؟! ها هي البلد تتراءى له من بعيد، جدارا واهيا أسود من الطين، ينفث الدخان والغبار من فمه كتنين يموت، والبيوت الصغيرة كتل من السحاب الأسود تحتمي ببعضها البعض خائفة من لفح الشمس ومن مصيرها المحتوم، وبعض الكلاب تعوي من بعيد كأنها تحذر من هذا المصير، وتعلن سخطها نيابة عن الفلاحين الصامتين.

أسند رأسه إلى جدار القبر، وتراكم عليه تعب النهار وكآبة الموت وركود الهواء ولفح الحر وطنين الذباب ونعيق الغربان، فاستسلم لذكرياته، وخيل إليه أنه يسمع صوتا يناديه: حسني.

كان صوتا هادئا فيه بحة رنت في أذنيه رنينا مألوفا وغريبا، وبدا له كيد دافئة تمسح على رأسه وجبينه: حسني، حسني.

أجاب في لهفة: أمي؟!

قال الصوت العميق: غبت يا ابني، طالت غيبتك.

قال حسني غير مصدق: أهذا صوتك حقا؟

أجاب الصوت معاتبا: نسيت أمك يا حبيبي؟

وضع أذنه على الجدار، ثم رفع صوته محتجا: نسيتك؟ كيف أنساك يا حبيبتي؟ عاد الصوت يقول في أسف لم يخف عليه: لو كنت تحبني حقا، فلماذا نسيتني؟

تمثل له الوجه العجوز كما رآه لآخر مرة، كانت الابتسامة الطيبة الساخرة تحاول أن تفسح لها مكانا بين التجاعيد المزدحمة على طرف الفم وتحت الخدين البارزين، ولم تتضح له العينان تماما وإن راح يبحث عنهما تحت المنديل الأسود الذي يشد الجبين ويتدلى طرفه فوق الأذن الدقيقة البيضاء. تأمل الوجه الصغير المستطيل وغضب لأنه لم يتبين كل ملامحه وقال:

لا تقولي نسيتك، إنما المشاغل والأعمال.

قالت في حنان: هل تعمل الآن يا حبيبي؟ عندما تركتك كنت في البكالوريا، كان نفسي أفرح بك وأوزع الشربات.

ضحك وقال: البكالوريا؟ هوه، هوه، أنا سافرت وعشت سنين في الغربة.

سمعها تضرب صدرها بيدها: عند الخواجات؟

ضحك من كلامها، تعجب في نفسه من جهلها، ابتسم وقال: ياما سافرت ورجعت.

قالت داعية: تسافر وترجع بالسلامة يا ابني.

أراد أن يقول إنه عبر المحيطات وركب الطائرات والقطارات ثم عاد إليها. تذكر أن الأرض كروية، وأن الإنسان يعود دائما إلى النقطة التي بدأ منها، حاول أن يجد عبارة تبين أنه لم ينسها، وأنه كالطفل الضائع، مهما هرب وتاه في بلاد الله لا بد يوما أن يرجع إلى صدر أمه.

وأخرجه الصوت من حيرته حين سمعه يسأل: وتوظفت يا حبيبي؟

ظل يضحك حتى فاجأه الخجل ورهبة المكان فقال : موظف؟ قولي مدير ، رئيس.

عادت تسأل: بركة يا ابني، وشغلك صعب؟

تهيأ للشرح الطويل، رفع ذراعه وأخذ يشير بإصبعه ويقول: صعب؟ كله إلا التخطيط يا أمي، كله إلا التخطيط.

انعطف الوجه الحنون عليه في إشفاق، غابت منه الابتسامة وحل محلها حزن أبدي مظلم، كالذي يكسو وجوه الفلاحين.

سألت وهي تلفظ الحروف في حذر شديد: تخطيط؟

وجد أن المسألة تحتاج إلى شرح طويل، رفع ذراعه إلى أعلى وبدأ يشير بسبابته كأنه يوضح رسوما على لوح أمامه: التخطيط يا أمي هو الذي تخصصت فيه، طبعا حصلت على أعلى الشهادات ...

قاطعته قائلة: ربنا قادر يا ابني يعطيك.

استمر يقول: التخطيط يا أمي هو سياسة اقتصادية لتحقيق أهداف معينة، هو رسم صورة للمجتمع الجديد، المجتمع الذي نحلم به، هو الإطار المادي للمثل والآمال التي تسيطر علينا، أنا أرسم هذه الصورة، مع زملائي طبعا، وكلهم دكتاترة مثلي.

هتفت في فرح: يعني أنت دكتور يا حبيبي؟

قال في استنكار: أوه، طبعا، طبعا يا أمي، نرجع للموضوع، مجتمعنا متخلف، راكد، شبه ميت، يسود التأخر جميع مرافقه الاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية، يعيش في الظلام بعيدا عن الحضارة والعلم والمدنية والحرية، يحيا غريبا في هذا الكوكب، ينظر إلى العالم كأهل الكهف أو كالمتفرج الهابط من كوكب آخر، سبعون في المائة من السكان أميون، عاجزون، مرض بالبلهارسيا والدوسنطاريا القدرية والفقر والصبر، مستوى دخل الفرد لا يصل إلى حد الكفاف ...

قاطعته في صبر نافد: كلامك يا ابني ...

أشار إليها أن تسكت واستطرد يقول: نريد أن نغير الهيكل الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع، نريد أن نبني بناء جديدا مكان البنيان المتداعي القديم، نريد أن ننهض به إلى مستوى لائق من الحضارة، حالتنا سيئة يا أمي، حالتنا سيئة، 70 إلى 90 في المائة ما زالوا يعيشون على الزراعة، ينفقون كل دخلهم على الغذاء والضروريات، لا يعرفون الادخار، تصوري أن مستوى دخل الفرد منخفض عن مستوى دخله في الهند؟

قالت الأم وهي تبتسم فتكشف عن فم بلا أسنان: الهند بعيدة يا حبيبي، ما لنا وما للهند؟

أجاب مندفعا غاضبا: يعني نحن في الحضيض، ما زلنا في الحضيض رغم التعب والعرق والمجهود، بيننا وبين العالم المتحضر هوة سحيقة، نركب الحمار وهو يركب الصاروخ، نزرع بالفأس والمحراث وهو يستخدم الطيارة والجرار، نعيش في عصر الساقية وهو يعيش في عصر الميكنة، لا بل كما يقول العلماء في عصر ميكنة الميكنة.

قالت جزعة: المكن خطر يا ابني، ربنا ينجكيم من الأخطار.

زاد صوته حدة وراح يشير بيده: نريد أن نحول مجتمعنا إلى مجتمع صناعي، مجتمع متقدم، نريد أن يأتي اليوم الذي يترك فيه الفلاح الفأس، يكسر المحراث، يقتل حماره بالرصاص.

سألت خائفة: حرام يا ابني.

رفع صوته أكثر وقال: بل يقتل كل الحمير، كل هذه المخلوقات الغبية الكسولة التي تنضح عليه.

قالت تذكره بالماضي: أبوك كان يحبه يا ابني، حماره الأبيض بعلامة سوداء على رأسه، ما أحلاه وهو يسرح به إلى الغيط.

قال ساخطا: لو كان أبي حيا لأجبرته أن يقتل الحمار.

سألت مشفقة: وماذا يفعل من غيره يا ابني؟

قال: يركب هو وكل الفلاحين الجرار.

سألت: الأتومبيل؟ كل الفلاحين على أتومبيلات، ومن يزرع الأرض يا ابني ويرويها ويعزقها ويلم محصولها؟

قال مؤكدا كلامه: بالمكن يا أمي، قلت لك بالمكن.

قالت في لهجة يائسة: ربنا قادر يا ابني، والبهايم من يحلبها يا حبيبي؟ من يرعاها؟

قال متطلعا إلى القرية الهاجعة كجثة تنزف طينا أسود: البهائم ستعيش في حظائر، تحلب بالمكن وتأكل بالمكن، المعدات البدائية ستزول وتحل محلها آلات جديدة نظيفة، ألم أقل لك لا بد أن ندخل عصر الصناعة، لا بد أن نسابق الزمن، الزمن الذي يجري كالأرنب ونحن نزحف وراءه كالسلحفاة؟ انظري، هؤلاء الفلاحون الذين يجلسون في الشمس قانعين راضين بالقدر ...

قاطعته وكأنها تحذره: المقدر لازم يكون يا ابني، وكل حي ونصيبه.

فهتف وهو يشوح بكلتا ذراعيه: هذه هي القدرية، نريد أن نقضي عليها، لا بخت ولا نصيب بعد الآن، الإنسان هو سيد القدر، هو صانع الحياة، هو المسيطر على الطبيعة، هكذا يقول العلم، العلم.

قالت مستسلمة: بحره واسع يا ابني ، وربنا يزيدك من نعيمه.

استطرد يقول كأنه يخطب: والعلم يقول لا بد من ثورة في الريف، لا بد من تحطيم المجتمع التقليدي، لا بد من القضاء على القدرية والقناعة بالبخت والنصيب.

قالت تحاول أن تهدئ من حماسه: القناعة يا ابني كنز.

أجابها كالعاصفة: غلط، القناعة هي سر المصائب، القناعة علمت الفلاح أن يرضى بالقليل، أن يعيش هو وأولاده كالحمير والجاموس، تغذية سيئة (نسبة ضئيلة من السعرات الحرارية)، حالة صحية سيئة (طبيب لكل 3600 إنسان، تصوري!) أمية وجهل منتشر (75 في المائة، تماما كما كانت على أيامك)، خزعبلات وأوهام موروثة يسمونها تقاليد، تعصب للأسرة وللأرض، وبلغة العلم جمود أفقي.

سألت: إيه يا حبيبي؟

استطرد متجاهلا سؤالها: جماهير مفرطة في الفقر، وأفراد مفرطون في الغنى.

قالت تنبهه: أمر الله يا ابني.

زمجر ساخطا: بالعكس، ناس ترضى بالبؤس والكدح، ترثهما وتورثهما للأولاد والأحفاد، هذا بلغة العلم هو الجمود الرأسي.

مصمصت بشفتيها، فهتف: قلت لك جمود رأسي!

هزت رأسها آسفة: ربنا يعينك يا ابني وينصر المسلمين.

تعجب في نفسه لسذاجتها، ثم عاد ينظر إلى القرية المستسلمة تحت نجوم لا ترحم: بلادنا يا أمي قرية، قرية كبيرة واحدة، قرية منسية، متخلفة، أمية، مريضة، مغلقة، بدائية، القرية هي أم المشاكل، لا بد أن نحييها، ننفخ فيها نور العلم، نبنيها من جديد، بيوت عصرية بالماء والنور والمجاري، بينها شوارع نظيفة، فيها بساتين ومساحات، مسارح وملاعب للأطفال، مكتبات. كل الفلاحين لا بد أن يخرجوا من تحت الأرض، يحسوا بالدنيا، يأكلوا ويشربوا، يرقصوا ويسمعوا الموسيقى، يفرحوا، لا بد أن يفرحوا يا أمي مرة واحدة من نفسهم، ويلبسوا البذل.

ضحكت حتى كاد يعاتبها وقالت: يلبسوا بذل؟ ربنا قادر على كل شيء.

قال وهو ينفخ الهواء من الغيظ المكتوم في صدره: طبعا حقهم، ويقرءوا الكتب ويعرفوا أخبار الدنيا ويتمتعوا بالثقافة والحضارة، يقولوا نعم ولا وقت اللزوم. الديمقراطية يا أمي.

سألت: إيه يا ابني؟

استمر في اندفاعه: والاشتراكية، مجتمع المساواة، مجتمع العدالة، مجتمع ...

أشفقت عليه من هذا الهياج، صعب عليها أن يفور الدم في وجهه وتنتفخ عروقه ويسيل العرق أنهارا على صدره دون أن يشعر، أخذت تنظر إليه صامتة، فقال يطمئنها: لن ننسى الريف يا أمي، لن ننساه بعد الآن، سنزحف عليه كالجيوش الهائلة لنمدنه ونعلمه ونشفيه ونعالج رمده القديم، سنعمل، سنعمل.

تردد صوتها الخافت في أذنيه: العمل عمل الله يا حبيبي، لا تنس قراءة الفاتحة على روحي.

بدا له أنها تعاود بالتهمة التي تصور أنه دفعها عن نفسه، قال وفي صوته احتجاج لم يستطع أن يغطي على الندم: أنسى؟ كيف ينسى الإنسان أمه؟

بدأ وجهها الساطع يلتف في سحابة تبيض وتسود، اختفت عيناها الضيقتان الصافيتان، زادت الابتسامة الوديعة الساخرة اتساعا حتى لم يبد له سوى فتحة كادت تملأ قلبه خوفا، وجد نفسه يقف ويتقدم منها ويؤكد كلامه بيديه وخلجات وجهه وأطرافه وانتفاضة جسده: أقسم لك إننا سنعمل، إن لم يعمل هذا الجيل فلا بد أن يعمل الجيل الذي بعدنا، والجيل الذي بعده.

بدت الابتسامة كهلال نحيل يضيء وحيدا في السماء الصافية، خيل إليه أن الشفتين تتحركان في همس يرن مع ذلك رنينا واضحا: إن كنت تحبني حقا، فلا تنسني.

بعدت الابتسامة، أضاءت ثم شحبت ثم انتفضت قبل أن تتلاشى. صرخ حسني بملء صوته:

أنساك، لا يمكن أبدا، أنت أمي، أمنا، لا بد أن نعيش معك، لك، فيك، لا بد أن نبني البيوت الصحية والمدارس والحدائق والمسارح، لا بد أن نعمل، نعمل، نعمل.

شعر بجبل ثقيل يتمايل ويتحرك ويهتز.

انزاح الجبل عن صدره ورأسه وانزاح ظله الأسود عن عينيه، استمر شيء يهزه ويهزه. فتح عينيه وقفز مذعورا، كان لا يزال يصرخ بصوت مجروح ومختنق ينبعث من حلق مر ملتهب: العمل، العمل، عندما انتبه إلى عم عوض الذي أخذ وجهه الصغير المصفر ينتفخ وينكمش أمامه.

هز رأسه لحظات قبل أن يفيق تماما ويقول: لا مؤاخذة يا عم عوض.

قال عم عوض ضاحكا: معذور يا ابني من التعب، الشمس راحت والمغرب أذن، وحضرتك يعني لو نسيتك كنت لا مؤاخذة ...

تذكر وهتف: لا، لا، إلا النسيان.

ابتسم ، وضع ذراعه في ذراع عم عوض الذي أغلق باب المدفن الصفيحي فصر صريره المخيف، وسارا معا على أقصر طريق يؤدي إلى البلدة التي بدت في ظل السحب الداكنة المحمرة الأطراف مثل جدار واه من الطين يحاول التشبث بالأرض الطرية التي تئن تحته وتهدد بالسقوط.

أحلام الفارس القديم في رحلة السندباد الأخيرة

عندما تتخطى نفسك المتلهفة زمنك، تمكث حزينا على شاطئ بارد بين أهلك وأنت لا تعرفهم، تسمع الترانيم، إلا أنها ترانيم على أوتار مقطوعة مع الحلم المستحيل والزمن المفقود، في البعد السادس، من الأسبوع الخامس، في اليوم الثاني والثلاثين، من الشهر الثالث عشر، في السنة التي لن تأتي أبدا، في الرحلة الأخيرة، إما النجاة، وإما السقوط في دوامة التيه السرمدي، وضياع أبدي في ثقب الكون الأسود.

أصوات البحر تتعالى والموج يتهادى فيصطدم برصيف المرفأ متطايرا رزازا يملأ الجو برائحة البحر المميزة، ثم ينحسر الموج من بين الصخور، مرسلا أنغاما رقيقة، ثم يعود في دفقات تشبه دقات القلب. كان السندباد يتأمل البحر في ليلة مقمرة وهو يجلس على رصيف المرفأ الموغل في القدم كقدم المدينة التي يسكنها، وكانت السفن الراسية تتأرجح في اهتزازات ناعمة مع حركة البحر كطفل تهدهده أمه في رقة وحنان، تتلألأ من جوانبها الكوات المضيئة كعيون ترصد في الظلام أحلام المغامرين بينما يتصاعد بين الحين والحين نداء من هذا الجانب أو ضحكة من ذاك الجانب، وآخر يعزف لحن الحنين ويغني لطيور النورس الساكنة على القلوع.

خطا خطوتين نحو السلم المؤدي إلى الشاطئ الرملي المجاور للميناء، خلع حذاءه وراح يمشي مستمتعا بملمس الرمل الندي تاركا آثار أقدامه تهاجمها موجات البحر القادمة لتحمل الأثر والآثار في انحسارها نحو عمق المحيط، تأمل اللحظة، من هنا مرت أقدام كثيرة تحمل أسرار الشاطئ، ذهبت كلها إلى عمق المحيط، حيث مستودع الآثار والأسرار.

جلس يتأمل وقد عكست صورة القمر هالات فضية على صفحة الماء، وفي لحظة التجليات التي تصيب العقل الواعي راحت عيناه تبصر وتراجع حياته صورة صورة ومن زمن إلى زمن. جاب دروب الدنيا، جلس تلميذا للمعرفة، صديقا للمنطق، أخا غير شقيق للفلسفة، وابنا بارا لتعاليم الدين، وراح يتطلع كيف تداركته رحمة الله في كل حياته، وأنه لولا العناية الإلهية التي كانت تدركه دائما في الوقت العصيب لكان من الهالكين، تمتم بكلمات الحمد والثناء لرب العباد.

ولكن، وآه من قسوتها تلك الكلمة؛ لأنها تقول إنه يفتقد شيئا جوهريا وكبيرا، يشعر بالوحدة الشديدة، بالفشل التام برغم النجاح الظاهري، إحساس دائم بالوقوف على حافة الهاوية برغم الأصدقاء والأسرة والأبناء، من أجل هذا كان يأتي هنا، يبحر كثيرا كمن يبحث عن شيء لا يعرفه، ابتسم، بل يعرفه جيدا ولكنه غير موجود، فهو كمن يبحث عن حلم مستحيل.

أسند رأسه إلى جذع الشجرة التي يستند إليها، رفع عينيه للسماء، ليلة صافية مرصعة بالنجوم يضيئها القمر في تمامه، وراحت عيناه وعقله يبحران ويوغلان في أعماق السماء، الآن إحساس جارف يدفعه نحو بوابة أغلقها منذ زمن بعيد تراءت له في عمق السماء، تحمله خطواته بتثاقل مليء بالرهبة والقلق والتردد، تمتد يده المرتجفة بين اندفاع رغبة المواجهة مع النفس وبين الإشفاق عليها، تحمل المفتاح الذي يحمل أرقامه السرية والتي لا يعرفها إلا هو.

يدور المفتاح، وينفتح الباب محدثا هذا الصرير المنعش الذي يحمل بين طياته ذكرى زمن مضى لم يعبر فيه هذه البوابة، وعلى عتبة الباب بدت له غاباته بكل أشجارها العالية كالحصون وزهورها العجيبة ذات الجمال الأخاذ، وذاك العبير الذي ليس له مثيل، وأشواكها التي تنمو أحراش تحرس أخطر مناطق غاباته حيث الترانيم المقدسة، درة القيم، وتنهار مقاومته تماما، يسرع الخطى في حلم سرمدي أخاذ متلمسا طريقه بين كل هذا الجمال وكل هذه الرهبة الموحشة للوحدة والصمت.

وكأن الأرض أحست خطاه وتعرف من ولماذا يأتي القادم من الباب السحري، ومع لحظة المعاناة والمناجاة والخلوة في الأعماق تبدأ الجراح في الانفتاح التدريجي ويبدأ قلبه في النزف، نزف مليء بآلام ومتعة الحقيقة لأنه الألم الذي يبحث ويضيء وينقل القيم بصراع الشر الكامن في نفوسنا وعذوبة النقاء الذي يحرك أوتار القلب في تناغم قيثارة الأحلام ، ويتساءل في لحظة التجلي كيف يحمل قلبي كل هذه الوحدة وكل هذا الحزن؟

ويصبح الجرح غائرا، أليما، وتتساقط قطرات دمه على أرض الغابة، تنمو أزهارا بارعة الحسن، وأشواكا تدمي القلب، كان يسير مأخوذا بلحظة المناجاة مغمض العينين في حلم عجيب يبحث عن بحيراته التي ملأتها دموعه منذ زمن بعيد ويسأل في لحظة الإلهام المتحلية، أين تكمن معاناتي؟

أبحث عنها في كل مكان، وحيدا عاري القدمين أسير بحثا عنها.

وتنفلت منه مشاعره في غفلة الزمان والمكان، تمرح، تجري في غاباته غير عائبة بكل ما يصيبها، برغم وحدتها لا زالت تقاوم وتملك القدرة على الفرح والانتصار.

تمتم تمتمات التجلي عن الدنقلي:

1 «أعطني القدرة حتى أبتسم، عندما ينغرس الجرح في صدر المرح.» «أعطني القدرة حتى لا أموت، منهك قلبي من الطرق على كل أبواب الحقيقة.»

وتأتي المعرفة تتهادى، عرفها منذ كان صبيا، لا زالت كما هي، درة التاج.

ولؤلؤة الزمان وريحانة المكان، كان صغيرا ولم يكن يعرف سر نظرتها الحزينة.

فالمعرفة قاسية، ولكنها لا تخدعك، وتتطلع المعرفة إلى عينيه المليئة بندى غاباته، والممطرة بقسوة وعنف لم تعرفه منذ زمن بعيد، حيث يغسل كل أحزانه، وتسأله: ماذا تخفي عني عيناك الممطرة؟ تسأله بحنان دافق، مفقود ومفتقد، لماذا تنسحب داخل نفسك؟ أصبحت تعرف الكثير، وتشعر بالكثير، تقتحم غابات الألم، نظرة إلى عيني الآخرين تنبئك عما هناك، ولا أحد يتطلع إلى عينيك ليرى ما تحمل معاناة كانت أم فرحا، أو عذابا كبيرا تحمله وحدك، المعرفة قاسية، لا تتراجع، تنبش بيدها وأظافرها الحادة جرحه المفتوح النازف، ويزداد ألمه عنفا، ويزداد عذابه، وتنفجر من بين أجمل أزهاره وأشواكه رسوم أيامه يوما بعد يوم، سنة بعد سنة، إنها عين الألم التي انفجرت بإحساس الغربة الداخلي، المعرفة قاسية ولكنها لا تخدعك، تضع الأشياء في موضعها.

عندما تحملك عربة المعرفة إلى قدس الأقداس، إلى الآفاق العالية وتعود، فإنك تعود تحمل غربتك معك لأنه لا أحد يستطيع أن يرحل معك، والمعرفة تلح، أجبني، أنت تنسحب داخل نفسك، وحيدا منذ الآن ستعيش، أردت أن تعرف نفوس من عرفت، فعرفت وأفضت، ترمم، تلملم أحزانهم، ولأنهم لا يعرفون فستدفع أنت الثمن، لم ولن يتجول أحد داخل مشاعرك، من أجل هذا ومنذ الآن ستعيش وحيدا تبحث عن حلم لن يتحقق، وتتراجع المعرفة بين غصون الشجر مختفية داخل غاباته المسحورة تاركة الحقيقة بين عينيه.

في زمن القهر، المعرفة بلا فعل تتلاشى في ظلمة أبدية.

وسمع هاتف القباني:

2

ستفتش عن حلمك في كل مكان، وستسأل عنه موج البحر وفيروز الشطآن، وستجوب بحارا وبحارا، وتفيض دموعك أنهارا، وسيكبر حزنك حتى يصبح أشجارا، وسترجع يوما، مهزوما، مكسور الوجدان، وتعرف بعد رحيل العمر أنك كنت تطارد خيط دخان.

ويمضي قدما، خطوة، خطوة، اقترب من البحيرة المستورة والمرصودة، قد صنعتها دموعه عبر الزمن، ومن بين الضباب على سطح البحيرة تخرج له عن بعد الرومانسية كنز الحياة المفقود، تلك الأميرة الساحرة الجميلة ذات الفم العنقودي والضفائر الذهبية المجدولة المرصودة، الرومانسية بكل قوامها المرمري وتلك اللمسة السحرية الساحرة، وتلك العينان التي تحتضنك عن بعد قبل اللقاء، وذاك الشذى الذي يخرج مع أنفاسها يحمل عطرا ملائكيا ساحرا يبعث فيك ذاك الخدر الذي يسري في أوصالك.

هي التي هجس بها وهما في أحلامه، هي الحدس الذي ينسجه خيال الشوق إلى امرأة تنتظرك في مكان ما من العالم، امرأة الحلم والصدمة التي تباغتك كجنية بحر ذات غسق، تأخذك فتبحران في لجة الليل والقمر والعواصف والموت.

نادته بصوتها الشجي الرقيق: أعرف أني سبب أحزانك.

ارتفع صوته عبر لحظة المناجاة والإلهام بالوصال: اقتربي، ضميني إليك. بأعلى صوته ناداها.

ولكن هيهات، هيهات، فهي مرصودة.

هو الذي صنع الرصد في لحظة غضب عنيف مع الواقع ... في لحظة انتحار ...

هو من وضعها في هذا التابوت الزجاجي المرصود، والرصد لا يمكن فكه.

كان يحدثها ودموعه تتساقط قطرات دم من قلبه المنزوع: آه يا أميرتي، قد كنت بك فيما فات من أيام يا فتنتي محاربا صلبا وفارسا هماما.

كان وقتها يضمها لقلبه ويغتسل معها في بحيراته.

الآن تعذبه رؤيتها، لا يستطيع ضمها، الواقع أجبره بعنف غير مسبوق على وضعها في ذلك التابوت، فلا الرومانسية ولا الواقع كان من الممكن أن يعيشا معا؛ لأن حلمه كان فوق مستوى الواقع، من أجل الواقع خسر حياته.

من أجل الآخرين جعل من قلبه معبرا آمنا تدوس فوقه أقدامهم ليحققوا أحلامهم، جعل من كبريائه درعا يحميهم من الشموس والصقيع التي أذلت كبرياءه الرفيع، ولكنه هو الفارس الذي حقق أحلام الآخرين، وأضاع حلمه.

كان يحلم بحلم الصبوري.

3

لو أننا كنا كغصني شجرة، الشمس أرضعت عروقنا معا، والفجر روانا ندى معا، ثم اصطبغنا خضرة مزدهرة حين استطلنا فاعتنقنا أذرعنا.

لو أننا كنا نجمتين جارتين، من شرفة واحدة مطلعنا، في غيمة واحدة مضجعنا، وحين يأفل الزمان يا حبيبتي يدركنا الأفول، يبعثنا الإله في قارب الجنان، درتين بين حصى كثير، وإذ يرانا ملك يعبر السبيل، يشد عينيه صفاؤنا، يلقطنا، يمسحنا في ريشه، يرشقنا في المفرق الطهور.

لو أننا كنا جناحي نورس رقيق، ناعم لا يبرح المضيق، محلق على ذؤابات السفن يؤنس البحارة، ويؤنسون وحدته، بالشدو والأشعار والنفخ في المزمار.

كان يحسب أن هذا حال الدنيا، دنيا العاشقين والحزانى الساهرين الحافظين موثق الأحبة، كان يحسب أن رومانسيتها واقعية، لكننا، وآه من قسوتها لكننا؛ لأنها تقول في حروفها الملفوفة المشتبكة بأن هذا هو المستحيل.

كان يحلم بعالم سعيد، فقال «لا» في وجه من قالوا «نعم» للذل والقهر.

كان يحلم بعالم سعيد، ولكن هيهات هيهات، فلا زالت أصداء صيحات الدنقلي في نزعه الأخير تملأ الفراغ السرمدي.

لا تحلموا بعالم سعيد، فخلف كل قيصر يموت، قيصر جديد.

وخلف كل ثائر يموت، أحزان بلا جدوى ودمعة سدى.

ارفعوا عيونكم للثائر المشنوق، لربما إذا التقت عيونكم بالموت في عينيه، يبتسم الفناء داخله، لأنكم رفعتم رأسكم مرة! «سيزيف» لم تعد على أكتافه الصخرة، يحملها الذين يولدون في مخادع الرقيق، والبحر كالصحراء لا يروي العطش؛ لأن من يقول «لا» لا يرتوي إلا من الدموع.

هذا زمن السكتة، سالومي تغني وترقص، من ترى يحمل رأس «المعمدان»؟!

أيها السادة لم يبق اختيار، سقط المهر من الإعياء وانحلت سيور العربة، ضاقت الدائرة السوداء حول الرقبة، صدرنا يلمسه السيف وفي الظهر جدار!

قد منحنا جزية الصمت للمملوك وعبد.

ليس ما نخسره الآن سوى الرحلة من عار، لعار.

بيده صنع الرصد، نامت فيه رومانسيته الجميلة وهي باكية في فستانها الوردي وشعرها ذي الضفائر الذهبية، وأخذت معها جزءا منزوعا من قلبه تاركة جرحا غائرا داميا، أخذت معها كل أحلامه، بلا أحلام عاش قلب السندباد، وتندفع قطرات الندى في موجة عاتية تعيد التابوت الزجاجي بما يحمل إلى قاع بحيراته الفضية.

يحلم بمعجزة تفك الرصد.

ألقى نظرة الوداع على غاباته المزهرة، فرأى بعينيه أشواكا زرعها بعضهم في قلبه.

يسامح من ألبسه تاج الشوك، ولم يلبسه إلا المسيح عليه السلام، يسامح من أدمى قدمه وطموحه، وقد سامحهم الرسول عليه الصلاة والسلام وقد سالت دماؤه الزكية طلبا للحق والمعرفة.

وفي حلم اليقظة، يرى فيما يشبه الإلهام، بابا مرصودا.

مفتاحه سيف صنع من قلبه هو، مقبضه عقله، نصله الحاد مشاعره.

مكتوب على مقبض السيف: المعركة الأخيرة.

على الباب المرصود مكتوب: «بالسيف في طريق الحق تنزف، تتألم.» «تؤلم البعض، يضيع كل شيء، أو يبقى كل شيء.» «تعبر النار إما منتصرا، أو مهزوما للأبد، وعليك أن تختار.»

إن لم يمسك السيف لفتح الباب المرصود إلى طريق أحلامه فهو مهزوم للأبد.

ضائع للأبد؛ لأن بوابة الأحلام تظهر في العمر مرة.

إن أمسك بالسيف عليه أن يخوض معركة من أجلها ومن أجله، لا يسقط السيف من يده إلا فاقدا قلبه، في لحظة الإلهام كان كل ما يؤمن به، كل ما اعتقده مرهون بقراره، خطوة واحدة وينفك رصد الرومانسية، منطقة الإلهام، وتستعيد حياتها، لمسة واحدة، إما أن يعود الفارس ذو القلب الشجاع، أو يصبح دون كيشوت محارب طواحين الهواء، قول بلا فعل، وفعل دون مستوى الحياة، وسقوط لكل المعاني التي عاش بها ولها، المحاولة الأخيرة في الرحلة الأخيرة ليكون الحلم واقعا، في لحظة الإلهام امتدت يده للسيف، بكل عزمه وقوته قبض على مقبضه وانتزع السيف من الصخرة المسحورة، وبكل قوة وضع السيف على الباب المرصود، وما كاد أن يفعل، وإذ الباب ينفتح على مصراعيه محدثا دويا هائلا، جحيم مستعر، خلف الباب أفاع لها رءوس الشياطين، أشواك تملأ الطريق، انطلق الجني خادم الرصد يصرخ هلعا حاملا التابوت المرصود مختفيا به في آتون النار المستعرة.

بدأت حرب الرصد.

تنبه من حلم اليقظة على صوت رعد، السماء ملبدة بالغيوم، اختفى القمر، مطر عنيف، ارتفع مد البحر، أدرك في لحظة أنها الحرب وأن حلمه أصبح تحقيقه مرهونا بالسيف، اختفت المرصودة، يقولون حملها الجني خادم الرصد إلى جزيرة الشيطان، حبسها في قيد لا يكسره إلا سيف الرومانسية، في وضح النهار حيث النور يملأ الدنيا، تغيب الشمس وتغرب وتصبح الأرض مظلمة لها رطوبة القبر الموحش، كان السندباد وحيدا فاقدا للحلم عاجزا أمام تصريف القدر وقد حل الظلام الأبدي، فالشمس رحلت ككوكب فقد مساره.

تغيب، ولكنها محفورة في القلب والعقل.

تغيب، ويغيب معها كل شيء.

تتوارى عن العين وهي تملأ كل العين.

يا أميرة الزمن المفقود. •••

في مأساة تراجيدية، يرحل السندباد في طقس عاصف.

أمواج كالجبال المتلاطمة، ظلام دامس لا ينيره إلا البرق.

وصمت لا تسمع فيه إلا عويل الرعد. «تلك هي أسطورة العشق بين الفارس والرومانسية، وتبقى الأسطورة لكل العصور لأنها حلم البشرية الأبدي برومانسية الحب وأخلاق الفرسان التي تحمل سيف العدل.»

جلسة عائلية في الحديقة

1

جلس الدكتور محمود بسيوني على الأريكة الحديدية الصدئة في الحديقة المهجورة منذ سنين، كان يحس بإعياء شديد يتصاعد كألسنة البخار الكثيف من كل أعضائه ومفاصله، كما يتسرب من دماغه المضطرب بالهموم والأحزان والذكريات التي تتصادم كالخفافيش مع الأشعة الشحيحة التي بدأت تنسكب حوله من سماء فجرية ملتفة في عباءة الضباب الرمادية، ومن بقايا آماله وأشواقه ومشروعاته الطموحة التي لم يستطع معول الزمن أن يهيل عليها التراب.

قضى اليوم السابق بطوله في تنفيض البيت القديم من التراب الذي أثارت زوابعه المقشات والمكانس والخرق البالية والمنافض التي لم تدخر زوجته أنيسة وابنته الصغيرة نورة أي جهد في رزعها والخبط بها في كل مكان، وكان قد استدعى أم عبده، ابنة خادمتهم العتيدة التي كانت أمه تعاملها مثل أولادها سواء بسواء، ساعدهم بكل ما في وسعه في تنظيف قطع الأثاث وزجاج النوافذ بالفوط المبللة بالماء، وإزالة العناكب التي تمكنت في فترة غيابهم من احتلال السقوف والحيطان ومد شباك نسيجها الكابي المقزز حتى على الكتب والرفوف المزدانة بصفوف الأكواب والكئوس الفضية والتحف والتماثيل الصغيرة من كل الأشكال والأحجام والعصور والحضارات، وأدرك أن بعد أن أغفت زوجته وابنته وتصاعدت أنفاسهما كزفرات ماكينة الطحين القديمة في الطرف الأقصى من البلد، أدرك أن الإرهاق يولد الإرهاق، فلم يجد وسيلة أمامه إلا أن يهبط السلم الخشبي المتداعي وينزل إلى الحديقة لعله يتنفس نسمة رخية صافية.

ها هو ذا أخيرا أخيرا قد خطا أول خطوة على طريق حلمه العتيق الذي لم يذبل في نفسه مثلما ذبلت شجيرات هذه الحديقة وورودها وزهورها التي لم يبق منها حتى الفروع والبراعم التي كانت تزدهر عليها وتنظر إليه في صباه وشبابه أثناء الإجازات كأنها وجوه أطفال بريئة ترحب به وتحييه، لقد سوى حالته بعد ثلاثين سنة أمضاها في التعليم الجامعي والتأليف عن الحضارات القديمة والوسيطة، وانخرط في متاعب التعليم الذي احتوته ظلال همومه ومنغصاته، وإن لم تخل من لحظات بهجة قليلة كانت تمر سريعة كما جاءت، ولحظات سعادة ورضا بأداء الواجب ربما كانت أطول منها عمرا وأعمق جذورا، وها هو ذا يجد نفسه في مواجهة أحلامه الموءودة منذ أن اشتغل بالتدريس وتحمل مسئولياته، تلفت حوله ومد بصره إلى بقايا السور المتآكل وأحواض الزهور الخربة وقال لنفسه: هل سأستطيع أن أحقق شيئا من هذه الأحلام؟ هل سيمكنني أن ألمس طرف ثوبها الذهبي الأخضر الذي طالما تخايل لعيني ولف قلبي بسحر وعوده؟ أيرجع إلي طائر الشعر القديم بعد أن هجرته فهجرني؟ وإذا استحال علي إغراؤه فهل أتمكن من كتابة سيرة حياتي واستخراج الكنوز الراقدة في كهف أيامي وأعمالي؟ وحتى إذا لم أنجح في ذلك، ألا تستحق الأفكار التي خرجت بها من تأملاتي وبحوثي عن مصائر الحضارات وصعودها وسقوطها، أن أعطي لها البقية الباقية من عمري المهدد في كل لحظة؟!

خيل إليه أنه سمع صوت أنين ينفذ من مكان مجهول - رفع رأسه إلى السماء فأبصر غرابا يدور فوق رأسه وقال لنفسه: ربما يكون صوت هذا الغراب الذي أراد أن يحييني أو تعود على الحديقة وفاجأه الآن وجودي - ثم حانت منه التفاتة إلى الباب الخشبي المؤدي إلى السلم وخطر له أنه يمكن أن يكون صوت أنيسة التي تكلم نفسها كثيرا في النوم، خصوصا بعد يوم شديد الإرهاق، أو صوت نورة التي ورثت عنها هذه العادة، وعاد يقلب عينيه في جنبات الحديقة، كأنه يتأمل وجه حبيبة قديمة تنتظره ولا تمل الانتظار، أخذ يعاتبها وقد سرح خاطره إلى اليونان القديمة: إيه يا بنيلوب! هل سقط ثوب الوفاء من يديك الجافتين وأكلته الهوام والعناكب والحشرات؟ ونسيجه المطرز بالأزهار والأوراق الخضراء، كيف استطاعت رياح الزمن أن تأتي عليه ولا تبقي على أثر واحد من آثاره؟ هل قسا قلبك أيتها الحديقة الحبيبة أم حسبت أن راعيك التائه في بحار التاريخ وكهوفه لن يعود؟!

وابتسم لنفسه وهو يؤكد لها أن البعث حقيقة مؤكدة، وأن معجزته ستلمس أرض الحديقة وأحواضها وممراتها وتعريشة العنب المتداعية، وستحيي الذكريات القديمة وتنفخ في أشلائها أنفاس الحياة عندما يلتئم شمل العائلة، أو ما بقى منها، ويمثل الماضي حيا مشخصا أمام عينيه، ولم يتعجب في هذه اللحظة أن تبرز له صورة تل العمارنة التي يعد كتابه الجديد عنها، وأن يرى الملك الحزين يتقدم نحوه بوجهه الضامر المستطيل وشفتيه المتدليتين وبطنه المنتفخ وهو يمد إليه يده التي تقبض على علامة الحياة ومن خلفه الأطلال والأحجار المتفحمة في المدينة المحترقة - ومد يده ليتلقى العلامة المقدسة، وقبل أن يتأكد من أنه يقبض على الفراغ قال للملك المكتئب: أنا أيضا أحمل علامة الحياة للحديقة المحترقة - وحياتها في الخضرة والحلم بالغد الأخضر.

ورجع الصوت الذي خيل إليه أنه سمعه قبل قليل فنفذ في سمعه أحد من وخز الشوك الذي يملأ أرض الحديقة، لم يكن في حاجة إلى التنصت، إذ جاءه صوت زوجته عاليا من الشرفة الصغيرة الشبيهة بالمشربية في الدور الثاني للبيت، البيت الذي يطل عليه في ضوء الشمس البازغة كعجوز طويل ونحيف ومقوس الظهر: محمود! محمود! قام من مجلسه بسرعة حتى صار تحت الشرفة مباشرة: خير! خير! صاحت أنيسة بنفس النبرة الحادة التي كان يحاول في كل مرة أن يخلصها من القلق: نورة حرارتها نار، فتشت عنك في البيت كله وأنت في الحديقة ولا على بالك! قال لها وهو يضحك ضحكته المجلجلة التي كانت تغيظها كثيرا: حاضر، حاضر، اهدئي فقط وسوف نتصرف. لاحقته أجراس الصوت المذعورة وهو يدفع الباب الخشبي الصغير ويتجه إلى السلم: الله يصبرني على عيشتك!

واتسعت ابتسامته الطيبة وهو يصعد السلم ويقول: معك حق، كهل متقاعد، ومؤرخ مغمور، وشاعر لم يحس به أحد، وبيت وحديقة مهجوران من الزمن والبشر! الله يصبرك!

2

وضع يده المرتعشة على جبين نورة وخديها فلسعته السخونة اللافحة، وتبخرت سحب الأحلام والذكريات الوردية تاركة مكانها للسؤال الملح: ما العمل الآن؟ أحست زوجته بعلامات الحيرة والسرحان المعتاد فأنقذته منهما قائلة: أرسلت أم عبده إلى صادق. سارع يقول لها: الله يطمئنك. كنت أنوي أن أذهب إليه فورا وخشيت من إزعاجه في هذه الساعة المبكرة. قالت زوجته وهي تغتصب الضحكة المرة: لن يتأخر، المهم ألا تتركا البنت وتندمجا في حديث الشعر والتاريخ والذكريات. عاد يتحسس وجه البنت الراقدة أمامه كزهرة لم تلفحها بعد شمس المراهقة وهو يقول لنفسه: من أول ليلة يا نورة؟ ألم نتفق على أن نعمر البيت والحديقة بضحكاتك وجريك ولعبك، وأن أحكي لك عن جدك وجدتك وعماتك وعمك الذين لم تريهم ولم تعرفي شيئا عنهم؟ وتقلبت البنت وزفرت تنهيدة حارقة فقال كأنه يطمئنها: هو تعب الأمس، أنت أيضا لا ترحمين نفسك، أكان من الضروري أن تقفي معنا وسط الغبار وتصعدي السلم وتنزلي عليه مائة مرة؟!

قالت زوجته وهي تجري نحو باب الشقة: صادق حضر، يا رب اجعله خير، واستقبلت شقيقها وهي ترتمي على صدره شاهقة، فضمها بحنان إلى صدره وأسرع إلى حجرة النوم قائلا: خير، خير إن شاء الله، يجوز ناموسة أرادت أن تحيي نورة بقبلة حارة، لا تقلقوا! لم أنس إحضار الفليت معي. صاحت أنيسة وهي تقوده إلى فراش نورة: والله لو كانت ملاريا فسوف أحمل ابنتي وحقيبتي ونسافر اليوم في الحال. ثم ناظرة إلى زوجها وهي تتوعده بإشارة حازمة: أنت السبب! وسوف توصلنا بنفسك!

ضحك محمود كعادته لكي يطفئ النار قبل اشتعالها، وأخذ بين أحضانه الدكتور صادق الذي غزته ملامح طبيب الأرياف: السمنة والكرش الكبير والحلة القديمة المهملة التي تفوح منها رائحة تشبه رائحة وحل خفيف تجمعت فيها ذرات الغبار وقطرات العرق المالح. وهتف صادق وهو يربت على ظهر محمود: والله وبقينا على المعاش. قال محمود ضاحكا: أنتم السابقون. كلانا يهبط الآن إلى السفح. رد صادق وهو يجلس على طرف السرير الصغير ويضع السماعة على أذنيه: مع الفارق يا محمود، واحد يهبط التل إلى الشيخوخة والمرض وجيبه ثقيل، وواحد يصعده وهو مفلس ليجني أزهار الشعر وعبر التاريخ!

هتفت أنيسة لاهثة: طمئني يا صادق، طمئني! ورفع صادق رأسه بعد أن فرغ من فحص البنت ووضع داخل فمها ملعقة خشبية كبيرة تأوهت لها بشدة: خير، خير، احتقان شديد في اللوز، هل شكت منها قبل هذا؟ قالت أنيسة: أبدا أبدا، المهم ألا تكون حمى. قال صادق وهو يثبت عينيه في وجهها المتوتر كالعادة ويبتسم كم يشك في الأمر: وحتى لو كانت، أين نحن؟ عملت حساب كل شيء.

ستأخذ هذا اللبوس على الفور، وحبتين كل ست ساعات من الشريط، تعالي نغلي الحقنة.

انفرد بابنته بعد أن أفاقت تماما من نومها ووضع لها اللبوس بحنو بالغ، فلم تتمنع ولم تصرخ كما كانت تفعل كل مرة. قال لها وهو يقبلها على جبينها وخديها رغم تحذيرها له من العدوى: والآن يا حبيبتي، قولي ماذا جعلك تصرخين هكذا؟ قالت: حلم يا بابا، حلم فظيع! قال وهو يمسك يدها: أنت التي أرهقت نفسك فوق الطاقة، اسمه كابوس! قالت نورة مؤكدة : نعم كابوس، كابوس .

قال مصححا: مع أنك لم تتعشي أمس، اكتفيت بالسندوتشات التي تناولناها في السيارة ورفضت العشاء.

قالت وهي تفرك عينيها وتهز رأسها: ولكنه فظيع يا بابا، فظيع.

قال سعيدا بعودتها إلى الوعي: وماذا رأيت يا كاساندرا؟ ماذا رأيت يا زرقاء؟

قالت غاضبة: ما هذه الأسماء التي ترددها من الكتب؟

قال ضاحكا: كاساندرا رأت رؤيا فظيعة وتحققت. رأت أباها يقتل وأنا أمامك حي أرزق، والزرقاء ذات العيون الزرقاء أبصرت الشجر يتحرك من بعيد ولم يصدقها أحد.

قالت مؤكدة صحة كلامه: أخذنا حكايتك في المدرسة، أنا أيضا رأيت مثلها.

قال مستفسرا: هاتي لنحتاط من جيش حسان!

قالت متأوهة: لماذا لا تصدقني؟ قلت لك رأيت الكابوس وأنت الذي أنقذتني من تحت الأنقاض.

قال ضاحكا: أنا؟ مع أني كنت وحدي في الحديقة.

قالت بإصرار: الحدائق لا تتحطم، البيت هو الذي سقط على رأسي، وأنا سقطت بين الأنقاض.

قال يداعبها: وأنا الذي انتشلتك، أليس كذلك؟

قاطعته قائلة: أنت وماما، ألم تقل لنا إنه قديم ويرتجف كالنخلة العجوز كلما مرت عربة أمامه؟ لم يكف عن ضحكه وقال: يا عبيطة! وكيف ننتشلك ونحن معك تحت الأنقاض؟! اسكتي فهما قادمان، ولا تحكي شيئا لماما حتى لا تصمم على السفر اليوم قبل أن نهنأ بالوصول.

أخذ صادق يهرج كعادته مع نورة حتى غافلها عن ألم الإبرة التي لم تصدق أنها انغرزت في جلدها دون أن تشعر، وسلم محمود روشتة كتبها على عجل وهو يقول له: عند اللزوم فقط، إذا انتابتها الرعشة، طبعا سأكون هنا فورا، من باب الاحتياط، فربما أذهب في العصر إلى العزبة. قال محمود وهو يمشي معه إلى الباب: اسمح لي أن أذهب معك لإحضار الدواء من الصيدلية. ثم وهو ينظر إلى زوجته التي اكتسى وجهها ملامح جادة ساخطة: سأفوت بالمرة على شقيقي حامد، تعرفين أنه هو الوحيد الذي يحتفظ بمفتاح المدفن، لدي رغبة شديدة في زيارة والدي وإخوتي وقراءة الفاتحة.

قالت أنيسة بلهجة حادة جعلتها تقطيبة جبينها وحاجبيها نذير خطر وشيك: لا تنس يا صادق أن تقول له كل شيء بصراحة، ربما يصحو أخيرا من نومه ونصحو معه. توقف الدكتور محمود أمام الباب مستفسرا وتطلع إلى وجهيهما، وابتلع الكلمات الأخيرة التي أطلقتها زوجته ولم يقل شيئا كعادته.

وهتك صادق ستار الصمت الخفيف الذي انسدل بينهم وهو يقول في ضحكة متصنعة: يا خبر بفلوس، البلد كلها تعرف! باي باي يا نورة، باي باي يا أنيسة.

3

في سيارة الدكتور صادق التي أقلتهما إلى السوق شعر محمود وهو يجلس بجوار صهره أن المسافة التي تفصلهما لا تقل عن المسافة بين العصر الذري والعصر الحجري، لم يدر أحد منهما كيف يبدأ الكلام، وتبادلا نظرات جانبية وشت بالحرج الذي يضيق الخناق عليهما، فلو بادره صادق بفتح الموضوع لفسره محمود بأنه تدخل في أموره الخاصة، وربما تطرق به إلى التشكك في شماتته به أو تعريضه - المغلف دائما برنة السخرية - بطبيعته الحالمة على الرغم من بياض فوديه والشعر الأشيب الكثيف في صدره، ولو بدأه محمود بالكلام فقد يفهم أنه ملهوف على سماع خبر ربما يخرجه عن رزانته ووقاره، وهو الذي رجع إلى البلد ليجد السكينة المفتقدة في زحام العاصمة وضوضائها وصراعات الوحوش فيها، وتعمد صادق أن يدخل إليه من الزاوية التي يكرهها فأخذ الكلام ينهمر من فمه عن مشروعاته الناجحة في تربية المواشي والأغنام والخيول، وعن مشروع المذبح الآلي الذي اتفق مع زملائه على البدء فيه بعد الانتهاء من دراسة الجدوى وإقناع البلدية بالتصريح به بعد إغلاق المسلخ الحالي الذي لم يعد يساير التقدم في العالم وفي كثير من أرجاء مصر نفسها، وتتابعت زخات المطر الهاطل من فمه الضاحك في معظم الأحيان حين شعر محمود بأنه يتثاءب ولم يجد وسيلة لحماية رأسه سوى التأمل في المزارع والمصارف والبيوت الطينية الواطئة التي كانا يعبران بها في طريقهما إلى السوق، وسرح أيضا في حديث صامت عن الحديقة وذكرياتها الحاضرة في وجدانه كأن أحداثها جرت بالأمس، رأى نفسه صغيرا كالجزرة أو كالبلياتشو القزم الذي شاهده مرة مع شقيقه الأكبر وهو يرقص ويغني في السيرك ، وتراءت أمامه صورة العائلة التي كان يجتمع شملها في الحديقة بعد صلاة العشاء لشرب الشاي والتسلي بالنقل وأبي فروة المشوي على نار الموقد الصغير. أبوه على رأس المجلس ومسبحته في يده ووجهه الأبيض المستدير يشع طمأنينة، وعيناه العسليتان تنظران بزهو إلى أبنائه الأربعة وبنتيه المتزوجتين اللتين يحضرهما الزوجان يوم الجمعة بعد العصر بقليل، ويرجعان لأخذهما بعد العشاء، وكيف ينسى أمه الحبيبة التي توزع الفاكهة والفطائر على الجميع، وتهرول بقامتها القصيرة وجسدها الممتلئ بين المطبخ والحديقة وهي تحلف على الجميع بحق أولياء الله أن يأكلوا، وتأتي بالمبخرة وتطوف بها على رءوسنا وهي ترقينا باسم الله وحبيبه المصطفى وتدعو لنا بالستر في الدنيا والآخرة كأنها تستصرخ الملاك الحارس لكل واحد منا وتكاد تأمره فيطيع: ربنا يجعل يومي قبل يومكم يا أولادي!

طافت به الصور المتتالية من شريط الذكريات، صور لم يعشها بنفسه لأنه كان غائبا في البعثة، وصور انطمست معالمها أو كادت بعد أن مرت عليها عقود من الزمن وغطتها بغبار القدم الذي أطفأ بريق ألوانها: لعبة «صلح» مع إخوته الذين كانوا يعفونه دائما من الأقلام المفرقعة كالسياط على قفاهم ويقصرون دوره على الجري وراءهم والتخفي في الكوخ الصغير أو خلف النخلتين وشجرة الأرز التي أشبعهم أبوه من قصتها وقصة صديقه التاجر اللبناني الذي أهداه شتلتها ودعاه لزيارة الجبل الأشم في يوم لم يأت أبدا، وقبل أن ينتبه على سؤال صادق وتعجبه من سرحانه الذي شكت منه أخته كثيرا، كان قد بدأ يتذكر ليالي أخرى لم يقدر له أن يحضرها بسبب غيابه عن البلاد أو أسفاره المتتالية في المؤتمرات والندوات العلمية: وفاة أمه بعد سفره بشهور قليلة ثم وفاة أبيه والمأتم الفخم الذي أقيم له وحضره الآلاف كما قال له إخوته بعد ذلك، وزواج أخته في الحديقة نفسها قبل أن يعي شيئا مما حوله، ووفاة كبراهما أثناء غيابه في بلد عربي، والصغرى بعد ولادة عسيرة ووصوله بعد المأتم بثلاثة أيام لتلقي العزاء، أما المأتم الذي أقيم لشقيقه الأكبر على أثر وفاته متأثرا بمرض مفاجئ فكيف ينساه أو ينسى اجتماع شمل الأسرة بعد الليلة الكبيرة في الحديقة؟

نبهه صوت صادق الذي شد الكابح فوقفت السيارة فجأة: هوه! دائما مع الأشعار والحضارات القديمة؟

رد محمود ضاحكا: وأنت دائما مع البقر والجاموس وفراخ المذبح الآلي!

قال صادق متوعدا: هي على الأقل تملأ جيبي وحسابي في البنك، لكن يا عيني على الرحالة في التاريخ وما قبل التاريخ!

ضحك محمود وهو يفرك عينيه ليثبت أنه أفاق تماما: بل كنت مع الماضي الحي ومع الحاضر الذي لا يطاق، ألم تسمع أن الماضي يحيا في الحاضر، وأن الحاضر ... قاطعه صادق: لا يا عم، كل ما سمعته أن البيت والحديقة ... هتف محمود ولم يستطع أن يخفي جزعه: ماذا سمعت عن الحديقة؟ إنها التاريخ الحي في قلبي، الخضرة الوحيدة المتبقية، الأمل ... قاطعه صادق بهدوء: أخشى أن هذا التاريخ سيموت قريبا جدا بالسكتة أو بالقتل العمد، صاح محمود في غضب لم يقصده: تقصد بالغدر؟ هذا شيء غير جديد علي. شوح صادق بيده متخلصا من ورطته: أنا يا عم لا أحب التدخل بينك وبين أهلك، البلد كله يتحدث عن المشروع الكبير، شده محمود من كم سترته وسأل بعصبية: البلد والمشروع؟ أرجوك تكلم، الجميع يعلمون أن الحديقة والبيت ملكي، تنازلت عن نصيبي من الأرض مقابل هذا البيت القديم والحديقة المهجورة، أنت نفسك تتذكر هذا، ربما تتذكر أيضا ما قلته لك عن مشروعاتي الفنية والثقافية التي أفكر فيها. قال صادق وهو ينهي حديثا طال أكثر مما قدر له: أتذكر أو لا أتذكر، لا تدخلني أرجوك في أموركم الخاصة، نحن الآن في السوق، ألم تكن تريد أن تقابل الشيخ؟

سأل محمود في غيظ وهو يعالج فتح الباب الأمامي: أظن أن كتابه هنا. قال صادق بلهجة فضحت سخريته: البلد كله يعرف مكانه، اسأله بنفسك فربما يعرف، مع السلامة، سأمر على نورة الليلة أو صباح الغد، لا تنس الدواء!

4

لم يتوقع، عندما خرج من السيارة أن الصدمة الكبيرة ستكون في انتظاره: مكبرات الصوت الزاعقة بالأغاني الهابطة، أضواء النيون الصارخة بالألوان الفاقعة كالأراجيح المجنونة على واجهات البوتيكات والتوكيلات ومحلات الفيديو والكازينو الرابض على حافة السوق كحيزبون متصابية تستعرض مفاتنها الفجة وتتخلع على شاطئ بحر هادر بالضجيج المنطلق من فكوك الراديو والتلفاز المفترسة، وضربات الشيش واليك فوق صناديق الطاولة التي يتحلق حولها الزبائن من كل صنف ولباس: عمال المصنع الوحيد بالحلل الزرقاء، وشباب عاطل بالقمصان المفتوحة والبناطيل الجينز، وسائقو سيارات الأجرة والباص والحناطير، وفلاحون - نعم فلاحون - ربطوا حميرهم في الأشجار المواجهة أو أوقفوها أمام البيوت الجديدة تحت حراسة أطفال وصبية جذبهم السحر الملعون واكتفوا بالفرجة عليه من بعيد.

قال في نفسه: لأتمشى قليلا في الشارع الوحيد المسفلت الذي لم أره منذ سنين لا أعرف عددها، كنت أحضر إلى البلد في المناسبات الضرورية، ولم تكن تتاح الفرصة للتجول والاطلاع على الأحوال، أنزل من السيارة لأدخل سرادق المأتم أو سرادق الزفاف وأعود إلى السيارة في الصباح الباكر بمجرد الانتهاء من تقبل العزاء أو تقديمه، أو تهنئة الأهل والعروسين بالقران الميمون، وها هي الأيام والشهور والسنون تمر وأنا غارق تحت سطح الماضي البعيد، غافل عن أمواج الحاضر التي ترغي وتزبد بالحيتان وأسماك القرش وبقع الزيت والنفايات، وتلقي على الرمال بحطام المراكب والقوارب الآمنة قطعة قطعة فتتراجع أمامها مذعورة.

ومضى في طريقه يتلفت حوله كأنه سائح يهيم في أرض العجائب. حمد الله أن أحدا لا يتذكره ولا يعترض طريقه، وإن لم تغب عنه لفتات الرءوس والعيون المتطلعة في دهشة لا تبلغ حد التطفل والثرثرة المعهودة. كان الميدان خليطا غريبا احتشدت على أرضه كل العصور التاريخية وإن بقيت الفوضى السابقة على بداية التاريخ هي سيدة الموقف، أراد أن يذكر نفسه بكان هنا وكان هناك، ببيوت كان يدخلها لزيارة أصحابه في المدرسة، ودكان بقالة بجوار مكتبة يملكها رجل يربطه به طرف قرابة، وبيت شامخ في المدخل الجنوبي للسوق كان في صباه يسميه القصر، وفي شبابه قلعة الظلم والرأسمالية والإقطاع، وما كان يسمى بالحديقة في وسط الميدان تقلص إلى دائرة يحوطها سلك شائك قبيح وتزدحم بركام المهملات وقطع الأثاث الممزقة الأوصال وأكوام القمامة التي خنقت أنفاس الأعشاب القليلة والجذوع العارية البائسة. نبهه سائق مرسيدس تتبختر في الزحام أن يصحو من نومه، وصاح سائق عربة كارو أنه كان أن يلسعه بالسوط لولا أنه يبدو أفندي محترم، وحين وجد نفسه أمام السينما الوحيدة طالعته الإعلانات الملصقة على جدران المدخل وفوق اللافتة المبهرة الأضواء: كانت تتمطى على صفحتها ممثلة شبه عارية اشتهرت بشراستها وفضائحها الخاصة والعامة، ولكن تفننها الواضح في الإغراء زاد من شهرتها وإقبال الجماهير على أفلامها، ولفتت انتباهه البيوت الجديدة المبهرجة الألوان والشرفات والبوابات والسلالم الرخامية. تلك أموال النفط التي جرت في أيدي الطبقة الجديدة - بنت الفلل السقيمة الذوق وفتحت البوتيكات والأجنسات والسوبر ماركات ومكاتب الاستيراد والتصدير والسمسرة والمقاولات - هل شمت أنوفها رائحة بيوت الطين المغبرة وعشش الغاب والقش والصفيح المتناثرة على أطراف البلد، وهل زارت حارات الأجراء والمهاجرين الذين استوطنوها بعد العدوان الثلاثي والنكسة، وهل فكرت أن تنشئ حديقة عامة أو تقيم مدرسة أو تؤسس مكتبة أو مسرحا أو ناديا رياضيا أو ثقافيا أو قاعة تتوسط البلدة وتقام فيها الاحتفالات والمهرجانات والمحاضرات على نحو ما رأى في المدينة الجامعية الصغيرة التي حصل منها على الدكتوراه، بل في كل قرية ضئيلة زارها وآمن في كل مرة بأنه دخل جنة صغيرة؟

ورجع أدراجه حين لسعت الشمس فروة رأسه التي حفر الصلع دائرة في وسطها وعلمته الخبرة أنها شديدة الضعف أمام ضرباتها المفاجئة. لم ينس هدفه الذي جاء من أجله فاتجه مباشرة من الميدان الصاخب إلى مقهى بلدي في حارة خلفية ضيقة، بدا المقهى صامدا متشبثا بعصره الوسيط في وجه رياح التغير الجهنمي، ودخل على استحياء وسط الوجوه الكابية المتطلعة بعدم اكتراث، والطاولات التي تحلق حولها الزبائن على الرصيف المهشم البلاط، سأل النادل العجوز - الذي أقبل عليه باحترام وهو يكبس طاقيته الملونة على رأسه - عن كتاب الشيخ حامد، فقال له بصوت خبير: هو في آخر الشارع، على اليمين في حارة الصالحين، ثم وهو يضحك: يظهر أن المجلس البلدي سماها على اسمه، بركة سيدنا الشيخ، حضرتك تريده؟

قال محمود مشجعا بابتسامة واسعة: ولماذا سألتك عنه؟

قال النادل مؤكدا علمه ببواطن الأمور: الأولاد روحوا الآن؛ لأن تحفيظ القرآن يبدأ مبكرا، إذا أردت أن تراه فاذهب إلى جامع الشيخ يس، ستجده هناك بالتأكيد، هو خادم المسجد والمؤذن والواعظ إذا غاب واعظ المركز، إن جئت للحق كان من الواجب أن يسموه مسجد الشيخ حامد. لا مؤاخذة من السؤال.

قال محمود وهو يضع يده على عينيه ليداري أشعة الشمس النافذة من الأبواب والنوافذ الزجاجية: تفضل اسأل.

قال النادل: حضرتك قريبه؟

فاجأبه محمود: أخوه الكبير.

هتف النادل كأنه كشف غطاء البئر: أولاد حلال، وأنا أقول لنفسي يخلق من الشبه أربعين، الله يرحمك يا حاج بسيوني.

صحح محمود معلوماته: أبي مات وفي نفسه الحج إلى بيت الله.

قال النادل وهو يربت على ذراعه: نصيب ومكتوب، الله يرحمه في تربته، كان أطيب رجل في البلد، البركة في حضرتك وفي الشيخ حامد، وفي أحفاده أيضا الله يهديهم ويصلح حالهم.

شعر محمود أن الرجل أخذ من وقته أكثر مما يجب، فمد إليه يده وصافحه بحرارة تغني عن المزيد من الثرثرة، وأسرع في الاتجاه الذي أشار إليه وهو يتعجب من النهم القاتل إلى تشمم أسرار الناس والخوض في كل شيء وأي شيء، وهز رأسه محاولا أن يفسر الظاهرة الملعونة بأنها قد تكون نتيجة الفراغ وانعدام الحرية والوعي وتجاهل قيمة الزمن، إلى آخر ما يؤدي إلى استباحة الغير واقتحامه وتعريته وحرمانه من أن يملك حتى نفسه أو ينفرد حتى بأحزانه. ومر على الكتاب الذي اهتدى إليه بغير جهد يذكر، إذ وجد على أعلى الباب لافتة سوداء كبيرة نقش عليها بخط كوفي باللون الأبيض: ألا بذكر الله تطمئن القلوب، وتحتها مباشرة بالخط النسخ البسيط: كتاب الشيخ حامد غفر الله له. سأل صبيا يقتعد الأرض بجوار الباب ويهز رأسه وجذعه بحركة رتيبة أمام المصحف الذي وضعه على حجره: أين جامع الشيخ يس يا بني؟ وقف الولد في أدب وهو يهش الذباب من على وجهه وعينيه المحمرتين: نحن نسميه جامع الشيخ حامد، إنه هو الذي ...

قاطعه محمود متأففا: أعرف، أعرف، قلت لك أين؟

قال الولد الذي فوجئ بإغلاق الباب في وجهه فطوى المصحف واستعد لمصاحبته: صعب أن تعرفه بنفسك، يظهر حضرتك غريب عن البلد، تعال معي.

لم يقل محمود شيئا، قبل صحبة الشيخ الصغير بغير ترحيب، وأفهمه بنظراته وسحنته الجادة أنه لا يحب الكلام الكثير، ومضت قدماه تغوصان في وحل الطريق ومياه الغسيل التي تكون نقرا عطنة أمام أبواب البيوت الفقيرة المتساندة والبيوت المدللة المبنية بالطوب الأحمر والمطلية بالألوان الفاقعة، كانت المهملات والفضلات وعلب الصفيح وصناديق الكرتون وأشلاء اللعب الصغيرة وأعواد القش والجريد وأوراق الجرائد المسودة والقطط المتوحشة التي تتصارع على القمامة والكلاب الضامرة المكسورة النظرات - كانت تزحم الأرض التي تنغرز الأقدام في طينها وتهرب منها إلى الرصيف المتهالك المملوء بالحفر كوجوه عجائز هاجمها الجذام. ولما كان الشيخ الصغير قد لزم الصمت إلا من تمتمات بالآيات التي يحاول أن يحفظها فقد راح حامد يسأل نفسه: في أي عصر بائد يعيش الناس؟ أين هي حضارة السبعة آلاف سنة التي يتشدق بها المذيعون اللامعو الوجوه والمذيعات اللبقات اللائي يستعرضن آخر تسريحات الشعر والمكياج وآخر أزياء المودة؟ والضجيج مستمر والتخليط يبتلع البشر والحيوان والنبات والأشياء والكلمات والهموم والآمال في الدوامة التي تتدحرج في هاوية الغيبوبة وحضيض التفاهة والضحالة. وزفر زفرة نبهت الصبي الذي توقف عن تمتماته الرتيبة وهتف قائلا: خلاص يا سيدنا الأفندي، الجامع أهه! وأشار إلى باب الجامع الصغير المفتوح على مصراعيه فوق ثلاث عتبات من الحجر الجيري النظيف، واستدار راجعا كأنه يفر بجلده من مهمة ثقيلة.

وقف محمود لحظات يتلفت حوله في الحارة الضيقة المسدودة بجدار طيني عال، تبادرت إلى ذهنه صورة نفق في عالم سفلي ازورت عنه الشمس وحاصرته البوابات السود وغابت عنه بركة الآلهة، وصعد الدرجتين الأوليين متهيبا شاعرا بالذنب الثقيل، ثم أخذ يخلع حذاءه ويلطم نعليه ببعضهما ليزيح الكتل الطينية العطنة، وحين استقبلته باحة الجامع النظيفة الواسعة تسرب ضوء مجهول المصدر إلى باطنه ، فاستعذب حلاوته وصفاءه ، واستطاع أن يلمح شقيقه جالسا وحده أمام المحراب الصغير شبه العاري من النقوش والزخارف، بجوار المنبر الخشبي البسيط بدرجاته القليلة، عرف شقيقه من حدبة ظهره التي لا تخطئها العين، وإن لم يقترب منه بحيث يلاحظ البياض الذي غزا شعر رأسه ولحيته، والشحوب الذي خطف بريق عينيه ووجهه الذي كان يتفجر بالقوة والعنف والثورة. كان من الواضح أن الذراعين مرفوعان أمام الصدر، وأن الكفين المضمومتين على هيئة نصف دائرة مستغرقتان في تلقي الأدعية التي تخرج حارة من فمه. قال لنفسه: ربما يستغفر في هذه اللحظة عن ذنوب أهله وبلده والعالم كله!

5

تقدم ببطء وهدوء وهو يجر قدميه بخطى الأشباح فوق الحصيرة المجدولة بأعواد الجريد الأصفر، وعيناه على المثلثات الحمراء المتتالية في وحدات متكررة إلى ما لا نهاية، اقترب من الجسد الضامر الجالس القرفصاء ولمس الظهر المقوس لمسة خفيفة ارتجف لها تحت أنامله، وتلفتت الرأس بعيونها الضيقة الذاهلة لحظات قبل أن ترتفع مع الجسد وتغيب على صدره في عناق طويل: الدكتور محمود، يا مرحبا، يا مرحبا، لك وحشة يا أخي في الله.

جلس محمود أمامه وظهره للمنبر والمحراب وعيناه تمسحان الوجه الشاحب وكفه تصعد وتهبط على الصدر النحيل ولسانه لا يطاوعه على كلمة واحدة. تنحنح الشيخ حامد وسعل قليلا قبل أن يقول في فرح حقيقي: ياه! هيرودوت بنفسه في بلدنا!

ضحك محمود بصوت عال: ولم لا تقول الطبري أو المسعودي؟! ولكنه خجل من نفسه ووضع يده على فمه. فقال حامد: لا لا، لا أصدق أن هيرودوت هنا. قال محمود هامسا: وجالس أيضا أمام أبو الهول! ثم وهو يشير بإبهامه محذرا: أبو الهول الوحيد الذي لا يزال يضمد جروحه! قال الشيخ حامد وهو يطرق برأسه: ليس وحيدا من كان قلبه مع الله، متى شرفتم البلد؟ ثم وهو يمعن النظر في وجهه: كأنك والله لم ترجع من الغربة.

قال محمود في لهجة مرحة: وهل رجعت أنت منها يا حامد؟! حتى في الجامع وحيد وغريب؟

قال حامد وهو يتلفت خلفه كأنه يتأكد من خلو المكان : تعلم أنه هو أنيسي وجليسي، انصرف الجميع بعد صلاة الظهر وبقيت لأكمل الورد وأعد لدرس العصر، ألم تقرأ في الحديث القدسي الشريف أن المسلم غريب في دنياه، والمؤمن غريب بين المسلمين. ومع ذلك فليس أستاذ التاريخ القديم أفضل حالا، أنت أيضا تعيش مع بشر ماتوا من آلاف السنين!

قال محمود: لكن المسلم الحق ينظر خلفه وأمامه إلى آلاف السنين، وإذا عرف حضارات العالم ...

قاطعه حامد: قبل أن يعرف حضارته؟ أنا أيضا أنظر بقلبي وديني إلى الوراء ألفا وأربعمائة من السنين، هذا زمن الفتنة يا أخي العزيز، تمش في السوق قليلا وستفهم ما أقول.

قال محمود في أسى: عملت بنصيحتك قبل قليل.

تنهد حامد بارتياح: فأنت تعذرني إذا رجعت إلى الأصول، تعلم خيرا من غيرك أنني نذرت حياتي لتعلم القرآن وتعليمه، تركت السياسة لأهلها ورجعت لمن إليه المصير.

قال محمود: وأنا يا حامد سويت حالتي وقررت مثلك أن أرجع للأصل وأبدأ من جديد.

ضغط حامد على يده وهو يقول: أرأيت؟ لا فرق بيننا، فكلانا غريب.

رفع محمود يده مسددا إبهامه في وجهه كأنه يحذره: الفرق كبير يا حامد، أنا رجعت إلى هنا لأفعل شيئا لأهلي وأهل بلدي، وأنت تعيش معهم وأنت غريب عنهم. قال حامد مستنكرا: من قال لك هذا؟ إنني أستظل بشجرة القرآن، من يريدني يعرف مكاني، ومن يهده الله يفء إلى ظل شجرته. ثم فجأة كأنه يغلق بابا لا فائدة من دخول الغرباء منه: هل تعلم من الذي زارني أمس؟

قال محمود مستفسرا: من؟

قال حامد: ابن أخينا عليه رحمة الله.

اتسعت عينا محمود وفمه من الدهشة: سمير؟ زارك ليجلس تحت الشجرة؟

قال حامد مبتسما: بل ليأخذ رأيي في الحديقة. سأل محمود في قلق: الحديقة؟! قال حامد موضحا: أجل، أجل، جاء ومعه مشروع كبير، في الحقيقة أكثر من مشروع. تعلم أنني لا أفهم في هذا.

ضرب محمود كفا بكف: وأنا آخر من يعلم؟! ألست أكبركم سنا؟ أليست الحديقة ملكي بعد أن ...

سكت حامد لحظة واحتقن وجهه ، بدا على قسماته المتوترة ألم شديد يحاول كتمانه، قال في هدوء وهو يرفع عينيه ويثبتهما في وجه شقيقه: مفهوم، مفهوم، أرجوك أن تعفيني. أحس محمود بما يدور في ذهنه، قدر مدى العذاب الذي يعتصره منذ أن بدأ يتكلم عن الحديقة، ربما تراءت لخياله نفس الصورة التي تراءت لأخيه، وأثارت دوامة الذكرى البعيدة التي جاهد ليخفي وقعها العاصف في نفسه، وهل يمكن أن ينسى ذلك المساء الذي خرج فيه حامد من باب الحديقة التي اجتمع فيها شمل الأسرة ولم يعد إلا بعد الإفراج عنه ووفاة أبيه؟ هل يمكن أن يصم أذنيه عن أصداء الحمم التي قذفها أبوه على رأسه في ذلك اليوم البعيد، أو عن أصداء البكاء والعويل الذي انخرطت فيه أمه وهي تستعطفه أن يرحم ابنه ويرحم قلبها المريض؟ والأب يهدر باللعنات على رأس الابن العاصي المطرود إلى الأبد، والأختان تقفان عاجزتين عن النطق وعن إيقاف المطر المنهمر على خدودهما المصفرة، والابن الضال يرد اللعنة في لحظة طيش مجنون، وشمل الجلسة العائلية يتفرق وتكتسحه حالة من الذعر، والجميع يتسللون واحدا بعد الآخر: الأختان مع الأولاد والزوجين من باب الحديقة، والأخوان الأكبر والأوسط كل يبحث عن ركن يخفيه، ومؤرخ الماضي والمستقبل يهرب إلى الكوخ الصغير الذي رصت فيه لعبه وأوراقه وأقلامه، وتحجر الصمت بين الأخوين لحظات خيل إليه أنها امتدت دهورا، ففكر محمود طويلا في مبادرة أخيه بالكلام قبل أن تجرفه الذكرى إلى جروح أخرى، جروح يبدو أنها لم تندمل تماما، ولم يستطع بلسم التقوى والاعتكاف أن يوقف نزيفها ويمحو ندوب أهوالها التي لقيها في المكان الصحراوي البعيد الذي لا يجرؤ على مجرد التفكير في اسمه.

وكسر محمود حاجز الصمت الذي ارتفع بينهما بعد أن لاحظ القلق على وجه شقيقه الذي بدأ يتململ في جلسته فقال بصوت هادئ كأنه يستأنف حديثا طويلا في أمور عملية لا تخصه وحده: كما قلت لك يا أخي، لقد صممت على الرجوع للأصل، لن أكتفي بالجلوس تحت شجرة كما قلت، سأحاول أن أجدد الحديقة لتتسع لجلستنا العائلية، لا لا ، لن أكتفي بهذا أيضا، أريد أن تتسع لأهل بلدي أيضا، ثم ضاحكا ومعتذرا في آن واحد: سأجعلها حديقة أبيقور أخرى، منارة يشع منها الفن والمعرفة والدين أيضا، إنني أعتمد عليك في هذا، أليس كذلك؟ ربما تكون نواة لحدائق أخرى تنفي البلد من التلوث الفظيع، لمشروعات أخرى ستكون الخضرة ... قاطعه شقيقه وهو ينهض واقفا ويمد إليه يده: سيكون المشروع عندك اليوم، تأكد أنني لن أتأخر عن مد يدي إليك فيما يرضي الله ويحقق مصالح الأمة، وسأدعوه سبحانه في صلاة العصر أن يكلل جهودكم بالنجاح.

رفع الشيخ حامد يديه بالدعاء واستقبل القبلة، وسرعان ما أغمض عينيه واستغرق في الصلاة - ووقف محمود حائرا وعلى شفتيه أكثر من سؤال، كان يريد أن يعرف منه شيئا عن طبيعة المشروع، بل كان يريد أن يصول ويجول معبرا عن غضبه من إثارة الموضوع وحتى التفكير فيه قبل أخذ رأيه - ولو أمهله الشيخ قليلا لنفس عن ثورته التي أخذت سحبها المجنونة تتلبد في صدره، ولم يدر هل يصب غضبه على شقيقه الذي راح يؤدي صلاته في خشوع صامت وإن كان ينطق بعدم الاكتراث، أم يدخرها لسمير وجيله الذي تصرف في شيء لا يملكه وأعلن نفسه وصيا عليه؟ واستدار إلى باب المسجد وهو ينذر في سره ويتوعد: مشروع؟ أي مشروع هذا؟ هل مت حتى يرثوني؟ ألا ينتظرون حتى أكتب وصيتي؟

انحنى ليلتقط حذاءه، وأخذ يضرب الفردتين بقوة كأنه يلطم خدوده: أنا الذي رجعت لأجمع شمل العائلة الصغيرة والكبيرة في الحديقة؟ أين هي العائلة حتى تتجمع؟

ترك ساقيه تجرانه إلى الطرق المجاورة، وراح يتجول على غير هدى دون أن يستوقفه شيء، لا المدرسة الابتدائية التي تهدم سورها في أكثر من موضع وتحولت باحتها الواسعة، التي كان يلعب فيها ويصطف مع أترابه في طابور الصباح، إلى مقبرة دميمة لبراميل الزيت الفارغة وأشلاء السيارات ومقالب القمامة، ولا الترعة التي كان يمر على جسرها الحجري الصغير ويقذف الحصى في مائها الصافي فأصبحت تتمطى كجلد حوت متعفن نمت فوقه الطحالب والأعشاب الداكنة، ولا الأكواخ التي استبدلت بضلوعها الهشة من القش والمسك والجريد جدرانا

الأطفال بوجوه ضامرة مصفرة من سوء التغذية والأمراض المتوطنة، ولا الملل الأزلي الذي يرين على كل شيء ويلفه بأربطة التحنيط المشدودة إلى الأبد، ووقع بصره على صيدلية كانت أبوابها لا تزال مفتوحة فدخلها وطلب الدواء الذي وصفه صهره، وفجأة ارتسم المفتاح الأسود الكبير أمام عينيه فقال لنفسه وهو يتفجر غيظا: كيف أمكنني أن أنسى مفتاح المدفن ولا أسأل حامد عنه؟ كيف نسيت الأصل الذي رجعت من أجله؟

انتبه فجأة إلى أن الشمس قد غربت وبدأت ظلال المغيب زحفها على البلدة.

واتجه إلى البيت كالسائر في النوم يكلم نفسه، ولا يدري ماذا سيكون مصيره ولا من سيكون في انتظاره.

7

خطر له وهو يتقدم نحو البيت تحت ظلال الغروب الممتدة وقبل حلول الظلام أن يدور حول السور ويتفقد أحوال المنطقة ومعالمها، لكن زجاجة الدواء التي يحملها في يده جعلته يعدل عن نيته، ودفع الباب الحديدي الصغير الذي انبعث منه صرير باهت وصدئ مثله فاستقبلته بعض الأصوات الضاحكة والأشباح المختلطة التي تراءت لعينيه الكليلتين في الطرف الأقصى من الحديقة، هللت أنيسة وهي تعلن حضوره بصوتها المرح الرنان، فاستبشر خيرا: وصل المؤرخ القديم! ولم يجد صعوبة في التعرف على ابن شقيقه سمير الذي وقف لتحيته وعلى وجهه العريض ابتسامة أعرض منه، ومد ذراعه بالدواء إلى أنيسة التي غمرتها سعادة غير عادية قبل أن يغيب سمير في أحضانه، ثم يمد يده إلى شخص طويل صامت سلم عليه وهو يحني رأسه بأدب شديد ويتفرس فيه كأنه يشاهد معجزة، وانطلقت أنيسة بالدواء وجسدها الممتلئ قليلا يترجرج ويتوثب نحو مدخل البيت كنافورة جياشة بالقوة والحيوية: سأطمئن على البنت وأحضر الشاي في الحال.

تابعها الجميع وهم يغمغمون بالدعوات بالشفاء العاجل، فقال محمود مبتسما وهو يجلس إلى جوار ضيفيه على أحد الكراسي القش التي أنزلتها زوجته مع الطاولة بهمة تحسد عليها: والله زمان، جلسة عائلية في الحديقة ؟!

قال سمير وهو يمد بصره إلى المساحة الخربة المملوءة بالحفر والأعشاب والأشواك والأوراق الجافة والأغصان المتيبسة: إن شاء الله تتكرر وفي أسعد الأحوال.

وتدخل الضيف النحيل وخرج عن صمته متهيبا: إن شاء الله، ما دام أبيقور العظيم قد حضر، كنا ننتظركم من وقت طويل.

ابتسم محمود وهو يتصفح وجه الضيف الذي بدا كصفحة مخطوط قديم، وقبل أن يفتح فمه أسرع سمير يقول: قبل أن تدخلا من أبواب التاريخ، الأستاذ قنديل محام وصديق ومثقف جدا يا عمي.

ابتسم محمود في أسى: طبعا طبعا، ثم وهو يتطلع في وجه الضيف ويشير إلى الخراب من حوله: ولكن حديقة عمك ميتة منذ سنين، ومهمة كل أبيقور هي أن يزرع حديقته، أليس كذلك؟ قال سمير ضاحكا: مع أني رجل حسابات وأرقام لا أعرف عمن تتحدثان، إلا أنها ستكون أفضل مما كانت ألف مرة، البلدوزر كفيل بكل شيء.

اشمأز محمود من الكلمة الأخيرة أو تجاهل معناها المقصود، فوجه قوله للضيف الذي لم يرفع عينيه عنه: مع أني لا أحلم بحكمة أبيقور، إلا أنني صممت على الرجوع للأصل ولم الشمل. ثم وهو ينظر إلى سمير: كنت لا تزال في علم الغيب عندما كان جدك رحمة الله عليه يجمعنا في هذه الحديقة، وكانت جدتك ...

تدخل سمير بسرعة وحسم ليقطع الخيط الذي أوشك أن يسحبهم إلى متاهات ربما يصعب إخراجهم منها: ستطمئن يا عمي عندما تسمع تفاصيل المشروع.

قال محمود مستفهما: المشروع؟ أسمعت هذه الكلمة من الدكتور صادق ومن عمك حامد. وثب سمير وثبة النمر قائلا: سيدنا الشيخ وقع عليه بالفعل، قلنا نبدأ به لتحل البركة على الجميع.

أراد محمود أن يقول إنه صاحب البيت والحديقة وكان عليه أن يستأذنه أولا، ولكنه لم يجد الظرف مناسبا للخوض في مسألة عائلية أمام الضيف الغريب، وأسرع هذا بالتقاط الخيط بعد أن لاحظ الوجوم الذي زحف على سحنة الكهل الذي سمع عنه كثيرا، وربما قرأ له وتمنى أن يلقاه: لقد عملنا حساب كل شيء، حقوقكم كلها محفوظة، ولم نوثق العقد ونمشي في الإجراءات إلا بعد توقيعكم عليه، وبالطبع لن يتم الهدم والإزالة إلا بعد موافقتكم.

ازداد وجوم محمود عندما سمع كلمتي الهدم والإزالة، أحس بانقباض شل عقله وأوشك أن يوقف قلبه الذي وضع يده عليه، وتكلف سمير ضحكة سرعان ما حلت محلها تكشيرة جادة على وجهه الضخم: المهم أن التمويل أيضا معمول حسابه، لن نكلفكم قرشا واحدا يا عمي، والأهم أن تبارك المشروع كما باركه عمي الشيخ حامد.

أفاق محمود مرتين على الرنين الغريب لكلمة «مهم» و«أهم»، وفكر قليلا في مشتقاتهما ثم قال مبتسما في استسلام: ندخل إذن في المهم!

أسرع سمير فسحب الحقيبة السامسونيت التي ظلت راقدة بجواره كقطة ملتفة في السواد والغيبوبة ووضعها على ركبته، وقبل أن يعالج فتحها كانت أنيسة قد جاءت متهللة تحمل إبريقا كبيرا في يدها ووراءها أم عبده تتعثر في مشيتها الحذرة لكيلا توقع الصينية التي رصت عليها الأطباق والأكواب والملاعق والفوط البيضاء، وسرسعت أنيسة بضحكة كرنين عملات معدنية تتدحرج على البلاط، وقالت: مشروع هائل، كلموني عنه فقلت يا بنت يا أنيسة الدنيا انفتحت في وجهك.

قاطعها محمود متجهما: طمأنيني على نورة، قست الحرارة؟

قالت وهي تضع الإبريق الساخن على الطاولة وتتناول الصينية من أم عبده: الحمد لله، كانت طول الليل ثلج، وكنت غارقا في النوم فلم أزعجك، أعطيتها ملعقة كبيرة من الزجاجة وتركتها لترتاح.

كرر محمود سؤاله وقد ازداد تقطيب وجهه: قلت حرارتها كم؟

قالت كأنها تشهد الجميع على قلقه الذي لا داعي له: ثمانية وثلاثين وشرطتين، صادق سيحضر الآن ويطمئننا، خلنا الآن في المهم.

كان سمير قد فرد لفة ورقية كبيرة على حجره، وخطر لمحمود أنه يشبه كاتبا مصريا قديما يضع لفافة بردي مملوءة بالأوامر والنواهي الملكية ولا ينقصه إلا أن يجلس القرفصاء، وبدأ يشعر بالحصار المضروب حوله، فنظر في غير حماس إلى الرسم الهندسي الذي امتلأ بالخطوط والمربعات والمستطيلات والنقط الملونة بالأزرق والأحمر والمقاييس المحسوبة في أسفله وتحتها توقيع الشيخ حامد بخطه العصبي المتشابك، وبجانبه توقيعات أخرى وأختام زرقاء اللون وسوداء. وبينما كانت أنيسة توزع أكواب الشاي وتعزم بالبسكويت وتعتذر عن أنه ليس على قد المقام، كان صوت سمير يتدفق كسيل مندفع لا يتوقف لحظة لالتقاط الأنفاس: هنا يا عمي سيكون المبنى الرئيسي، ثلاثة طوابق في البداية يمكن أن ترتفع فوق الأساسات المحسوبة إلى عشر طوابق، طبعا سيكون فندقا ثلاثة نجوم، وربما تجعله الشركة الهولندية مع الزمن خمسة نجوم، الدنيا كلها تقول إن المنطقة أمامها مستقبل عظيم، نعم، نعم، باب السعد انفتح على العائلة كلها، بعد اكتشاف الآثار العظيمة بالقرب من المنطقة كما تعلم بالطبع، وبعد انطلاق العمل في الميناء الجديد، بالإضافة إلى اكتشاف المخزون الهائل للغاز الطبيعي على بعد عشرين كيلومترا من هنا وإقامة أكثر من قرية للعمال والمهندسين، انهالت عروض الشركات المحلية والعالمية على المجلس البلدي. عمر أفندي وبيع المصنوعات يبنيان بالفعل على الضفة الأخرى للترعة التي يجري العمل فيها الآن على قدم وساق كما يقال، وتعد الترتيبات لإقامة كوبري جديد يصل شطري البلد. شركة النصر للسياحة اتصلت بنا بالفعل لجس النبض، يريدون إنشاء «رست هاوس» على أحدث طراز ومحطة بنزين وكافتيريا - المنطقة كما قلت لحضرتك مستقبلها عظيم - قالت أنيسة وهي تلفت نظر محمود إلى الشاي الذي بدأ يبرد: طبعا طبعا، لماذا لا تشرب الشاي؟

قال محمود منتبها: أنا أسمع سمير.

قالت أنيسة ضاحكة: شيء كالحلم تمام، اشرب اشرب!

ارتشف سمير رشفة كبيرة من الكوب وقال: المرة القادمة نشرب الشربات. ردد محمود متوجسا وبحشرجة فأر محبوس في مصيدة: تقول المرة القادمة؟!

واندفع السيل مواصلا تدفقه: لولا الخطاب المستعجل من عمي مصطفى لاتفقنا بالفعل مع شركة النصر، بعد إذن حضرتك بالطبع.

تساءل محمود مندهشا: مفهوم، مفهوم، هل قلت عمك مصطفى؟

وازداد السيل قوة وتحفزا كأنه يلطم الصخور التي بدأت تهدد اندفاعه: ألم أقل لحضرتك؟ فجأة وصلني منه خطاب مسجل ومستعجل، اندهشت حين وجدت على غلافه طابع البريد وعليه صورة ملكة هولندا، كنت أتصور أنه لا يزال في تشيكوسلوفاكيا أو ألمانيا يواصل تدريبه، ولكن الخطاب أكد الشائعات التي سمعتها عن عمي المليونير .

قاطعه محمود بامتعاض : وهل قال لك إنه فتح كازينو ومطعم شرقي هناك؟ ضحك سمير كأنه يطلق نكتة: ويقدم الفول والفلافل وهز البطن كل ليلة! يظهر أن ربنا أنعم عليه بزوجة عملية جدا، وشقراء وطويلة بطبيعة الحال، طول عمري أقول عمي مصطفى عظيم، حوت وفي بطنه الآن كذا أرنب!

تحسر محمود على لغة الضاد وتنهد ثم سأل بإشفاق: وهل يعرف عمك حامد أنه ... قاطعه سمير مستنكرا: يعرف؟ طبعا لا! سيتصور سيدنا الشيخ أن أموال أخيه نجسة وحرام.

سأل محمود: ومع ذلك وقع على المشروع؟!

قال سمير بعد أن التقط أنفاسه كأنه عبر لتوه نهرا خطرا: قلت له إن عمي مصطفى تاب وهداه الله، دعا له بأن يصلح حاله دنيا وآخرة، تشجعت فقلت إنه مصمم على بناء مسجد تحت الفندق أو في الحديقة.

انتبه محمود فجأة وسأل: هل قلت في الحديقة؟

قال سمير مطمئنا: كذبة بيضاء يا عمي يغفرها الله، سنتصرف في الموضوع بإذن واحد أحد.

بلغ الغيظ بمحمود ذروته، فقال كأنه نوح الذي يئس من تحذير ابنه من الطوفان: مفهوم، مفهوم، مفهوم، أكمل يا سمير.

قالت أنيسة وهي تنهض معتذرة بأنها تريد أن تطمئن على نورة: قل له يا أستاذ سمير على كل التفاصيل، ولا تنس وعدك لي بالإشراف على الفندق والسوبر ماركت! نحن نفهم في الحسابات مثل بعض. نظر إليها سمير ضاحكا وأمن على وعوده بأغلظ الأيمان، والتفت إلى عمه فوجده يتطلع إليها في سكون، وتكوم على نفسه وقوس كتفيه وظهره ليقفز قفزة جديدة، وبدأ يعتلي الأمواج كأنه يشق العباب العاصف إلى جزيرة الأحلام، أما محمود فبدأ يدخل في جلده ويتابع الأطياف التي تخرج من كل أركان الحديقة الصامتة التي تناثرت فوقها الأعشاب والأوراق الذابلة والفروع اليابسة والبقع المحتقنة على وجه عجوز محتضر، وأخذ ينادم الأطياف التي تزاحمت حوله، بينما تتردد في سمعه كلمات يلتقط بعض رذاذها ويترك أمواجها المضطربة تتكسر على الصخور التي يتشبث بها: تفاصيل العقد مع الشركة الهولندية، الخبير الذي ينتظر وصوله مع مصطفى للمعاينة وإنهاء كل شيء، قوافل السياح التي بدأ الاتفاق معها والمفاوضات مع المجلس المحلي والمجلس البلدي في عاصمة المحافظة ووزارة السياحة لإنشاء مطار خاص بالمنطقة، موقع الكافتيريا والشيف السويسري الذي سيديرها، ركن السياحة والحاج أمين الذي عرض أن يزوده بالقطع الأثرية والتحف الفرعونية والإسلامية، ملاعب الأطفال والبيسين والباصات الفخمة للنقل إلى منطقة الآثار والميناء وشاطئ البحر، والحوت الهائل يزحف ويزحف، يغير الجلد والمكان والزمان ويستولي على الأراضي ويبتلع الأسماك الصغيرة ويتدفأ تحت الشمس الخالدة ويجتذب السياح من جهات العالم السبع، وعينا محمود تستنجدان بالبيت النحيل الشاحب المهدد بالهدم، وبالحديقة المهددة بالفندق والديسكو والضوضاء والأقدام الغريبة والأجساد شبه العارية والسيارات والحافلات والكراسي والموائد المفروشة أمام الفندق لاستقبال المزيد من الزوار المحليين والأجانب، توقفت نظراته على بقايا الكوخ الذي مالت أخشابه المتداعية في الركن الآخر من الحديقة، ورأى نفسه يختبئ فيه مع أوراقه وأقلامه الملونة ليرسم وبدون أولى محاولاته الشعرية والنثرية - ثم استقرت ساهمة على جانب السور الشائك الذي تطل عليه شرفة بيت الجيران الذين باعوه ورحلوا عن البلد منذ سنين - ترى أين أنت الآن يا سناء؟ هل تلوحين مرة أخرى لأرسل لك قصائدي الجديدة مع مرسالك الصغيرة التي كنت تبعثين معها بالأوراق الملونة الفواحة بالعطر وفيها كلماتك الصغيرة المشوشة كنبش الدجاج تشكين فيها من رداءة خطي وشعري ومن فظاعة خجلي وحزني؟ ولعبنا في الحديقة كلما حضرت، وجريك إلى الكوخ واختباؤك فيه وتحريضك اليائس لجسدي الغبي؟ وإطلالك في المساء على جلستنا العائلية في الحديقة وسؤالك بعدها عما كان يقوله أبي وهو يرفع يديه إلى السماء بالدعاء، وما تقوله أمي وهي تؤدي طقسها اليومي، وتدور بالمبخرة التي تهزها فوق رءوسنا وهي تتمتم مع البخور الفواح الرائحة الذي كنت تشمينه من مكانك في الشرفة وكان يلف سحبه حولنا ويدور حول أشجار التفاح وتعريشة العنب وحوض الزهور وشجرتي الكافور الصامدتين حتى الآن كخفيرين عجوزين أمام البيت؟

انتبه محمود على هتاف سمير بصوت ضاحك: كل شيء تمام يا دكتور! تفضل معنا، وكان صادق قد دخل من باب الحديقة ووقف بعيدا دون أن يحس بدخوله، وعندما نهضت أنيسة من كرسيها وخفت لاستقباله، سمعه يقول لها بصوت ضاحك: طمئنيني على المؤرخ العظيم، هل دخل المستقبل من أوسع أبوابه؟

ردت عليه أنيسة بصوت مرتفع كأنما لتسمع زوجها لذي لم يغب عنها غيابه المعتاد: وسيوقع حالا على المشروع.

عاد صادق يلوح بذراعه ويقول: سأمر على نورة وأرجع لكم، مبروك، مبروك. رفت عينا محمود وارتعش جفناه عندما نهض سمير واقترب منه وهو يستأذنه في كلمة سر، انتحى به ركنا إلى اليمين بالقرب من السور وأسر في أذنه: أنا جئت يا عمي إليك باسم العائلة كلها، الحالة كما تعلم، الجميع مخنوقون، وعشمنا كبير في الله وفيك وفي خالتي أنيسة.

استفسر محمود الذي بان عليه الإرهاق والضنى: ماذا تقصد يا سمير؟

قال سمير: لا وقت للتفاصيل، سوف نلتقي على انفراد لأشرح لك البقية. سأل محمود نفسه وهل هناك بقية؟ وعاد يستفسر: طمئني عليهم، كنت أنوي الليلة أن أمر على أولاد عمتك خديجة الله يرحمها.

قال سمير باختصار وهو يزم شفتيه: أحوالهم بؤس بعد زواج أبيهم، زوجته لا تطيقهم، وأبوهم كما تعرف رجل كئيب، ولكنني فاتح عيني ولا ينقصهم شيء. رجع محمود يسأل: وأولاد عمتك فاطمة؟

قال سمير وكأنه يسحب ستارا كثيفا على منظر غير مريح: رجعوا للخناق بعد الليلة التي قضيناها معهم، عطية مصمم على ما في دماغه ويدعي أن البيت من حقه وبناه من عرقه، وكأن المرحوم أباه لم يفعل شيئا، وسعيد يهدد بقتله بالرصاص إن حاول إخراجه بالقوة من بيت أبيه، والأرض التي تنازلت عنها لهم ولنا غارقة في الديون والخلافات. قال محمود: كل هذا خطر على بالي؛ لهذا قررت الرجوع بعد تسوية حالتي ... أردت أن ... قاطعه سمير وهو يشد على يده: تجمع شمل العائلة، مفهوم مفهوم، لم تعش لنفسك أبدا يا عمي، لكن أين هي العائلة؟! المهم، أرجوك أن تبارك المشروع، إنه المن والسلوى الذي هبط علينا من السماء.

قال محمود وهو يشعر أنه حوصر تماما: وأنا؟ ألم يفكر أحد في؟ شهق سمير : حاشا لله! لقد خصصنا لك جناحا في الفندق كما قلت الآن، وسيكون هناك بدل الحديقة حدائق، وحتى إذا لم توافق فالتعويض كما قلت مجز وثمن الأرض بالشيء الفلاني. تساءل محمود قبل السقوط بقليل: هل قلت هذا؟

ضحك سمير وهو يضع يده على كتفه: يا ترى كنت فين يا عمي وأنا أشرح كل شيء؟ في طيبة أو روما أو الأندلس؟! أرجوك أن توقع ليمشي المحامي في الإجراءات.

فرد خارطة المشروع أمامه وحدد له الموضع الذي سيوقع فيه. وارتعشت يد محمود وهي تمسك بالقلم الأزرق اللامع الذي قدمه له ابن أخيه، فكتب اسمه على عجل وأعطاه له كأنه يسلمه مفتاح غرناطة، وعندما انتهى من التوقيع تذكر شيئا فهتف: والعقد الذي عندي؟!

قال له سمير بأسف عميق: اطمئن تماما يا عمي، بحثنا كل شيء تتصوره، سألنا في الشهر العقاري واكتشفنا أن عم مصطفى لم يسجله، لا بد أنك كنت مشغولا وكلفته بذلك.

قال محمود كأنه يناجي نفسه: ومع ذلك نثق به؟

قال سمير: أنا من ناحيتي واثق تماما ومالي يدي منه، لقد تغير عم مصطفى، وهو يريد أن يرجع بزوجته وابنه نهائيا، هو أيضا يريد الرجوع للأصل، الظاهر أن الأحوال هناك ... قال محمود: طبعا طبعا، ولكن ...

وفوجئ بصادق يقترب منهما بوجه باش تعلوه ابتسامته الدائمة: لا لكن ولا يحزنون، أصبحت مؤرخ المستقبل يا بطل! وقهقه بصوت عال ثم شده من كم سترته وأسر له باهتمام: نورة حرارتها طالعة نازلة، لا تنزعج، لكن رأيي أن تسافروا غدا بالسلامة وتعملوا التحليلات اللازمة بأسرع وقت، الحالة هنا كما تعلم.

سأل محمود في قلق: هل تشك في شيء؟ تيفود مثلا؟ - لا أخفي عنك، وربما تضطر لعملية عاجلة، اللوز محتقنة جدا، لكن هذا يتوقف على التحليل ورأي الجراح، مع السلامة الآن، نراكم بخير، السفر من صبيحة ربنا! لا تتأخر، ومبروك!

ومضى مسرعا قبل أن يتمكن محمود من الكلام أو السؤال، وجاء الضيفان فطلبا الاستئذان حتى يتركا له الفرصة للراحة. ضحك سمير وهو يعانقه ويقول: ربنا يحفظك ويبارك فيك ، كانت جلسة عائلية في ضوء القمر. إن شاء الله تتكرر، نظر إليه متشككا لحظة، ولما شعر بأن يد المحامي تمتد نحوه صافحه وشد على ذراعه بعد أن رآه ينحني باحترام ويقول: وفي حديقة أبيقور الجديدة بإذن الله، سهرناكم وأتعبناكم، اطلع حضرتك الآن لتستريح، سنتصل بكم في أقرب وقت.

لم يقل شيئا، ودعهما بعيون ذاهلة طافت بالحديقة الصامتة المجدبة، ثم استقرت عند المدخل المؤدي إلى السلم، قال لنفسه وهو يتجه إليه ويضع يده على الترابزين الخشبي: من يدري إن كانت هذه آخر مرة أصعدك!

8

وقف لحظات في بئر السلم ويده على الترابزين، كان الصمت يلفه من كل ناحية إلا من نقيق ضفادع في الترعة القريبة ونباح كلب يتردد بإصرار يائس، وربما أغاظه القمر المتلألئ في السماء الصافية وكأنه يتربص به ويطارده. لم يجد في نفسه رغبة في النوم، إذ تحركت فيها رغبة أقوى في استطلاع أحوال المنطقة ومعالمها بعد غيبته الطويلة، بجانب الميل الدفين أو المرض الحميم في الانفراد بنفسه التي تفتت شظايا تحت معاول الثرثرات الطويلة والأحلام المريبة والصراعات والوعود الغامضة.

نظر إلى الحديقة فأغمض عينيه وانقبض قلبه. كانت أم عبده ترفع الأطباق والأكواب وتنحني وتقوم وتدور حول نفسها وهي تنظف المكان وتبدو كشبح يغمره ضوء علوي غريب. خرج في سكون ودار حول سور الحديقة فوجد نفسه في مواجهة البيت الذي أعطاه ظهره ووقف شامخا محني الظهر كعجوز من زمن آخر، وراح يمد بصره في أرجاء المكان وعلى امتداد الأفق، هكذا يتغير كل شيء ونحن لا نتغير ولا ندري! المنطقة دخلت - كما يقولون - في كردون البلد ولم يبق من مساحات الخضرة المترامية إلا مستطيلات ومربعات قليلة طغت عليها المباني الجديدة والإنشاءات الجارية، بيوت الفلاحين التي كانت على بعد خطوات من البيت اختفت وحلت محلها أكواخ مؤقتة لعمال البناء، وهل ينسى أنه دخل مرة أحد هذه البيوت عندما أخذته الشهامة في إحدى زياراته للبلد وحضر وفاة قريب لأبيه ومشى في جنازته وشارك في تلقي العزاء وإلقاء العبارات المحفوظة؟ وهناك مبان عديدة يحوطها سور واحد - أهي مدرسة جديدة أم معهد ديني أم مضرب أرز أم مصنع أم ...؟ وفي كل مكان حفر وأكوام رمل وقطع أخشاب وطوب محروق وفوارغ أكياس وشكائر أسمنت سيغرز في أحشاء الأرض ويقتل المزيد من الخضرة، وعلى البعد في الطرف الجنوبي الأقصى اختفت السراي بمبناها الرئيسي الصاعد إلى الأفق كبرج قلعة أو كاتدرائية عتيقة، كما اختفت الأسوار التي كانت تطوقها وعليها أبراج أصغر ذكرته كثيرا بحصون العصر الوسيط. كل شيء تغير بينما كنت تتأمل وتنظر وتنتظر!

أحس فجأة بأن هناك من يقف قريبا منه يتطلع إليه، شاب متوسط العمر عليه بذلة رمادية خفيفة وفي يده اليمنى حقيبة بنية تظهر منها الكتب والأوراق، وقبل أن يسأل نفسه من أين خرج وإلى أين يذهب بادره الشاب بالسؤال: حضرتك غريب عن البلد؟ التفت إليه ضاحكا وهو لا يخفي رغبته في الحديث معه: بل سقطت رأسي هنا كما يقال، في هذا البيت الذي تراه يصارع الرياح! اقترب منه الشاب متوددا: سيد عبد العال، مدرس مواد اجتماعية في الثانوية الجديدة. وحضرتك؟ قال محمود مبتسما وهو يمد يده إليه: مواد اجتماعية؟ إذن فلسنا غريبين كما تتصور، اسمي محمود بسيوني مؤرخ على المعاش! فتح الشاب فمه دهشة وهتف: الدكتور بسيوني، صاحب العالم القديم وسقوط قرطاج والمدن الغارقة! قال محمود مبتسما: المحترقة. ألم أقل لسنا غريبين؟ قال الشاب: تشرفنا يا بيه! صحيح لم أتشرف بالتتلمذ عليك، لكنني قرأت لك كثيرا. ضحك محمود معبرا عن رغبته في الخروج عن الموضوع: الحمد لله أنك قرأت كتبي ولم أقررها عليك! أتعلم أن كل شيء يتغير بسرعة؟ رد عليه الشاب مؤكدا قوله: البركة في الطبقة الجديدة، أمثالنا لا يتغير حالهم كثيرا.

قال محمود مؤمنا على كلامه: ومن سمعك أيضا، وربما يسوء كل يوم. استطرد الشاب كأنه يقف على منبر: نحن يا دكتور في عصر الجيوب والبطون، حضرتك تفهم ما أعنيه، أموال النفط والانفتاح والسمسرة والمقاولات والعمولات، أمثالنا للأسف ينقرضون، هذه المباني والتوسعات الجديدة، إنه غزو، غزو المغول أو التتار، غزو الصحارى لوديان الأنهار.

سأله محمود في هدوء: هل تقصد الخضرة أم القيم التي انهارت؟

أمسك الشاب الخيط وشده بعنف: والأنا التي اكتسحت كل شيء! هل تصدق أنه ليس بين هذه الإنشاءات وغيرها مبنى واحد للصالح العام، لا ملجأ ولا مستشفى ولا حديقة ولا مساكن للفقراء واللاجئين الذين ملئوا البلد ولا ... قال محمود وهو ينظر إليه في عطف أبوي: المهم أن القيم لا تحترق بسهولة وسط حرائق المدن والحضارات، قل لي يا أستاذ سيد!

قال الشاب بعد أن استرد أنفاسه ونظر في ساعته: تحت أمرك. قال محمود وهو يشير بعيدا إلى الجنوب: سراي الباشا التي كانت هناك، كانت لها وللباشا قصص طويلة، هل سمعت شيئا عنها؟

قال الشاب وهو يتحرك حركة تنبئ بأنه يتأهب للانصراف: كما قلت لحضرتك، تاجر مخدرات معروف دفع فيها مليون دولار، هي الآن مجمع تجاري ضخم وسوق يؤجر فيه المحل بالشيء الفلاني، المتر وصل ألفي جنيه!

ضحك محمود كأنه يعزيه: أي مرتبنا معا في شهرين! هل تذهب إلى المدرسة في هذا الوقت؟

قال الشاب وهو يصافحه ويشد على يده: كما يقول إخواننا في الخليج: إيش نسوي؟! لا بد أيضا أن نعيش، مجموعات مسائية للتقوية ودروس خصوصية و... كنت أتمنى أن يطول اللقاء.

قال محمود وهو يربت على ذراعه: توكل أنت على الله، سنلتقي حتما. قال الشاب وهو ينصرف: وستوقع لي بنفسك على أحد كتبك الخالدة.

ضحك حامد ضحكة عالية ثم وضع يده على فمه وقال في أسى كأنه يخاطب نفسه: وما زلت تعتقد أنه سيبقى منا شيء؟

انصرف الشاب مسرعا وهو يهز حقيبة كتبه في يده ويخوض بصعوبة في الحفر وأكوام التراب والرمل والزلط ويتجنب أسياخ الحديد التي يوشك أن يتعثر فيها، وبقى حامد يتطلع إلى الأفق وإلى كل ما حوله. كان فيما يبدو قد ابتعد عن البيت دون أن يشعر، وكان الهدوء يسود كل شيء، إلا من نباح كلب عنيد توجس منه خوفا على ساقيه ولم يلمحه أبدا! وضوء القمر يتوهج فوق رأسه كعين شريرة وشديدة الاحمرار ومع ذلك تنشر حولها البساط السحري فوق جنة فقدت خضرتها القديمة، تعجب وهو يحدق في قرص القمر الناعم الناصع، وسأل نفسه هل هو أتون تتلمظ نيرانه غيظا في السماء، أم قارب أسطوري يمخر العباب الصافي وعلى متنه ملائكة ينشرون أجنحتهم الذهبية في بحر الزرقة غير مبالين به ولا بأي شيء؟!

آه! كل شيء يتفتت، العالم والبلد والعائلة والحديقة والبيت، كانت الحياة هي الكل الواحد الذي يتألف من وحدات كلية، تتألف بدورها من وحدات أصغر، وكان هناك الفرد المتحد بالأسرة والجماعة، والقرية المتحدة بالمدينة والوطن، والأوطان بالأرض والطبيعة والعالم، كلها وحدات في علاقة مع وحدات أكبر، وهذه مع الوحدة الكونية الكبرى، لم يكن هناك كل بغير أجزاء، ولا أي جزء بغير الكل، لكن الجزء يتصرف اليوم كأنه الكون بأسره، والأنا تتضخم وتتورم وتكتسح كل شيء كأن الآخر البشري والطبيعي والمطلق لا وجود له ولم يوجد أبدا، أصبح سرطانا يخرب في الظلام الجسم الحي الذي يغذيه ويئويه، والأنا تتلذذ بالنظر في مرآتها، لا تدري أنها تنظر في شظية مكسورة من مرآة أكبر، نسيت أنها لن تعرف نفسها ولن ترى ملامح وجهها الحقيقي إلا في مرايا الآخرين، أفرادا كانوا أو مجتمعات وشعوبا وحضارات، والجزء نفسه تفتت أيضا ولم يكتف بقطع الخيوط التي تصله بالكل، وإذا تذكره فلكي يستغله لصالحه أو ينبهه أو يسخره أو يقهره أو يقعى ذليلا عند قدميه حتى يلقي له لقمة أو عظمة فيختطفها ويفر بجلده إلى سجنه، ليعاود الخروج منه كلما حانت فرصة أو تشمم رائحة صيد جديد! انفصم كل جزء بعد أن انفصل الكل عن الكل، واغترب كل فرد عن كل فرد، وكل جماعة عن كل جماعة، بينما تساقطت القيم أشلاء وسط الأنقاض وانكفأت على وجوهها في الوحل والرغام والدماء والآثام، وها أنت أيها المؤرخ القديم تقف ضائعا بين أنقاض عالم مجدب ومهدد بالانقراض رغم ضجيج آلات البناء وصيحات التغيير ووعود التجديد ودعوات التحديث ودعاوى التنوير، تقف وحيدا تشاهد البيت يتصدع باسم الفندق ذي الثلاثة أو الخمسة نجوم ، وحديقة الطفولة والذكريات والأحلام والمشروعات التي كانت تحوم في رأسك كالفراشات التي تنتظر النور لترفرف فوق الزهور والوجوه المنسية، الحديقة التي تحدق بها عين البلدوزر الأعمى وهي تكحت وتجرف لتمد فوق جثتها موائد الكافيتريا للسياح والسادة الجدد، وتسعى وراء شمس الحلم والشمس في ظهرك، وتحاول أن تلم الشمل في الجلسة العائلية، بينما السماسرة يذهبون ويجيئون، والحفارات والبلدوزرات تتمطى وتتثاءب قبل أن تنقض وتنهش وتصنع الجنات الملعونة، وأنت تحت ضوء القمر، أمام البيت العجوز المحني الظهر، عار في مهب الرياح، مرتعش الجسد والروح أمام قضاة العصر ونجومه وجلاديه، خائف من أصوات الاتهام والإدانة بالرجعية والرومانسية، أأنت صوت الكل الغائب وضمير التاريخ المثقل بالذنب؟ وكيف يحق لك أن تقرع ناقوسا وسط العرس الصاخب وقدماك على شفا الحفرة الأخيرة، آه أيها البيت العجوز! يا بيت قصائدي التي كتبتها قديما وامحت، وقصائدي التي اشتاقت أن تولد وأجهضت، يا بيت الأحلام والضحكات والأعراس والمآتم والآلام والمآسي، ويا حديقة الذكريات الحلوة والمرة، والمشروعات الموءودة قبل أن تولد. أنت التي تمنيت أن يخرج جسدي منك إلى المقبرة القريبة، مشبعا برائحة الطين والعشب وشذا الأشجار والورود، أنت التي صمدت في غيابي تسقطين أمام عيني في غيابي الجديد، حتى حلم الخروج منك على النعش أصبح أبعد من القمر والنجوم التي تضحك علي الآن من عليائها. ما أوسع الفجوة بين الكلمة والفعل، ما أشد اتساعها يوما بعد يوم!

رجع منهك الخطى كأنه عنكبوت عجوز تتشبث بخيوط الضوء المنسكب وتتلفت حولها لتلقي آخر نظراتها على الانسجام الفضي الرائع حوله، ووضع يده على باب الحديقة الصغير ففاجأه صوت يخرج من الظلام كمواء قط يخمش عدوا بينما تقدح عيناه اللتان برزتا بغتة بالشرر المتطاير: بخ! وأدرك أن القط المهاجم ليس إلا نورة التي أرادت أن تحيي عبثها القديم، سألها في لهفة وهو يحتضنها: ما هذا؟ نسيت أن حرارتك عالية؟

قالت وهي تقبله: عرفت بنفسك أنها راحت؟

وضع يده على رأسها وكتفيها وهما يتجهان نحو الأريكة القش في أقصى الحديقة: هذا اسمه تهور يا ابنتي، تعلمين أننا سنسافر غدا وأنت في أشد الحاجة للنوم. قالت ضاحكة وهي تضغط على يديه: أولا أنا فتحت عيني ووجدت ماما نائمة ولم أجدك في أي مكان.

قال وهو يمر بكفه على كفها: وثانيا؟

قالت: لأن الكابوس رجع، تصور يا بابا، نفس الكابوس. قال وهو يتحسس رأسها: وهذا يؤكد أن الحرارة كانت مرتفعة، ألم يكشف عم صادق على اللوز؟ هتفت محتجة: اللوز بريئة من ذنب الكابوس، لقد جاءت وذهبت، أما الكابوس فيتردد علي لثالث مرة.

تجهم وجه محمود وقلب بصره في أرجاء الحديقة: سيختفي يا حبيبتي تماما عندما نرجع لمصر.

قالت مصححة: بل عندما يدوس البلدوزر على هذا البيت الذي وقع على رأسي وأنقذتني من تحت أنقاضه.

قال وقد ازداد شروده: أنا؟ من قال لك هذا؟

صاحت منتصرة: ماما، ماما حكت لي كل شيء، الفندق والكافيتيريا وصالة الديسكو، كل شيء، أريد أن أتعلم الرقص يا بابا، قلت لك أريد أن أتعلم الباليه.

وقامت تطوح ذراعيها وساقيها على بقايا العشب، بدت له كجنية صغيرة خرجت من الكهف المسحور وراحت ترفرف مع البجعات المجنحة، وتذكر أنه شرح لها القصة أمام التلفاز وسمعها تعبر عن نفس الرغبة في تعلم الباليه، ولا يدري لماذا تراءت له في نفس اللحظة صورة أبيه وهو يدخل من باب الحديقة وكأنه يفتش في جنباتها عن مكانه في صدر الجلسة العائلية. أخذ يهيم هنا وهناك وصورته تتغير مع اقترابه وبعده: مرة في شكل سائح يرتدي بذلة جينز، وأخرى في شكل إخناتون الضامر الوجه المنتفخ الكرش خارجا من بين خرائب تل العمارنة وفي يده عنخ علامة الحياة، وثالثة في زي بدوي يلبس الغترة والعقال ويقلب سبحة طويلة في يده. نهض على الفور من جلسته وأمسك بيدها وهو يقول: تعالي يا حبيبتي، يجب أن نصعد الآن ونبعد عن كل الكوابيس. وعندما دخلا من باب البيت ووضع يده على حافة الترابزين الخشبي قال لها وهو يساعدها على الصعود: سنصحو مبكرين ولا بد أن ننام. ثم وهو يتحسس موضع قدميه في الظلام المنتشر في بئر السلم: ربما تكون آخر مرة نقف فيها في هذه الحديقة. هتفت نورة: ونخرج من هذه الحديقة؟ هذه المقبرة؟ ضغط يدها وهو يقول: هذه المقبرة فيها عرق أهلك وأجدادك ودموعهم، هيا يا حبيبتي، ربما تكون آخر مرة. هتفت وهي تلتصق به في صوت لم يدر هل ينم على الشفقة أم الرعب أم المكر: صحيح يا بابا؟ ونتخلص من الكابوس؟!

9 - أبي، يا أبي، يا أبي!

انتفض في فراشه فجأة وزلزال خفي يرج جسده وسريره وجدران غرفة النوم حتى خشي أن يقع البيت العجوز المقوس الظهر على رأسه. كانت آثار الارتجاج لا تزال حاضرة في اختلاج شفتيه المرتعشتين وعينيه وخفقات قلبه المتلاحقة والرؤى المفزعة التي طفقت تحوم حول وجهه وتكاد تصدم رأسه وشعره المضطرب وأعضاءه المرتجفة كالخفافيش السوداء المذعورة. فتح عينيه على اتساعهما وأغمضهما أكثر من مرة، وضم كفيه على وجهه وأخذ يقرأ الشهادتين ويستعيذ بالرحمن من الشيطان، وبقيت الاستغاثة التي أطلقها تدوي في سمعه: أبي، يا أبي، يا أبي. تلتف حوله فلم يجد أحدا إلى جواره. أنيسة صحت كعادتها مبكرة، ونورة التي تملأ البيت جلبة وضحكا وصياحا لم يسمع لها صوت. ما الذي حدث؟ هل خرجتا من البيت لقضاء حاجة ملحة؟ هل ذهبتا فجأة إلى المستشفى؟ هل نزلتا إلى الحديقة؟ أيمكن أن تلقيا نظرة على الخرابة كما سمتها أنيسة، أو المقبرة كما وصفتها نورة قبل أن يصعدا السلم في الليلة الماضية، ربما لآخر مرة كما قال لها وهو يضمها ويشدها إلى صدره؟

وبدأت الصور تتوافد عليه. إنه الكابوس الذي كلمته عنه نورة أكثر من مرة، أعدته الجنية الحبيبة فتغلغل فيه وأطلق عليه وحوشه وبومه وغربانه، والوحوش والبوم والغربان تدور في فراغ رأسه المظلم المتعب، وترفرف وتحوم أمامه كما رآها في الكابوس تماما، لكن ما أكثر وجوهها القبيحة وما أفظع أجنحتها المخيفة التي يرتفع طنينها في سمعه كجيوش بربرية تهجم على مدينة قديمة ولا تتركها حتى تحرقها وتسحقها وتذبح أهلها عن آخرهم! وعاد يضم رأسه بين كفيه ويتطلع في وجه أبيه الذي يناديه ويضيء وجهه كالبدر وسط سماء تراكمت السحب كالقطعان الهائجة على صفحتها.

أسند ظهره إلى ظهر السرير وأحكم وضع المخدة وراء ظهره، كانت أول صور الكابوس محتفظة بحيويتها ورعبها وحلكة سوادها: رأى نفسه على حافة بئر سحيقة محفورة في بئر السلم، وهو ينحني عليها بجذعه كله ويدلي رأسه في داخلها كأنه يسقط فيها دلوا يريد أن يملأه بالماء ليروي ظمأه ويبلل جوفه وفمه اللذين أحرقهما الجفاف، وها هو يرى وجه أبيه الذي يضيء جوف البئر كشمس صغيرة فوق سطح ماء راكد، والوجه يطفو ويغطس وإن كان الصوت يستغيث بلا انقطاع: يا ولدي، أخرجني من هذا البئر. - سأحاول يا أبي، انتظر، انتظر.

مد ذراعه بطولها فلم تصل إلا إلى الحافة، وأخذ يحني جذعه ويدلي ذراعه لعل يده تلامس يد الأب المستغيث، لكن اليد كانت تبتعد، والشمس الصغيرة تطفو وتغطس في لجج من السحب التي تزداد كثافة والزوابع التي تتجمع وتهب مطاردة لها، صاح به انتظر يا أبي، سأبحث عن حبل، انتظر!

هتف به الصوت الغاضب الذي تلفع في عباءة سحابة بشعة القسمات: بل انتظر أنت! من الذي نقلني من قبري إلى هنا؟ من رماني وسط الطين والظلام والأنقاض والأشواك والأعشاب والأوراق الجافة؟ قلت لك من؟

أنزل رأسه في فوهة البئر بقدر ما استطاع، أراد أن يعزيه عن فشله في الوصول إليه فزعق وردد البئر الأصداء المجوفة: لا تبتئس يا أبي، نحن مثلك في الطين والفوضى والظلام، العالم كله يا أبي، سأله الصوت الغاضب وقد ارتفعت درجة حدته حتى اقترب من الزئير أو الهدير أو الخوار الجريح: أهكذا تفعلون بآبائكم؟ أهذا تهيلون عليهم التراب والحجار؟ قال له وهو يكتم سخرية كادت تصبح ضحكة: نحن في عصر اغتيال الآباء يا أبي. - ومن أنت حتى تخاطبني بأبي؟ - أنا ابنك يا أبي، ابنك محمود.

سأل الصوت مستنكرا كأنه يخرج الكلمات من تنور مشتعل: ماذا؟ وأين إخوتك؟ أين عباس وحامد ومصطفى وفاطمة وخديجة؟ لماذا لم يحضروا لاجتماع شمل العائلة في الحديقة؟

ردد محمود كالغائب عن الوعي وهو يناجي نفسه: الحديقة صارت خرابة، والعائلة تفرق شملها يا أبي، واحد في القبر وواحد في التيه وواجد يزحف من الغربة ومعه الأرانب التي تلتهم الخضرة. - لا أفهم شيئا مما تقول، وصوتك منخفض لا يسمع، لم تقل لي من أنت؟ - قلت لك محمود يا أبي، ابنك محمود. - هل كان لي ابن بهذا الاسم؟ أين ذهب إخوتك وأخواتك؟ - عباس توفى بعدك بشهور، وحامد غائب في الملكوت، ومصطفى ... ضحك الأب وتصاعدت ضحكاته من جوف البئر كأصداء منبعثة من بوق قديم: الوحش؟! هل ما زال وحشا كما كان؟ - بل غول يا أبي، وسيحضر قريبا وعليه عباءة قارون الذهبية. - غول وقارون؟ قل لي أولا من أنت؟!

رفع رأسه عن البئر وأخذ يلوح بذراعيه ويديه في الهواء كأنه يقف أمام حشد هائل من الطلاب في أحد المدرجات الواسعة: أنا يا أبي ابنك محمود الذي سافر إلى الخارج ...

قاطعه صوت الأب الذي يبدو أنه بدأ يتذكر: سافر وعدى البحر، أليس كذلك؟ قال حامد منتشيا برجوع الذاكرة إلى أبيه وكان قد سمع من إخوته أنه فقدها قبل وفاته: نعم يا أبي، محمود الذي عدى البحر.

قال أبوه كالمعتذر عن غلطة قديمة: نعم يا ولدي، كنت قد نسيتك تماما، وعندما كان إخوتك يذكرونني بك كنت أسميك ابننا الذي عدى البحر المالح، ورجعت يا ولدي إلى البيت والحديقة ومعك الكتب والعلوم.

قال محمود معتذرا عن غلطة أكبر: رجعت ومعي حطام دول ومدن وحضارات مندثرة، رجعت وعشت في العاصمة أعلم وأتعلم.

كان من الواضح أن أباه لم يفهم شيئا ولم يحاول أن يستوضحه عن شيء؛ لذلك عاد يسأل مرة أخرى: والبيت والحديقة يا ولدي، هل رجعت إليهما؟

قال محمود محاولا أن يطمئنه: رجعت كثيرا يا أبي، في كل مناسبة هامة كنت أفتح البيت الذي آل إلي من تركتك، ثم أعود في الصباح إلى عملي وعائلتي في ... قال في غضب: وعائلتك التي هنا؟ لماذا لا ترجع إلى الأصل؟ لماذا لا تفتح البيت وتزرع الحديقة؟

سمع محمود دقات خفيفة على الباب فأسرع يقول لأبيه قبل أن تختفي صورته من عمق البئر: رجعت يا أبي، أمس رجعت إلى الأصل وفي نيتي ... انفتح الباب وواربته يد بيضاء طويلة الأصابع لحظات قبل أن يطل عليه وجه زوجته أنيسة ويصله صوتها الممدود ببحته المحبوبة: صح النوم. كانت حبال الصور والكلمات تتداعى عليه وتلتف حوله كأنها سياط عاتية تلطم وجهه وعقله وذاكرته، فأسرع يهتف بأبيه: رجعت يا أبي، لكن الناموسة لدغت ابنتي ولا بد أن أسافر اليوم، نعم، نعم، لا بد من السفر اليوم.

دخلت أنيسة عليه وعلى وجهها الأبيض المستدير أمارات القلق المعتادة. اقتربت منه وهو يتلفظ بالكلمات الأخيرة كأنه يقدم كشف الحساب لدائن مجهول. قالت باسمة: صح النوم، نسيت نفسك كالعادة، ومع ذلك تقول لا بد من السفر اليوم. سألها محمود وهو يحييها تحية الصباح ويهز رأسه ليبعد الصور التي التصقت به: هل سمعتني أقول هذا؟

قالت ضاحكة وهي تستعجله أن يرتدي ملابسه: وتقول يا أبي، يا أبي، والناموسة.

أدار محمود وجهه نحو الضوء الباهر الذي انسكب من النافذة بعد أن شدت أنيسة ستارتها القطيفة الخضراء: حلم غريب يا أنيسة، كابوس، كم الساعة الآن؟

قالت أنيسة وهي تفتح دولاب الملابس وتخرج منها بذلته الصيفية الرمادية التي يحبها: حتى المؤذن لصلاة الجمعة فشل في أن يوقظك، هل نسيت أننا ...

قال محمود متأوها: لا لم أنس، يا إلهي!

قالت أنيسة: حاولنا معك كثيرا، ونورة دقت الباب وفتحته أكثر من مرة، هيا شطف نفسك، الماء موجود لحسن الحظ، ونورة ... قال في لهفة وهو يشد نفسه من الفراش: ما لها؟ هل حرارتها ...

قالت أنيسة تطمئنه: درجة ونصف فقط، أعطيتها الدواء، المشوار أمامنا طويل. تمتم في قلق وهو يخفض رأسه إلى الأرض وكأنه يسلط عينيه داخل البئر: حالا، حالا. ثم وهو يرفع رأسه عنوة ويحدق في الضوء الساطع الذي غمر الغرفة وطارد كل الغربان والخفافيش والبوم التي حومت طول الليل في رأسه وبقيت تطن حول أذنيه: ولا بد من المرور على محطة البنزين.

قالت زوجته ضاحكة: وماذا أيضا ؟ - هل وضعت الكتب التي على المكتب في الحقيبة؟

قالت ضاحكة: كلها كما كانت، رجع الجمل بما حمل.

ودخلت نورة وهي تقول ضاحكة: وأنا رصصتها بنفسي يا بابا، سقوط قرطاج والعالم القديم والمدن الغارقة.

قال وهو يقرصها في خدها ويقبلها على جبينها ويلاحظ فرط شحوبها وارتفاع حرارتها: قلت لك أكثر من مرة: المدن المحترقة!

ثم لنفسه وهو يتجه إلى الحمام وصور الكابوس تتقافز حوله: ولا بد من زيارة أبي وأمي وإخوتي.

10

بصعوبة حشرت أنيسة جسدها السمين في المقعد الخلفي للسيارة الرمادية الصغيرة التي كانت تسميها الخنفسة المعدنية، وتبعتها نورة التي انزلقت وراءها وانزوت في الركن الأيمن من عش الصفيح كما كانت تفضل تسميتها، وبصعوبة أشد حاول الدكتور محمود أن يحافظ على توازنه على الرغم من حرمانه من قهوة الصباح المعتبرة من يد زوجته. جلس أمام عجلة القيادة وأخذ يحدق لحظات في العجوز الطويل المقوس الظهر، وتعجب كيف خطر له أن يناديه ليلة الأمس في ضوء القمر ببيت الأحلام والأحزان والذكريات والقصائد الأولى، ومسحت نظراته المسرعة أرض الحديقة وسورها المتهدم في أكثر من موضع، وتعجب أكثر لأنه لم يفكر حتى في البحث عن بستاني يبعث الحياة في جسدها المتيبس الذي امتلأ بالحفر وتشقق جلده من الظمأ والإهمال، وتعمد أن يشيح بوجهه بعيدا حتى لا يصدمه منظر الغراب الذي استقبله عند وصوله بالنعيب ويصر الآن على أن يودعه بالنعيب، وخشي أن تنهال عليه صور الكابوس الذي لم يفق منه تماما، فسحب الكابح وأدار المفتاح وتأكد له من مؤشر البنزين أن الخنفسة المعدنية لن تصبر على العطش أكثر مما صبرت.

انطلق على الطريق المسفلت الذي لمسته بركات الانفتاح. المزلقان العتيق سويت أرضيته وركبت عليه حواجز جديدة بألوان حمراء صارخة، ومحطة السكة الحديد والسنترال طالهما التجديد أيضا، وحظي الطوار بقطع البلاط الصغيرة المزدهية ببهجة الزهور، والمباني القائمة والفيلل الجديدة تشهد بأن المال يتدفق من كل المنابع المعلومة والمجهولة، تنهد وعينه على السكة وتابع اتهامه لنفسه: كل شيء يتغير، وأنت في كوابيسك من كل الأعماق والأزمان ! ونبهه صوت أنيسة إلى محطة البنزين التي لاحت جدرانها المكسوة بالقيشاني الأخضر وأبوابها الزجاجية الناصعة وتركيباتها وعداداتها المتناثرة أمامها كتماثيل خدم مهذبين. وقف في المجرى المحدد له ونزل من السيارة ليدل العامل الأسمر الطويل على فتحة البنزين والكمية التي يريدها، وحانت منه التفاتة إلى المبنى الزجاجي والمكتب الفخم الذي يجلس إليه في الداخل رجل سمين محمر الشعر والوجه بشكل لا تخطئه العين، وانشغل بالعامل والخرطوم ودفع الحساب حتى فوجئ بيد شديدة البياض والاحمرار تمسكه من ذراعه ثم تهز كتفه، وضحكة رنانة تسبق العناق الذي لم يتهيأ لضغطه الشديد على صدره: دكتور محمود هنا في البلد ولا حس ولا خبر. التفت إلى الوجه المحمر وأسعفته البديهة التي يشكو دائما من عدم حضورها في الوقت المناسب، فهتف وهو يقبل الوجه ويضم الصدر إليه: زاهر، أحمد زاهر! والله ابن حلال!

قال الرجل وهو يشدد قبضته على يده: كدت والله ألعب معك «صلح» وأغلبك كما كنا نفعل في حوش المدرسة! - ومع ذلك كنت أغششك في حصة العربي والإنجليزي.

ضحك الوجه المحمر حتى ابتلت عيناه الزرقاوان كعيون القطط المدللة: مقابل تغشيشك في الحساب، هل نسي المؤرخ العظيم مواهب جاره المستديم في الدرج والفصل؟ اليوم لنا، حلفت بالله وبرحمة والدي ووالدك، لا تحاول أبدا، مستحيل.

قال محمود وهو يشير معتذرا إلى زوجته وابنته المشدوهتين وراء زجاج النافذة في السيارة الصغيرة: لا أستطيع هذه المرة، وراءنا تحليلات عاجلة، ولا بد أن نلحق المعمل والطبيب.

أسرع زاهر إلى السيارة وحيى الزوجة والابنة وهو يقول لمحمود الذي لم يترك يده: والأسرة هنا أيضا؟ هذا أدعى لأن تقضوا عندنا يومين. ثم لزوجته التي فتحت الباب الخلفي وسلمت بابتسامة عريضة: نحو أخوان يا مدام، أربع سنوات ابتدائي كالتوائم، هل يرضيك أن يحرمني من رؤيته بعد العمر الطويل؟ هذا والله حلم، على فكرة محمود كان دائما يحلم يا مدام. قالت أنيسة وهي تضحك: وما زال يا أستاذ.

رد زاهر وهو يربت على كتفي صديق الطفولة: أريد أن أعرف فيم يحلم هذه الأيام ، هل قال لك إن الشيخ عمارة مدرس العربي في أول حصة لنا بالمدرسة رآه يحلم فظنه نائما وصرخ فيه مع ضربة شديدة على طربوشه أن يخرج بسرعة ليغسل وجهه وشعره بالماء.

قال محمود: إلا هذه، لم أقلها! يكفيها أن تلاحظها كل يوم. قال زاهر فجأة: أعلم أن المشروع كالحلم، البلد كله يتحدث عنه، مشروع ناجح مائة في المائة، أنا مستعد وتحت أمركم، قلت هذا للأستاذ سمير والأستاذ قنديل، ذكريه يا مدام بأن زاهر أخوه هنا في البلد، ومستعد من جنيه لمليون.

قال محمود ضاحكا: تقصد لأرنب كما يقولون؟

رد زاهر بسعادة غامرة: قل أرانب! كله من فضل الله، لا تنظر للبنزينة، عندي المضرب ومصنع الزيوت والصابون ومزرعة الدواجن وبساتين الموالح والتفاح وحظيرة المواشي، بفضل الله أساهم في أي مشروع.

قالت أنيسة: قل له يا زاهر بيه، إنه حزين على البيت والحديقة.

قال زاهر مستنكرا: عندنا بدل البيت ألف، يمكننا أن نفكر في مشروع مدرسة لغات على أحدث طراز ويشرف عليها بنفسه.

سأل محمود محذرا: ويدخلها الأيتام وأولاد الفقراء؟

قال زاهر وهو يغمض عينيه بخشوع: كلنا فقراء إلى الله يا محمود، كله من فضله وكرمه. كرر محمود مداعبا: والحديقة؟!

أكد زاهر وكأنه يحلف على المصحف: قلت لك من جنيه لمليون، إن شاء الله نعمل فيها مدينة دزني على قدنا والتذاكر بالشيء الفلاني. ثم استطرد بعد أن رأى محمود فاغرا فاه من الدهشة: ونعمل يا سيدي فيها ركنا للشعراء والعلماء من أمثالك، كله محسوب حسابه. أشارت أنيسة إلى زوجها من طرف خفي وهي تخبط على ساعة يدها. صافح محمود زميل الطفولة وهو يقول: لولا مرض نورة لقبلنا دعوتك، إن شاء الله تتعوض.

هتف زاهر بعد أن ثبت عينيه الكليلتين في زجاج السيارة وكأنه نسي أنه صافح نورة: ومعك العروسة ولا تقول. ثم وهو يمد يده من الزجاج المفتوح ويصافحها وهي منكمشة كالقطة الخائفة في ركن المقعد الخلفي: العريس عندي، آي والله، طارق آخر العنقود، ولد مودرن على كيفك، ويحافظ على الفرض أيضا ، إن شاء الله يتخصص في إدارة الأعمال وتكوني معنا على طول، هذه هي الطريقة الوحيدة ليتذكر أبوك أحبابه.

ضحك محمود وأنيسة واعتذرا آسفين عن عدم انتظارهما الواجب الذي ألح زاهر عليه، تصافح الجميع بحرارة، وقطع زاهر طقوس السلام والتوديع لحظات عندما رفع يديه ليتلو الشهادة ثم يمر بهما على وجنتيه مسبحا ومستغفرا بصوت عال، كانت هناك جنازة على الطريق إلى المقبرة، والنعش الذي يحمله على الأكتاف شابان نحيلان بقمصان بيضاء يظهر غطاؤه الأخضر وشال أخضر ملفوف حول العمود الخشبي البارز في مقدمته، وبعد أن مر موكب المعزين وفرغا من قراءة الفاتحة تصافحوا مرة أخرى، وانحنت أنيسة لتدخل من باب السيارة فسارع زاهر قائلا: لا تنسي يا مدام، فالنسيان والسرحان معروف عن محمود، فكريه أن زاهر أخوه وأنه دائما تحت أمره، مع السلامة، مع السلامة.

تمتم محمود بكلمات الشكر التي لم يستطع التلفظ بها بصوت مسموع، كانت الجنازة قد نبهته لنداء الواجب الذي كاد أن يسقط في بئر النسيان والكوابيس والمشروعات والأحزان الذي تعود ألا يخرج منه إلا ليقع فيه، وقبل أن يستقر أمام عجلة القيادة طفت فوق حافة البئر صورة وجه قديم فسأل صديقه وهو يفتح زجاج الباب الأمامي: سراج، هل تذكر سراج يا زاهر؟ صديقنا الذي كان يبلع الحبر باستمرار!

ضحك زاهر قائلا: عقبى لك يا حبيبي، هو الآن يبلع مال النبي!

ثم همسا وهو يدخل وجهه من النافذة: الأرانب تقفز عليه وحوله، وربك فتح عليه بالحلال والحرام، لا تخف عليه كما كنت تفعل دائما، هو الآن حوت يسبح في الممنوع.

لم يضحك محمود كما كان يتوقع، تذكر صورة ابن الذوات الجميل الذي كان يحبه ويؤثره على غيره من صبية الفصل على الرغم من شعوره بأنه ليس ابن باشوات مثله، وحدق في الطريق فوجد آخر المعزين يميلون إلى طريق جانبي ويختفون عن نظره، قال لنفسه وهو يلقي نظرة على سور المقبرة ويحيي زاهر على وعد باللقاء: هل يمكن أن أنساكم للمرة الثانية؟

11

بعد مسافة قصيرة ركن السيارة على اليسار تحت شحرة صفصاف تظل كوخا وزاوية صغيرة مفروشة بحصيرة نظيفة على حافة الترعة، كان قد حدد الطريق الضيق الذي انعطف منه آخر المعزين في الجنازة، فنزل من السيارة وهو يقول لزوجته: لن أغيب، سأقرأ الفاتحة وأرجع بسرعة، خمس دقائق فقط.

ومشى خطوات قليلة قبل أن يلمح المعزين المصطفين في صفين متقابلين لتقبل العزاء بعد إتمام الدفن، وتعمد أن يطرق برأسه وهو يشد ساقيه بأسرع ما يستطيع لكي لا يوقفه أحد، وحمد الله لأن أحدا لم يعرفه وإن كانت بعض الوجوه قد تطلعت إليه مستفسرة، وجرت نظراته على المدافن والأضرحة والأحواش التي لاحظ عليها آثار العناية والتنسيق وبدا بعضها فخما بصورة مبالغ فيها، لا بد أن هذا توسع حديث في المقبرة القديمة التي اكتظت بساكنيها. ولمح ثلاثة صبية عميان يهرعون بجلابيبهم البيضاء والعمائم الواسعة على رءوسهم وهم يندفعون ناحية اليسار حيث الضريح الضخم الذي انبعثت منه أصوات التلاوة والتكبير، وبدا أكثر من فقيه وتربي منهمكين في تسوية القبر المفتوح والقراءة على الميت، وقبل أن يتأكد من أنه أخطأ الطريق إلى مدفن العائلة طرق سمعه صوت ينادي اسمه وهو يضغط على اللقب العلمي الذي بدا غريبا مثله في هذا المكان، تلفت وراءه وهو يحس أن مشاعر الغضب والخجل التي لا بد أنها قد كست ملامح وجهه لم تفلح في إسكات الصوت اللحوح المندفع بغير مسوغ، ولم يترك له صاحب الصوت المقلق فرصة للتعرف بنفسه على الشخص الطويل النحيل الذي اقترب منه في حماس تسبقه يده الممدودة لمصافحته بقوة: دكتور، هل جئت تزور أحدا؟

توقف محمود حائرا أمام الجسد الطويل المندفع نحوه، وزادت من حيرته رهبة المكان وسحب الغبار والأصوات المرتلة ورنات البكاء الصامت المنفجر بين الحين والحين في شهقات متوالية، وقبل أن يجيب على الصوت والوجه الذي يطل عليه من أعلى أو يتعرف على صاحبه سمعه يقول: إنه والد زميلنا أستاذ العربي، رجل صالح ميسور، بنى هذا الضريح على مزاجه ولم يبخل عليه، الواحد منا يا دكتور يتمنى أن يعيش فيه طول العمر، أنا شخصيا أتعهد لأصحابه أن أتركه مباشرة بعد طلوع الروح، ويمكنهم بعد ذلك أن يرموني في مقابر الصدقة! سأل محمود وقد بدأ يتذكر الشبح الطويل الذي وقف معه في ضوء القمر وفوق أكوام الحجارة والزلط وشكائر الأسمنت وأسياخ الحديد خلف البيت العجوز. ولم يجد ما يقوله فاستطرد معلم المواد الاجتماعية بصوت أجبره المكان وتجهم وجه المؤرخ على الاحتشام: بيني وبينك يا أستاذنا، الحياة في أحواش الأغنياء ولا الموت في مقابرنا، هذه المقبرة الجديدة تثبت طبقية الموت.

تغاضى محمود عن النكتة الفجة ثم قفز فوق جثتها وهو يسأل مستنكرا: هل قلت المقبرة الجديدة؟

قال المعلم وهو يشير بذراعيه إلى الأضرحة الفخمة والدروب النظيفة المرشوشة بالرمل وشجيرات النخيل المتناثرة وأصص الورد والريحان والصبار الموضوعة أمام الشواهد: بالطبع، هل تزور أحدا من الطبقة الجديدة؟

ازداد تجهم وجه محمود وجمجم بكلمات مبتورة وهو يصافح المعلم مستأذنا ومهرولا على الطريق الذي أتى منه، لم يعد لديه شك في أنه أخطأ الطريق وعليه أن يسرع قبل أن تهجم شمس الظهيرة، وسرت في أعضائه رجفة الخجل والضيق والاشمئزاز من ضياع الوقت والذاكرة والطريق فوجد نفسه في لحظات أمام السيارة القابعة في هدوء على الناحية الأخرى، وتوقف لحظة وهو يحس أن نظرات أنيسة تتابعه وجزم بأنها تبتسم الآن سخرية وشماتة، إنه لا يعرف أين تكون المقبرة القديمة التي يثوى فيها مدفن العائلة، إلى اليمين أم اليسار؟ وما العمل إذا فقد الطريق مرة أخرى وأخذ يتخبط بين الترب القديمة المتآكلة الجدران؟ وهل يجد في هذه الساعة التي تسبق صلاة الجمعة من يسأله عن مدفن عائلته والحارس - إن كان للمقبرة حارس - غائب عنها ولا يدري كيف يعثر عليه؟ تغير كل شيء يا محمود وبقى الثابت هو نسيانك وغربتك في مقابر التاريخ، لعنة الله على التخلف في الموت وفي الحياة! ألم يفكر أحد في وضع دليل للمقبرة يتسلمه الزائر قبل الدخول من بوابة «ساحة السلام» التي كان يحلو له أن يقضي فيها ساعات من إجازة نهاية الأسبوع أثناء دراسته؟ وكاد يضحك من عبطه فرفع يديه وضمهما أمام وجهه، وواجه سور المقبرة الجديدة وهو يقرأ الفاتحة على أرواح أمه وأبيه وإخوته وأخواته وأرواح المسلمين، ولم يدر لماذا خطر على باله بيت الشعر القديم قبل أن يعبر الشارع إلى حيث تقف سيارته:

فدعني فهذا كله قبر مالك.

فتح باب السيارة وما زالت شفتاه تهتزان بالدعوات، وتحرك الموتور بعد أن أطلق من جوفه تأوهات غاضبة كزمجرة وحش يحاول أن يخلص جسده المتألم من شرك وقع فيه، وعندما سألته أنيسة: قرأت الفاتحة؟ رد عليها وهو يعلم أنه لا يصدق ولا يكذب: الحمد لله.

شد جسده وصدره وركز بصره على الطريق بعد أن أحس بالخجل والغضب والندم كالنوافير الدامية تمور في دماغه وتنثر البقع السوداء أمام عينيه، وبدأ الكابوس يتراءى له من جديد كحوت ضخم يظهر فوق الماء وينفض الأمواج المتكسرة والأسماك الصغيرة في كل مرة يطفو فيها على السطح قبل أن يغطس مرة أخرى، وأخذ يفتح أذنيه لثرثرة أنيسة ونورة ولا يرد عليها إلا بأقل القليل من الكلمات العابرة أو هزة الرأس: تعرف أن صاحبك زاهر رجل لطيف؟ - طبعا طبعا. - رجل مسعد بصحيح. - آه. - وهو يحبك ويفتح أبواب السعد في وجوهنا. - ادخلي أنت واتركيني في حالي. - طبعا سأدخل، هل تظن أنني درست إدارة أعمال لأربي أولادك فقط؟ - هذه أيضا إدارة أعمال. - لا يا عم، لازم الواحد يفكر في نفسه. - وفي خالد ونورة أيضا. - خالد حمله خفيف، كلها أربع سنوات ويتخرج من الكلية، ونورة ...

هتفت نورة متأففة: الدنيا حر يا بابا.

قال محمود وهو يلتفت إليها: ساعتين بالكثير ونصل إن شاء الله، وأسرعت أنيسة تقول: خلي بالك أنت من السكة، نورة طول عمرها حظها في رجليها.

سألت نورة: حظي في رجلي يا ماما؟ كلام يضحك.

قالت أنيسة وهي تحتضنها: لا هو كلام ولا يضحك، عريسك طارق في انتظارك وهو ابن صاحب بابا، المهم ربنا ياخد بيدك وتشدي حيلك.

استمرت الثرثرة المريحة ولم يجد ضرورة للانتباه إليها. كان الحوت قد طفا فجأة على سطح الماء الذي سكنت فوقه الأمواج كأن لم توجد ولم تضطرب أبدا، وبدا له أبوه واقفا فوق ظهره بجسده الممتلئ ووجهه الأبيض المستدير وهو يلوح بذراعيه ويثبت فيه عينيه البراقتين كأنور سفينة بعيدة تلمع وتختفي، تعجب كيف خرج من قاع البئر تحت البيت العجوز، وكيف استطاع أن يعبر المسافات ويلاحقه، ولكنه أكد لنفسه أن الكابوس في داخله وما زالت خفافيشه ترفرف حوله وأمام عينيه وتكاد تسد عليه منافذ الأفق، لا شك أن أباه لم يقل كل شيء، ولا هو أيضا استطاع أن يفضي إليه بكل شيء، فتح أبوه فمه ولكن أنيسة قاطعته عندما حذرت محمود قائلة: خذ بالك، الترعة على شمالك، ونحن لا نعرف العوم.

وكذلك حذرته نورة التي قالت ضاحكة: ولا نريد أن نغرق مثل مدنك الغارقة.

ضحك محمود وصاح مداعبا: إلى متى أقول لك المحترقة؟!

وعاد يركز على الطريق الضيق ويطارد البقع التي تتطاير أمام بصره كأسراب الطيور المخيفة التي رآها في فيلم لا ينساه، وانساب الحوار بينه وبين أبيه الذي ثبت فوق ظهر الحوت كتمثال بحار فينيقي قديم: لم تزرع الحديقة يا محمود. - وسط الخرائب يا أبي؟ - كل الحدائق كانت خرابا، ألم يجتمع فيه شمل العائلة؟ - تفرق القطيع يا أبي، والراعي ... - الراعي أهمل يا ولدي أو غاب.

أراد محمود أن يشرح له الأمر بالتفصيل ويعترف له بأن الشيخ حامد أو مصطفى ربما يكونان أصلح منه لحمل عصا الراعي، وتمنى لو يكشف له قلبه ليطلع على حيرته وتعاسته، لكن الأب رفع صوته الذي اخترق أذنيه بأوامره الصارمة في نفس الوقت الذي وصلت إليه صرخة أنيسة ونورة معا: حاسب! حاسب يا بابا!

كان صوت أبيه يتدفق في أذنيه: ازرع حديقتي! كن أنت الراعي! بينما كان مقدم السيارة يصطدم بعنف بعربة كارو كبيرة قادمة من الاتجاه المقابل ويجرها حصان بدا له في اللحظة الأخيرة عجوزا ضامرا بارز العظام، واستطاع أن يدوس الكابح في الوقت الذي ارتفعت فيه صيحات السائق الذي قذفت به الصدمة على الأرض ومعه ألواح خشبية حقق فيها بصره بعد ذلك ، وتبين أنها جذوع أشجار مقطوعة. هبط مسرعا من السيارة وجرى نحو سائق العربة ليطمئن عليه، وقبل أن يمد إليه ذراعه كان الشاب الأعجف الوجه والجسد كحصانه قد نهض وهو يضع يده على ظهره ويحدق في الأرض ليتأكد أن الدم لم يختلط بالتراب، أسنده محمود من كتفيه ودعا له بالسلامة: الحمد لله، جاءت سليمة. تخلص الشاب منه ووقف أمامه وهو يتأمله ويقلب عينيه بينه وبين العربة والجذوع المتساقطة على الأرض، وتأوه قليلا وهو يدعك ظهره بيديه ويرفع الجذوع من على الأرض ليضعها بالترتيب السابق على سطح العربة، قال محمود الذي غاب الدم عن وجهه: الحمد لله أنك بخير، الحصان أيضا بخير، هل تحب أن ...

قال الشاب الذي كتم غيظه عندما رأى الشعر الأبيض والنظارة المظللة الزجاج التي تطل منها عينان مفعمتان بالتعب والأرق والحنان: ربك هو الستار، يظهر حضرتك غريب عن هنا، قال محمود وهو يخرج حافظة نقوده من جيبه ويفتحها: وأنت أيضا؟ أرجوك تقبل ...

رد الشاب يد محمود وقال وهو يربت على رقبة الحصان وبطنه: العوض من الله يا بيه، المهم الحصان بخير.

قال محمود وهو يقدم له عدة أوراق خضراء: أرجوك يا ابني، ربما تحتاج لعلاج، هل هنا مستشفى أو إسعاف؟

قال الشاب مبتسما وهو يصعد فوق العربة ويمسك اللجام: الشافي هو الله يا حضرة، سليمة والحمد لله.

وانطلقت العربة بالشاب الذي لم يتلفت وراءه، كان من الواضح أنه يركز على الطريق ولا يرى أمامه بقعا سوداء ولا أسراب طيور مذعورة تحوم فوق حوت يقف على ظهره بحار قديم، وكانت أنيسة ونورة قد هزتهما الصدمة فلزتما الصمت التام، دخل من باب السيارة الذي كان لا يزال مفتوحا ولم يجد في نفسه القدرة على الكلام، وهز رأسه وهو يتحسر على القهوة المعتبرة ويقول لنفسه: آه! ما أنا إلا جذع مقطوع!

وعندما اتخذ مجلسه أمام عجلة القيادة كانت الأصداء البعيدة تتردد خافتة من بعيد: ازرع حديقتك! اجمع شمل العائلة! وصورة البحار الفينيقي الواقف على ظهر الحوت تتحول في لحظات إلى صورة راع في يده عصا طويلة وملك مكتئب يقدم له علامة الحياة وسائح أشقر الشعر في بدلة جينز وسمسار عريض الوجه ينادي على المزاد، كانوا يضحكون ويشيرون إليه، لكنه صمم أن يركز بصره وذهنه على الطريق الطويل الممتد أمامه.

الكويت، يونيو 1995م

الوصية

تعال، تعال ولا تتردد، لماذا تقف على الباب؟ ألم تسمع أنهم سموني فاتح الأبواب؟ كل بيوت الفقراء فتحت أبوابها لي، كل الأكواخ استقبلتني بالترحاب، حتى القلوب والعيون فتحت أبوابها ونوافذها ورفعت أستارها ولم تضن علي بأسرارها وأوجاعها، فلماذا أغلق بابي؟ ومتى كان لمن جعل العالم موطنه باب حتى يغلقه؟ وفي وجهك أنت الذي أحسست دائما بخطاه تتابعني أو تصحبني أو تسابقني على الطريق الطويل؟ أنت الذي شعرت بنظرات عينيه تترصدني في كل مكان، من النوافذ ترفرف بأجنحتها وتنقر الزجاج كقطرات المطر، من بين الأشجار المتشابكة والأغصان المتعانقة تطل وتهمس وتصوصو وتغني لحن القدر المحتوم، وحين أمدد جسدي المنهوك على صدر أمنا الأرض أو على فراشي الداكن الأغبر تحط عليه وتذكره بأنها ستبقى ساهرة مهما حملته طيور الأحلام إلى أرض المجهول، قلت: تعال. لم تتلفت حولك كاللص الخائف أو كالطفل المذنب؟ إنني على استعداد للقاء، كنت دائما على أتم استعداد! ألم تلاحظ أنني أمسك القلم وأحاول أن أكتب وصيتي؟ هل تكتب الوصية إلا بحضورك وشهودك وموافقتك على كل حرف فيها؟ لعلك تتصور أنك أخطأت العنوان؟ ولكن متى كان للكلبيين عنوان؟ حتى هذا المكان الذي سميته بيتي ليس سوى كوخ أهدانيه الطيبون مدى الحياة وهو يقولون: لا شفقة عليك أيها الكلب الطيب العجوز، بل إكراما لزوجتك وابنك، أم تراك تريد أن تتأكد من وجهي وخلقتي؟ نعم أنا المسخ القبيح، انظر، إنها ملامح من سموه الكلب الحزين، وإذا كان الوجه القبيح لا يكفيك فها هو ظهري، هل رأيت الحدبة التي يحملها كالصخرة الصغيرة؟ أليس عجيبا أن تنبت الشجرة العجوز هذا الحجر المستدير بدلا من أن تغذي الفروع وتندي الأوراق وترضع الثمار؟ نعم أنا المشوه الأحدب الحزين، أؤكد لك أنني هو، ولماذا أؤكد أو أقسم بالآلهة الكبيرة والصغيرة وهذا ما خطته يدي قبل قليل؟ أعرني أذنيك لا تكن متعجلا، فلا بد أن يتسع وقتك لقليل من الشعر، الشعر الذي يفاجئني للحظة بزيارته بعدما خاصمني طوال الطريق: أيها الشيخ الذي هدته أعباء السنين، لا تروقك هذه البداية؟ أأقول المسخ بدلا من الشيخ؟ أم أقول الكلب بدلا من المسخ؟ ليس الفارق كبيرا على كل حال، و«خارون» العجوز الذي سينقلني في قارب الأرواح لن يدقق كثيرا في الوجوه إذا قبض الأجر المعلوم.

أيها المسخ الذي هدته أعباء السنين،

والذي سموه بالأحدب والكلب الحزين،

اهبط الآن إلى «هاديس» قد حم اللقاء،

حاملا قيثارة القلب الذي كم مزقت أوتاره هوج الرياح،

فلعل الجرح يشفى أو تواسيك السماء،

عندما ينهمر الدمع على الصدر الحنون،

عندما تسكن نفسا ثم يطويك السكون.

ماذا؟! لا شأن لك بشعري ولا بوصيتي؟ معك الحق، ولماذا الحجج والمبررات ما دامت السكين حادة واللحم طريا؟ إذن فأنت تريد اسمي، بالطبع بالطبع، فكل ما قلت لا يغني عن التعريف، ولا بد أنك حضرت بعض دروسي أو دروس غيري من الثرثارين، وعلمت أن التعريف الصحيح من أصعب الأمور، إن لم يكن أقرب للمستحيل، إذن فاقترب أيها الضيف المتردد، وأكاد أقول أيها الضيف المقيم. •••

اسمي كراتيس، واسم أبي المسئول عن وجودي وتسميتي هو أسكونداس. كلانا من ثيبة، بلد البطل المسكين الآثم أوديب، لكن مأساتي ليست كمآسيه الدموية السوداء، هي إن تأذن لي بيضاء مرحة، تدعو للضحك أو البسمة فوق الشفتين، أو للحيرة والدهشة في العينين، كلبي آخر من أتباع الكلب الرائع، من حمل المصباح نهارا تحت الشمس الباهرة الضوء، من سار وحيدا في طرقات أثينا، في الساحات وفي الأسواق وراح يفتش عن إنسان، عريانا حافي القدمين يشق زحام الناس يصيح: أين الإنسان؟ أين الإنسان؟

أنا أيضا كلبي مثله، حافي القدمين تبعت طريقه، لكن ما أكثر ما ثرت عليه وتبعت طريقي، عضتني كل كلاب الأرض ولم أصبح كلبا، مثلت الدور كأني أبأس من أبأس كلب ضائع، كي أثبت أن الإنسان محال أن يصبح كلبا، حتى لو خاض بحور اللذة أو غاص عميقا في أوحل الشهوة وانسحر على عظم السلطة والثروة، آه! ماذا قلت؟ ولماذا أتسرع معك وأنت تريد الحق وفي يدك موازين الحق؟

أصغ إلي إذن يا قاضي الحق، كنت أعيش كغيري من أثرياء هذا البلد ولا هم لي إلا المتعة والشهرة، قصري كبير وضياعي واسعة وخدمي ومحظياتي وعبيدي أكثر من أن أحصيهم أو أعرف وجوههم، أموالي تربو كل يوم، وكرومي تسيل في كل الكئوس، وسفني ومراكبي تجوب كل البحار، واسمي وشهرتي على كل لسان، حتى رأيته ذات مساء يعرج على شاطئ الميناء، تركت العمال والبحارة والعبيد يفرغون السفينة من حمولتها وذهبت إليه. كان يبدو من هيئته ومشيته أنه كلب آدمي ضل طريقه إلى حيث لا يجد اللقمة ولا العظمة، معطفه القذر خرقة كالحة السواد ملطخة بالبقع مليئة بالثقوب، ورائحته العفنة وهيكله المهدم مثل صندوق باندورا الذي حشرت فيه كل الفظائع والشرور، وتحول إلى صندوق قمامة خاو حتى من روح الأمل، تقدمت منه وأنا أضع يدي على أنفي وقلت: أراك تبحث عن شيء أيها الشيخ، هل أستطيع مساعدتك؟ تجهم وجهه الصخري الممتقع وقال: البرميل، سرقوا البرميل. حاولت أن أضع ابتسامة على فمي قبل أن أسأله: البراميل هنا كثيرة ومن كل الأحجام، وسفينتي وصلت الآن وعليها ... ازداد عبوسه وتحرشت نظراته وعلا صوته الأجش وكأنه نتوء صخري يخترق أذني ولحمي: وما شأني بسفنك جميعا! أريد مسكني الذي سرقوه أو حطموه، سألت وأنا أتكلف الصبر والمودة: مسكنك؟ زام في غضب: نعم مسكين، ألم تسمع عن حامل المصباح الذي يسكن البرميل؟ ألم يقل لك أحد إن البطل الطائش قد زارني وأنا عاكف على التأمل داخله؟ ضحكت بصوت مرتجف وهتفت: أجل أجل! وقلت له ابتعد ولا تحجب عني ضوء الشمس! حدق في وقد تورمت تجاعيد وجهه وحرك شفتيه، فخشيت أن تبرز منها أنياب كلب عجوز: والآن يمكنك أن تنصرف وتتركني أبحث عن برميل يئويني. قلت بصوت منفعل بالرقة والحفاوة: كل براميلي تحت تصرفك ، قل أين يضعه عبيدي وسوف تحلم فيه الليلة أسعد الأحلام! أشار بيده ساخطا ورفع عصاه محذرا: أنت وعبيدك! قلت ابتعد عن طريقي! •••

لكنني لم أبتعد عن طريقه، ظللت أسأل عن أخباره وأقواله ونوادره حتى عرفت السبيل إلى مأواه وموضع إلقاء دروسه ولقاء تلاميذه، ما الداعي لأن أحكي كيف جرى ورائي بعصاه عندما لمح وجهي الناعم المنتفخ وملابسي المزركشة الفخمة وأخذ يدمدم ويزمجر: من قال لك إن الكلبيين يقبلون الكلاب بينهم؟ تحملت الضرب على رأسي وظهري وصدري أكثر من مرة. استعطفته وتوسلت إليه أن يجعلني تلميذه. جرني من قدمي على الأرض ورماني بعيدا كأنه يتخلص من جثة. قلت له جربني، لا تغتر بردائي الحريري وحزامي الذهبي وعربتي المطهمة، لا تتخل عني أيها الراعي، علمني أيها المعلم! أرجوك لا ترد سائلا يبحث عن جواب.

قام من مجلسه غاضبا ودفعني إلى الخارج وهو يسب ويلعن ويحرق جسدي بعصاه: قبل أن تتطهر من دنسك؟ تحسست رأسي المشجوجة ومددت له كفي المخضبة بالدم: دنسي؟! لقد جعلتني أحلق فوق العتبة المقدسة، قل لي الآن كيف أستحق الوقوف عليها. زأر كأسد ضار: عندما تتضع مثلنا وتترك كل شيء، عندما تزهد حتى في الزهد وتصبح أفقر من الفقر، عندما تخرج من حظيرة الكلاب الآدمية لتستحق الدخول في حظيرة الكلاب الآلهية. صرخت من ألم العصا التي انهالت على رأسي وصدري وكتفي وقلت بإصرار: علمني كيف أخرج وكيف أدخل، كيف أكون تلميذك. رقت ملامحه الغليظة ورفع عصاه عني ورجع إلى مجلسه، ولمحت على فمه ظل ابتسامة، ففهمت أنه يسمح لي بسلوك طريقه. وبدأت أواظب على حضور دروسه وسماع مواعظه وحكمه حتى اقتنعت وصممت. كانت الهواجس قد أخذت تعضني قبل ذلك بسنين وسنين، وكنت أزداد جوعا كلما شبعت، وأحترق ظمأ كلما ارتويت، القصر بدأ يضيق علي شيئا فشيئا حتى أصبح كالسجن أو القبر، والخدم والعبيد والخيول والقطعان والعربات وطواحين الزيوت ومصانع الفخار والمغازل صارت أشباحا في كابوس يطبق علي بالليل والنهار. صحاف الطعام الذهبية الزاخرة بأصناف اللحوم والفاكهة تحولت إلى أوعية تنضح بالسم كلما رأيت جيوش الجوعى والشحاذين والمعدمين على الطرقات أو على عتبات قصري، والمحظيات والراقصات والمغنيات صرن في عيني جثثا ملونة كلما أبصرت العجزة والمرضى والعميان والمجذومين والمشوهين والقتلى العائدين من الحروب المستعرة بين دول المدينة في الأكفان والتوابيت. ومعارفي وحسادي من التجار والملاك والحكام والقواد والرؤساء والخطباء صاروا كلابا استفحل سعارها وارتفع عواؤها بعد أن تحللت دولة المدينة وتناثرت أشلاؤها في مهب الإعصار المنتظر، وظللت أدور على نفسي كالديك المقطوع الرقبة أو كالثور المذبوح قبل السقوط، حتى قر قراري يوما واخترت، ووقفت أمام خدمي وعبيدي وعمال مزارعي وضياعي وأعلنتهم بالقرار، لم أكتف بإطلاق سراحهم، بل وزعت عليهم ثروتي، حاولت أن أتوخى العدل فلم يبق أحد إلا وفاز بنصيب، وبغير أن أنظر خلفي غالبت لذة النظر إلى عيونهم الدامعة وغادرت بوابة القصر وعلى جسدي معطف متهرئ أهدانيه أحد العبيد الذين منحتهم أفخر ثيابي ومعاطفي وعباءاتي المطرزة بخيوط الذهب والفضة والمضمخة بعطور الهند وبلاب العرب السعيدة. لم أهجر القصر وحده بل هجرت تاريخي وخلعت أقنعتي ومحوت وعيي السابق وأنكرت جسدي القديم، اقتلعت جذور شجرتي بيدي وحملتها معي لأغرسها في تربة أخرى. سقطت منها أوراق السلطة والقوة والثروة والشهرة. طارت طيور الأحلام والأمجاد والطموح مذعورة خائفة، ومضيت أتعلم وأعلم وأروي كل الأشجار العارية بماء الحكمة والزهد والقناعة والرضا. فتحت في وجهي البيوت والأكواخ حتى سموني فاتح الأبواب، أدخل فأنبه النائمين وأواسي المحزونين وأمسح على رءوس المرضى اليائسين وأغيث المنكوبين في الزلازل والأوبئة، وفي الوقت نفسه أواجه غيلان السلطة ولصوص الشهرة والحكمة والدجالين الكذابين ينادون على السلع المعطوبة وبأرخص سعر! أواجههم بخرقي البالية ومواعظي المتزمتة، وأنقض عليهم كالكلب المسعور إذا انقض على السوط اللاسع في كف الحارس والشرطي الشرس، كم بيتا دخلت وسقيت العطشان من قربة حكمتي، كم كوخا أطعمت فيه الجوعان من خبز قناعتي، وكم أنذرت وحذرت الذئاب المحترفة والكلاب السمينة من كارثة الغرق في مستنقع اللذة والترف، والتحليق بأجنحة الغربان الناعقة بالثرثرة والادعاء، والخفافيش المتخبطة في جدران الأحلام والأوهام وبين أطلال المذاهب والنظم المتداعية ، كم قلت لأرباب المجد الخادع وملوك الذهب اللامع وذئاب العشق المسموم الآثم: هبات الحظ قشور في قاع اليم تدور، ومتاع العالم وهم، واللذة لهو وغرور. أما ما تتعلم وتفكر فيه بنفسك أو تلقاه من ربات الفن السبع، فملكك أنت ولن يسلبه أحد منك. تسألني:

ما هو حظك - بعد ضياع العمر - من الحكمة والعلم؟

فأقول قليل وكثير: ملء المكيال بقول تكفيني اليوم،

وفؤاد خال من غصص الهم! والجوع شفاء من يأس الحب.

فإن لم يجد فدع للزمن جراح القلب،

وإذا ما الليل اسود وسدت أبواب الدنيا في عينيك،

فشد الحبل على رقبتك،

وأرح النفس مع الجسم!

آه! ها أنا ذا أنساق مرة أخرى وراء الشعر الذي هجرني في شبابي ويصر الآن على أن يزورني معك، وأنسى وكيف أنسى العينين اللتين أنقذتاني من شد الحبل على الرقبة وإراحة النفس مع الجسم.

كانتا تتبعاني دون أن أشعر بهما، ترمقاني في المواقف الصعبة فتسكبان ماء الحنان على رأسي الغبي الخشن، وتسبحان بجسدي المرهق وعقلي المكدود من أرض الحرمان إلى سماء الحب والصفاء، لم أفطن إليهما ولا إلى الوجه الصبوح الفاتن إلا كما يفطن التائه في البيداء أو الضائع في الغابة المظلمة الكثيفة الأحراش إلى ومض البرق الخاطف والنجم المرتعش في الأفق البعيد، لكنها كانت هناك على الدوام، تراني ولا أراها، تسمعني ولا أحس صوتها، وتعد الطوق والقفص الذهبي للمخلوق العنيد العجوز الذي نسي نفسه وهو يحرس الأغنام الفقيرة وينبح الذئاب المسعورة ويمد يديه إلى المكسورين والمجروحين.

بعد أن وزعت ثروتي على عبيدي وخدمي وعمال مزارعي ومراكبي وسفني وحراس قصيري وسياسي خيولي ورعاة أغنامي وقطعاني، انتبه أهلي الذين باغتتهم المفاجأة، كنت أجتمع بأصحابي وتلاميذي القليلين تحت أريكة عتيقة على ربوة تطل على المدينة عند طرفها الجنوبي وتقع في خرابة رحبة تناثرت فيها أشجار الصبار والحجارة الكابية والشواهد الباقية من مقبرة مهجورة وأطلال معبد قديم، وكنت أواصل خطبي ودروسي مع مواصلة تعذيبي لنفسي وجسدي، في مبدأ الأمر كان جمهوري مجموعة من المتسولين والمتسكعين الذين دفعهم الفضول والفراغ لحضور دروسي، ثم توافدت أعداد أخرى من العبيد والمزارعين والرعاة والصيادين الفقراء، ومع الأيام تنادت أصوات المظلومين والمعاقين والساقطين في قاع «هاديس» مدينتنا المزدحمة كغيرها من المدن بالمنسيين، وازدادت شعبيتي كما يقال فشرعت وجوه بعض الوجعاء والرؤساء تظهر أبهتها وزينتها وسط جموع الأشباح المتلفة حولي كالزهور المعتدة بجمالها بين أوراق الخريف، كانوا يأتون رغبة في الترفيه عن أنفسهم والتسلي برؤية وسماع «الكلبيين»، أولئك الذين يدعون أنهم رسل الآلهة إلى البشر المتكالبين على اللذات والصراعات والطموحات، وأنهم ينقذونهم من حياة الكلاب التي يعيشونها بالإمعان في حياة الزهد والبؤس والعري والاستغناء التي لا يعرفها إلا أبأس الكلاب، وينصرف أكثرهم حين لا يجدون عندنا مذهبا ولا مدرسة ولا ثرثرة بليغة مما ألفوا سماعه في الأكاديمية واللوقيون وحديقة أبيقور. كنت أتابع أحاديثي عن الرجوع إلى الطبيعة والفطرة، وأصب لعناتي على المدينة والمدنية، وألقي أحجاري على مرايا الحضارة والتحضر التي يتلذذ أبناء نرجس المغرورين بالنظر فيها ليل نهار، وأسوق قطيعي المحزون في الحواري الضيقة والشوارع الموحلة والقرى المنسية والخيام والأكواخ المنبوذة على أطراف المدينة ونعيش كالكلاب لكي نقول بصمتنا وخرقنا البالية أنهم هم الكلاب. إن الإنسان قد وجد على الأرض ليكون سيد نفسه وحاكم عقله ومالك قدره، نعم! كنا نتضع إلى الحضيض ونتحمل احتقار السادة وسخرية الغانيات وهتافات الصبية وحجارتهم التي يقذفوننا بها لكي ينطق بؤسنا وعرينا بأننا الكلاب الحارسة للرعاة الحقيقيين: للحرية والإنسانية والسعادة والطبيعة الطيبة الحنون، لم أشك لحظة في أن طريقنا سيجتذب الطيبين مع المحتالين، والقديسين مع الأوغاد، والحكماء مع الدجالين، ولم أتوقف لحظة عن الحلم بالإنسان المثل والإنسان الملك والإنسان الإلهي الذي سيخرج من وسط حشود المحتقرين والمهانين كما تحتقر الكلاب وتظلم وتهان في المدن المسعورة، وعرفت وعرف أصحابي وتلاميذي أننا نذر الاحتجاج الصامت على هذه المدن. أجراس الخطر المعلقة في عنقها المهول، وبلغ الأمر حد التبشير بفردوس كلبي سميته «بيرا» وحاولت أن أقيمه مع تلاميذي على حدود الجحيم الذي نعيش داخل حدوده، ساخرا بطبيعة الحال من مدينة الثرثار الرائع أفلاطون، من حراسه الأغبياء وحكمائه المعتوهين وصناعه وزراعه المستعبدين وعدالته الظالمة ونظامه السخيف المستحيل. •••

وذات يوم ونحن في ظل الأريكة نجتر همومنا وذكريات خيباتنا ونستعد للقيام بجولتنا اليومية، إذا بعاصفة من الضوضاء المرعبة تزحف علينا، وعندما انجلى الغبار وأسفرت الأقنعة عن الوجوه تبينت ملامح أعرفها جيدا، كان نفر من أهلي وأقاربي قد انقضوا علينا كالوحوش الكاسرة. اضطرب نظام الجماعة فتقدمت الصفوف لأواجه خناجرهم وعصيهم وأكفهم الشرسة، وزعق صوت أليف: أيها المجنون الجاحد! كيف تبدد ثروتك على الكلاب! قلت بهدوء: هي ثروتي التي جمعتها بجهدي ووزعتها باختياري. قال شاب تفرست في وجهه طويلا قبل أن أتذكره: تترك أبانا المريض وتنثرها على حشرات الأرض؟ أجبت في هدوء أشد: وألقيها في البحر طعاما للأسماك، ما شأنكم أنتم؟! زمجرت الحناجر الصاخبة واشتعل الغضب في العيون المكفهرة: سنرفع دعوى الحجر عليك، سنثبت أنك مجنون أحمق، وأنك تئوي المجرمين وتحمي اللصوص وتتخلى عن لحمك وذوي قرباك. أردت أن أقول إنني لم أتخل عن أحد ولم أنس نصيبهم ولم أحم اللصوص والمجرمين، لكن اللكمات والصفعات والضربات التي انهالت على كتفي ورأسي وضلوعي غيبت صوتي وعقلي وألقت جسدي على صخور الحقد والكراهية، ولبثت وقتا لا أعلم مداه حتى فتحت عيني على الوجه الصبوح والعينين الواسعتين اللتين تسكبان ماء الحنان على الرأس المنهك الذي بدأ يفيق من الصدمة، قال الصوت الناعم الحنون: اطمئن يا راعي الطمأنينة! فر الكلاب والذئاب نادمين. قلت وأنا أستجمع أشعة نفسي وأوتار حنجرتي: هل كنت هنا عندما هبت العاصفة؟ قالت ضاحكة: أنا معك على الدوام، قبل العاصفة وبعدها! هززت رأسي متحيرا وسألت: أو استمعت إلي ورأيتني قبل الآن؟ علت ضحكتها قائلة: وصحبتك في جولاتك يا من لا ترى غير أفكارك ولا تسمع غير كلماتك! أردت أن أحتج على سخريتها وأخرج من دائرة حصارها ولكنها أسرعت بوضع يدها على فمي، ثم مدتها وجذبت رأسي إلى الوراء وهي تشير قائلة: انظر هذا الذي يراقبنا هناك. وانفلتت جارية وهي تصيح: إنه أخي بتروكليس، انتظر لحظة واحدة. حدقت في الشبح الواقف بعيدا بقدر ما استطاعت عيناي المتورمتان، كان واحدا من السادة الذين أعلنت عليهم حرب احتقاري وقذفتهم بحجارة لعناتي، يتدثر في عباءة سوداء فضفاضة، ويبدو تحت ظلال أشجار الصنوبر التي تغطيه ساعة الغروب في هيئة الذئاب الجشعة التي تتربص بأغنام المساكين. رأيتها تحرك يديها كأنها تؤكد عباراتها التي لا أسمعها وتدعم تصميمها عليها، وما هي إلا لحظات حتى رجعت ضاحكة كاللبؤة المنتصرة، تهتف صائحة بصوت ذكرني بصيحات عرافة أبوللو المشحونة بأسرار النبؤة: زيوس يدعوك للمثول أمامه، وهيرميس جاء يبلغك رسالته! سألتها في هدوء: زيوس ورسوله، ماذا تقصدين؟ قالت وهي تضحك وتمسك بذراعي: الرسالة واضحة يا فيلسوف الكلاب الإلهية! رفعت حاجبي دهشة فوضعت ذراعها في ذراعي وهي تدفعني إلى الأمام مع اندفاع جسدها اللدن الجميل وضحكات فمها الصغير العذب: لقد اخترتك وهو يريد أن يقنعك بأن تقنعني بالعدول عن اختياري! وشدت يدها على يدي، فسرى الدفء في دمي مع أغنيات الطيور التي هجرته مع أزمان وتركته لنعيب البوم ونعيق الغربان، وطفقت أفكر فيما قالته وأستعيده وأفسر ألفاظه التي أخذت ترتسم أمامي وتتشابك في بعضها كحروف لغة لا أفهمها ولا أدري كيف أفك أسرار رموزها، وعندما طارت حمامة يدها من يدي انتبهت عليها وهي تدق على فتاحة باب ضخم لم يلبث أن انفتح وظهر وراءه السيد الذي حدثتك عنه. قالت وهي تضرب صدره بقبضتها مداعبة: هذا هو شقيقي الفيلسوف بتروكليس الذي لم يعرفه أحد حتى الآن، وهذا ... قاطعها الشاب الطويل الواسع العينين وهو يصافحني: الفيلسوف الذي لا يجهله أحد. •••

وجدت نفسي في قاعة فسيحة تضيئها أنوار شموع انعكست ظلالها على وجوه تماثيل تحدق في عيونها الرخامية المطفأة من كل جانب، وفي صدر القاعة جلس رجل ضخم البنيان وقور الملبس والملامح والشعر الذي جلله ثلج الشيخوخة، أقبل علي مرحبا وشد على يدي ثم جذبني إلى ركن تحتله أصص تطلع منها شجيرات الصبار كصفحات سيوف خضراء لامعة: مرحبا بك في بيتي وفي قاعة «هيبا رخيا». سألت وأنا أخفض رأسي وبصري: مرحبا يا سيدي ، ولكن من هي؟ ماذا قلت؟ أقبلت مسرعة حين سمعتني وتدخلت قائلة: هكذا هو يا أبي، هل رأى أحد خطيبا يجهل اسم خطيبته التي لم تحب سواه؟! تلعثمت مرتبكا وأنا أقلب بصري بينها وبين أبيها: ولكن يا سيدي ... زجرها أبوها بنظرة غاضبة: هيبارخيا، اتركينا الآن.

دعاني إلى الجلوس منفردين في الركن القصي بجانب الشجيرات التي تلمع فروعها بأشواك ناتئة أحد من الظنون والهواجس التي تجرح عقلي. قال هامسا: أرأيت الآن أي ورطة أوقعتك فيها هيبارخيا بعد أن ورطتنا؟ حاولت أن أشرح له موقفي، فأشار بيده ألا أكمل، واستطرد يقول وهو يطرق برأسه الثلجي الشعر: هذه هي ابنتنا الوحيدة العنيدة، لم تكتف بترك أبيها وأمها العجوزين لتهيم وراءك أنت وأصحابك حتى جاءت بك لترغمني على ابتلاع قرارها، لا تقل شيئا! أعلم أنك كنت مشغولا عنها كما أعلم أنها لم تشغل بغيرك، لكني أطمح أن تقدر مشاعر أبوين عجوزين وحيدين، فكر كذلك ... قلت وأنا أسحب عصاي وأقف غاضبا: فيما سيقوله الناس ويروجه الأصدقاء والحساد من أرباب الثراء والشهرة، لا داعي لتضييع الوقت، تعالى يا هيبارخيا، تعالوا جميعا لأكملكم على طريقتي.

لم أنطق بحرف واحد، فالفعل دائما هو حجتي وبرهاني. وجدتني أخلع معطفي وهلاهيلي المليئة بالثقوب والرقع والبقع المسودة الداكنة كأنها خرجت لتوها من جحر الفئران، ألقيتها على الأرض ووقفت أمام عيونهم التي تحاصرني بدهشتها واستهجانها كالقرد العاري، ثم ألقيت العصا التي أستند عليها، فاصطدمت بالأرض وأخرجت صوتا مكتوما، وتناولت جرابي الجلدي المغبر الذي طالما جعلته مخدتي عندما أنام في العراء، وأخرجت منه الصحن النحاسي الصدئ الذي أضع فيه طعامي وأستغنى به عن موائد اللئام، وقلت بصوت رن بأرجاء القاعة الرحبة وارتعشت لصداه أجساد الشمع المرتعشة تحت نيران اللهب الأزرق: هذا هو عريسك، وهذا هو كل ما يملك، انظري وفكري جيدا ثم اتخذي قرارك.

تقدمت هيبارخيا بخطوات بطيئة نحو الكومة الراقدة في وسط القاعة كالشبح الفاتن الحزين لأويريديسه الخارجة من أعماق هاديس في أثر شاعرها الإلهي الملهوف. انحنت على المتاع المتهالك على الأرض مثل جثة قطة سوداء ظلت صغارها ترضع من أثدائها دون أن تدري أنها ماتت وتركتهم وحدهم، والتقطت المعطف البالي وبسطته على كتفيها قبل أن تدخل فيه ذراعيها، ثم انحنت مرة أخرى ككاهنة تؤدي طقسا مقدسا، فأخذت العصا والجراب ووضعت فيه الصحن الذي حملته بحرص وحنان كأنه تحفة ذهبية ثمينة، وأقبلت علي متهللة الوجه متألقة العينين مفترة الشفتين عن بسمتها الساحرة العذبة وهي تقول بصوت هامس ولكنه مسموع: وأنا رضيت بحياتك وقررت أن أشاركك فيها. ثم التفتت إلى الوجوه المذهولة ورفعت صوتها: أشاركك فيها حتى أموت معك ولأجلك يا زوجي وحبيبي الأحدب الحزين، هيا نخرج من هذا البيت ولا نرجع أبدا. •••

غادرنا القصر الشامخ والقاعة الفخمة دون أن نلتفت وراءنا. كانت دهشتي أعظم من دهشة أورفيوس لو كذبنا الأسطورة وتصورنا أنه وجد نفسه خارج العالم السفلي وفي ذراعه زوجته وحبيبته الجميلة، أما دهشة الأب والأم والأخ الغاضب فسمعنا أصداءها المدوية قبل أن نغلق باب السور من خلفنا. زعق الأب كالأسد المحتضر: وا فضيحتي في السوق والشارع ومجلس المدينة! وصرخت الأم المشلولة كأن الزلزال فك الأغلال عن جسدها وصوتها المرتجف: ضاعت ابنتي وجنت! وانتهت إلينا صيحة الأخ الثائر يهدد بالانتقام من الكلب العجوز الذي ربط الزهرة في ذيله وهرب. وشدت هيبارخيا على يدي وهي تقول: يكفيني أن أكون معك ولك. نظرت إليها وابتسمت: إلى الأبد؟! قالت بتواضع كلبية أصيلة: إلى آخر العمر المحدود على الأرض المحدودة.

لم تكن حياتنا سهلة، لا نحن وحدنا أو تحت الأيكة مع رفاقنا ولا بعد أن وهبتنا الآلهة ابننا بازيكليس. كنا نواصل جولاتنا اليومية فنطوف بالقرى ونعبر الحارات الضيقة المظلمة ونصعد السلالم الهشة المتآكلة إلى البيوت والأكواخ المنسية. نهب سلام الروح ونسكب خمر الطمأنينة في أفواه الظمأى والمرضى المحتضرين، ونوزع خبز الحب والرضا الطازج مقابل لقيمات وجرعات لبن أو نبيذ تجود بها أيد محبة رحيمة من النوافذ والأبواب التي سمانا أصحابها فاتحي الأبواب. احتملنا الكلمات واللعنات التي كانت تنهال علينا أكثر وأوجع من حجارة الصبية الأشقياء، الذين يزفوننا كالمهرجين ولاعبي السيرك وحيواناته الوحشية والأليفة، وكم ترددت الشتائم الساخرة في أذني، فأثارت رياح الغضب في رأسي وحركت أمواج الندم في صدري: انظروا أفروديت مع المسخ القبيح! من يصدق أن الحورية وابنة ملك البحر تهيم غراما بالقرد الكلبي؟ أين العدل وهذا التاج الذهبي على رأس الكلب؟! من ينقذ أميرة الفراشات والزهور من أنياب الكلب المسعور؟!

كانت هيبارخيا تجري وراءهم وهي تصيح: أنتم الكلاب الذين نحاول أن نجعلكم بشرا! ليس هو الكلب بل الكلبي الذي أرسلته الآلهة ليخرجكم من الحظائر الدنسة! رضي بأن يوصف بالكلبي كما رضي معلمكم سقراط بشرب السم، لكن لا التواضع ولا السم صنعا المعجزة. لماذا تنبحونه وتتركون الكلاب السمينة تسرق خبزكم وتبني القصور من لحمكم وعظمكم وتسوقكم إلى الحروب لتبني عروشها على أشلائكم؟! متى تفيق الكلاب المسعورة على دعوة الراعي الإلهي؟ ومتى تحرس نفسها من حراسها الذين يطوقونها بنير العبودية، ويلتهمونها واحدا بعد الآخر؟

كانت تقول ذلك للصبية المتحرشين بنا والأغنياء الذين يمعنون في السخرية حين يدعوننا إلى مآدبهم الحافلة ويلقون إلينا بالعظام وهم يلغون في لحوم الديوك والخراف والعجول المشوية ويضحكون: انهشوا وارجعوا إلى الطبيعة. وتثور هيبارخيا وتلقي بنفسها عليهم وتصفعهم على وجوههم وتتحمل وقاحة المتطاولين الذين يستعذبون الصفع ويهتفون بها: ليتك أيضا تعضين أيتها الكلبة الجميلة! وأخلصها من أيديهم ونغادر المأدبة والضحكات وبقايا العظام تنهال فوق رءوسنا، وأقول لها حين تنفرد تحت ظلال الأيكة أو تحت سقف كوخ يدعونا إليه مزارع أو صياد أو حطاب: أرأيت أن الحياة مع الحكيم الكلبي أقسى من حياة الكلاب؟ فتقول وهي تربت على رأسي ووجهي بيديها: من قال إن الأرض العطشى تندم على عناق السماء الممطرة؟ وأعانقها وأضمها إلى صدري وننصهر ونحترق ونلتصق وننسكب كلانا في الآخر، فتهمس وهي تسوي جدائلها السوداء الناعمة وتتخلل بأناملها غابات رأسي وذقني الكثيفة الخشنة وتقول وهي تتحسس بطنها المنتفخة: وكيف أندم على العودة معك إلى الطبيعة بعد أن أصبحنا شجرة واحدة تنتظر الثمرة التي تنضج في جوفها وقريبا تتدلى من فرعها؟! وأنظر إليها نظرة الكلبي المتشكك التي تعرفها فتندفع إلى وجهي الممسوخ وتغمره بالقبلات ونسائم أنفاسها العطرة تهب على كل مسامي: كنت في قصر أبي كلبة حمقاء مدللة فأعدتني إلى طبيعة البشر، ألا تندم على كل لحظة قضيتها بعيدا عنك وعن الطبيعة الطيبة؟! •••

لكن عضات الندم زاد وخزها في لحمي وضميري بعد أن وضعت ابننا المسكين الضائع بازيكليس. صحيح أن عطايا الأصحاب والأتباع الذين انضموا إلى جماعتنا قد راحت تنهمر علينا كل يوم، والأبواب التي تفتح في وجوهنا والأعناب التي تقبل أقدامنا قد زادت بلا نهاية في القرى والمدن الصغيرة ومرابط الخيام المتنقلة وتجمعات الصيادين والمهاجرين واللاجئين والمنفيين وحجاج المعابد المقدسة ورواد الألعاب الرياضية والمسرحية والغنائية بأفراحها الدائمة، غير أننا كنا نعود في أكثر الأحيان يائسين متعبين إلى ظل الأيكة ونحتمي تحت سقف تعريشة من أغصان الشجر وألواح الخشب وأعواد القش ونضع هياكلنا المحطمة ونفوسنا الكسيرة ورءوسنا المنهكة على المخدات الحجرية الخشنة، ونمد أعضاءنا حول موقدنا الطيني الذي تختنق نيرانه تحت ركام الفحم والخشب والرماد، كنا نخفي تعبنا ويأسنا وراء النظرات المحبة والضلوع المشتعلة بخيبات الأمل في الكلاب والبشر والالهة والشياطين، وكانت جمرات الندم تتوهج في باطني وتلسع حطام ضميري كلما رأيت الوجه الفاتن الصبوح كالقنديل الصامت الذي خبا فتيله وشحبت ألوان زجاجه، وكان أكثر ما يؤلمني أن أرى منظر «بازيلكيس» وهو يتقلب في حضنها ويصرخ بحثا عن صدرها فيجاوبه نباح كلاب بعيدة وحفيف أوراق تجلدها الريح وتلسعها سياط المطر المتساقط. لم يبخل علينا بعض الكرام الذين انضموا إلى جماعتنا بتقديم المأوى والملاذ، لا سيما حين يشتد برد الشتاء وتمتد مواسم المطر وتحتد نوبات الأنواء وزخات الأمطار. وكانت هيبارخيا هي التي تبادر بالاعتذار عن قبول الدعوات وتحتج بالوفاء للطبيعة والإخلاص للمثل الحي المتجسد، حتى فاجأنا بزيارته ذلك الرجل ذو الوجه الصغير الطيب الذي كنت قد نسيته. قال وهو يفترش الأرض بجانبي ويحتضن بازيلكيس الذي سرعان ما يفلت من بين ذراعيه ليواصل ألعابه المضحكة: سيدي، لقد جئت أقدم إليك بيتي الصغير الذي سبق أن أهديتني إياه. قلت في نبرة لم أستطع إخفاء غضبها وضيقها: لست سيدك ولم تعد عبدي، والهدية التي تتحدث عنها لا أذكرها. قال الرجل: كان كوخا يتوسط مزرعة صغيرة، وكان من نصيبي عندما وزعت ضياعك وبيوتك وأراضيك وأنعمت علي بالحرية. أصلحت الكوخ وتعهدت المزرعة ثم أهملتها بعد أن نمت ثروتي واتسعت تجارتي وجرت العملات الذهبية والفضية في يدي، هل تتنازل وتقبل أن أرده إليك؟ قلت وأنا أتابع ولدي وأتصور زوجتي بعد رحلة الشقاء اليومية: ولكننا صرنا طبيعة أخرى بعد أن توحدنا بالطبيعة واحتقرنا المدينة وكلاب المدينة!

عاد يلح من جديد وهو يحدق في وجهي الذي تحجرت تجاعيده وذبلت ملامحه واسودت مثل قناع شيطان تعس: الكوخ والمزرعة الصغيرة عاريان من مظاهر المدنية، ولن تخون عهدك للطبيعة إذا نمت مع بازيكليس تحت سقفه! أطرقت طويلا وتذكرت الكوخ الصغير الذي كنت ألجأ إليه قديما لأستريح من عناء اللهاث وراء الثروة وأتقي سهام المتآمرين على مزارعي وسفني وتجارتي بالغدر والطمع والفتنة، وتأملت الوجه الصغير الذي كان يدخل علي تسبقه ابتسامته، فأسلم له ساقي ليدهنها بالزيت، وأذني ليسليهما بحكايات أيسوب وأمثاله، وحكم صولون والحكماء السبعة، والنوادر التي تروى في السوق والشارع وقاعات الضيوف ومآدب الأثرياء والرؤساء وأكواخ العجزة والمرضى والفقراء عن معلمنا سقراط الزاهد الحكيم وعن معلمي صاحب العصا والمصباح وعني أنا المسخ الأحدب الحزين. ضحكت كثيرا وسرحت طويلا وتأملت عيني عبدي السابق وسكت. هل أصبح حقا من كبار الأثرياء والوجهاء؟ هل مد يديه لأمثاله السابقين من العبيد والمحرومين؟ كنت متعبا من أحوالي وأحوال المدينة فلم أشأ أن أضيف متاعب جديدة، ويبدو أنه قرأ المكتوب على ألواح خواطري السوداء فقال وهو يمد إلي يده بمفتاح ضخم: لم يتغير شيء ولن يتغير يا سيدي، خذ مفتاح الكوخ وأغلقه عليك وعلى أهلك جيدا. قلت في دهشة: وماذا أفعل بالمفتاح يا ... قال: أندروكليس يا سيدي، صاحب النوادر والحكايات والطرائف والأشعار. قلت: نعم يا أندروكليس، ولكن ألم تسمع أنهم سموني فاتح الأبواب؟ قال: سمعت هذا وأكثر منه يا سيدي. رفعت صوتي غاضبا: قلت لك لم أعد سيدك ولم تعد عبدي، ما الفائدة من كل حياتي وعذابي لتحرير الإنسان من الكلب الكامن فيه؟ ولماذا أغلق بابي بالمفتاح وكل الأبواب مفتوحة في وجهي؟ قال وهو يستعد للانصراف وتلح علي ذراعه ويده بأن آخذ منه المفتاح الحديدي الصدئ: لا تقل كل الأبواب يا كراتيس، لا تتصور أن شيئا تغير أو سيتغير! دفعت يده الممدودة كمخلب نسر عجوز وأنا أصيح: الكلبي الأباس من أبأس كلب لا يحتاج إلى مفتاح، لا يحتاج إلى كوخ!

كانت هيباشيا قد رجعت من طوافها اليومي فسمعت صيحتي ورأت الرجل، قال لها في هدوء وهو يضع المفتاح في يدها: من أجل يازيلكيس ومن أجلك يا سيدتي، حاولي أنت أن تقنعي سيدي القديم العنيد.

وعرفت هيباشيا ما دار بيننا فسكتت طويلا. نظرت إلى وجهها الذي غطته سحب الحزن والوهن والذبول، فلمت نفسي ولذت بالصمت، وأقبل يازيلكيس فاحتضنته وقالت: من أجل صدري وصدرك اللذين افترسهما السعال سأوفر على نفسي النقاش الطويل، وانحنت علي وتفرست عيناها الجميلتان في وجهي، وقالت وهي تشد ذراعي بلطف وتضع يدها في يدي: هيا بنا، يبدو أن شيئا لم يتغير ولن يتغير! •••

سرنا إلى الكوخ الذي تذكرت مكانه بعد السنين الطويلة، ووضعنا فيه متاعنا «الكلبي» الفقير، أصبح لنا سقف نبيت تحته وجدران تحمينا من المطر والريح، واستمرت حياتنا وجولاتنا اليومية ولقاءاتنا تحت الأيكة ومواعظنا وحكمنا ونصائحنا ونواهينا التي أخرجها من جرابي الجلدي القديم وأتلقى في مقابلها أرغفة الخبز وقطع الجبن وفواكه الأرض وخضرتها حينا، كما أتلقى الشتائم والصفعات والركلات والبصق في وجهي حينا آخر. لم يتغير شيء كما قلت لك، ولكن بدأ ابني بازيلكيس يتغير، ومع أني كنت ألاحظ أن النور في قنديل هيبارخيا بدأ يخبو وتزحف عليه ظلال الصفرة والسواد، وأن الشيخوخة بدأت تثقل من وطء الصخرة التي أحملها على ظهري، فقد كان أكثر ما يحزنني أنا وهيبارخيا أن ولدنا يتغير في الوقت الذي تكرر فيه عيوننا الصامتة ما قاله عبدي السابق ذات يوم: لم يتغير شيء يا كراتيس ولن يتغير شيء، لا الأثرياء تحولوا عن جشعهم، ولا الحكام كفوا عن مؤامراتهم وصراعاتهم، ولا الفلاسفة - ومنهم شقيق هيبارخيا وتلاميذه البارعون في الجدل - عدلوا عن ثرثرتهم وبناء قصورهم فوق السحب وعلى أكف الرياح، حتى الفقراء والمساكين الذين عشنا لهم قد ازداد تكلبهم واستفحل سعارهم وعضهم لبعضهم وتركوا الكلاب الحقيقية والذئاب الطاغية الضارية. ومع أن القليلين من رجال السلطة كانوا يزوروننا بين الحين والحين - ومنهم قاضيان ورئيس شرطة سابق أدركوا أخيرا أن القانون ليس هو السيد ولا أحد يخضع له - فقد كانت المدينة تتحلل أمام أعيننا، والإنسانية والفضيلة والحرية والبساطة والاتضاع وسائر الخيرات التي بح صوتي في الدعوة إليها تتساقط كأوراق الخريف الذابلة تحت أقدام الجميع.

وآه يا ولدي الضائع! بدأنا نلاحظ أن رياح التغير قد عصفت بك، فمجادلاتك معنا لا تنتهي من كثرة ترددك على مجالس الحكماء الثرثارين، وتطاولك على أمك وعلي يزيد كل يوم عن كل الحدود، وإعلانك عن عزمك على التبرؤ من أبويك واحتقارك لملبسهما ومأكلهما وكلامهما يزداد تبجحا إلى درجة لا تطاق، وبدأت مطالبك تفوق كل قدراتنا التي وقفناها على الزهد والتخلي عن مظاهر القدرة والتملك، وكم صرخت في وجوهنا الذابلة من شظف الحرمان أن تواضعنا ضعة، وزهدنا عجز، وفقرنا غباء، وصمتنا عي وبلاهة، وأننا - ويا لقسوة اتهاماتك يا بني! - أشباح كلاب مهزومة في عالم لا يبقى فيه حيا إلا الذئاب الضارية والسباع الكاسرة والثيران الهائجة والنمور الجريئة الوثابة.

حاولت أن أجرب معك كل سبيل، لكنك لم تصبر على كلامي ولم تطق سماع صوتي، ولم تملك إلا الاحتقار لي ولمن علموني وعشت وفيا لهم. لم تصدق أن الإنسان يصبح أقوى ما يكون عندما يزهد ويتخلى، ولم أفز منك إلا بالضحك علي كلما حاولت أن أقنعك بأن الغني حقا هو المستغني، وأن الإنسان لا يكون سيد نفسه وقدره بما يملكه ويخزنه، بل بما يكونه ويزهد فيه. وأخذتك يوما معي لترى ديوكليس الذي استطعت أن أهديه إلى طريقنا وأرغبه في حياتنا وأدفعه إلى مشاركة البؤساء والمساكين من مواطنينا والتعاطف مع كل الكائنات المعذبة. لكن ماذا كان تصرفك وكيف فعلت فعلتك الطائشة؟ كنت قد اتفقت مع تاجر الأغنام العجوز الفاحش الثراء أن نلتقي على شاطئ البحر ليختم عهد الوفاء للطريق الجديد ويدفع ثمن الرجوع عن حياة الكلاب إلى حياة البشر. قلت له لا يكفي أن تترك بيتك وتحرر عبيدك وترفع عبء الديون عن المزارعين في ضياعك وتوزع عقارك وأراضيك ورياشك وأملاكك على الفقراء والمحتاجين من أهلك وجيرانك. لا يكفي أيضا أن تجعل ضياعك مرعى حرا للأغنام وحظائرك ومخازن غلالك مشاعا للرعاة والسياس والخدم والعاملين، اشترطت عليه أن يتجرد من ملابسه إلا الخرقة التي تستره، ويتخلص مما ادخره للأيام من عملات ذهبية وفضية حتى يمكن أن يشاركنا جولاتنا اليومية، وافق على كل شيء واتفقنا كما قلت على اللقاء على الشاطئ في مكان بعيد عن فنارة الميناء ومواقع الشرطة والجمارك وحراس الحدود، وعن أبعد أكواخ الصيادين، وجئت معي يا بني بعد الرجاء والإلحاح من أمك ومني، ووصلنا إلى المكان وعرفتك بالرجل الأصلع القصير الذي كان يوما هو المسئول عن إطعام «ثيبة» باللحوم. ورأيت بنفسك كيف وقف أمام البحر في خرقه الرثة الممزقة، وكيف فتح صدره للريح وقال: الآن أعاهدك أيتها الأمواج الأزلية المد والجزر أنني سأثبت على نقائي وعريي مثلك عن كل شيء، الآن لن تستطيع قشة واحدة من متاع الدنيا أن تتعلق بي إلا إذا أصبحت جثة فوق جسدك الناعم الطري! ولن تستطيع أن تصمد أمام قوة يقيني وزهدي فيها إلا كما تصمد أمام قوة اندفاعك وغضبك وثورتك المزبدة التي تلفظها على رمال الشاطئ، ومد يده البيضاء السمينة إلى داخل كيس ضخم حمله معه وأخذ يلقي القطع الذهبية والفضية واحدة تلو الأخرى فتلمع في ضوء الشمس الغاربة ببريق ذهبي خاطف قبل أن تتلقفها أمواج البحر وتلقمها أعماقه السفلية الشرهة، كان يضحك ويصرخ ويبكي بجنون، وكنت تصرخ أنت أيضا وتحاول أن تمسك يده وتنتزع الكيس منها وأنت تهتف: دع الكيس أيها المخبول! إن كان أبي قد غرر بك وزين لك الإفلاس فانظر إليه لترى المصير الذي أوصلته إليه خزعبلاته، انظر إلي لتعرف مدى جنايته علي، أبق على البقية الباقية أيها المعتوه حتى لا تفيق من السكرة يوما فلا تجد اللقمة ولا الجرعة ولا الدواء، انتظر ولا تجعلني أقذفك في الماء، انتظر ولا ...

لكن ديوكليس لم ينتظر ولم يؤجل خلاصه، وعندما انتهى من إفراغ كيسه التفت نحوي وقد احاطت برأسه اللامع - كالمرأة المتموجة الألوان بحمرة الشفق المتوهج! - هالة النور التي تجلل كتيجان الغار الأبيض المجيد رءوس الأبطال الخالدين، عندها وقفت بعيدا وأنت تقلب عينيك بين جنون الأب وصديقه، حدقت في وجوهنا برهة قبل أن تشير بيديك وذراعيك إشارة يائسة ثم تدير لنا ظهرك وتحرك ساقيك نحو المدينة وأنت تقول بصوت مختنق بدموع الوداع وسورة الغيظ والاحتقار: معذرة يا أبي، هذه آخر مرة أراك فيها أو تراني. •••

آه يا ولدي الضائع المسكين! انطلقت لم تلتفت وراءك، دفعت مركبك الهارب الغاضب أمواج أعتى من أمواج البحر الذي وقفنا على شاطئه، لم تنظر مرة واحدة إلى الخلف لترى وجه أبيك المذهول من الصدمة، لم تلمح يديه وذراعيه اللتين مدهما نحوك وهو يقول ولا تسمعه: عد يا ولدي! إن لم يكن من أجل أبيك فمن أجل أمك!

حاول ديوكليس أن يخفف لوعتي ويسري عني بينما كنت أسير بجواره وأسمع أصواته ولا أسمعه. قال لي: سيرجع لا تقلق عليه. هذا الشباب الطموح الثائر بغير ثورة سيرجع يوما وليس معهم إلا حصاد المر والتراب والهشيم الذي يلقونه أمام آبائهم وهم يقولون: اغفروا لنا أيها العجائز، فالعالم خيب آمالنا كما فعل معكم! لا تبتئس يا صاحبي، ربما حبب إليه قلبه الطائش أن يذوق طعم المغامرة، وربما اتفق مع رفاقه أن يخرجوا ويجربوا، ألا ترى أنهم معذورون؟

قلت بامتعاض: أي عذر هذا الي يبرر لهم التخلي عن آبائهم العجائز؟ قال كأنه يفضي بسر هائل: ألا تشم رائحة العفن تتصاعد من المدينة وتطوقها وتخنقها كما يخنق القط الوحشي صغاره العميان قبل أن يلتهمهم؟ ألم تسمع فضائح الفساد التي ذاعت إلى حد الملل على كل لسان؟ وكيف يجد الشباب الضائع المضيع قوته وشرابه بعد أن يئس من العثور على حريته وكرامته وكف حتى عن الحلم؟ هل وصلتك أخبار المقدوني الزاحف؟

التقط عقلي المقفل على أحزانه هذه الكلمة فسألت: تقول المقدوني؟

قال متعجبا من غيبوبتي وجهلي الفظيع: أجل أجل! هذا المتهور الذي يسحب وراءه أبناء الإغريق لتحقيق أحلامه المخيفة.

لم أعلق بشيء، كنت أشعر تحت وقر السنين وتفاهة الحصاد أن لا شيء تغير أو يمكن أن يتغير، مع ذلك كان قلبي يتنبأ بقدوم العاصفة، ولا بد أن ديوكليس السمين اللزج الذي راح يتدحرج بجانبي ككرة الدهن الملطخ بالأوساخ قد استرق السر من الخاطر العابر فقال بصوت مشحون بالجدية: العاصفة قادمة يا صديقي، لكن من أين ستأتي وكيف؟ هذا شيء لا يعلمه مثلي أو مثلك، ولكنه سيهز بيت الطبيعة الذي تدعونا لسكناه. •••

اتجهت إلى الكوخ مضطرب الأحاسيس والخواطر بعد أن لم أجد في القوة على البحث عن عبدي أندروكليس. كنت أريد تسليمه مفتاح الكوخ حتى لا أسمح لنفسي بأن يملكها شيء تتصور أنها تملكه، وكانت هيباشيا مشغولة بإعداد طعامنا القليل قبل أن نستأنف لقاءنا اليومي تحت الأيكة أو ننطلق في جولة جديدة. بادرتني بابتسامتها المرحة وسؤالها الأكثر مرحا عن أحوال الكلبي الطيب وأحوال العالم الشرير، تجنبت النظر إلى وجهها الصغير المضيء رغم خطوط التجاعيد التي بدأت تنقش آثارها تحت العينين وفوق الجبهة الناصعة، كنت أغالب البكاء وأقاوم الارتجاف وأحاول أن أبدو أمامها طبيعيا وأرسم على وجهي كلما استطعت علامة الاستبشار والطمأنينة، قالت: تعال انظر ماذا أعددت لكم قبل أن يأتي بازيكليس، أطرقت برأسي وأغمضت عيني وراحت يدي المرتعشة تحرك العصا في دوائر متلاحقة، ورفعت رأسي وتأملت وجهها الصبوح المرهق وأنا أنطق الكلمات المبتورة بتأن ووضوح: بازيكليس، لن، يأتي. تجمدت ملامحها وسألت: ماذا تقول؟! لم أجد ما أقوله، ولكن القلق الذي شلها من الرعب حتم علي أن أفتح فمي: أنا لا أقول شيئا، هو الذي قال هذا وذهب.

أسندت رأسي على يد العصا وتلقيت السيل العارم من الصيحات والصرخات واللعنات والتأوهات، أدركت ساعتها كيف يتلاشى الذكر الجريح المهزوم أمام بركان الأنثى المتفجرة بالحمم المحرقة، لم تكن هذه هي هيبارخيا التي عرفتها وأحببتها وعلقت قدري بنظرتها الحنون وابتسامتها العذبة الشافية، لم أتوقع كذلك أن تكون اختطفت الشال السماوي الأزرق الذي أهدته إليها امرأة حداد مريضة سهرت عليها قبل أيام وخرجت كهبة ريح مسرعة من الكوخ، وبقيت مسندا رأسي وخدي إلى العصا، متجمدا كتمثال صبت عليه «الميدوزا» نظراتها القاسية وحولته حجرا بدلا من الذهب. •••

ماذا فعلت يا كراتيس بنفسك وماذا فعل العالم وكلاب العالم بك؟ هل خذلك كل شيء حتى ابنك الوحيد أم خذلت نفسك وكل شيء؟ ولماذا لم تنتبه عندما بدأت الأجراس تدوي في أذنيك كنواح الثكالى: انصراف أتباعك واحدا بعد الآخر وضآلة شأن وعدد المنضمين إلى جماعتك والمستمعين إلى عظاتك المؤثرة هناك تحت الأيكة وسط الخرابة؟ كيف لم تفطن إلى غليان صدر ولدك - كالإبريق الفائر - بالاحتقار لعيشتك وملبسك وحكمتك وحمقك والكوخ الذي قبلت أن تقضي فيه بقية أيامك وماضيك الذي تخليت فيه عن كل شيء وتخلى عنك الحاضر والمستقبل والابن الوحيد؟ ورجعت هيبارخيا كالشبح الخارج من أعماق الظلمات السفلية، لكن كم كان الشبه بعيدا بينها وبين أو يريديسيه، أبعد بكثير جدا من الشبه بيني وبين العازف الرائع على القيثار، هذا الذي اجتذب الوحوش فركعت أمامه وراحت تنصت لسحر أغانيه، بينما ينفض البشر والكلاب من حولك ولا يبقى معك حتى بازيكليس؟

هل تعرف ماذا قالت بعد سكوت طويل؟ «ذهب!» لم أسألها عما فعلت بعد خروجها، لم أحاول الاقتراب من بئر أسرارها وظنونها ومخاوفها، ولا معرفة من قابلته ولا من سألتهم من أصحابه ورفاقه، رأيت شيئا واحدا يجمع ويفصل بيننا منذ ذلك اليوم: جدار الصمت.

جازفت بعدها بأيام وربما أسابيع أن أكسر ذلك الجدار الأسود، أو على الأقل أفتح فيه ثغرة، أو حتى أتسلقه وأخطف من ورائه نظرة إلى الوجه الحبيب والعينين اللتين لم يغب عنهما الحنو رغم ستار الحزن المتكاثف يوما بعد يوم، قلت فجأة : أنا واثق أنه سيرجع، واثق أنه سيرجع. نظرت إلي طويلا ورأيت بوضوح كيف تقيم سدا منيعا يوقف الحمم الفوارة في داخلها، وانفرجت أساريرها قليلا كأنما تتعمد أن تخترق الجدار الأخرس أو تذيب الجليد: أنا أيضا واثقة أنه سيرجع، لكن هل سيبقى؟ •••

ظلت حياتي وحياة هيبارخيا وأصدقائنا وأتباعنا وإخوتنا وأبنائنا على ما هي عليه، أخذت تتكرر كل يوم كما تكررت آلاف الأيام والليالي، أشبه بطواحين الزيت التي كنت أملكها أو بالأحرى تملكني، بالسنين الكونية الجبارة الغامضة وقانون الميلاد والحياة والموت الذي يفرض جبروته على كل حي، ربما لم يجد عليها غير القلق الغامض والخوف المجهول من إعصار قادم، إعصار كان يحدثني عنه الرفاق في رهبة كأنه سيهب علينا وعلى مدينتنا لا محالة، وقل عدد الأصحاب والأتباع كما قلت لك، ودب السأم من التكرار في الجميع دون استثناء، وحاولت جهدي أن أواصل رغم كل شيء: فأقدم النموذج الكلبي الذي عشت له وآمنت بأنه يمكن أن يجعل أهل مدينتنا يراجعون حياتهم الكلبية، ورحت أجرب وأتأمل كل شيء بنفس التعاطف والحنو الذي جذب أحب الناس إلي وأولادهم بالتعاطف والحنو، وكان الملل من الكائنات جميعا يزداد كل يوم مع تزايد عذابي وسأمي وعجزي وانتظاري، وتنظر إلي هيبارخيا ونحن تحت الأيكة وترسل من عينيها الوميض الحبيب المتألق، وعند رجوعنا لا تضن علي بلمسة دفء من يدها على يدي أو رفة بسمة من فمها الصغير الرفيق كوردة ذابلة، وكنت أغبط نفسي على هذا الحنان الذي لا أستحقه وأستعين به على مواجهة الجدار الأسود الذي لم يشأ أن يتزحزح عن موضعه.

وبدأت أنباء الإعصار تتسلل على ألسنة الناس، حذرة واهنة في أول الأمر ثم عالية مدوية بعد ذلك، وفي يوم من الأيام كنت راجعا إلى الكوخ بعد الطواف بجراب حكمتي وعظاتي ونصائحي على أبواب قرية صغيرة باغتها الجراد بعدما نسيها المطر، وفاجأني عجوز قميء خلته في البداية واحدا من رفاقنا وإن لم أتأكد من ذلك، كانت رائحته الكريهة المنبعثة من هلاهيله الذرة تشي بأنه كلبي وإن لم يسمع عن الكلبيين، وكانت الأبخرة العفنة الخارجة من فمه توحي بأنه سكير عنيد لا يتوب، أوقفني في منعطف الطريق الضيق المظلم رغم أن الشمس لم تكن قد غربت، وقال ضاحكا: ما رأيك الآن أيها الكلب العجوز؟ ولما لم يجد مني إلا الاشمئزاز من هيئته وصوته القبيح استطرد يقول من أنفه المفلطح: ها هو الإعصار يكتسح كل شيء أمامه، أليس كذلك أيتها الشجرة العجوز التي تسقطها هبة ريح؟ قلت في غضب وأنا أحاول مواصلة سيري: لا أدري عما تتكلم ولم أسمع عن هذا الإعصار - قال ضاحكا: ولم تسمع عن الجيش الذي احتل أثينا، وعن ديموستينيس الشجاع الذي هرب أو اختفى أو انتحر، وعن أرسطو الذي فر كالجرذان ولم يستطع أن ينتظر الإنقاذ على يد تلميذه العزيز؟ لم تسمع شيئا عن هذا؟

دمدم صوتي الغاضب بامتعاض لا مثيل له: قلت لك لم أسمع، لم أعرف. واصل الضحك وهو يرفع قنينة غامقة اللون إلى فمه المتآكل الأسنان: لا عجب، لا عجب، أنت وهلاهيلك وكلابك الحارسة التي لا تدري كيف تحرس نفسها ولا غيرها، انتهى زمنكم يا صديقي، هذا زمن آخر يأتي معه بأبطال وحكماء آخرين، اذهب إلى كوخك وتأكد بنفسك!

لم أرد عليه بكلمة واحدة، ولم أفهم ماذا يقصده بالذهاب والتأكد بنفسي، كان شبح اليأس والملل قد جثم علي وسد كل طريق، وانطلقت راجعا إلى الكوخ وصوته يردد في أذني: هذا زمن آخر، زمن آخر. •••

عندما اقتربت من الدرب الهابط إلى الكوخ الراقد في المزرعة الصغيرة المهجورة خيل إلي أنني أسمع هديرا كصوت البحر القادم من بعيد، خطوت خطوات أخرى فلمحت موكبا صغيرا من الخيول والفرسان الذين تلمع الخوذات فوق رءوسهم والدروع والسيوف في أيديهم وجنوبهم. كان الموكب الصغير يقف هناك بلا ضجيج، وكأن الفرسان ينتظرون الإشارة التي تأذن لهم بالحركة في اتجاه معلوم، ما هذا؟ من هؤلاء؟ ماذا يريدون؟ ولماذا ينتظرون قريبا من الكوخ الصغير؟ وفي حيرتي وتعثر خطواتي سمعت صوتا مجلجلا ينادي كأنه يزف إلي البشرى السعيدة: اقترب يا كراتيس، أسرع، أسرع ، أيصح بحق زيوس أن ينتظرك بطل الأبطال؟ أيصح أن يحضر لزيارتك ولا يجدك في انتظاره؟ الإسكندر بنفسه ينتظرك يا رجل!

أسرعت بقدر ما تقوى رجلاي على حمل جسدي المنهار، خيل إلي أنني أقفز كجدي ضامر عجوز، ودخلت الكوخ المفتوح الأبواب بعد أن ألقيت تحياتي المرتبكة على الحراس المتناثرين في كل مكان، لم تبحث عيني في أرجاء القاعة التي تضيئها المشاعل عن سيد الإعصار، بل راحت تفتش خائفة عن هيبارخيا حتى عثرت عليها مكومة كالطل الحزين في ركن معزول، كان الإسكندر يتجول في الكوخ ويلمس كل شيء ويفحصه كأنه طفل كبير يعبث بألعابه الصغيرة، وكنت أقف كالحجر المنسي عندما التفت ورآني وأشار إلي وهو يرفع ذراعيه في الهواء: أحكم حكماء ثيبة وأشهرهم يقف بعيدا ولا يتكلم؟! أتريد أن تستقبلني كما فعل معلمك المتوحش العجوز؟ حركت قدمي خطوة وأنا أقول: معذرة يا مولاي، لكنه كان في البرميل وأنا بين يديك، جلجلت ضحكته كصليل السيوف اللامعة المتدلية من خصور جنوده وضباطه وقال: لقد طلب مني أن أبتعد ولا أحجب عنه ضوء الشمس، ماذا ستطلب مني أنت يا كراتيس الطيب العجوز؟ قلت متلعثما وأنا أتطلع لوجهه الناضر الجميل وقامته الممشوقة الفارعة وخطواته السريعة القلقة كأنها تتحرك على إيقاع موسيقى خفية عذبة: عفوا يا مولاي، إنك تعلم أن الكلبيين لا يطلبون شيئا. مد ذراعيه القويين ووضع يديه الرخصتين على كتفي وقال: أعلم، أعلم، ويحيرني أنكم تحيون حياة الكلاب لكي يقلدكم الناس. جمعت أطراف نفسي الضائعة واندفعت قائلا: كلا يا مولاي، بل لكي يتجردوا من شهوات الكلاب ويصبحوا بشرا.

ضحك كأني نطقت بدعابة مسلية أو رويت حكاية عجيبة، وقال في ود ظاهر ولطف محبب: ليتكم عشتم حياة الأسود أو النمور أو حتى الذئاب أو الضباع لكي يقوى جيش الإغريق ويوحد العالم والبشرية تحت راية «هيلاس»، ليتكم ... قاطعته بحسم وقلت بكلمات واضحة: «نحن أيضا نؤمن بوحدة البشرية وندعوهم أن يحيوا أحبابا في بيت العالم، هذا هو ما نطلب يا مولاي.» نظر من النافذة الخالية من الزجاج والعارية من الأستار، وعاد يقلب في الصحون الصدئة المتراصة فوق المائدة الصغيرة المجدولة من أعواد الجريد، ومشى خطوات بجانب الحائط فوجد الجراب الجلدي القديم معلقا على مسمار ومعه بعض الهلاهيل، رفع رأسه إلى أعلى بعنف ثم تفرس في وقال: ولكن لا بد أن يكون لك طلب تريد تحقيقه، تكلم يا كراتيس الطيب العجوز، قل للإسكندر ماذا تريد؟

لمحت شابا يتقدم منه ويحني رأسه أمامه ثم يهمس له بكلمات، واستدار الشاب فرأيت وجهه والتقت عيناي بعينيه في لمحة خاطفة، صحت وقد أذهلتني المفاجأة: يا إلهي زيوس! هل يمكن أن يكون؟ حدق في الشاب محذرا وعينه تطق الشرار، بلعت الغصة وتوقف عقلي عن التفكير، أليس هذا هو بازيلكيس الحبيب؟ أليست هذه هي ملامحه ورأسه وشفتاه وعيناه؟ ألم أقل لك يا هيبارخيا إنه سيعود؟ لا بد أن يعود، وأيقظني صوت الإسكندر وهو يتحرك نحو الباب الذي سبقه بازيكليس إليه وقال بصوت المودع لصديق قديم: أعرف، أعرف يا كراتيس أنك لا تطلب شيئا لنفسك، لكن ربما تطلب شيئا لمدينتك، لقد دخلناها اليوم وتهدمت رغما عنا بعض المباني والبيوت، ألا تبتغي أن ترى مدينتك وقد أعيد بناؤها؟ لم يكن عقلي معه وإن كان جسده الممشوق يقف أمامي وسترته التي تلمع فوقها قطع السيوف والحراب الصغيرة والأزرار الذهبية تخطف بصري كالنجوم البراقة، قلت ورأسي ما زال يدور في الدوامة التي تموج وتفور حول بازيكليس المسكين: ولم التعب يا مولاي؟ سوف يأتي إسكندر آخر ويدمرها! ولدهشتي لم يغضب البطل الرائع اللامع اللطيف، قال في هدوء وهو يخبط كتفي كصديق قديم: سآمر ببنائها على كل حال قبل أن نواصل زحفنا الليلة، إنها وطنك يا كراتيس، أليس كذلك أيها الكلبي الطيب؟

وتحرك في سرعة الفهد المتوثب نحو الباب بينما تتخايل صورة بازيكليس أمام عيني وتراودني العبارة التي طالما رددتها وسمعها مني الناس وإن لم أقو على النطق بها أمامه: وطني هو الفقر والاستغناء، وطني هو احتقار الشهرة والثروة والقوة والجاه، وطني هو كل بيت وكل ...

انتزعت نفسي بقسوة وعنف من الخواطر والصور التي تزاحمت عليها، وبدأت أفيق على أصوات الأقدام التي تصعد الدرب الحجري الصغير، والسيوف والدروع والأسلحة التي تصلصل كصوصوة عصافير مشتبكة في قتال، ولم أكد أتحرك كالملهوف نحو هيبارخيا المتكومة في الركن الكثيف الظلال حتى وجدته يقبل مسرعا ويندفع نحوي ويضمني بقوة إلى صدره، هجم علي فجأة فلم أجد أنفاسي ولم أستطع التلفظ بكلمة واحدة: سامحني يا أبي، سامحني! لم أجد أستطع أن أقبلك أمامه! معذرة، معذرة يا أمي، أين أنت يا هيبارخيا الحكيمة؟ وقبل أن ترفع وجهها أو تفتح عينيها المحمرتين ألقى نفسه على صدرها وأخذ يغمرها بالقبل وهو يهتف في لهفة: لا وقت للبكاء يا أمي، سوف أعود، سوف أعود.

وقبل أن نفيق على المعجزة كان قد غادرنا ولحق بالموكب الصغير، آه يا ولدي بازيكليس! هل شعرت بكل الأحزان تتجمع في شهقة واحدة؟ هل فكرت فينا يا ولدي؟ يا ولدي الضائع المسكين! •••

تعال، تعال ولا تتردد، ها أنت قد استمعت إلي طويلا ولم تتكلم، وتكلمت أنا كثيرا ولم أترك لك فرصة للكلام، أم تراك تحب الفعل أكثر من تحريك اللسان؟ هيا إذن للقيام بمهمتك، ستجدني كما قلت لك على أتم استعداد. وصيتي؟! نعم نعم، كنت أكتبها قبل أن أحس بخطواتك، هيبارخيا الحبيبة أوصتني وألحت علي، وكل شيء بعد زيارة البطل الرائع المخيف يحرك يدي بالقلم الذي هجرته وهجرني من زمن بعيد، لماذا لا تظهر من خلف الباب أو النافذة أو الشجر أو السحب أو الضباب؟ أتريد أن تعرف ما حدث؟ •••

عاودتني آلام الصدر والأمعاء والساقين بعد ذهاب بازيكليس. كنت لا أكف ليل نهار عن السؤال الذي استعصى على أي جواب: لم تخليت عنا يا ولدي؟ هل خجلت أن تنسب إلينا؟ أصدقت أننا كلاب كما ينعتنا الصبية والأثرياء والأقوياء والبلهاء والثرثارون؟ لماذا لم تحس بنفسك أننا نمثل دور الكلاب لنخرج إخوتنا في البشرية من حظائر الكلاب الكبيرة والصغيرة التي يتمرغون داخلها في وحل اللذة والترف والصلف والغرور؟ أكان عسيرا عليك أن تشعر بخفق قلوبنا التي ترتعش بنبض قلوب الأشياء؟

وواصلت هيبارخيا جولاتها اليومية وبدأت أواصل جولاتي. كان الإعصار يعلن عن نفسه في ضجيج المدينة وعجيج المواكب وزعيق الأبواق والطبول وصيحات البشر التي أدرت لها ظهري كما أدرته لكل شيء، وخجلت أن أبقى قعيد الكوخ بينما تقوم هيبارخيا بتقديم العون والنصح والفهم في الشوارع والحارات البائسة والقرى والتجمعات القريبة والبعيدة.

ومضيت إلى الأيكة وأنا أقول لنفسي: لا بد أنهم يفتقدونني، وبنظرة واحدة من عيني الكليلة أدركت أنها خاوية كالخرابة التي تحيط بها، وما هي إلا لحظات لم تتسع لرياضتي الروحية حتى رأيت شبحا يتدحرج نحوي، وعندما اقتربت عرفت فيه أحد الفاضيين الوقورين اللذين خلعا مسوح القضاء ودخلا في رقع الزهاد والنساك. قال وهو يغالب اليأس والضجر ويتلفت حوله ممتقع الوجه كابي النظرات: جئت أودعك وأحمل لك توديع رفاقي، هذا زمن آخر. قلت وأنا أداعب عصاي وأنكث بها التراب: سمعت هذا من قبل، قال وهو ينقل خطواته وينبهني لأصداء الضجيج المتصاعد مع سحب الغبار من المدينة: زمن الإعصار، هيا يا صاحبي فعظامنا لا تتحمل عصف الريح وبردها القارص. أطرقت برأسي وسكت، ورأيته وهو ينحدر على الطريق الهابط إلى المدينة ويغيب ظله في ظلال الغروب الزاحفة، وأخذت أقلب طرفي في السماء والنجوم التي بدأت تعتلي سمت الأفق الساكن الصافي وقلت لنفسي وأنا أفكر في هيبارخيا الحبيبة: ليكن البشر قد تغيروا فهل يتغير الزمان والمكان؟ وإذا كان الإعصار يجرف كل شيء ويأتي بجيل غير هذا الجيل فهل سيستغني البشر أبدا عن التغيير؟

ونهضت كأني كومة أنقاض تتعثر وسط حطام وخراب، ولم أكد أبلغ منعطف الطريق المؤدي إلى الدرب الحجري الهابط نحو الكوخ حتى ظهر كذئب جائع انشقت عنه جدران البيوت الصامتة في الحارة الصامتة، قال كأنه كان ينتظرني: ألم أقل لك؟! هذا زمن آخر غير زمانك وزماني! مددت الخطى وأنا أهتف بامتعاض: سمعت هذا منك، اذهب الآن إلى الجحيم! ضحك طويلا وصاح بصوت لا يقل قبحا عن وجهه القميء الذي بدأت تبرز معالمه من أكفان الظلام: أذهب للجحيم الذي أعيش فيه ؟ وأين أجد النعيم الخالي من الذئاب والأفاعي والقرود والكلاب والحشرات؟ أي مكان بقي بعيدا عن إعصار الإسكندر وجيوشه؟ في قارة أطلنطس أم في الإيلزيوم أم في دولة أفلاطون الثرثار؟ لا يا كراتيس، لن تجدي شيئا أخلاقك وعظاتك وطوافك كالشحاذين المخبولين، لم تغير شيئا ولن تغير، لم يبق لمثلك أو مثلي. صرخت غاضبا: لست مثلك ولا أنت مثلي، اذهب ولا تلوثني، ضحك حتى استلقى على الأرض كحمار سعيد بالتمرغ في التراب وقال: مرحى! مرحى! لم أكن أعرف أنني أكلم أدونيس أو نرسيس، نسيت أنك تغيرت يا كراتيس الخسيس، يا زوج هيبارخيا التعس، تراجعت أريد أن أنقض عليه وأعضه ككلب حقيقي، وقف أمامي جاحظ العينين غائب النظرات أشعث الشعر ورائحة السكر والعفن تخرج منه كأبخرة تخرج من قبر، فارت الدماء في عروقي واشتعلت براكين الغضب والاحتقار، زمجرت ككلب مسعور: قلت لك اذهب عن طريقي. تحشرج صوته وهو يرفع القنينة اللعينة إلى فمه ويصب نيرانها في جوفه: لا تتعجل، سنذهب جميعا يا كراتيس، لم يبق لي أو لك إلا أن نكتم أنفاسنا بأيدينا، لم يبق سوى أن تعلن إفلاسك على مرأى من كل الناس في «الأجورا» ونشعل النار في جسدك وأخلاقك اللعينة لتسلية الأطفال والعجزة والقطط والكلاب في المدينة التي هجرها الشباب وجرفها الإعصار، لم يبق إلا أن نشرب ونشرب حتى نقتل أنفسنا سكرا ونعود سراعا للعدم كما قالت أنتيجونا. قلت في غيظ وأنا أدير له ظهري وأجر جسدي المنتفض غضبا وكمدا: اذهب إلى الجحيم أيها الشيطان اللعين! اذهب ولا تجعلني أتحول من ناسك إلى قاتل! ولكنه لم يذهب ولم يكف عن رفع القنينة إلى فمه النجس، وسمعته يتأوه ويدمدم وأنا أحث الخطى إلى الكوخ: اذهب أنت وكلبتك الحلوة مع باقي الكلبيين، راح زمانك وزماني يا مسكين. •••

أحقا ذهب زماني وزمان الزهاد الكلبيين؟ هل داستنا عجلاته قبل أن نغير العالم أو نتغير؟ أرقني هذا الخاطر وظل يؤرقني حتى دخلت من الباب المفتوح، كان بتروكليس يتجادل مع هيبارخيا ويحتدم الأخذ والرد بينهما، فأكاد أسمع ضربات المطرقة على السندان. أسرع بتروكليس نحوي وهو يمد إلي يديه وذراعيه، غامت صورته في عيني عندما شيعنا على باب القصر وبصق وراء ظهورنا، وأفقت على صوته يقول: يا زوج شقيقتي، كن القاضي بيني وبينها. قالت لي نفسي: حتى القضاة تراجعوا وذهبوا. ترى أين هما الآن؟ لزمت الصمت فاستطرد بتروكليس قائلا: باختصار يا كراتيس الحكيم، أبونا مات وأوصى لابنته بنصيبها من الميراث. قلت شارد الذهن: حقا؟ من الواجب ألا يهمل المرء كتابة وصيته. أكد بتروكليس كلامه بقبضة يده: ووجدت من الواجب أن أبلغها حتى تكمل إعلام التركة وتتسلم القصر والحديقة. قلت: القصر والحديقة؟! همت هيبارخيا بالكلام فأسرع بمقاطعتها: أو تتنازل عنهما. سألت بهدوء: لك بالطبع؟ تدخلت هيبارخيا وصوبت سبابتها إلى صدره: لولا هذا ما جاء، إنه يعلم أننا لا نملك شيئا حتى لا يملكنا شيء، حتى هذا الكوخ رفضنا أن نحتفظ بمفتاحه وسلمناه لصاحبه الوفي، وأنت يا شقيقي الوفي لم تتذكرني إلا لكي تأخذ حقي، خذه إذن فلا حق للطائر الحر إلا في الهواء والفضاء، خذه ولا ترني وجهك بعد الآن.

ربت على رأسها وكتفها قبل أن تنفجر بالبكاء، وسألت بتروكليس: وما هي مشروعاتك بعد تنفيذ الوصية أيها الفيلسوف؟ قال بغضب من يريد أن يغلق الباب: لم يعد لي شأن بالفلسفة، أغلقت المدرسة وحولتها إلى متجر كبير. سألت متعجبا: وفيم يتاجر الحكيم الشهير؟ رفع صوته إلى حد الصراخ: تركت لكما الحكمة والسخرية أيضا، واتفقت مع ديوكليس على إنشاء متجر كبير للتصدير. قلت متعجبا: ديوكليس؟ ألم يلق ثروته في البحر أمام عيني؟ ألم يتفق معي على لبس الهلاهيل واتباع الطريق؟ قال منهيا الحديث بإشارة من نفد صبره: ورجع إلى عقله بعد أن تغير الزمن، غدا أحضر لك الأوراق من المحكمة للتوقيع. صاحت هيبارخيا قبل أن يقترب من الباب: أرسلها مع أحد عبيدك لأتنازل عنها. صفع الباب بعنف وهو يقول بامتعاض: ومن قال إنني أريد أن أرى وجهك أو وجه كلبك الحزين؟ •••

مرت الشهور بعد الشهور وأنا أتابع جولاتي الوحيدة وأراقب هيبارخيا وهي تواصل طوافها بالقرى وبيوت المرضى والمحتاجين وتواظب على رعاية الشجر والزهر والزرع في حديقتنا الصغيرة وتقول كلما طلبت منها أن تستريح: على الإنسان أن يزرع حديقته يا زوجي الحكيم! وكان عبدي السابق يتردد علينا ويساعدها في العمل ويجمع الخضر والثمار ويبيعها في السوق ويشتري بثمنه ما نحتاج إليه من الخبز والزاد. أيقنت أنني أصبحت وحيدا بعد أن تغير الزمن وانفض الرفاق والأتباع كل في طريق، وكنت أذهب أحيانا إلى الأيكة وأجلس هناك حتى تغرب الشمس وتطير الغربان والبوم ثم أرجع إلى الكوخ، وأحيانا أخرى أتجول في المدينة وأنظر وأسمع وأتعجب لأن الصغار لا يجرون ورائي ولا يقذفونني بالحجارة، بل ينظر الجميع إلي كأنني أثر قديم يمرون عليه غير مبالين. آه يا صديقي الذي أنتظره منذ سنين! يا من احترفت الموت منذ كلفتك به الآلهة وأرسلتك إلى الهالكين، هل علمت أن الموت الحقيقي هو عدم الاكتراث؟ وهل جربت أن تمد يدك أو منجلك فتحدق الروح في عينيك وتقول: سواء فعلت أو لم تفعل فالموت والحياة عندي سواء. •••

رجعت قبل أيام من جولتي الوحيدة في الشارع الكبير المؤدي إلى «الأجورا»، كانت الحقيقة قد تجلت لي ولم تتح لي الفرصة لتجربتها واختبار صدقها من كذبها، وكان الجميع ينظرون إلي نظرة عدم الاكتراث التي لا أثر فيها لما عرفت من الاحتقار والازدراء والسب واللعن، وكنت أحاول أن أواجه الجميع بمثل ما يواجهونني به وأنا غير واثق من أنني قد امتلكت الحقيقة التي تجلت لي حتى سمعت صياحا وهتافا وصليل أجراس وزعيق أبواق تصم الآذان. قلت لنفسي لن أكترث بالتوقف وإلقاء نظرة على الموكب الذي بدأ يلوح من بعيد. فكرت أنه ربما يكون موكب الإسكندر، ثم تذكرت ما سمعته قبل شهور من أنه قد مات بالطاعون في بابل بعد أن هدم «بيرسيبوليس» وفتح الهند ومصر. خلف الطاغية طغاة بعد طغاة، لكن ماذا يعنيني منهم؟ ماذا يهمني ممن ذهب أو جاء؟ وتقدمت العربات تجرها الخيل المطهمة بالسروج المذهبة وعلى رءوسها وخوذات قوادها ريش ملون كريش الطواويس، وقفت العربة الأولى بجانبي، فأعطيتها ظهري ونويت أن أتابع الطريق، ورنت صيحة جلجلت بعدها الضحكات وسمعت من ينادي قائلا: هذا يا مولاي هو كراتيس الكلبي المشهور! سأل القائد الضخم الذي يتوسط سائر القواد: ألست أنت الذي زاره الإسكندر العظيم؟ اقترب أيها الكلب الجليل. نظرت إليه متأففا وتابعت طريقي، فعاد يصيح: أنا الطاغية سيلويقوس، أسألك كما سألك قائدنا العظيم: أليس لك طلب عندنا؟ أليست لك حاجة نلبيها؟ أردت أن أقول له: وما شأني بالقائد الكبير أو الصغير، ذهب طاغية وجاء طاغية وامتلأت البلاد بالعبيد والسجون والكلاب، لكنني لم أقل كلمة واحدة، أعطيته ظهري وبصقت على الأرض، وابتعدت العربة والخيول والضوضاء ورن صوت ضاحك: لا بد أن تلبوا طلباته، إنه الآن أشهر معالم ثيبة، لا بد من المحافظة عليه لجذب الزوار والسياح! •••

رجعت إلى الكوخ وفي جرابي وملء فؤادي الحقيقة المتجلية، وحكيت لهيبارخيا ما جرى مع القائد والموكب. وسألتها وأنا أتوقع أن يتفجر منها ينبوع الضحك ولا يتوقف: ماذا يهم يا حبيبتي أن أكترث أو لا أكترث، حتى عدم الاكتراث لن أكترث به، وقفت صامتة تتفرس في كأنها تراني لأول مرة، ثم صرخت وأقبلت علي مسرعة كأنها تريد أن تطفئ نارا توشك أن تحرقني أو تمنع عني صاعقة تمحقني: ولكن هذا هو الموت!

قلت في هدوء: وما الفرق بين أن يحيا كراتيس أو يموت؟ يحترق أو ينطفئ، يسكن أو يتحرك، يأكل أو يجوع؟

هتفت كأنها تنتشلني من تحت الأنقاض: أفهم ألا تكترث بالمدينة وطغاتها وناسها وكلابها، أفهم أن الزمن تغير ولم يتغير شيء، أن الكلاب ما زالت تنبح وتعض وتتكالب حتى الموت، لكنك عشت وقاسيت لكي يتغير شيء، ورضيت بأن أحيا معك وأن أتعلم منك، ماذا كنت تعلم ولماذا ولمن؟ قلت بهدوء: عشت لكي يتغير شيء، لكن لم يتغير شيء، ما الفرق إذن أن أحيا أو أتمنى الموت؟ قالت ممتعضة: تسألني ما الفرق؟ تريد أن أعيش مع ميت؟ قلت ضاحكا وأنا أمد ذراعي إليها: ميت لم يدفن بعد، يكفيني أنك حية !

قالت وهي تهز رأسها الجميل الصغير: لا لن أغفر لك هذا اليأس، ثم فجأة كأن الحقيقة تجلت أمام عينيها: لم لا تكتب؟!

قلت بهدوء: كتبت كثيرا، لم يتغير شيء، جاء زمان ذهب زمان لم يتغير شيء.

قالت وهي تفتش بين ركام الأوراق والأقلام والمحابر وألواح البرجامون والبردي: اكتب لزمان آخر للأجيال الأخرى، أين أشعارك؟ - نسيتها، لم يبق منها غير نعيي لنفسي! - ومسرحياتك؟ ألم تؤلف المآسي في شبابك؟ - وأهملها المحكمون في المهرجانات الأوليمية. - وأين رسائلك؟ - تلك التي قلدت فيها أفلاطون؟ أحرقتها قبل أن أرسلها لأصحابها!

قالت فجأة وهي تقترب مني وتمسك بيدي: افعل أي شيء، اكتب وصيتك! ضحكت وأنا أضمها إلى صدري وأمر بكفي على وجهها الجميل الذابل: بماذا أوصي ولمن؟ لك وأنت لا تريدين أن تملكي شيئا لكي لا يملكك شيء؟ أم لبازيكليس الذي ذهب ولا ندري إن كان سيرجع؟ أراحت رأسها الجميل على كتفي وقالت: اكتب هذا في الوصية، قل لم تملك شيئا كي لا يملكك شيء، تحررت من كل شيء كي يتحرر غيرك، تعريت وجعت كأبأس كلب كي لا يبقى إنسان حولك مثل الكلب!

قربت فمها من فمي وقبلتها قبلة ذكرني دفؤها بأيام الشباب: وأني قبلتك وختمت بذلك وصيتي! •••

تعال ولا تتردد، لم تتوقف عند الباب ولا تدخل؟ ابرز من وراء الشجر أو اهبط كملاك أو حط علي كجناح غراب أو نسر أسود، ألم تصدق أن الأبواب فتحت دائما في وجهي، وأن بابي لم يغلق في وجه أحد؟ أنت يا من كنت أشعر به يتبع خطواتي، وأحس أن ظله يلاحق ظلي، كيف أغلق بابي في وجهك؟ •••

لم أستطع أن أكتب الوصية، وبماذا أوصي ولمن؟ أليست حياتي هي وصيتي؟ ألا يكفيك أنني عشت وأحببت وتعاطفت وأعطيت ولم أغلق باب الكوخ ولا باب القلب؟ ألا يكفي أن تكون هيبارخيا قد ختمتها بقبلة لم تغب حلاوتها عن شفتي؟ أليست هذه هي وصيتنا لابننا الغائب الذي جرفه الإعصار وذهب ولا ندري إن كان سيرجع؟ ألا تصلح لكل الأبناء وتغني عن كل الوصايا ؟! •••

تعال ولا تتردد، قلت إنني على استعداد للقائك، كنت دائما على أتم استعداد، لا تريد أن تدخل الآن؟ تريد أن تفاجئ وتباغت كعادتك؟! ليكن هذا لك، فيوما ستأتي وسأكون أنا وهيبارخيا في انتظارك، لكن أرجوك ألا تخطئ، أرجوك أن تبدأ بالمسخ القبيح والأحدب الحزين، بالكلبي الذي أراد أن يحول الكلاب إلى بشر، أن ينهي عصر الكلب ليبدأ عصر الإنسان، وإذا كان الزمن قد تغير دون أن يتغير الناس، فربما أكون قد تغيرت قليلا قبل حضورك وربما أنجح في تغيير إنسان يسمع عني أو يقرأ وصيتي التي عشتها ولم أكتبها، وصيتي التي بدأتها هيبارخيا بقبلة وختمتها بقبلة. •••

وتذكر يا صديقي أنني إذا كنت قد فشلت فقد حاولت وحاولت، واذكر حتى لا تخطئ هدفك أنني كراتيس ابن أسكونداس ووالد بازيكليس، الكلبي المشهور في زمانه باسم المسخ القبيح والأحدب الحزين، الذي عاش في الثلث الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد، وازدهر وبلغ الشهرة الزائلة في المهرجان الأوليمبي الثالث عشر بعد المائة عندما بلغ من عمره الأربعين، والذي ينتظرك الآن وقد جاوز السبعين.

دموع البلياتشو

1

وهو خارج من الباب الجانبي لوزارة المالية تذكر أمرين لم يدر كيف شغلته عنهما الحسابات وكشوف المرتبات ومراجعة الأعداد والأرقام: السؤال عن مصير طلب النقل الذي سلمه لرئيسه الأستاذ محمود عبد المعين راجيا الموافقة على تحويله بدرجته الوظيفية للعمل بالسيرك القومي، والحلم الذي رآه ليلة الأمس وما زال يتذكر، برغم الصور والأصوات المشوشة التي أخذت تفر منه هاربة كصور السينما الصامتة التي كان يعشق منها أفلام شارلي شابلن وغيره من المضحكين والمهرجين، كيف تجلى له وجه أبيه كالبدر وراح يسأل عنه وعن أولاده ويوصيه بصوته المتهدج الحنون وصايا كثيرة، لم يبق منها إلا الحروف التي تنطق باسم بدر. واجهته ضوضاء الشارع الذي يقطعه كل يوم في طريقه على محطة الأتوبيس، والفوضى التي تصب كل شيء يراه أو يسمعه في بحرها الجهنمي المضطرب: نداءات باعة الليمون والبصل والخضروات والفاكهة والروبابيكيا، الأصوات العالية التي لا تخلو أبدا من البذاءة، ضجيج أجهزة التخلف والغباء - كما كان يحلو له أن يسميها - التي تتقاطع وتتصادم بالأخبار والضحكات والشتائم والأغاني الهابطة ومباريات الكرة وحنجرة أم كلثوم الذهبية، ثم هذا الملل والضجر الفظيع الذي يخيم على الأرض والسماء والتعاسة التي تسيل أنهارا من عيون الأطفال العائدين من مدارسهم ومن عيون الكلاب العجفاء الجائعة التي يطاردونها بالحجارة، توقف عند بائع الخضر والفاكهة الذي يعرفه ويألفه منذ سنين، وتدخلت بينه وبينه صورة الأب الذي رآه في الحلم وبدأت تتضح له الآن بالتدريج فلم يدر إلا والبائع يضع في يده وعلى ذراعه كيسين لم يعرف بماذا ملأهما ويده التي بقيت حرة تمتد إلى جيبه وتنقده الثمن الذي طلبه.

وحمل الكيسين في يد وضم الأخرى على الأهرام وبعض الأوراق التي تتطلب المراجعة في البيت، وسار في طريقه المعتاد وصورة أبيه وحديثه يشغلانه عن كل ما حوله ومن حوله، تذكر أنه هتف به فرحا لا يصدق: أبي؟ - كيف حالك يا بني وكيف حال بدر؟ - بخير يا أبي يقبلان يديك وعينيك.

تذكر أنه سأل نفسه في الحلم إن كان يعني ابنه بدرا أم يقصد البلياتشو الذي اشتراه له وهو صغير ولم يزل يحتفظ به ويتطلع لوجهه المضحك كل يوم، ولم تطل حيرته كثيرا حين تغير صوت أبيه وأدرك فجأة أنه تركه طفلا صغيرا يذهب إلى المدرسة الابتدائية بالمريلة الصفراء والشريط الأحمر المعقود على صدره. - أقول لك بدر فتقول يقبلان يدي؟ هل أصبحتم تخلطون بين المفرد والمثنى؟ هل فسد التعليم إلى هذا الحد؟

قال له مكررا أسفه: معذرة يا أبي، نسيت أن الزمن لم يتوقف وأن الدنيا تغيرت.

قاطعه أبوه محتدا: ما هذا الكلام السخيف عن الزمن والدنيا؟ أسألك عن بدر فتحكي لي حكاية؟ ألم أحذرك مرارا من الثرثرة؟

ضحك وحاول أن يسترضيه: معك الحق يا أبي، لقد كبرت وتزوجت وعندي الآن بدر وعائشة.

قال أبوه وقد انفرجت أساريره وبان الرضا في صوته الهادئ: وسميت ابنك على اسمه؟ لم تخيب أملي فيك يا بني، أوصيك أن تأخذ بالك منهما .

قال منشرح الصدر كأنما يغمره النور الذي سطع من وجه أبيه: هما في عيني يا أبي هما النور الذي أرى به والبدر الذي يضيء الدنيا المظلمة من حولي.

قاطعه الأب وهتف مرة أخرى محتدا: رجعت إلى الثرثرة وأنسيتني أن أسألك عن أمك، خل بالك منها يا ولدي.

رد عليه وهو يحاول أن يكتم ضحكة: أمي تعيش أنت يا أبي من مدة طويلة، ولا بد أن وجهه وصوته تغيرا في تلك اللحظة وسادهما الوجوم والصمت، ولكن صورة الحلم فرت منه هاربة عندما أبصر رقم الأتوبيس الذي ينتظره فلم يذكر عندما قفز على سلالمه وأخذ يشق الزحام لينفذ منه جسده النحيل الطويل المحدودب سوى صوت أبيه الذي يكرر عليه وصيته: خذ بالك من بدر يا ولدي، خذ بالك منه.

2

وجد نفسه في حلم آخر لا يصدق عندما أحس بيد تشده من ذراعه وصوت عابث يناديه: يا عبد الرحيم، يا رحيم.

التفت إلى مصدر الصوت الذي شق مثله الزحام، وربما عثر مثله بالحظ أو الصدفة على موضع قدم يقف فيه، وتكرر النداء بنفس اللهجة الساخرة المستهترة التي اتضحت الآن وبدأت تذكره بصاحبها. - يا رحيم، يا رحومة، يا أخي رد علي وتعال اقعد مكاني. أخيرا وقعت عينه عليه بعد محاولات يائسة للنفاذ من ثلاثة أجساد تراصت وراءه ظهره كسد آدمي منيع. استأذن الجميع مرات ومرات حتى أفسحوا له حيزا يسع قامته النحيلة المشدودة ولا يفعص حبات الفاكهة والخضر في الكيسين اللذين يحملهما عن صدره كرضيعين صغيرين، وجذبته يد قوية للجلوس في المكان الذي أخلاه صاحبه الذي لم يكف عن إطلاق ضجته المرحة الصاخبة: طول عمرك محظوظ، تعالى مكاني.

قال بعد أن تعرف على ملامح زميله الأستاذ وحيد السايح ورأسه الأصلع المدور الملتصق برقبة غليظة وجسد قصير مفتول كأجساد المصارعين: وأنت دائما ابن حظ. أراد أن يلطف من وقع العاصفة التي أوشك زميله أن يثيرها، وأن يقول له بصوته الهادئ الخجول وإن من جاور السعيد يسعد، عندما فاجأه بضحكة مفرقعة ومد بوزه في أذنه ليقول بصوت خشي أن يكون أحد قد سمعه: من البار للغرزة ومن الغرزة للبار، خلي الجد ينفعك.

هتف به عبد الرحيم وهو يحشر نفسه في المقعد: الجد؟ الله يسامحك.

زعق القصير السمين بعد أن نجح في الوصول إلى باب النزول: سلم لي على بدر! بدأ يستجمع أنفاسه اللاهثة لاستقبال الصور الجديدة التي راحت تزحف عليه وتحتشد في خياله مزاحمة صور الحلم الذي جمعه مع أبيه بعد سنوات طوال من الغياب، وها هو الزميل القصير السمين يفرض نفسه عليه ويضج صوته في أذنيه حتى بعد نزوله من الأوتوبيس، يا له من إنسان غريب: كم التقى به في المكتب أو في الطريق، وكم هرب من دعواته المتكررة لقضاء سهرة حمراء معه أو حتى سوداء، وهو فيما يدعي وما يرويه عنه الزملاء شاعر ومجدد أيضا على الرغم من أن شكله وصوته وحركاته بريئة من كل الصور التي احتفظ بها في ذهنه وذاكرته عن الشعر والشعراء المرضى والحالمين الذين زاملهم أو عرفهم أو سمع عنهم في حياته. قال له وحيد السايح يوما وهو يتدحرج بجواره مثل الكرة الضخمة السوداء التي رأى اللاعب القوي البارع في السيرك يرفعها من الأرض وينقلها بين يديه وذراعيه وكتفيه كأنها كرة من المطاط: أكثر ما يعجبني فيك يا رحيم أنك إنسان بغير طموح.

ضحك عبد الرحيم بصوت مرتفع على غير عادته: وأكثر ما يعجبني فيك أنك وحيد وسايح أيضا.

وقف وحيد فجأة واحتدت لهجته وهو يسأله: تقصد أنه أكثر ما يغيظك في، أن تتصور مثل معظم الزملاء أنني اسم على مسمى؛ سائح في أرجاء الأرض وسماء الشعر مع بنات الهوى وعرائس الخيال، ألم تسأل نفسك أو يسأل أحد منكم ...

قال عبد الرحيم وهو ينظر من أعلى إلى الشاعر الذي يكاد رأسه لا يبلغ كتفيه: ولماذا تسأل؟ يا أخي أنت حر في نفسك.

اندفع وحيد قائلا: كلامك عن الحرية يثبت عكس ما تقوله دائما.

مال عبد الرحيم برأسه ورمقه بنظرة باسمة: وماذا أقوله أو أفعله دائما؟ قال وحيد: إن طموحك الوحيد هو عدم الطموح، يا أخي، هل يرضيك الواقع الذي نعيش فيه كالموتى؟ ألم تفكر لحظة في تغييره؟ ألم ...

ارتفعت ضحكة عبد الرحيم: البركة فيكم يا شعراء، أم أقول يا زعماء ويا ... قاطعه وحيد غاضبا: ألم يخطر ببالك أن تقرأ شعرا؟ ألم تحركك القصائد التي قرأتها علي يوم أخذتك غصبا عنك إلى المقهى الذي أجلس فيه مع أصدقائي؟

اتسع فم عبد الرحيم بابتسامة عريضة هبطت على صاحبه القصير كحجر ينزل من فوق الجبل: أجل حركتني نحو عدم الحركة، أقنعتني بأن يكون طموحي الوحيد هو عدم الطموح.

صاح وحيد يائسا دون أن يشعر أنه يسدد إليه سهما جارحا: يا أخي ألا تحس؟ ألا تفكر؟ ألا تقرأ؟

تتطلع عبد الرحيم أمامه وقال كأنه يكلم نفسه: عندي مكتبة كاملة، ولكن كل كتبها في موضوع واحد، التهريج والمهرجين.

توقف وحيد عن السير، نظر في الوجه الصارم الذي بدا له كوجه نسر عجوز أو غراب صامت: غير معقول، لا أصدق، أنت عبد الرحيم الصامت الجاد على الدوام تحب التهريج، قال عبد الرحيم دون أن يلتفت إليه: ولا يفوتني عرض واحد للسيرك، هل تعلم أنني أذهب أساسا للفرجة على البلياتشو؟ أقصد ...

قال وحيد الذي لم يخف ذهوله: صحيح من لا يعرفك يجهلك، من يصدق أنك ... قاطعه عبد الرحيم: لو قرأت عن المضحكين العظام لعرفت أنهم كانوا أكثر الناس في عصرهم حزنا وجدية، أنت سيد العارفين ولا أريد أن أستعرض أمامك أسماء المضحكين من أرسطوفان إلى جحا والكسار، ولا أريد أن أصدع دماغك عن ألعاب السيرك وأشكال التهريج والمهرجين عند البابليين والصينيين والمصريين القدماء، لن يغيب عنك أنهم جميعا يضحكون ويضحكون والدموع تتساقط في قلوبهم أو من عيونهم، وبعضهم كان يحتضر بينما ...

قال وحيد مؤمنا على كلامه: مفهوم مفهوم، هل فكرت أنهم كانوا يضحكون الناس على أنفسهم وواقعهم، هل خطر لك أنهم ثوار عظام وأن ضحكاتهم لا تزال تتردد عالية من فوق رماد حضاراتهم التي بادت أو التي في سبيلها للفناء؟

أطلق عبد الرحيم ضحكة عالية وهو يمد يده لزميله: رجعت لطموحك يا صاحبي، وأنا مجرد إنسان يريد أن يعيش مستورا ويستر طفليه، سأتركك لتغيير العالم وألحق أنا بالأوتوبيس، أنت لا تعلم أن البلياتشو في انتظاري!

وقف وحيد في ذلك اليوم وقفة تمثال حجري على الرصيف المزدحم بالناس، وربما قال لنفسه وهو يرى عبد الرحيم ينحشر في الأوتوبيس مستسلما لقدره اليومي: كيف يخرج منك كل هذا؟ لا، لا أصدق، ولكن الشيء المؤكد أنه هتف بزميله المعلق على سلم الأوتوبيس: سلم لي على البلياتشو، لا تنس يا عبد الرحيم!

3

نزل من الأوتوبيس في حي زينهم، واتجه مع قرطاسيه إلى شقته في المساكن الشعبية التي يعيش فيها مع زوجته الطيبة الراضية زينب وطفليه بدر وعائشة، وطالعته المناظر التي اعتادتها عيناه وأذناه ومسام جلده كل يوم: المساكن المتهرئة المباني القبيحة المداخل والمخارج والجدران والسطوح، والبلكونات المزدحمة بأقفاص الدجاج وقطع الأثاث البالية والأطفال شبه العراة الذين يطلون منها ولا يكفون عن النداء والصياح، عشش الصفيح والجريد العشوائية التي تحيط بها من كل جانب، جبال القمامة المتناثرة التي تزكم الأنوف بروائحها العفنة، عيون الأطفال والكلاب السارحة التي تسيل منها الأحزان، المجاري الطافحة والمياه العكرة المتدفقة من حنفية لم يستطع الزمن نفسه إصلاحها، صرخات الراديو والكاسيتات التي تتصادم وتتلاطم وتسمم الروح والأذن بدويها وإسفافها، والملل الملل الملل المخيم على كل شيء كسحابة كثيفة معلقة فوق المكان ومنذرة بكوارث الزمان، وهو ينظر كل شيء ويسمع كل إنسان ويمني نفسه بالنور الوحيد في حياته الذي سيشع عليه بعد قليل من وجه البلياتشو بدر ووجه ابنه الشقي الصغير الذي سماه على اسمه. ومع أنه - لطول يأسه أو لانعدام طموحه كما اتهمه زميله - قد أصبح مع مرور الأيام وتجاوزه للخمسين من عمره لا يعيش إلا كما يعيش الحي الميت أو الميت الحي، ولا يفكر إلا في الستر وصلاح الأحوال، فقد ألحت عليه فكرة النقل من وظيفته العتيدة كمحاسب دبلوم تجارة وكأنها هي الأمل الوحيد فيما بقي له من أيام على وجه الدنيا الكئيب. هل يحرم أيضا من هذا الأمل الذي تحييه في نفسه ابتسامة البلياتشو كل يوم مع صيحات ابنه بدر في الضحك والبكاء؟ أم يطيح به طاغية الروتين والعفن الذي مكن لكل الطغاة أو مكنوا له لا يدري على وجه التحديد؟ لم تبق إلا خطوات ويصعد السلالم الحجرية المتآكلة إلى شقته في الدور الثالث من الوحدة السكنية رقم ثلاثة ويندفع كعادته كل يوم ليطالع النور المشرق من وجه بدر الخزفي ووجه بدر العفريت، لكن طلب النقل يلح عليه ومعه الأمل الممزوج باليأس كما تختلط الخيوط السوداء بنسيج الكتان الناصع البياض.

قال له رئيسه الأستاذ عبد المعين بعد أن قرأ الطلب ونظر في عينيه ووجهه الطويل المستكين: وتريد أن تتركنا يا عبد الرحيم بعد العشرة الطويلة؟ غمغم دون أن يرفع رأسه خشية أن يرى رئيسه الحزن في عينيه: العشرة لا تهون إلا على الكافر يا أستاذ عبد المعين، لكن ...

سأله عبد المعين: لكن عشرة الأسود والنمور والدببة والخيول أعز عليك من عشرتنا؟ تشجع ورفع رأسه وهتف متوسلا: أستغفر الله يا ريس، ولكن عشرة ... أرجوك لا تضحك علي ولا تسئ فهمي.

مد عبد المعين رأسه وقرب منه أذنه اليسرى كأنه يطلب منه أن يهمس فيها بالسر الخطير: ولكن عشرة من يا عبد الرحيم؟

هتف بصوت ارتفع مما قدر له فبان عليه الخجل: عشرة البلياتشو والمهرجين يا حضرة الباشكاتب، إنها لو علمت عشرة طويلة جدا.

ابتسم عبد المعين وكأنه يستمع إلى طفل أو مراهق تجاوز الخمسين ولم يبلغ مع ذلك سن الرشد: سبحان الله! وهل ولدت في سيرك؟

قاطعه عبد الرحيم وفي صوته ضراعة بأن يعذره ويقدر حالته: بل نشأت يا سيادة الرئيس وفي دمي حب السيرك، كان أبي رحمه الله ...

نظر الأستاذ عبد المعين في وجهه ثم في الأوراق المكدسة على مكتبه وقاطعه بلهجة حازمة قبل أن يبدأ في رواية سيرة حياته: ما دامت هذه هي رغبتك فسوف أحول الطلب من عيني إلى المدير ومعه التأشيرة اللازمة، المشكلة كما تعلم هي أن يجدوا لك درجة عندهم. وأشار بيده قبل أن يفتح عبد الرحيم فمه وقال: ولا تنس أنك تطلب النقل من وزارة إلى وزارة أخرى، ثم إن سبب النقل غير مقنع تماما.

تمتم عبد الرحيم: يكفيني أن سعادتك مقتنع وتقدر.

قال عبد المعين بلهجة قاطعة لينهي المقابلة: مقتنع؟ لا، ولكن يمكن أن أقدر رغبتك في الحياة والعمل بالسيرك (ثم ضاحكا ضحكة صافية) مع أنك رجل طيب وعاقل ورزين.

حاول عبد الرحيم أن يشاركه الضحك، وأخرج الكلمات من صدره كأنه يتخلص من غصة، لا حيلة له فيها: ولكنه الأمل الوحيد في حياتي يا سيادة الرئيس.

مد عبد المعين ذراعه فسلم عليه ويده ترتجف، ولم يقل كلمة واحدة تنقذه من ارتباكه وهو يلمح الابتسامة المشفقة على وجهه وفي عينيه.

4

وقف أمام الباب وهو يحس بالدوار والإرهاق والسأم، وأصداء حديثه مع زميله وحيد وصور الحلم الذي رأى فيه أباه وكلمة لا تزال تتخبط في دماغه وعروقه كالوطاويط في غرفة مظلمة، أو الأسماك المرتعشة التي تهرب من شبكة الصياد لترجع إلى البحر، والتقط أنفاسه وهو يلعن الضغط وسنينه ويعد نفسه بالنور الطالع من وجه البلياتشو بدر ومن وجه ابنه وكأنه البلسم الذي سيداوي قروح الجلد المحترق أو جرعة الماء الزلال التي ستطفئ نيران العطش. ودق الجرس ففتح الباب وكأن زينب كانت في انتظاره بالقرب منه. وضع القرطاسين على صدرها وهو يتنفس الصعداء ويربت على كتفها بحنان كما اعتاد كل يوم، وحانت منه التفاتة إليها فهاله اصفرار وجهها الأبيض المستدير وغياب الدم عنه، ولم يغب عنه كذلك أن يلاحظ ارتباكها وارتجاف يديها فسألها منزعجا: خير يا زينب، خير إن شاء الله.

وقبل أن يتجه إلى الصالة ويفتح باب البوفيه الزجاجي ليملأ عينيه من وجه البلياتشو، ثم يسأل عن بدر وشقاوته طول اليوم كما اعتاد أن يفعل طوال سنوات تعلمت فيها الصبر على تصرفاته ومواجهتها بحلم الزوجة التي فجرت فيها العشرة ينابيع الأمومة نحو زوجها وطفلها الكبير، قبل أن يفعل ذلك أمسكت بيده وأخذته على جنب وهي تحاول أن تتكلم فتسبقها النهنهة والدموع المتساقطة كزخات المطر: امسك أعصابك يا عبد الرحيم.

هتف منزعجا: ما لك؟ ماذا حدث؟

جففت خديها وقالت: بدر، ابنك بدر.

زاد انزعاجه حتى كاد البركان يفجر حممه: ما له بدر؟ كفى الله الشر. أمسكت يده بعد أن وضعت القرطاسين على مائدة المطبخ ومسحت صدره باليد الأخرى قائلة: اطمئن، اهدأ واطمئن، بدر بخير. قفل على نفسه الباب مع أخته خوفا منك.

استصرخها نافد الصبر: يا شيخة تكلمي، ولماذا يخاف هو أو أخته مني؟

ضغطت على يده وسحبته من ذراعه في اتجاه الصالة وهي تتمتم بشظايا كلمات مهشمة: قلت لك اهدأ أولا، اهدأ حتى أحكي لك. صاح غاضبا: تحكي لي، هل هو مسلسل من إياهم أم عرض في السيرك؟ وقالت وهي تغتصب ضحكة خافتة كالغصة من شفتيها: السيرك، برافو عليك ومضت في ذهنه فكرة كالبرق فهتف: بدر هل حدث له شيء؟

وضعت في صوتها كل الحنان الذي تعوده منها، وقالت: العوض على الله، أصبح خمسين حتة. وقبل أن يجد فرصة لإطلاق صرخاته وتفجير بركانه الذي كانت تعرف دائما كيف تقابله بالصمت والتسامح. شعر بها تخلص يدها من يده وتشير إلى الأرض حيث تجمعت كومة شظايا ملونة وشقف خزفية متناثرة على فوطة مفروشة بعناية على بلاط الصالة. قلب عينيه بين وجهها وبين الكومة الملقاة على الأرض كبقايا عصر قديم أو آثار حضارة دمرها البرابرة، ويبدو أنه بذل جهد وحش داهمته السهام والحراب وطلقات الرصاص وهو في زنزانته، فأخذ يحتمي بقضبانها ويسند جسده المثخن بالجراح على جدرانها، ولا بد أنه نجح في محاصرة عذابه أو نجح عذابه في إسكات غيظه فانحنى على الكومة الصغيرة وراح يقلب شظاياها في صمت كما يقلب الأب أشلاء ولده الذي دهسه قطار حديدي أو انفجرت فيه قنبلة طائشة. كل ما فعله أنه مد يده المرتجفة فأشاح كفها التي راحت ترتب عظام حدبته البارزة، ولعله لم يسمع كلماتها المتدفقة في غير نظام: عوضك وعوضنا على الله، كنت في المطبخ ولم أشعر بعبثهما في البوفيه، تصور أنهما رصا كرسيين فوق بعضهما ليطولا التمثال ؟ وأفقت على صوت الارتطام بالبلاط، كأنها قنبلة دوت في بيتنا صرخت وجريت وطلعت العفاريت من عيني، وأخذت ألم الكسر والقطع المبعثرة وألعن الشقيين في كل كتاب، وقفا ورائي مذعورين ثم انطلقا كالفأرين المذنبين إلى حجرة نومهما.

نصب طوله كشيخ مهدود وهو يحتضن الشظايا المكومة في الفوطة على صدره ومشى في صمت إلى حجرته والغريب، وهذا شيء لن تنساه أنه ثبت عينيه في وجهها الطيب وهمس: اطلعي للأولاد لا بد أنهما ميتان من الجوع، سأدخل حجرتي وأحاول أن ألحمه، لا تنسي زجاجة الصمغ معك. وفتح باب الحجرة وأغلقها عليه دون أن يرى إشراقة وجهها بعد البرق والرعد والعاصفة.

5

لو أعثر على الفم والابتسامة التي تلوح شمسها الصغيرة منه، لو تسلم لي عين واحدة بضحكتها أو حتى بدموعها. هكذا أخذ يكلم نفسه وهو يفحص بقايا التمثال الخزفي قطعة قطعة ويقلبها بين يديه، الشظايا المهشمة الأطراف والزوايا متناثرة أمامه، والأصفر والأزرق والأحمر الفاقع والبني المبرقش متداخلة في بعضها كبقايا حطام سفينة تختلج الأمواج الزرقاء والخضراء والداكنة من فوقها وتحتها، ما أقسى الخراب الذي يدمر في لحظة خاطفة حياة كاملة مفعمة بالذكريات والآلام والخيبات والأماني والأحلام! لم تكن البقايا المكونة أمامه مجرد شظايا تمثال عادي، مهما علت قيمته أو غلا ثمنه، كانت حطام ذكرى عزيزة وأمل متجدد ومنارة صغيرة تنفذ أشعتها في بحر الظلمات الذي يهدده كل يوم بالغرق والسقوط الأبدي أو بالخرس والجنون، هذه بقايا اليدين المفرودتين اللتين يلوح بهما البلياتشو لجمهوره ويدعوه للضحك أو التصفيق، والذراعان أيضا موجودتان وإن كان الكتفان المكشوفان اللذان لم تسترهما رقع الثوب المهلهل ما زالا متماسكين ويمكن لحمهما باليدين، وأطراف السروال المتدلي إلى أعلى الساقين تختلط فيها الأحمر بالأصفر بالأزرق ولا تلتئم بسهولة، أما السترة التي كانت تميته من الضحك بسبب ضيقها من أعلى الصدر وانتفاخها فوق الكرش المتورم وأزرارها اللامعة المثبتة بتفاخر وغرور في القماش الناسل المتهرئ فقد تفتت كأنما هرستها أقدام خيول تترية آشورية متوحشة. والأنف؟ هذا المتورم البارز وسط الوجه كإصبع حلاوة حمراء تميت من الضحك قد انفلق نصفين مثل تينة شوكية ذابلة وملقاة في التراب يستنكف النمل نفسه أن يلمسها، وآه للفم الواسع الملطخ بالبودرة والأسنان تلمع من ورائه والعينان الضيقتان المغموسة رموشهما في الدقيق اللامعتان بظلال التعاسة ووهج السعادة في آن واحد كيف يلمهما وأي ساحر يعيدها للضحك المنطلق من القلب؟ ولماذا تبقى صور الذكريات دون أن تنكسر أو تتهشم أو تهوى في آبار النسيان؟ لماذا تتداعى علي وتعلن عن حضورك يا أبي؟

ما زلت أجري كالنملة الدائخة لألاحق خطواتك الواسعة، يدي كعصفورة صغيرة في يدك الخشنة الطويلة الأصابع، ورأسي المدور العنيد يصل بالكاد إلى ركبتك. من أين أتيت بكل هذه الحيوية والطلاقة في الخطوة واللسان، كأن كل خلية فيك تقرقر بالضحك الصافي بعد الصمت الطويل الطويل، ونحن في طريقنا من أرض مشروع الري الذي تعمل فيه إلى خيام السيرك المنصوبة في الخلاء المجاور؟ لقد بتنا الليلة في عيد متواصل بعد أن سمعنا دقات طبول الموكب المعتاد الذي لف البلد وغمر الشوارع والحواري بدق الطبول وزعيق الأبواق وشقلبات البلياتشو وألعاب الحاوي والبهلوانات ورقصات الفيلة والكلاب والخيول المكسوة بالحرير المذهب والشراشيب التي تسلسل منها الأجراس النحاسية المجلوة كأنها العرائس في ليلة الزفاف، وأسألك يا أبي وأنظر في عينيك المتسعتين من الدهشة والفرحة والانبهار أتحب سيرك الحلو إلى هذا الحد يا أبي؟ وتجيب وأنت تتابع الألعاب وتصفق وتضحك كطفل عجوز: لأنني أحب أن تتعلم منهم يا عبد الرحيم. وأسألك مندفعا: وأصبح مثلهم يا أبي؟ فتقول مسرعا لتسكتني: المهم أن تتعلم الضحك من القلب وتصبح حرا وسعيدا مثلهم. وألح في السؤال: وهل هم سعداء يا أبي؟ ويسحب عينيه من الوجوه الضامرة التي يطحنها الشقاء لأجل لقمة العيش: ربك وحده هو الذي يعلم السعيد من الشقي، المهم أنهم أحرار. وأقول كأني أكلم نفسي لانشغالك بمتابعة العروض والتصفيق والهتاف: ليتني أصبح مثلهم أدرب الأسد والنمر وأركب ظهر الفيل والحصان! فتقول وأنت تشدني إلى جانبك: كان أبوك أشطر يا بني! المهم أن تتعلم منهم كما قلت. تطلعت إلى وجهك الذي يتحول في ليالي السيرك إلى مصباح يشع بألوان البهجة والرضا والتعجب التي تتقلب عليه أسرع من ألوان الطيف، وسمعتك تقول: الحياة لعبة يا ولدي، والحر هو الذي يختار لعبته ويسعد بها، طبعا لا يكفي أن يسعد نفسه، الأهم أن يسعد ويسعد غيره، انظر لهذا اللاعب في سقف الخيمة، لقد اختار اللعبة الخطرة وهو يعلم أنه لو سقط انكسرت رقبته، لكنه سعيد لأنه يسعد جمهوره من الأطفال والنساء والعواجيز والشبان. قلت لك بعد أن هدأت أنفاسي المتلاحقة من متابعة اللعبة الخطرة: البلياتشو يعجبني أكثر، أحس يا أبي أنه أسعد الجميع. وتضحك قائلا: ربما لأنه أتعسهم يا ولدي! هل ترى حماقاته المتكررة التي تجلب عليه الصفعات من كل ناحية؟ إنه أحكم الموجودين في هذه الخيمة، وربما كان هو وأمثاله أكثر أبناء الأرض حرية على مر العصور.

لم يكن عمري يسمح بإدراك معاني كلماتك يا أبي، خيل إلي أنك تكلم نفسك وتنفض مواجع قلبك، لكنني على الأقل أخذت عنك حب البلياتشو والانبهار بحركاته وسقطاته وآلامه وآهاته وضحكاته الدامعة كأنين القرد المحزون، وعندما خرجنا في الاستراحة إلى الساحة المكشوفة أمام الخيمة ورحنا نتفرج على سوق الهدايا والتحف والأواني والأقمشة والملابس والأدوات المعروضة للبيع تهت بينها حتى عثرت علي متسمرا أمام تمثال خزفي صغير، وقفت بجانبي وأحطت كتفي بيدك وسألتني: يعجبك هذا التمثال؟ قلت متضرعا: وأتمنى أن يبيت معي الليلة يا أبي! تردد بصرك بين عيني المبهورتين وبين إشارات البهلوان المضحك الذي يصيح على يانصيب البضائع المعروضة ويهول في أصلها وفصلها ووصولها خصيصا باسم الحلو الكبير من أوروبا والهند والصين والبلاد التي تركب الأفيال. رأيتك تذهب إلى البهلوان المرتفع الصوت وتأخذه على جنب وتشتبك معه في معركة طويلة بالكلمات والإشارات، ورجعت بوجه غاضب وعلى حدبة ظهرك المنحني ثقل الدنيا كلها، وأخذتني من يدي وأنت تدمدم لاعنا الكفر والكفرة والقلوب التي خلت من الرحمة. لم أفهم لماذا غضبت كل هذا الغضب وانصرفت عن البهلوان الذي جرى ليلحق بك وراح يحلف الأيمان على صدقه وبراءته ، مؤكدا أن كل شيء بأمر الكبير، ولن يدخل جيبه مليم، كنت تشدني من ذراعي ورأسي وقلبي مع البلياتشو العجيب الذي بدا إلي أنه يواصل حركاته وحركاته ولا يعلم شيئا عما فعله بي، كذلك لم أعلم شيئا عما ستفعله حتى يبيت البلياتشو في حضني بعد ليلتين لم ينقطع فيهما بكائي وإلحاحي عليك، أجل لم يعرف ابنك الغبي كم تعذبت وقاسيت حتى كشفت لي أمي السر وهي في مرضها الأخير بعد ذلك بسنين وسنين.

طرقت زوجته الباب قبل أن تدخل وعلى وجهها ابتسامة خائفة وفي يدها صينية عليها فنجان القهوة وزجاجة الصمغ. رفع وجهه من فوق الكومة التي انشقت عنها أكوام أصغر متراصة بجوار بعضها مثل أكوام حصاد الهشيم، ولمحت عينيه المحمرتين، فأغلقت فمها الذي انفتح قليلا قبل أن تتوقف الكلمات على بابه الصغير. قال لها في هدوء وبنغمة لم تخل من الدعابة: عمرك أطول من عمري تغديت مع العيال؟ هزت رأسها لتطمئنه وعجزت عن تحريك الأصوات المتكسرة على شفتيها كبقايا البلياتشو المطروحة أمام عينيها، ثم استدارت خارجة ومعها الصينية وأمارات الأسى والأسف تغطي وجهها الصغير المستدير، بينما كان هو يقلب الشقفات المبعثرة وهو يقول: لو أعثر على الفم والابتسامة التي تشع منه! لو تسلم لي عين واحدة بضحكتها أو حتى بدموعها!

6

يرحمك الله يا أمي رحمة واسعة! لولاك - وأنت في مرضك الأخير - ما عرفت كم تعذب أبي وشقي وتعب وأراق ماء وجهه أمام القريب والبعيد ومد يده للصغير والكبير. لا، لا، لم يكن كل هذا العناء من أجل تمثال صغير يمكن أن ينكسر في أي لحظة، فها أنا أدرك الآن أمام حطامك المبعثر أنها كانت وصية الأب الذي لا يملك من حطام الدنيا شيئا يوصي به: حاول أن تضحك يا ولدي في بلد كتب عليه النكد والغم.

كنت يا أمي الحبيبة قد صارعت الروماتيزم طويلا حتى صرعك، ألزمك السرير المعدني الصغير في الحجرة الخشبية الضيقة التي أعددتها حسب طلبك في ركن مكنون من الصالة، أنت التي لا تهمدين من العمل في المطبخ والغسيل وحمل الأولاد ، رغم إلحاح زينب عليك أن تستريحي، قد هزمك المرض واستقر وحشه الجليدي في أعضائك وأطرافك وعروقك حتى ورم رجليك وأسر الطبيب إلي: هي أيام وينتهي كل شيء ورم القدمين من القلب، تشجع يا أخي واستعد.

وفي ليلة وأنا أقرأ كعادتي وأتطلع من حين إلى حين إلى وجه البلياتشو الذي يلمع خلف زجاج البوفيه سمعتك تنادين، أسرعت زينب إليك حاملة عشاءك الخفيف مع الدواء فطلبت منها أن تناديني، وحين حضرت وعلى فمي الابتسامة، وخيرا إن شاء الله وجدتك تربتين بيدك المتورمة الأصابع على كتف زينب وتهمسين لحظة في أذنها فتتركنا وحدنا.

كنت أجلس على سريرك محاولا أن أحافظ على الابتسامة المذنبة العاجزة أمام القدمين المتورمتين والأنفاس المتحشرجة وزجاجات الدواء وأقراصه وعلبه عندما سمعتك تقولين فات الكثير ولم يبق إلا القليل.

قلت موسعا دائرة الابتسامة بقدر ما أستطيع: يعطيك طول العمر يا أمي، أنت بخير وكلنا، أشرت بيدك إشارة قاطعة: قلت لم يبق إلا القليل يا بني، والعاقل من يترك وصيته.

ضحكت وأنا أمسح ظهر يدك بكفي وأرفعها إلى فمي: وصيتك في القلب والعين يا أمي.

أسرعت قائلة وأنت تسحبين يدك وتسددين السبابة في وجهي: هي وصية أبيك أيضا يا بني، قلت مستدركا: فهمت فهمت يا أمي، بدر الصغير وبدر العجوز في عيني، وعيني زينب. قالت محتدة بعض الشيء: ولكنك لا تعلم كل شيء يا بني، لا تعلم كل شيء وطلبت مني أن أقترب وأفتح أذني، وتدفقت الكلمات من فمك كما تتدفق قطرات الماء الأخيرة من بئر زحف عليه الجفاف: هل تذكر يوم ذهبت مع أبيك إلى السيرك لآخر مرة قبل وفاته؟

هتفت: بالطبع يا أمي، وأذكر السوق التي اشترى منها بدر.

قالت: عمرك أطول من عمري، لكنك لا تدري كم تعب وسهر وداخ دوخة الكلاب حتى استطعت أن تأخذ البلياتشو في حضنك بعدها بيومين، قلت بصوت الشاعر بالذنب لكي أريحها: لا يا أمي. قالت مؤكدة: ولا نحن قلنا لك شيئا، نبهني أبوك ألا أفتح فمي بكلمة، ظل يكرر علي في شهوره الأخيرة قبل أن تفاجئه السكتة: المهم أن يضحك كلما نظر في وجهه يا أم عبد الرحيم، المهم أن يسعد به ولا يعرف شيئا عما قاسيناه. بقيت ساكتا بينما تحدق عيني في وجهها ويتابع قلبي تموجات صدرها اللاهث، وما هي إلا لحظات تشهق فيها حتى تستأنف حديثها كقطار عجوز يندفع بأقصى سرعة إلى محطته الأخيرة قبل أن ينفد منه الوقود: باختصار يا ولدي أخفينا عنك كل شيء وصممنا على إخفائه طول العمر، حتى جاءني الليلة في المنام وأوصاني.

هتفت بغير وعي: أنت أيضا؟

نظرت إلي مستفسرة فأسرعت أطمئنها: لا، لا شيء، أكملي يا أمي.

لمع في عينيها الشك لحظة، ولكن اللهاث ألح على صدرها فسعلت ووضعت يدها على قلبها كأنها تسكت جرس إنذار وعادت تقول:

ربما تتذكر يا ولدي أنه أخذ البهلوان الذي لم يكف عن الصياح على اليانصيب على جنب وارتفع صوتهما، وتلاحقت صيحات أبيك وإشاراته حتى كاد أن يفجر بركان غضبه فوق رأسه: خمسين جنيه يا ظالم يا مفتري؟ خمسين جنيه ماهيتي في ثلاث سنين؟! والبهلوان يتضاءل وينكمش في ردائه الفضفاض ويحلف بأغلظ الأيمان: أنا ظالم ومفتري يا عبد الرحيم؟ يخونك العيش والملح والعشرة الطويلة يا أخي؟ الظالم والمفتري هو الكبير، اسأله بنفسك يا عبد الرحيم اسأله وذكره بنفسك سيقول لك نفس الكلام. زأر أبوك وهو ينتفض من ساسه لراسه: كلامي معك أنت يا عوضين والعيش والملح كان معك، الولد سيموت على البلياتشو وأنت تحكي الحواديت؟ ما لي أنا وأوروبا وإيطاليا والشحن بالباخرة ومصانع الخزف الأصلي؟ قلت لك الولد متسمر أمام التمثال هدية العمر لطفل صغير مثل ابنك تصرف أنت يا أخي، تصرف.

أقسم عوضين أن هذا هو السعر الذي حدده الكبير لكل التماثيل الخزف، للأسود والبهلوانات والفيل أبي زلومة وسبع البحر، وكلها في اليانصيب لمن يدفع أكثر، هذه هي التعليمات وأنا العبد المأمور.

هدأ أبوك قليلا وأخذ يعاتبه ويذكره بالعشرة القديمة، واتفق معه بحق العيش والملح والأخوة أنه لن يزيد على الثلاثين قرشا واحدا ، وأن الله وحده يعلم كيف سيتصرف في المبلغ ويذوق المر في جمعه، وإذا كان الأعيان والبهوات يملكون المال والأطيان فهو الآن موظف على قد الحال في المشروع، واتفق معه أن يحافظ له على البلياتشو مهما كانت الأحوال وليضرب البهوات رءوسهم في الحائط أو في العز الذي يتمرغون فيه ليل نهار، ليشتروا التحف الأخرى إذا أرادوا فلا تنقصهم التحف، المهم أن يكون البلياتشو في يد الولد وإلا قتلتك يا عوضين، أنت تعرفني من زمان ولا داعي للكلام.

طيب الرجل خاطره ووعده خيرا، وانطلق أبوك كفرس الرهان في اليومين الباقيين على اليانصيب يطرق أبواب المعارف والجيران والزملاء، لا أعلم حتى اليوم يا بني إن كان قد لجأ إلى شقيقه الذي بقي له من الدنيا أو لم يلجأ إليه. كان أبوك كتوما كالجمل الحرون، تكفي إشارة منه لكي أسكت إلى الأبد، وسمعت بعد ذلك من الكلام المتناثر هنا وهناك أنه لم يترك أحدا لم يقترض منه، سهر وتعب ولف وداخ السبع دوخات. قبل كل الأعمال التي عرضت عليه في السوق ووابور الطحين وحراسة المخازن طول الليل وتنقية دودة القطن وحمل الطوب والزلط والأسمنت على ظهره النحيل، كنت ألاحظ الإرهاق على وجهه وغياب النفس عنه في الليل والشعرات البيض التي زحفت على شعره والصمت الطويل الذي يرتفع جداره بيني وبينه كل يوم ويتعذر علي النفاذ منه، تعب أبوك يا ولدي، تعب أبوك.

قلت مغتصبا ابتسامة باهتة: وأنا وبدر لا نحس ولا نشعر!

واصلت كلامها كأنها تشد حبلا أوشك أن ينقطع قبل أن تصل إلى بر الأمان: وفي اليوم الموعود رسا اليانصيب عليه ونجحت حيلة عوضين، ربما تعمد اللعب بأوراقه فحجز الورقة الخاصة بالبلياتشو في جيبه ولم يستطع أحد أن يكشف اللعبة، وربما تصرف تصرفا آخر لا أدريه، المهم أنه جاء في يومها كالصياد الذي يحمل على ظهره غزالا يفوح منه المسك وهو يهتف من الفرح: خالت اللعبة على الجميع يا أم عبد الرحيم، الولد عوضين أثبت أنه ولد شهم وأن العشرة لا تهون، لو رأيت عيون البهوات والأعيان الزائغة وهي ترمق التمثال الذي وضعته على صدري وأحتضنه بيد وسلمت الخمسين جنيها باليد الأخرى لعوضين! المهم أننا نجحنا يا تفيدة وفاز بدر باليانصيب.

قلت له: وتعبك أنت يا عبد الرحيم؟ والبيت والولد وطلباته؟ هل نسيت أن المرتب لا يصل إلى أربعة جنيها ...

قال منفجرا بالضحك كالبحر الذي يدفع أمواجه العالية لتنطح الصخور: تعب العمر يهون يا أم عبد الرحيم، ماذا يساوي العمر أمام ضحكة بدر؟ اطلبي منه أن يحافظ عليه، علميه أنت أيضا كيف يصونه ويكتفي بالنظر إليه كلما صحا من نومه، ما رأيك أن نسمي البلياتشو على اسمه؟ قلت وأنا أضرب كفا بكف: بدر؟ نسميه بدر؟

قال كأنه يرقص: ولم لا؟ المهم أن يلمع في سمائه على الدوام، المهم ألا تنطفئ كسمائي من الكواكب والنجوم.

وفهمت الوصية يا أمي ونفذتها ووضعتها في عيني طول العمر، وعشت أصونها بعد رحيلك إلى رحمة الله وقبل أن أرى أبي في المنام في نفس الليلة التي رأيته فيها، لكن كلماتك سرت في دمي كالأشواك التي لا تتوقف عن الوخز بالأسئلة التي لا تريد أن تهدأ قبل أن تجد الجواب رحت ألوم نفسي بعد أن غادرت غرفتك لتستريحي: كيف تركتك تتحمل كل هذا العذاب يا أبي؟ وكيف غاب عني أن أعرفك وأسأل أمي عنك؟ آه فلأتركك الليلة يا أمي، وليأذن الله بلقاء آخر فهو جل علاه الرحمن الرحيم الذي سميتماني على اسمه الكريم، وآه يا أبي ويا أمي لو رأيتماني الآن وأمامي حطام بدر المسكين!

7

كان قد شرب فنجان القهوة حتى آخره ويئس - كما يقولون - حتى الثمالة من تجميع أشلاء البلياتشو ولحمها بالصمغ، فبقيت متناثرة أمامه كأطلال بيت منهار، والذي زاد من يأسه أنه لم يستطع أن ينقذ عينا واحدة من الوجه المهشم، وحتى عندما أفلح في لم الحاجب المقوس والرموش الطويلة المعفرة بالبودرة والجفن الأبيض المدور لم تطل عليه ابتسامة ولا لمح أثر دمعة واحدة من الدموع التي كان بريقها يخلب لبه كل صباح ومساء كلما تسلل إلى البوفيه ليطمئن عليه، لم يحس بجوع ولا عطش، ولم يجد في نفسه رغبة في النوم ليغرق فيه أحزانه الرائحة الغادية كالأطفال المشردين، لقد شعر بأنها تتضاعف مع كل نظرة إلى الشظايا المحطمة أمام عينيه، ولا يدري كيف خطر على باله أن التمثال المهشم ليس إلا صورة من أبيه الذي تعذب بسببه وربما ذهب كذلك ضحيته، وانهمرت عليه الأسئلة كالعقارب التي يخرجها المطر من بين الشقوق. لم تكن تلك الأسئلة في الحقيقة جديدة عليه، فقد سبق أن طرحها على أمه المسكينة وهو يعلم أنها على شفا النزع الأخير، يا لك من وحش غبي قاس يا بدر! كيف لم ترحم أمك المريضة من تلك الأسئلة التي رحت تلقيها عليها كالمحقق العنيد الذي ينتزع أطراف الاعتراف الأخير من إنسان يحتضر؟ هل تصورت أن عذابك بالإحساس بالذنب نحو أبيك يمكن أن يبرر تعذيبك للعجوز الطريحة اللاهثة الأنفاس؟ وماذا كنت تنتظر من الذاكرة المنطفئة والوعي الذاهل واللسان المتلعثم بفتات لا يشبع جوعك؟

غابت شمس اليوم الذي تحدثت فيه بالحديث السابق مع أمك، وانطوى ليله وأنت مؤرق الجفنين مشغول بالأسئلة التي راحت تلدغ جسدك وروحك ولم تتركك لحظة، ولم تطلع شمس اليوم التالي وكان يوم جمعة لن تنساه! حتى أسرعت إلى حجرة أمك وعلى فمك ابتسامة المتظاهر بالاطمئنان عليها بعد تناول الإفطار والدواء، نظرت إليك زينب وهي خارجة من عندها نظرة أسف وتحذير، لكنك لم تأبه لها ولم تستطع أن تقاوم جنون السؤال:

أمي كلمتني أمس عن أبي، ولكني لم أعرف كل شيء.

ابتسمت بدورها وهي تتأوه وتطلب منك أن تسند ظهرها على المخدة: وهل عرفت أنا كل شيء عنه يا بني؟ أبوك كان جملا كتوما كما قلت لك.

قلت محاولا أن تجرها في الكلام:

أرجوك يا أمي، من حقي أن أعرف كل شيء عن أبي.

قالت كالهاتف من شط آخر: الآن يا ولدي؟ ادع له بالرحمة والثواب، وادع لي وله يوم اللقاء بوجه رب كريم.

قلت بعد أن طاف بصرك على ملامح الوجه المجهد والجبين المتغضن والعينين اللتين تضيقان وتتسعان وتلمعان وتنطفئان:

لن أتعبك أبدا، سأسألك أنا وعليك أن تقولي نعم أو لا.

ضحكت ضحكة خافتة وقالت: العراف لا يعرف يا ولدي، اسأل يا حبيبي.

قلت: أعرف أن أبي لم يكمل تعليمه، كان جدي يرحمه الله يريد أن يصبح واعظا يشرفه في البلد، ولكنه حفظ القرآن بقدرة قادر وسقط سنين في ابتدائية الأزهر، هل صحيح أنه رجع خائبا للبلد وواجه أباه بالحقيقة؟

فتحت فمها بابتسامة مغتصبة وتحسست ساقها وصدرها قبل أن تقول:

سمعت من الإشاعات أنه رجع للبلد فجأة من البندر، ووقف أمام أبيه كالجدي النافر الشرس وقال: لا أريد أن أكمل تعليمي! أنا لا أصلح للوعظ، ولا يصلح لي. سأله الجبار: فماذا تريد أن تكون يا فالح؟

قاطعتها به بسرعة: الجبار؟

قالت أسرع منه كأنها تقبض على صورة أو عبارة هاربة: نعم، جدك، كان الجميع يسمونه الجبار.

رجعت إلى سؤالك: أكملي، أكملي، وماذا قاله له؟

قالت ضاحكة: رد عليه وهو يتأهب لصفعة أو ركلة: أن أكون بلياتشو! زأر الجبار كأسد يستعد للوثوب على المدرب الذي لسعه بالسوط: إذن فتوكل على الله واخرج من بيتي، لست ابني ولا أعرفك حتى تتوب عما في دماغك. قلت لتخفف عنها عبء الكلام الذي كاد أن يتحول إلى أنين:

وتصادف وجود السيرك في البلد في تلك الأيام، وانضم إليه وألبسوه ثياب البلياتشو، وراح يقدم عروضا، ثم بحثوا عنه يوما فلم يجدوه، كان قد هرب مع الغازية وضاع في بلاد الله.

أغمضت عينيها وأطرقت برأسها وتمتمت مستغفرة داعية قبل أن تقول: العلم عند الله يا ولدي، كان هذا قبل أن نتزوج ويرضى الله عليه وعلي. مددت ذراعك وأخذت تداعب خدها وتربت على رأسها: وكنت حبه الأول والأخير. اطمئني فلن أسألك، لم يكن هو وحده الكتوم كما تقولين. ولما لم تجد منها رغبة ولا قدرة على الكلام، ولما تجلى وجهها أمامك كأنه شمس أشرقت فجأة بنور ربها وبالنور الطالع منها، رحت تتدفق بالثرثرة كالتلميذ الذي يسمع درسا أمام معلم صبور وعطوف .

ورجع إلى البلد خائب الأمل دون أن يدري أحد ودون أن يفكر في أن يطرق باب البيت، أخذ يتجول مع بعض أصحابه في العزب والكفور لإحياء الأفراح وحفلات الميلاد والطهور بتقديم العروض الصغيرة المضحكة، وبعد شهور أو سنوات جاءت الإشاعة بأن المباحث تفتش عنه في كل مكان، ثم جاء المرسال إلى بيت أبيه بأن يحضر للنقطة للتعرف عليه وسؤاله عنه قبل ترحيله للمديرية، وزاد غضب الجبار وارتفع زئيره وأنكر أن له ابنا بهذا الاسم، وبعد ذلك ...

قالت أمه بعد أن استردت أنفاسها ومرت السحب التي غطت وجهها أثناء كلامك: زمان وراح يا ولدي، زمان الله لا يرجعه، من يوم أن أغلق الباب علينا وعشنا تحت سقف واحد لم يذكر اسم الإخوان ولا الشيوعيين.

سألت نفسك ذاهلا: الإخوان والشيوعيين؟ هذا شيء لم أسمع عنه من قبل، كل ما لملمته من أخباره أن عم عبد الفضيل زاره في السجن الذي لم يبق فيه سوى شهرين، ثم أفرج عنه بحجة اختلال عقله، أو ربما لعدم ثبوت أي تهمة عليه، وسمعت أمك تقول وهي تثبت عينيها في وجهك: كانت نزوة شباب وراحت، كالغازية الله يسامحها قبل زواجنا، ورجع لعمله وقراءاته.

سألت متلهفا: قراءاته؟ هل ظل حريصا على القراءة يا أمي؟

قالت كأنها تعتب عليك أيضا: طول الليل يا ولدي ... ثم وهي تبتسم: كأنه داء بالوراثة. سألت بصوت لم يخل من الندم والاعتذار ولم تغب عنه اللهفة: وهل كان يكتب أيضا يا أمي؟ ألم تلاحظي أنه كان يمسك القلم أحيانا ويسود صفحات بيضاء؟

قالت كأنها تتمنى أن ترحمها من كثرة الكلام التي أتعبت قلبها:

لم ألاحظ يا بدر، إلا أنه ترك السيرك والتمثيل وسيرته وانصرف لعمله في المشروع، أحيانا كنت أراه يقرأ أو يكتب طول الليل وأحذره من البرد وأحضر له البطانية ليغطي ساقيه، وأذكره بأن يلبس الشراب في قدميه، لكن بعد حضورك للدنيا لم يعد يشغله إلا العمل والجري علي وعليك، حتى أصحابه الذين كانوا يزوروننا أحيانا من جيراننا في المشروع، كانوا يتندرون على استقامته وتفانيه في عمله وإخلاصه أحيانا.

انتبهت فجأة وسألت مشجعا رغم فداحة إحساسك بالذنب ويقينك بأن السقف لو انهار ووقع البيت فستكون أنت المسئول عما حدث: أحيانا ماذا يا أمي؟ هل حن مرة للتمثيل أو السيرك؟

قالت في صوت ضعيف كأنه يخرج من أغوار مغارة في الجبل:

التمثيل؟ لا لا، ولكنه لم ينقطع أبدا عن الذهاب للسيرك كلما نصب خيامه في البلد حتى انقطع تماما بعد أن أخذته الحكومة. قلت ملهوفا: مفهوم مفهوم، لكنك ذكرت أنه أحيانا ...

قالت وفي صوتها رنة الشكوى من تعذيبك: نسيت يا بدر، نسيت يا بني. تشبثت رغم كل شيء بالسؤال كأنك تلسع بسوطك الحصان العجوز الذي برك على الأرض من شدة التعب: ألم يكن يواصل الكتابة كما قلت طول الليل؟ كان بالطبع يقطعها أو يمزق ما كتبه أو يقول لك شيئا.

قالت لك مصممة على إنهاء الحديث الذي طال: نعم نعم، أحيانا كان يردد كأنه يكلم نفسه: أنا النديم الفاشل، أكتب مذكرات لن يقرأها أحد ولن يسمعها أحد.

سألت كالملسوع وقد هزك الشوك الذي لم تقو على كتمانه: النديم؟ هل قال النديم؟ أين هذه المذكرات يا أمي؟ أرجوك تكلمي، أين هذه المذكرات؟

لكنها كانت قد دخلت الغيبوبة، أفلتت منها كلمة المذكرات ثم غابت عنك وعن الدنيا بكل ما فيها، وأخذ السؤال يلح عليك في تلك الليلة كما ألح عليك سنوات بعدها.

أين أجد هذه المذكرات؟ كيف أعثر عليها؟!

أوراق صينية

1

أغنية الموتى

جمع الحديث بين الحكماء الثلاثة: تسي-سانج-هو، وبينج-تسي-فان، وتسي-كين- تشانج، تكلم أحدهم فقال: من يمكنه أن يوجد ومع ذلك لا يوجد؟ من يمكنه أن يعمل ومع ذلك لا يعمل شيئا؟ من يمكنه أن يصعد إلى السماء، ويتجول بين السحب، ويغادر المكان، وينسى الوجود، دائما وأبدا وبلا نهاية؟

نظر الحكماء الثلاثة إلى بعضهم وابتسموا، ولما كانوا جميعا بعيدين عن الشك، قد أصبحوا أصدقاء، مات الحكيم تسي-سانج-هو بعد هذا الحديث بقليل، ولما علم كونج-فو-تسي (كونفوشيوس) بالأمر بعث تلميذه تسي-كونج للمشاركة في المأتم والعزاء، وعندما وصل تسي-كونج إلى هناك سمع أحد أولئك الأصدقاء وهو يغني هذه الأغنية التي راح الصديق الآخر يصاحبها بالعزف على القانون: «متى سترد إلينا نفسك يا سانج-هو؟ متى سترد إلينا

أسرع تسي-كونج بالدخول وهتف بأعلى صوته: «إنني أسمح لنفسي بأن أسألكم: هل يتفق الغناء أمام الجثمان مع القواعد والطقوس؟» نظر الصديقان إلى بعضهما وابتسما قائلين: «ماذا يعرف هذا الرجل عن القواعد والطقوس؟» رجع تسي-كونج «إلى بلدته» وروى على أستاذه كونج-فو-تسو ما رأى وسمع وسأله: «أي نوع من البشر هؤلاء؟ إنهم لا يخضعون عملهم للقواعد ويعاملون الجسد كأنه شيء غريب وهم لا يتورعون عن الجلوس أمام جثمان ميت ورفع أصواتهم بالغناء دون أي شعور أو إحساس، إنني لا أفهمهم ولا أدري من أي نوع من الناس هم، هلا قلت لي يا معلمي من هؤلاء؟» رد عليه كونج-فو-تسي قائلا: «هؤلاء الناس يتجولون وراء قواعد الحياة، أما أنا - يا ولدي - فأتجول فيها؛ لهذا لا تلتقي الطرق التي نسير عليها، ولقد تصرفت تصرفا أحمق عندما أرسلتك إلى المأتم. إنهم يرون أنفسهم أحباب الخالق ويعملون من خلال شعورهم بوحدة الأرض والسماء، وهم ينظرون إلى الحياة كما لو كانت ورما يخلصهم الموت منه، إنهم لا يعرفون أين كانوا قبل الميلاد ولا يعرفون إلى أين يصيرون بعد الموت، ومع أنهم يعترفون باختلاف العناصر بعضها عن بعض، فقد استقروا باختيارهم على وحدة جميع الأشياء، وهم لا يكترثون بانفعالاتهم، ولا يستجيبون لإحساساتهم، إنهم يجوبون الأبدية ذهابا وجيئة دون أن يعرفوا بداية ولا نهاية، وهم يحلقون وراء حدود التراب، ويشردون في ممالك عدم الفعل، فكيف يهتم أمثال هؤلاء الناس بالعادات والتقاليد أو يحفلون برأي العامة فيهم؟» قال تسي-كونج: «إن كان الحال كما تقول، فلماذا نتقيد بالقواعد؟» أجاب كونج-فو-تسي: إن السماء هي التي قضت علي بهذا، ومع ذلك فسوف أشركك فيما وصلت إليه، سأل تسي-كونج: «وعلى أي طريق وصلت؟» قال كونج-فو-تسو: «الأسماك تعيش وتترعرع في الماء، والإنسان يعيش ويترعرع في الطريق (الطاو)، وإذا حصلت الأسماك على بركة ماء تحيا فيها وجدت غذاءها، وإذا حصل الإنسان على الطريق الذي يحيا به لم يحتج إلى عمل ووجد الأمان، من هنا جاءت هذه الحكمة: كل ما يحتاج إليه السمك هو الماء، وكل ما يحتاج إليه الإنسان هو الطريق.» قال تسي-كونج: «هل تأذن لي بأن أسألك وما هو الحال مع الإنسان الأسمى والمتفوق؟» أجابه كونج-فو-تسو قائلا: «إن المتفوقين من البشر خاضعون للسماء، من هنا جاءت هذه الحكمة: أقل الكائنات شأنا في السماء هو أسماها على الأرض، وأرفعها قدرا على الأرض هو أهونها شأنا في السماء.»

عندما ماتت زوجة تشوانج-تسو

عندما ماتت زوجة تشوانج-تسو ذهب إليه هوي-تسي ليعزيه في مصابه، كان تشوانج تسو جالسا على الأرض، ممددا ساقيه إلى الأمام، وكان يغني ويوقع على طبلة، هتف به هوي-تسي قائلا: أظن أن من أسوأ الأمور ألا يبكي الإنسان زوجته التي قاسمته حياته وربت أولاده ثم ماتت بعد أن تقدم بها العمر، أما أن يدق على الطبل ويغني فذلك من أعجب الأمور. قال تشوانج-تسي: «هون عليك، ليس الأمر كما تقول، فعندما ماتت غلبني التأثر الشديد، ولكن سرعان ما تفكرت في الأمر، لقد كانت موجودة قبل أن تولد، بلا شكل ولا كيان، ثم في أثناء الزحام الأول تحولت، فصارت الروح كيانا، واكتسب الكيان شكلا، وانتقل الشكل إلى الميلاد، والآن قد حدث تحول جديد، ماتت في أعقابه، هكذا ينتقل الإنسان من الربيع إلى الخريف ومن الصيف إلى الشتاء، إنها الآن تنام بهدوء في البيت الكبير، ولئن بكيت أو شكوت لكان معنى ذلك أنني لم أدرك مغزى شيء من كل ما قلت؛ لهذا تخليت.»

الجمجمة

عثر تشوانج-تسو ذات يوم على جمجمة بهت لونها وإن ظلت محتفظة بشكلها، مسح عليها بعصاه وقال: «هل كنت فيما مضى من الزمان لرجل طموح أوصلته رغباته العاتية إلى هذه الحال؟ أم كنت لحاكم ساق بلاده إلى الهلاك ففصلت رأسه بالبلطة عن جسده؟ أم كنت لوغد شرير أورث أسرته العار؟ أم لشحاذ مات بعد أن قاسى آلام الجوع والبرد؟ أم وصلت إلى هذه الحال بعد أن بلغت من العمر عتيا؟» لما انتهى تشوانج-تسو من كلامه أخذ الجمجمة معه وجعلها عند النوم مخدة وضعها تحت رأسه، ورأى في الحلم كأن الجمجمة قد ظهرت له وقالت: لقد برعت يا سيدي في رصف كلماتك، ولكنها كلمات لا تستمد معناها إلا من الحياة، ولا تقوم لها قائمة إلا فيما يضطرب فيه الأحياء، أما الموت فلا يعرف شيئا من ذلك كله، أتريد أن تسمع عن الموت؟ أجاب تشوانج-تسو: نعم أريد. تكلمت الجمجمة قائلة: «ليس في الموت سيد ولا مسود، وتأثيرات الزمان شيء غير معروف، إن وجودنا التاريخي هو وجود السماء والأرض والسعادة التي ينعم بها أمير بين الناس لا تساوي شيئا إذا قيست بالسعادة التي نحيا فيها.» غير أن تشوانج-تسو لم يصدق الجمجمة فقال: «لو استطعت أن أقنع السيد المتصرف في الأقدار بالسماح لجسدك بأن يولد مرة أخرى وبتجديد عظمك ولحمك حتى ترجعي لأبويك وزوجك وولدك وصحابك ورفاقك الأوفياء لعهدك، فهل ترحبين بذلك؟» عندها فتحت الجمجمة عينيها على سعتهما وزوت حاجبيها وقالت: «كيف تنتظر مني أن أنبذ سعادتي الملكية وأغوص في شقاء القدر البشري وآلامه؟»

الساحر

في دولة تشينج عاش ساحر يدعى «كي هسين» كان يعرف كل شيء عن الميلاد والموت، والعمار والدمار، والسعادة والشقاء، والعمر الطويل والقصير، وكان يتنبأ بالأحداث قبل وقوعها بدقة متناهية كأنه أحد الأرواح. كان سكان تشينج يفرون كلما رأوه، ولكن لي-تسي زاره فأصابه الذعر ورجع إلى معلمه هو-تسي وهو يقول: «لقد تصورت أن الطريق (الطاو) الذي وصفته لي هو أكمل ما في الوجود، أما الآن فقد عرفت شيئا أكمل منه.»

رد عليه هو-تسي قائلا: «إنني لم أعلمك حتى الآن غير الثوب الظاهر للطريق، ولم أعلمك حقيقته ، ومع ذلك تزعم أنك تعرف عنه كل شيء، إذا خلت حظيرة الدجاج من الديكة، فهل يمكن أن يضع الدجاج بيضا؟ من حاول أن يفرض الطريق على الناس فلن يخسر إلا نفسه، أحضر ذلك الساحر وسوف أكشف له عن نفسي.»

في اليوم التالي جاء لي-تسي ومعه كي-هسين لزيارة هو-تسي، وعند خروجهما من بيت المعلم قال كي-هسين: «آه، إن معلمك يقترب من الموت، لن يبقى على قيد الحياة أكثر من عشرة أيام، لقد لاحظت عليه شيئا عجيبا، لاحظت رمادا رطبا.»

دخل لي-تسي على معلمه باكيا وروى عليه ما سمع، قال المعلم: «لقد أبديت له من نفسي ما تبديه لنا الأرض من سطحها الظاهر الساكن، في الوقت الذي لا تتوقف فيه عملية الخلق الدائرة في باطنها. لقد منعته فحسب من رؤية القوة الكامنة. أحضره مرة أخرى إلى.» في اليوم التالي كررا الزيارة، وعند انصرافهما قال كي-هسين للي- تسي: «معلمك محظوظ لأنه قابلني اليوم، إن حالته في تحسن، وعلامات الحياة تبدو واضحة على وجهه، لقد لاحظت أن الميزان اعتدلت كفتاه.»

دخل لي-تسي على معلمه وأخبره بما سمع، قال المعلم: «لقد أظهرت له نفسي كما تظهر السماء في صفاءها وهدوئها، ولم أسمح إلا بقدر قليل من القوة التي بدت تحت كعبي، بذلك استطاع أن يكتشف أن لدي شيئا منها، أحضره مرة أخرى.»

رجعا في اليوم التالي، وعند انصرافهما قال كي-هسين للي-تسي: «معلمك لا يستقر يوما على حال، لا يمكنني أن أستدل من مظهره على شيء، أقنعه بأن يثبت على وضع واحد وسوف أعود لفحصه من جديد.»

بعد أن سمع هو-تسي هذا الكلام من لي-تسي قال له: «لقد كشفت له عن نفسي في حال التوحد الكلي، حيث تضطرب حورية البحر، تكون الهاوية، حيث يسكن الماء، تكون الهاوية، حيث يدور الماء، تكون الهاوية، للهاوية تسعة أسماء، وما هذه غير ثلاثة منها.»

في اليوم التالي جاء الاثنان مرة أخرى لزيارة هو-تسي غير أن كي-هسين لم يقو على الصمود، فخرج مرتبكا ولاذ بالفرار.

هتف هو-تسي صائحا: «اتبعه!» وجرى لي-تسي وراءه، ولكنه لم يستطع اللحاق به؛ ولهذا رجع وأخبر هو-تسي أن الهارب قد اختفى.

قال هو-تسي: «لقد أظهرت له نفسي كما ظهر الطريق قبل أن تبدأ البداية، كنت في نظره أشبه بالفراغ العظيم الذي يستمد وجوده من ذاته، وعجز عن أن يعرف من الذي يراه ماثلا أمامه: فقد تبدى له مرة في حالة التلاشي، وتجلى له أخرى في حالة التدفق؛ لهذا هرب بجلده.»

هنالك أدرك لي-تسي أنه لم يكن قد بدأ بعد في اكتساب المعرفة؛ ولذلك قفل راجعا إلى بيته وقضى فيه ثلاث سنوات دون أن يغادر بابه، أخذ يساعد زوجته في طهو الطعام لعائلته، وفي تغذية الخنازير وكأنها مخلوقات بشرية، ونفض يديه من أعمال الحفر على الخشب والتصوير التي اعتاد ممارستها ورجع إلى البساطة الخالصة.

بدا لكل من يراه كأنه طود من الطين الثابت في الأرض وسط الاضطراب كان رابط الجأش ثابت الجنان، هكذا بقي إلى النهاية.

الأنقياء

من يعرف شأن السماء، من يعرف شأن الإنسان، فقد بلغ الغاية، وهو إذا عرف «السماوي» فقد عرف الأصل الذي جاء منه، وإذا عرف «الإنساني» فقد استقر في معرفة المعروف، وتوقع معرفة المجهول، إن الوصول بالحياة المقسومة إلى الكمال، وتجنب الهلاك في منتصف الطريق هو نضج المعرفة، بيد أن ذلك ينطوي على نقص، فالمعرفة مرتبطة بالنضج، والنضج غير مؤكد، ومن أين لي أن أعلم أن ما أتصور أنه هو السماوي ليس في الحقيقة هو الإنساني، وأن ما أعتقد أنه هو الإنساني ليس في الحقيقة هو السماوي؟ لا بد أن يكون لدينا أناس أنقياء، عندئذ يمكننا أن نحوز العلم النقي.

ولكن من هو الإنسان النقي؟

لقد كان الأنقياء في العصر القديم يعملون بغير أن يحسبوا حسابا لشيء، وكانوا في سعيهم لا يحرصون على ضمان النتائج، ولا يشغلون أنفسهم بتدبير الخطط، إذا أخفقوا لم يجدوا في الإخفاق ما يدعو للندم، وإذا أصابوا النجاح لم يروا فيه ما يدعو للزهو، بذلك استطاعوا أن يتسلقوا الذرى دون أن يشعروا بالخوف، وأن يغوصوا في الماء دون أن يحسوا بالبلل، وأن يخطوا في النار دون أن يهابوا لسعها، هكذا قربتهم معرفتهم من الطريق (الطاو).

كان الأنقياء في العصر القديم ينامون بلا أحلام، ويصحون من نومهم بلا قلق، كانوا يأكلون بلا نهم، ويتنفسون بعمق، ذلك أن تنفس الأنقياء يأتي من أعمق الأعماق، أما أنفاس العامة والوضعاء فتأتي من الحلوق.

والأنقياء من أبناء العصور القديمة لم يكونوا يحبون الحياة، ولا كانوا يكرهون الموت، كان البدء لا يوقظ فيهم الفرح، وكان المنتهى لا يثير فيهم نوازع الصراع، إنهم يأتون في ثبات، ويذهبون في ثبات: وكان في ذلك الكفاية، لم ينسوا ذلك الأصل الذي انحدروا منه، ولم يشقوا أنفسهم بذلك المصب الذي سينتهون إليه، لقد أخذوا نصيبهم عن طيب خاطر، وانتظروا داعي الموت في سلام، هذا هو الذي يوصف بعدم مقاومة الطريق، ولا محاولة استبدال ما هو من شأن الإنسان بما هو من شأن السماء، هذا هو طبع الأنقياء.

إن أرواح هؤلاء الناس أرواح حرة، ومواقفهم تتسم بالوداعة، ووجوههم مرحة مستبشرة، برودهم من برودة الخريف، وحرارتهم من دفء الربيع، وتقلب دوافعهم يتم بوحي من قانونهم الخاص كما هو الشأن مع تقلب الفصول، إنهم يعيشون في تجانس مع كل شيء، وما من أحد يحيط علما بحدودهم.

لذلك يمكن أن يدمر «الحكيم» الكامل مملكة دون أن يخسر قلب الشعب، وبغير أن يتعمد «حب البشر» تجده قادرا على إسعاد عشرة آلاف جيل.

من يفرح بالناس ليس هو الكامل. من يشعر بالميل ليس هو المحب. من يراقب «تحول» الأزمنة ليس هو الحكيم. من لا يتلقى الخير والشر بقدر متساو ليس هو القدوة. ومن لا يضحي بنفسه تضحية مطلقة فلن يصلح للحكم.

2

الطريق

أنا الباحث عن المعرفة، هذا هو الاسم الذي أطلقه الناس علي، هل عرفوا أن معرفتي لم تزدني إلا جهلا وشقاء؟ جبت جميع الطرقات ولكني لم أجد الطريق، تجولت نحو الشمال، عبرت الماء الأسود وصعدت جبل الأسرار المجهولة، هنالك التقيت بذلك الناسك الذي طالما سمعت عنه، وكل من سألته كان يهمس قائلا: إنه الناسك الذي لا يعمل شيئا ولا يقول شيئا، دخلت عليه كوخه في أعلى الجبل، ركعت وعفرت جبهتي بالتراب وقلت: أريد أن أسألك: فيم أفكر؟ ماذا أتأمل أو أعمل لكي أعرف الطريق؟ أين أضع قدمي لكي أقترب منه؟ من ذا يمكنني أن أتبع، وعلى أي سبيل أخطو، حتى أصل إلى الطريق؟

ظل الناسك صامتا لا يتكلم، ساكنا لا يتحرك، أخذ ينظر في الفراغ الممتد أمامه وحوله دون أن يقول كلمة أو يحرك إصبعا، هل كان أخرس لا يقدر على النطق؟ هل كان يعرف الجواب ولم يرد أن يتفوه به؟ هل أراد أن يقوله فلم يستطع؟

انحنيت الإنحاءات الواجبة، عفرت جبيني بالتراب، كررت السؤال فلم يجرح السكون صوت، وأدرت ظهري وخرجت، يممت وجهي نحو الجنوب، عبرت الماء الأبيض وصعدت جبل الأنوار المشرقة، هنالك لقيت زاهدا نحيلا خفيف الحركة بادرني بالتحية من وجهه الطلق وابتسامته العذبة وسألني قبل أن أفتح فمي: آه! كنت تبحث عن دوامة الوهم.

تحيرت وارتج علي القول، كان أسرع مني فقال: هذا هو الاسم الذي يدعونني به، أعرف، أعرف ما تبحث عنه، أريد أن أقول لك، أريد ...

توقعت أن أسمع منه فلم يتكلم، شعرت أن الأفكار تصل إلى باب فمه وتتوقف، قلت لنفسي: ربما نسي ما أراد أن يقول، ربما كان الناس على حق عندما سموه دوامة الوهم، إن الدوامة تجرفه وتدور به في كل اتجاه، هلا سموه دوامة النسيان؟

كنت قد سمعت بالقيصر الأصفر أثناء طوافي بالقرى والبلاد، والجبال والوديان، ظللت أسأل عنه كل من ألقاه على الطريق حتى عثرت عليه، ولم أكد ألمح أسوار قصره من بعيد حتى اندفعت نحوه بقوة نسر جائع، لم ألتفت للحراس والحجاب والجنود، بل دخلت عليه قاعة العرش ورحت ألقي أسئلتي قبل أن ينتبه إلى وجودي، ابتسم القيصر الأصفر واعتدل في جلسته وأشار إلي أن أقترب وقال: لا شيء هنالك لتفكر فيه ، لا يجدي أن تتأمل أو أن تعمل، لن ينفع علم أو قول، والمعرفة لن تعرفك به.

أردت أن أعترض، حاولت أن أحتج، كنت على وشك أن أهتف به: وإذا لم تعرفني المعرفة به، فكيف أعرفه؟ عندئذ دخل صوته الهادئ في سمعي كتيار ماء بارد: لا أرض لتقف عليها، لا شيء تقبض عليه لكي تقترب من الطريق، لا شيء ولا أحد تتبعه، لا درب تسير عليه لكي تصل إلى الطريق.

رويت له ما كان من أمري مع الناسك الذي لا يتكلم ولا يعمل، ومع دوامة الوهم الذي أوشك أن يتكلم فلم يستطع، ثم رفعت يدي كأني أشير إليهما على البعد وقلت: حسن! أنت وأنا نعرف هذا، لكن الناسك والواهم لا يعرفان. من منا على حق؟

اتسعت ابتسامة القيصر الأصفر، ضحك وقال: الصامت الذي لا يعمل على حق، والواهم في دوامته قريب من الحق، أما أنت وأنا فمخطئان، أنت وأنا ...

هممت أن أقاطعه فلم أجد ما أقوله، أحسست كأن الصامت يقف هناك ويحذرني من الكلام، أو كأن دوامة الوهم قد أعداني بالنسيان، واستطرد القيصر الأصفر قائلا: إن الذين يعرفون لا يتكلمون، والذين يتكلمون لا يعرفون. قلت للقيصر الأصفر: لقد سألت الصامت الممتنع عن العمل فلم يجبني، هل كان يريد أن يتكلم فلم يقدر؟ وسألت دوامة الوهم وأحسست أنه يوشك أن يتكلم، غير أنه لم يقل شيئا، هل رفض أن يتكلم، أم نسي ما أراد أن يقوله، والآن أسألك فتجيبني بأنك مخطئ وأنني مثلك في الخطأ، ماذا تقصد بقولك هذا؟

قال القيصر الأصفر وكأنه يجذب ستارة كثيفة أمامه وأمامي: «كان الصامت الممتنع عن الفعل على حق؛ لأنه لم يكن يعرف، وكان دوامة الوهم قريبا من الحق لأنه نسي ما كان يعرف، أما أنت وأنا فعلى خطأ لأننا نعرف»، قلت محتجا: لأننا نعرف؟! وماذا نعرف؟ ألم أحضر إليك لأعرف؟ وإذا كنت تعرف فلماذا لم تعلمني، لماذا لم ترو ظمئي وتشبع جوعي؟ لماذا؟

لكن القيصر كان قد أشار برأسه إشارة شدني بعدها الحراس والحجاب إلى خارج القاعة، ثم إلى خارج القصر.

عدت أطوف البلاد والقرى، وأعد المياه والجبال، حدثني الفلاحون والصيادون في المناطق النائية على حدود المملكة عن حكيم يدعى تشينج، سألتهم: هل يعرف هذا الحكيم؟ هل يمكنه أن يدلني على الطريق؟ كانوا يلزمون الصمت كلما سمعوا اسم المعرفة أو فعل يعرف. اكتفى أحدهم بعد الإلحاح عليه بقوله: إنه يملك الطريق. ذهبت إليه في كوخه المتواضع على شاطئ النهر الأخضر وقلت: هل يمكنني أن أملك الطريق؟

قال تشينج: جسدك ليس ملكا لك، فكيف تريد أن تملك الطريق؟

سألت: إذا لم يكن هذا هو جسدي، فجسد من هو؟

قال تشينج: جسدك ليس ملكا لك، إنه الصورة التي طبعتها عليك الأرض والسماء، وحياتك ليست ملكك، إنها تجانس الأرض مع السماء قد حل فيك، والنسل الذي انحدر منك ليس هو نسلك، إنه تجدد الأرض والسماء من خلالك، أنت تسير ولا تعرف من يدفعك على السير، تسكن أو ترقد ولا تعرف من الذي يحملك على السكون أو الرقاد، تأكل وتشرب ولا تعلم ما الذي يجعلك تتذوق ما يطعمك ويرويك، تلك هي قوة السماء والأرض، قوتها التي تفعل فعلها فيك، كيف تريد إذا أن تحصل على الطريق، كيف تطمع أن تملكه؟!

لم يزدني تشونج إلا حيرة على حيرة، كدت أن أغير اسمي، وهو الباحث عن المعرفة، وأسمي نفسي: من لا يبحث ولا يريد أن يعرف. وبينما كنت جالسا تحت ظل شجرة عبر بي رجل شعرت أنه يمكن أن يحمل في صدره الجواب، كنت قد انجذبت لمرآه وشعرت نحوه بالهيبة الممزوجة بالحب والتعاطف والاحترام، واقترب مني وجلس إلى جواري وقال قبل أن أوجه السؤال: تريد أن تجد الطريق، أليس كذلك؟ ما من شيء لا تجده فيه.

سألت: اعطني مثلا على ما تقول.

قال: إنه في هذه النملة.

هتفت: النملة!

قال: وفيما هو أقل، في هذا العشب.

صمت: هذا العشب؟

قال: وفيما هو أدنى في هذه النبتة.

سألت: هذه النبتة الضئيلة؟

قال: وفيما هو أسفل وأحط، في هذا الكوم من الفضلات.

قلت : هو في هذا كله ؟

أشار بيده المفتوحة كأنه يمدها إلى كل شيء في الأرض والسماء ويطويه في قبضته وابتسم قائلا: هو فيه وليس فيه، لا تبحث عن شيء بعينه، فما من شيء يخلو منه، ولا تتوقف عند شيء بدأته، فما من شيء ينفرد به، إننا ننطق كل لحظة بكلمات وكلمات، هل سألت نفسك يوما عن الكلمة الأصيلة من بينها؟ إنها هي التي تعني الكل، هي التي تدل على الواحد، كذلك الطريق إنه الكل، الواحد، لقد بحثت كثيرا فيما يبدو.

قلت وأنا أطرق برأسي إلى الأرض وأراقب نملة تتحرك على جلدي: لقد عبرت المياه السوداء والمياه البيضاء، وتسلقت جبل الأسرار وجبل الأنوار، سألت الناسك الذي لا يتكلم ولا يعمل، والتقيت بالزاهد الذي سموه دوامة الوهم، ثم ذهبت إلى القيصر الأصفر في قصره ... قاطعني قائلا: إذا فجرب أن تذهب معي إلى قصر اللامكان. رفعت حاجبي وفتحت عيني وسألت: قصر اللامكان؟ وأين أجده؟ قال وهو يرمقني بنظرة متسامحة: ألا تريد أن تعرف إلا لتجد؟ إنه لا يعرف ولا يعثر عليه، هنالك وسط جميع الأشياء والكائنات، في وحدة كل المخلوقات، هنالك تجد الكلمة معناها، تصبح هي الكل والواحد واللامحدود.

سألت: وماذا نفعل في هذا القصر الذي لا يوجد في أي مكان؟

قال: ماذا نفعل؟ سنحاول ألا نفعل شيئا، أن نتقن عدم الفعل.

سألت: وماذا نفعل حتى نتقن عدم الفعل؟

قال: نسكن، لا نتحرك.

قلت: وإذا تحركت الرغبة فينا بالحركة؟

قال: نخلي أنفسنا من أية رغبة، وهنالك تنطلق الروح، تسكن دون أن تدري أنها ساكنة، تتجول، تذهب وتجيء، تتقدم، تتراجع، لكن لا تشعر بالهدف ولا تسعى له، هل عرفت لماذا؟!

قلت: لأنها استراحت في قصر اللامكان.

قال: وتخطت كل حدود الأشياء.

قلت: بحيث لا تبدأ ولا تنتهي؟

قال: وتكون نهايتها في بدايتها، كما تكون البداية في النهاية، إنها الآن وراء البداية والنهاية، وراء الحياة والموت، وراء الجسد والروح.

سألت: في الأبدية؟ هل هذا ما نقصده بتخطي كل الحدود إلى اللامحدود؟ هل هو طريق الحقيقة؟

قال وهو يفتح ذراعيه كمن يحتضن الكون بأسره: لا تنس أنه ليس هو الحد ولا اللامحدود، إننا نتكلم عن الملاء والخلاء، كما نتكلم عن التجدد والفساد، طريق الحقيقة هو الذي يكون الملاء والخلاء، لكنه ليس ملاء ولا خلاء، وطريق الحقيقة وراء التجدد والفساد، ولكن ليس هو التجدد ولا الفساد، وهو الذي يبدع الجذر والتاج، غير أنه ليس هو الجذر ولا التاج، ويحدث التجمع والشتات، دون أن يكون هو التجمع والشتات.

تلبدت قسمات وجهي بالحيرة المفاجئة، فتحت فمي فخرجت لفحة حارة ولم تخرج كلمة واحدة، قال في هدوء: إن سؤالك لا يجاب عليه، وبحثك لا يؤدي للوصول، لا تسأل عن الطريق ولا تحاول أن تعثر عليه، كن أنت الطريق ودعه يكونك.

سألت بائسا: كيف؟ كيف؟

قال: ما زال سؤالك يلقيك بعيدا عنه، حاول أن تتوحد به، هل رأيت الصغار وهم يتحدون في حضن الأم؟ هل شعرت بالأم وهي تتحد بالصغار؟ كن أنت الواحد والوحدة، وكن الأب والأم، عندئذ تتخطى كل حدود الأشياء لتصبح أنت الوحدة والواحد والكل، عندئذ تتخطاني حتى أتمنى أن أتبعك وأمشي في أثرك.

الحكيم يملي دموعه المؤجلة

1

الطريق

قال الغلام الذي رافق المعلم إلى منفاه الأخير:

لا أستطيع أن أحول عيني عنه منذ أن خرجنا - هو والثور الأسود السمين الذي يحمله على ظهره وأنا - من البوابة الأخيرة لولايتنا «تشو»، وتركنا وراءنا المدينة في ساعة الشفق كأنها التنين الأصفر الذي يلمع في وشاح الغروب الذهبي برغم السحب الرمادية التي تلفه في الغبار والضباب، ألمح خفية وجه معلمي الشاحب النحيل الذي لم تمح الخطوط والتجاعيد الصخرية قسماته الرقيقة الحنون وهو يلتفت خلفه بين الحين والحين كأنما يتلفت قلبه المهموم على أجنحة نظراته الطيبة التي تحجرت فيها الدموع منذ سنين، وكلما قطع الصمت الذي يتدثر بسواده الفاحم أكثر مما يتدثر جسده الفارع الهزيل بعباءته السوداء، كلما حرك شفتيه أو أشار بيده الصغيرة البارزة العروق، أسرعت إليه ومقود الثور لا يغادر يدي وندائي عليه لا يتوقف: نعم يا معلمي، هل تطلب شيئا؟ لكن ما أندر أن يفتح فمه بكلمة أو ينطق عن رغبة، حتى الزاد القليل الذي أقدمه له عندما نميل قليلا إلى ظل شجرة أو صخرة لنستريح لا يكاد يقربه حتى ألح عليه بلقيمات قليلة أو قطعة لحم خشنة أو قضمة جبن بيضاء.

آه! ما هذه الأحزان التي سكنت قلبك كالخفافيش التي تعشش في كهف مظلم وترفرف أجنحتها السوداء دائما على وجهك وجبهتك وكيانك؟ وكيف أجرؤ على السؤال وأنت الذي علمتني أن الحكيم لا يتكلم وأن الذي يتكلم ليس حكيما؟ وإذا سمح لي طيش الصبا أن أسألك سؤالا، فهل يمكن أن أتجاوز عتبة باب أسرارك الذي أغلقته بألف مزلاج ومنعت عنه الأيدي والأقدام والآذان؟ أقصى ما أقدر عليه أن أداعب رفيقنا الأخرس السمين الذي لا يعنيه إلا البحث عن العشب الأخضر واجترار صمته المختلف عن صمتك.

وأهتف بالثور الواسع العينين الذي أخذ قسطه من الراحة وراح يرسل نظراته الرخية الخرساء إلى الأفق البعيد: هيا هيا، الطريق ما زال طويلا، وأتجاسر على توجيه كلامي إلى المعلم الذي بدأ يستعد للرحيل: أليس كذلك يا معلمي؟

ويأتيني صوته الخارج من مغارة حلقه وصدره الضيق النحيل: نعم يا ولدي، طويل هو وبلا نهاية. وأعود للسؤال دون أن أتهور بالاستفسار إلى أين أو متى نصل فيقول: طويل هو وعميق بلا قرار. استطعنا أن نسميه ما كان هو الطريق، لو أمكننا أن ندل عليه ما كان هو الطريق الأبدي، وبغير أن أفهم شيئا كما عودني المعلم وعودته أقول ضاحكا: لكننا على كل حال على الطريق! ويقول وهو يتكئ علي ويسند ذراعه إلى كتفي قبل أن يعتلي ظهر الثور المستكين: من يتبع الطريق يصبح هو الطريق، من يهتدي بفضيلته يصبح هو والفضيلة شيئا واحدا، ومن يضيعه يصبح هو والضياع شيئا واحدا، وأداري جهلي أمام الكلمات الملغزة التي تتردد في سمعي كأصوات أرواح غامضة ترقص في صندوق مقفل: سنتابع مهما كانت مشقة الطريق، ويستدير بقامته النحيلة: إذا تعبت فقل لي. وأواصل ضحكي وأنا أدفع الثور وأصيح به: شي، شي. وأنا أقول لك الآن ما سمعته منك مرة: إذا كان الطريق طويلا ولا نهاية له، فهو وحده الذي يمنح القوة والكمال.

نتابع السير على الدروب الوعرة الضيقة وفي الفيافي الواسعة المجدبة إلا من الأعشاب والأشواك، نجتاز الطرق الصاعدة بين الجبال ونهبط المنحدرات الخطرة إلى الوديان، نمر على القرى المتناثرة ونعبر الجسور الخشبية الهشة الممدودة فوق الجداول والأنهار الصغيرة ونحيي الرعاة واللصوص والمهربين والهاربين من الشرطة والحراس، وتمتلئ آذاننا بنباح الكلاب وعواء الذئاب وثغاء الشياه والحملان والماشية ونرد بأدب على حراس الحدود والبوابات، وحين يهلكنا التعب وتحن مفاصلنا وعظامنا إلى الراحة نأوي إلى مكان ظليل ونربط الثور إلى جذع قديم وننام. ما أكثر ما فتحت جفني فجأة لأجد المعلم العجوز يرمقني كأم تراقب طفلها الرضيع، فإذا التقت عيوننا قال وهو يبتسم ويلف عباءته حول ظهره وصدره: هكذا الحكيم الكامل يا بني، فكمال من يجمع الفضيلة في نفسه، أشبه بكمال طفل حديث الولادة، وأفرك عيني وأتمطى وأنا أتلفت حولي: هل أحسست بخطر يا سيدي؟! فيقول وابتسامته لا تفارق شفتيه الجافتين ولا وجهه الصخري المملوء بالتجاعيد: الوحوش لا تعتدي عليه، والجوارح لا تنقض عليه، من يلازم الطريق يبقى في أمان. إن سقط جسده لا يتعرض لخطر.

وأثبت بصري في وجهه الطيب وأستقبل موجات الحنان المنسكبة منه على الرغم من السهر والصمت والشحوب، ثم أغمض عيني إلى الفجر وأنا أتمتم في السر بما سمعته منه مرة وهو يتحدث مع أمي: من يكرم معلمه، يكرمه الطريق، ومن لا يكرم معلمه، فقد ضل إلى أبعد حدود الضلال، حتى ولو كان أكبر العلماء. •••

كيف أحكي قصتي معه وهي لا تعدو بضع خطوات على الطريق؟ ماذا أذكر منها وماذا أدع للتاريخ أو النسيان؟ شي، شي، أيها المتخم الثقيل الكسول! ليتك تدعو السماء أن تفتح كوة ضئيلة في رأسك المظلم المحاصر بالغياب والغباء لتعرف من هو الحكيم الذي يمتطي ظهرك وأحيانا يربت على رأسك وعنقك وشعرك كطفل وديع!

كنت أراه أحيانا وهو يتمشى على ضفة النهر الصغير القريب من سور قصر الإمبراطور، وبغير أن يلفت إليه أحدا أو يلتفت إلى أحد كان ينزلق إلى أكمة ملتفة الأشجار والأغصان والأوراق الكثيفة ويختفي فيها قبل أن تلمحه العيون وهو راجع إلى ضفة النهر متجها إلى باب القصر الخلفي الذي يغلق وراءه في هدوء، وعندما وصفته لأمي وأخبرتها أنني أراه أحيانا وأتتبعه إلى مخبئه دون أن يراني، ضربت على صدرها بيدها الصغيرة وصاحت: كيف تفعل هذا مع حكيم الإمبراطور؟ كيف تجسر يا ولدي على الاقتراب من طريق السماء الذي لا يسير عليه إلا الكامل القديس؟ ألم تسمع أقواله الغامضة التي يرددها الناس حائرين أو ضاحكين عن الطريق؟ قلت في لهفة لا أندم عليها: وأريد يا أمي أن أرافقه على هذا الطريق، أريد أن أكون تابعه وتلميذه. فتحت فمها من الدهشة وقالت: ترافق التنين؟! أجبتها في هدوء: وما رأيك أنني تكلمت معه أيضا ومشيت معه خطوات؟! قالت متحسرة: ما دمت تتلف عينيك كل ليلة بالكتب المأفونة بدلا من رعاية أمك! ضحكت قائلا: وأريد أن تأتي معي لمقابلته حتى أستطيع بعد ذلك أن أرعاك كما تتمنين. •••

كان اللقاء أبسط مما توقعت أو توقعت أمي. انحنت أمامه حتى كاد رأسها يلمس العشب الذي يجلس عليه تحت شجرة ضخمة سوداء وقالت: هذا الولد مفتون بك وبالطريق يا سيدي. سمع عباراتك وأخذ يدونها على الأعواد التي يكلفني شراؤها فوق ما أطيق. ابتسم المعلم وسألها: ويدونها أيضا قبل أن يدونها صاحبها؟ ماذا كتبت يا ولدي؟ هتفت في حماس وأطلقت الكلمات من فمي كمياه متفجرة من نافورة أو شلال: الشجرة الشامخة نمت عن برعم صغير، البرج ذو الطوابق التسعة ارتفع من كومة تراب. رحلة العشرة آلاف ميل تبدأ تحت قدميك. قال ضاحكا: كلماتي سهلة على الفهم، سهلة جدا على التنفيذ، لكن لا أحد في المملكة يقدر على فهمها أو العمل بها، صحت في رعونة يحسدني عليها أشجع المقاتلين: ولكنني أفهمها يا سيدي وأعمل بها أيها الحكيم الجليل، جربني وسوف ألازمك على الطريق.

قالت أمي معتذرة: سامحه يا سيدي، إنه منذ أن قتل أبوه أمام عينيه لا يفعل شيئا سوى تجربة الحبل المعقود، ومنذ أن أرسلته إلى ثلاثة معلمين وهو يملأ حجرات بيتنا الضيق الفقير بالريش والأقلام والمحابر وأعواد الخيزران، ويكدس أوراق الكتب القديمة في كل مكان حتى لا أجد مكانا يتسع لأوعية الطعام أو لجلوس الضيوف القليلين، خذه يا سيدي واجعله تلميذك وتابعك وخادمك الأمين، إنني مريضة ولا أدري كم سأعيش أو متى سأذهب وأتركه بلا أحد يضع عينه عليه أو يضع اللقمة في فمه. قال الحكيم العجوز وهو يمسك بيدي: وهل ستصبر يا ولدي على مشقة الطريق؟ هل تستطيع أن تضحي بكل شيء وتتمسك به؟ قلت وأنا أشد على يده: وأعيش له ولك يا سيدي. قال وهو ينهض متجها وأنا معه إلى بوابة القصر القريب: ولأمك التي ستزورها لتطمئن عليها من حين إلى حين. •••

الطريق طويل وتتسع مساحة صمتي وصمت الحكيم الحزين والثور الأسود السمين لأن أنثر على ترابه أوراق ذكرياتي الجافة، لكن كيف أرتبها وأسرد وقائعها التي تلتصق بلحمي وتزحم مجرى دمي؟ هل يمكن أن أنسى الليالي الطويلة التي قضيتها تحت قدميه وهو يقلب في الأوراق القديمة والكتب العتيقة في مكتبة القصر الملكي بحثا عن نماذج الحكماء القدماء والحكماء الكاملين؟ هل أروي عن صمته الممتد على اتساع طريق السماء والجواهر العشرة آلاف التي تكون الموجودات على سطح الأرض؟ أم أسترجع الأيام والليالي العصيبة التي رأيت أو سمعت فيها حواره الغاضب مع القواد والوزراء أو مع ذلك الشخص العصبي النحيل الذي عرفت فيما بعد أنه هو الإمبراطور، الإمبراطور الذي يقفز في كل مكان كالطاوس المثقل بالألوان الساطعة والثياب الطويلة الغنية بالزخارف المذهبة والتاج البراق الناصع باللآلئ والجواهر على رأسه الصغير؟ وحيرة الإمبراطور وغضبه وكلماته المتدافعة كالحمم الملتهبة بالغضب الأسود وردود المعلم عليه كأنها السدود في وجه السيل؟ وأسفاره التي كان يغيب فيها عن القصر وعن أوراق المكتبة وكنوز خزائنها العتيقة ثم يرجع وهو يدمدم بالكلمات اللاهثة الممزقة كقطع الدم المتجمد التي تنزف من جرح واسع: أين أنتم أيها الحكام الحكماء في الزمن القديم ؟ يا من كنتم نموذج العالم ومقياس المملكة! لم يبق إلا المدعون الذين لا يثق الناس بهم، الذين يمجدون أنفسهم فلا يعترف بهم أحد، ويفرضون على الشعب قوتهم فلا يزداد إلا ضعفا وبؤسا وهوانا، ويفرحون بالمذابح وسفك الدماء ويسمونه انتصارا ويحتفلون به كما يحتفلون بجنازة، أين أنتم أيها الحكماء القدماء لتعيدوهم إلى البساطة والسكينة؟ وكيف أستطيع أنا وحدي أن أعيدهم إلى الطريق أو حتى أكلمهم عنه فيسمعوني؟

حتى جاءت الليلة التي رأيته فيها محتقن الوجه كصفحة جبل عابس أجرد، كانت عيناه زائغتين وتجاعيد وجهه مربدة وملابسه مضطربة ورأسه ويداه وذراعاه في حركة متشنجة، خيل إلي أنني أرى أمامي ذئبا عجوزا انقض حديد الفخ على أعضائه ولم يسمح بالحركة إلا لشعر رأسه المتوفز وذيله المرتعش المتحفز وعوائه المبهم الباكي، قال فجأة وهو يحدق في بعينين محمرتين: لم يبق سوى المنفى! تطلعت في وجهه الثائر مستفسرا، فقال وهو يذرع أرض المكتبة التي اضطربت فيها أوراق التاريخ اضطراب أفكاره: سأنفي نفسي بإرادتي - الحكمة مستحيلة في هذا العالم - والحكيم منبوذ لا يطلبه أحد ولا يستمع لنصحه أحد. هممت أن أتكلم فقال: نعم لم يبق أمامي إلا أن أنفي نفسي بنفسي وأتابع الطريق. قلت مترددا خائفا: وأنا يا سيدي، أنا الذي تمسكت به وبك؟ قال وهو يطرق برأسه مليا: أمك في حاجة إليك. قلت والدموع تسبقني وتفلت جارية على خدي: أنا قادم من عندها، لم تعد في حاجة إلى أحد. اقترب مني وهز كتفي في عنف: ماذا تقول؟ أيمكن أن تتركها وحدها؟ قلت: إنها على وشك أن تتركنا وتترك العالم كله. صاح غاضبا: ولماذا لم تقل هذا؟ لماذا لم تبق معها؟ هيا بنا.

وجرينا إلى البيت الصغير على الضفة الأخرى من النهر. عبرنا جسرين وانحدرنا على طريق مترب مليء بالحفر والبرك الراكدة، ومررنا على أطفال مهلهلي الثياب وعجائز مكومات على أعتاب البيوت، ونهرنا الكلاب الجائعة الضالة أكثر من مرة، وعندما اقتربنا من البيت لمحت عجائز في الثياب البيض يتوافدن على الباب الواطئ وهن يولولن صائحات. كانت أمي في النزع الأخير، بالكاد حركت رأسها ونظرت إلى المعلم ثم إلي، نظراتها الصامتة تنطق في وقت واحد بالألم واليأس والطمأنينة والثقة وتقول: تركته لك، تركته لك.

انتبهت على صوت المعلم يوقظني في رفق من إغفاءتي التي طالت مع الذكريات وكادت أن تنسيني الركب الصغير، وجاءني صوته الضعيف الذي تعودت على نبرته الحادة التي طالما نفذت في أذني وقلبي كصيحة طائر عجوز: هل رأيت؟

تلفت حولي مستوضحا فضحك ضحكته النادرة التي شبهتها بيني وبين نفسي - ولتغفر لي السماء! - بضحكة جدي عجوز مكتئب الوجه: إنها آخر حدود الصين، انظر إلى الكوخ والحاجز هناك! •••

تعجبت كيف عرف هذا مع أنه لم ينف نفسه من قبل، ونظرت إلى حيث أشار ورأيت الحاجز الصغير الذي يقطع نهاية الدرب المنحدر بعارضة خشبية تنتهي فيما قدرت بكرة حديدية ضخمة، وتعجبت مرة أخرى من منظر الكوخ الخشبي الصغير الذي يقف وحيدا وسط أشجار السرو العجوز كأنه متسول منهك الجسد والروح على حدود الإعياء أو الجوع، لم أر حراسا يجوبون المكان، ولا فرسانا مدججين بالسيوف والخوذات البراقة، ولم أستطع أن أكتم شعورا بالخوف داهمني فجأة فهتفت: أهذه هي آخر حدود الوطن يا سيدي؟

فاجأتني النبرة الحادة المرتعشة بخفقات البهجة والسرور: حيث يكون الطريق يكون الوطن يا ولدي، وحيث يكون الوطن يكون الأصل والجذور.

تسرعت ولمت نفسي بعد ذلك على طيشي: إذن فسوف تجد الطريق بعد قليل. - الطريق في كل مكان وليس له مكان، هو فيك وتحت أقدامك، ولكنهم تنكبوه وتخلوا عنه فتخلى عنهم، لم يفهم رأسي الصغير ما يقصده فربت بكفي على ظهر الثور وقلت: المهم أن الطرق المعوجة قد انتهت. - المعوج سوف يستقيم، والمنحني سوف يعتدل، الأجوف سوف يمتلئ، والبالي سوف يتجدد.

لم أستطع كذلك أن أفهم كلماته التي ترددت كترنيمة كاهن أو شدو طائر أسطوري غريب، أسرعت مرة أخرى أعبر عن فرحي وصحت: المهم أننا سنتوقف هنا يا معلمي! افرح أيها الثور الإلهي فسوف تلتقط أنفاسك وتهنأ بالعشب الندي الوفير!

قاطعتني إشارة محذرة من يده الممتدة نحوي فأمسكت عن الهراء وأسرعت أساعده على الهبوط من على ظهر الدابة التي توقفت أيضا عن السير وأطرقت برأسها واتسعت عيناها دهشة من هذه الكلمات التي تساقطت علينا: - من يعرف متى ينبغي عليه التوقف لا يتعرض لأذى، من يعرف القناعة لا يلحقه عار. •••

سحبت الثور الأسود من مقوده بعد أن مررت بكفي على رأسه ورقبته وظهره، واطمأننت على المعلم الذي ترجل على مهل ووضع الكتاب الذي كان يطالع فيه بين الحين والحين والغليون الذي كان ينفث منه الدخان في جيب الجراب الجلدي العتيق المسود من لفحات الشمس وذرات الغبار، ولم نكد نهبط خطوات على المنحدر الصخري الضيق في اتجاه محطة الحدود حتى لمحنا شبح رجل طويل ونحيل يقف هناك في انتظارنا، وعندما اقتربنا من العارض الخشبي الباهت الألوان أمام الكوخ واستوى الدرب الممتد أمامنا توقف معلمي وطلب مني أن أساعده على الركوب، أخذت بيده التي استندت على كتفي وهو يرفع قامته ثم يحنيها ليستريح على ظهر الثور، وقلت منزعجا: هل تحس بشيء يا سيدي؟ قال في هدوء وهو يثبت قدميه حول بطن الدابة: لا يا ولدي، مجرد إغماءة ستزول بعد قليل، انظر، هذا الرجل القادم كفيل بعلاجها!

وأقبل علينا الرجل الطويل الذي بدا على البعد كجرادة كبيرة، تقدم منا في مشيته الحذرة وبدأنا نطالع تقاطيع وجهه النحيل الصارم، وتوقعت أن تبدأ متاعب السؤال والتفتيش وتحصيل الضريبة والشك المزمن في أعين حراس الجمارك، قال في هدوء وهو يلقي نظرة سريعة على الثور والجراب الجلدي الأجرب ثم يسلطها بغير اهتمام على المعلم وعلي: هل من شيء يستحق الضريبة؟

قلت بثقة لا حد لها: لا شيء يا سيدي.

عاد يسألني وهو يتحسس الجراب بعناية ويثبت بصره على الوجه الصامت العجوز: بضائع مهربة؟ أشياء محظورة؟

كررت بصوت هادئ لم يخف رنة السخرية وأنا أتابع فحصه للزاد القليل واستخراج الغليون والكتاب من الجراب: لا تحف ولا ذهب ولا حرير؟ ما قصة هذا الكتاب؟

قلت وأنا أنظر لمعلمي الذي لزم الصمت: لقد كان يعلم.

سأل وهو يثبت بصره على الوجه الصخري الحزين: وماذا كان يعلم؟

قلت في بطء: أن لا شيء على الأرض ألين ولا أضعف من الماء، ومع ذلك لا يفوقه شيء في التغلب على الصلب والقوي.

حدق في وجه العجوز كأنه يعاين فعل الماء في الصخور، وسرح لحظة مع أفكاره ثم التفت إلي قائلا: ماذا كان يعلم أيضا؟

قلت متعجلا الخروج من الموقف بعد أن حانت مني نظرة إلى السماء ورأيت السحب السوداء تتجمع على صفحتها المظلمة كقطعان متدافعة إلى مورد ماء: أن الوداعة تغلب القوة، وأن اللين يهزم الصلب الخشن. قلب بصره فينا وأطرق برأسه طويلا، ويبدو أنني رفعت رأسي إلى السماء ففهم أنها تنذر بالمطر أو العاصفة، وربما فهم أيضا أننا نتعجل السير قبل أن يحل الظلام، فقال وكأنه يكلم نفسه: الوداعة تغلب القوة، الماء يهدم الصخر، نعم، نعم، ما دام الجمرك لن يحصل عن شيء فانطلقا. •••

استأنفنا السير بعد فتح الحاجز، ووجدنا أنفسنا نستقبل واديا رحبا تملؤه الأشجار وتحده الجبال الشاهقة من بعيد، وما هي إلا خطوات بعد أن استرحنا قليلا تحت ظل شجرة سوداء كثيفة الأغصان والأوراق حتى سمعنا صوتا ينادينا ويكرر النداء: أيها المعلم! أيها الغلام!

التفتنا وراءنا فوجدنا حارس الحدود يجري لاهث الأنفاس نحونا. أمسك المعلم باللجام وتوقفنا لنعرف ما يريد، أصبح الصوت مسموعا واقترب الوجه الشاحب النحيل: ها! قفا! قفا! أرجوكما قفا! ماذا تقصد بحكاية الماء أيها العجوز؟!

سأل المعلم وهو يطل عليه من فوق ظهر الثور: وهل يهمك هذا يا ولدي؟

قال الرجل الذي بانت ملامح وجهه الأغبر المتعب كوجه ذئب تائه وسط رمال الصحراء: ما أنا إلا عامل جمرك بسيط، لكن يهمني أن أعرف كيف ينتصر الماء على الصخر، إن كنت تدري الجواب فتكلم.

تفرس المعلم في وجهه طويلا، غابت نظراته لحظة في عينيه الغائرتين وسترته الباهتة المرقعة وأصابع قدميه التي تطل كالديدان الرفيعة من حذائه الرمادي المتهرئ قبل أن ينتبه على صوت الرجل الذي يستعطفه: اكتبه لي، أمله علي أو على هذا الغلام، مثل هذا العلم لا يستأثر به الإنسان.

ثم بعد فترة قصيرة لمس فيها سترته ونظر طويلا إلى حذائه البالي: ولا يضن به على أحد الفقراء.

انفرجت أسارير المعلم كأنما فكت أغلال تجاعيد الصمت والتحفظ التي تطوق وجهه، وبدا كأن شبح ابتسامة على الوجه الحجري، فتشجع الرجل قائلا: الورق عندنا والريش والأقلام والمداد، وعندنا كذلك طعام قليل للعشاء، إنني أسكن هناك، في هذا الكوخ الذي يتسع لك وللغلام ولحكاية الماء. تنهد العجوز وهو ينزل من على ظهر الثور الذي بدأ يهز ذيله في قلق وينفض نفسه من هبات البرد التي جعلت جلده يرتعش، وقال وهو يرمق الرجل طويلا ثم يسحبني من يدي التي تمسك بالمقود: آه! أنت أيضا تريد أن تعرف! نعم يا ولدي.

من يسأل يستحق أن يعرف الجواب، ومن يعرف ...

قلت ضاحكا: لا يتكلم ولا يفعل، وإنما يكتب، وضحك المعلم أيضا ومر بكفه على خدي فقلت وأنا ألاحظ أمارات السعادة والرضا ترتسم على وجه العامل الفقير: وسوف يبرد الجو بعد قليل.

قال المعلم وهو يخطو إلى جوار الرجل ويمسك كم سترته بين الحين والحين: حسن، فلنهبط هنا إلى حين.

وتبعت معلمي إلى الكوخ، أنا تلميذه الذي دون «التاو-تي-كنج» بعد أن كان حبيسا في صدره، وربما كنت تلميذه الوحيد.

2

الصمت

وقال المعلم العجوز الذي صحبه الغلام إلى منفاه البعيد:

ها أنا ذا غادرت البوابة الأخيرة لمدينتي المعذبة وتوجهت مع تلميذي الصغير وثوري الأسود السمين إلى منفاي البعيد، لفني الصمت الذي احتواني كفنه الرحيم منذ أن وعيت العالم وتجلى لي سر الطريق، والقصر الذي قضيت فيه معظم أيام كهولتي وشيخوختي تراءى لي كذلك ملفوفا في كفن الصمت الضبابي، تلفتت عيني إليه فوجدته صامتا مثلي، وتلفت قلبي نحو المكتبة التي شهدت سهري وعملي وتعبي فخيل إلي أنني أسمع كلمات الحكماء القدماء تنطلق من قبور الأوراق القديمة وتفك قيود الحبال الصينية المعقودة بالحروف والمقاطع والعلامات ثم تلوذ هي الأخرى بالصمت وترقد على فراش السكينة الأبدية، آه! كم جمعت ورتبت ونفست وحققت وتركت عبارات الأجداد تنتصب أمامي كالفرسان البلغاء مدوية بحكمتها الغاضبة التي تحذر وتنذر وتشير سهامها إلى الطريق، ومع ذلك تنهي عن الثرثرة والكلام وتعلن أن العارف لا يتكلم والمتكلم لا يعرف، كم خرجت أمامي من نبع الصمت الغائر ثم رجعت إليه وتجمعت فيه، هل أسمع من هناك أيضا بعض كلماتي التي قلتها لتلاميذي الذين عهد إلي القصر برعايتهم، ولأولئك الذين تحدثت معهم من رجال البلاط ووزرائه وحراسه وحجابه وخدمه؟ وهل كان في وسعي أن أمنع طيران هذه الفراشات التعسة إلى الفقراء والبسطاء المساكين أو همساتها في آذانهم: عانق الواحد، ولن تحيد عن الطريق، افعل عدم الفعل ولن يبقى شيء لم يعمل، أخر نفسك وسوف تصبح في المقدمة، تجرد من حب النفس تصل إلى الكمال، ارجع للبساطة القديمة تتحرر من الشهوة، وإذا تحررت من الشهوة وجدت السكينة، وإذا وجدت السكينة عرفت الأبدية، وإذا عرفت الأبدية أصبحت حرا، وإذا أصبحت حرا أحطت بكل شيء، وإذا أحطت بكل شيء صرت سماويا، وإذا صرت سماويا اتحدت بالطريق، وإذا اتحدت بالطريق أصبحت أنت الطريق.

كلمات، كلمات، كلمات لم يخطر على بالي أن أدونها في كتاب، ومع ذلك سمعها الجميع ورددها الجميع وأساء فهمها الجميع. كنت ألاحظهم أثناء جولتي اليومية على ضفة النهر في طريقي إلى الأيكة أو في عودتي منها، تقترب الأفواه من الآذان، وتشير إلي الأصابع الحذرة، وأسمع حتى الصغار الذين يلمحونني فيقفون خائفين وهم يتهامسون: هذا هو التنين! حلق إلى السماء وهبط في أعماق الجحيم حتى وجد كتاب الطريق، ونسجوا الأسطورة حولي وحول الكتاب الذي لم أفكر في تدوينه، وانتشرت أسطورة المعلم العجوز الذي يعلم تلاميذه بغير كلام، ويهزم الأعداء بغير سلاح، ويستقر في السكينة والوداعة كطفل رضيع، ويتحد بالطريق فيجد الحقيقة والفضيلة والكمال بينما المملكة غارقة في النزاع والصراع والدماء، والحكام يدقون الطبول للحروب ويزهون بالأمجاد في خيلاء بينما الفقراء يساقون للمذابح ويشوون على نيران الضرائب والمجاعة والحرمان، وأكتم ألمي وسخطي على الناس والأوضاع والكلمات وألوذ بصمتي كما فعلت على الدوام. •••

سر يا غلامي الطيب سر، يا من بقيت لي بعد أن تخلى الجميع، وأنت يا ثوري الأسود السمين، تمتع بالعشب والماء وتأهب للجوع والعطش في القفار، وعندما تصعد وتهبط الممرات الوعرة في الجبال، أتريدان أن أسليكما بالكلمات؟ اسمعا إذن أغنية الصمت التي عزفتها على أوتار قلبي الوحيد: آه ما أبعد الفجر! الناس جميعهم فرحون، كأنهم يشاركون في وليمة التضحية، كأنهم ذاهبون إلى مهرجان الربيع، أنا وحدي أرقد في سكون، أشبه بطفل صغير لم يبتسم مرة واحدة في حياته، أترنح وأتمايل، كأنني أضعت وطني، الناس جميعا عندهم ما يكفيهم، أنا وحدي تعريت من كل شيء وفقدت كل شيء، حقا! إن قلبي لقلب غبي معتم مضطرب، الناس جميعهم لامعون، أنا وحدي مظلم، والناس جميعهم جادون واثقون من أنفسهم، وأنا وحدي متعب حزين القلب، ثائر ثورة البحر، مضيع كأني بغير هدف، والناس جميعهم يعملون ويسعون لهدف نافع، أنا وحدي عنيد كأني من نسل الوحوش، أدعوهم أن يعملوا بغير عمل وسوف يعمل كل شيء، وإذا أتموا عملهم فليتواروا عن الأنظار ولا يدقوا له الطبول. أوصيهم أن يعلموا بغير كلام ويكونوا فاضلين بلا كلام عن الفضائل والقواعد والأخلاق، أن يتمسكوا بطريق الآباء والأجداد ويرجعوا للأصل والجذور، أن يتحدوا بالطبيعة الأم ويرضعوا من ثديها السكينة والسلام بدلا من أن يغتروا بالتمدن وينخدعوا بالأدوات والمخترعات، آه! وكم دعوتهم لأن يغيروا أنفسهم فيتغير كل شيء.

كانت كلمات وكلمات، قلتها ولم أدونها في كتاب ولم أصرخ بها من النوافذ والأسطح وقمم الجبال، تسليت باللعب بها ولم أضح في سبيلها ولا فديتها بالدماء. أطلقت سهامها فرجعت إلى قلبي مسمومة بالسخرية والاستهزاء.

آه! الناس جميعهم فرحون وأنا وحدي غير الآخرين.

لكن من قال إن الناس الذين تركتهم ورائي فرحون؟ من قال إن شيئا قد تغير في المملكة أو أنهم سيتغيرون؟ وما جدوى الكلمات يا من تمجد الصمت وتحذر من الكلام؟ •••

بالأمس جاء الإمبراطور لزيارتي كما اعتاد أن يفعل كلما أراد أن يستشيرني في رأي أو يسألني في معضلة أو يتحدث معي عن أحوال الرعية وشئون المملكة، لاحظت الهم البادي على قسمات وجهه وجبينه والحزن المخيم على عينيه، جلس صامتا أمامي وأطال النظر في وجهي، حاولت أن أبحث بين أكوام الكتب والأوراق عن كتاب أقرأ عليه منه وأسمعه حكايات القدماء التي يتلهف على سماعها ويعد بأن يضعها في قلبه وعلى رأسه وعينيه، لكنه أشار بيده أن أتوقف ثم أطرق برأسه وغرق في أفكاره، وبينما أسائل نفسي عما يضنيه وما يمكن أن يسر قلبه إذا به يبادرني بالسؤال: قلت لي مرة: إن وضعت يدك على الطريق صارت مملكة الأرض طوع يديك وتبعت ظلك، وإن تمسكت به حررتها من الشر والألم فعاشت ممتعة بالوحدة والسعادة والسلام، قلت مؤمنا على كلامه: وعرفت أنت طعم الرضا والقناعة والسكينة ... قاطعني: ألم تقل إن عدم الفعل هو الطريق؟ قلت محاولا الابتسام: ليس هكذا تماما يا مولاي، كنت أتكلم بلسان الحاكم الحكيم الذي يخاطب نفسه أو يوصي من يتولى الحكم بعده: تعلم يا ولدي فضل عدم الفعل: علم بغير أن تتكلم، أنتج بغير أن تمتلك، دبر ولا تسد، اعمل ولا تعول على عملك.

قال الإمبراطور الذي لم يستطع أن يخفي ضيقه: وكيف أعمل ولا أعول على عملي؟ كيف؟!

قلت في هدوء: معناه أن تتم عملك ثم تتوارى، لا تمجده ولا تزه به، لا تسع إلى الشرف ولا تخش العار، الحاكم الحكيم يعمل من أجل الباطن لا من أجل العين.

نهض من مجلسه وتمشى قليلا بين أكوام الكتب وتلال الأوراق الطويلة الملتفة التي تملأ صفحاتها عقد الحبال السوداء، وزفر ضاحكا:

أجبني ببساطة، كيف أحكم المملكة؟ كيف أحكم شعبي؟

قلت مرة أخرى بهدوء: تحكمه ولا تتحكم فيه، تحكمه دون أن تلجأ للقوة، وحين لا يخاف الشعب قوتك، تكون قد بلغت أقصى قوتك. توقف في مكانه وقلب أصابعه بين الأوراق ثم التفت إلي ذاهلا: بلغت أقصى قوتي؟! قلت متحمسا: نعم نعم، تكون قد بلغت الوداعة وأصبحت كالطفل الحديث الولادة، أخرت نفسك فصرت في المقدمة، تواضعت فارتفعت، أخفيت نفسك فتجليت، لأنك لم تعط الحق لنفسك اعترف الشعب بك، ولأنك لم تمجدها مجدك؛ لأنك لم تدع وثق بك، ولأنك لم تسع لشيء لم يسع أحد ضدك بشيء، لم تناد على أحد ومع ذلك لبى الجميع من تلقاء أنفسهم، لم ترزح فوق صدورهم فسكنت في القمة.

قال وقد بدأ صوته يتهدج بالغضب: القمة؟! إنك تقول هذا لأنك تدفن نفسك في حكمتك وأوراقك ونصائح أجدادك. جرب أن تنزل إليهم لتعرف غضبهم وسخطهم وثورتهم.

أصررت على متابعة كلماتي: الحاكم الحكيم الذي يعمل ولا يمجد عمله لا يغضب أحدا، والذي يتم عمله ثم يتوارى لا يثور عليه أحد. نظر إلي باستخفاف وازدراء، فأسرعت أقول: ألم أحك لك عن القائد الحكيم «فان لي»؟ لقد ذهب لرد الأعداء وانتصر عليهم في المعركة ثم اختفى، وبقي الشعب في الشوارع واقفا في انتظاره بالأناشيد وأكاليل النصر دون أن يعلم أنه استقل قاربا صغيرا انطلق به في النهر الأصفر ولم يره أحد حتى الآن.

اقترب مني الإمبراطور وهو يصيح في وجهي: كل هذا سمعته منك وحفظته ورددته على مسامع وزرائي وقوادي وعمالي في المدن والقرى القريبة والبعيدة، مع ذلك ثار الناس علي في كل مكان وعلى الوزراء والقواد والعمال.

قلت وأنا أغمض جفني كأنني أتلو صلاة للآلهة: الناس لا تثور على من يتبع طريق السماء. لأنك رجالك حادوا عن الطريق ثار الناس ولجئوا للصراع والنزاع بدلا من الوفاق مع الطبيعة والقناعة والاتضاع.

سأل متهما وهو يحاول أن يكتم غيظه: الدماء تسيل وما زلت تتكلم عن القناعة والوفاق والاتضاع؟!

قلت في غضب: لأنهم حادوا عن الطريق العظيم سالت الدماء، لأنهم ملئوا عقولهم وأفرغوا بطونهم وأثقلوا ظهورهم بالضرائب ثار الناس. كل شيء في القصر على ما يرام، بينما الحقول تملؤها الأعشاب الضارة ولا تجد من يحرثها. مخازن الغلال فارغة، والموظفون والحكام يتدثرون بالثياب الزاهية ويتحزمون بالسيوف الغالية ويتخمون بطونهم بالطعام والشراب، ما معنى هذا؟ معناه أنهم تجبروا مثل قطاع الطريق وليس هذا هو الطريق. قال وهو يتفرس في وجهه كأنه يراقب معتوها أصابه مس من الجنون: نعم ليس هو الطريق الذي أوصلك إلى قصري وجعلك أمينا على تراث أجدادي. قلت متجاهلا حراب سخريته: ادفع الشر بالخير والإحسان؛ لأن الحب ينتصر في الهجوم ولا يجرح أثناء الدفاع، والسماء تسلح بالحب من لا تريد أن تراهم مهزومين.

نفض يديه يائسا: ولذلك أرسلت الجنود والأسلحة الكافية لقمع الثوار، وحين تأتيك أنباء الانتصار ستكون في طريقك إلى المنفى بإرادتك قبل أن أرسلك إليه بإرادة جنودي وقيودي وحراس سجوني.

قلت وأنا أجمع كل حكمتي وغضبي في عبارات سريعة يمكن أن يسمعها قبل أن يخرج من الباب: الأسلحة أدوات الشر؛ لذلك لا يسكن الحكيم بالقرب منها، إنه إذا انتصر لم يجد في الانتصار جمالا؛ لأن من يجده جميلا هو الذي يفرح بقتل غيره من البشر، ومن ينتصر في المذبحة ويحتفل بانتصاره فهو في الحقيقة يحتفل بجنازة. الأسلحة والجنود أدوات الشر، أدوات الشر، لا يقترب منها سيد المملكة الذي تمسك بالطريق، لا يستخدمها الحكيم الذي يرعى أبناء شعبه كأنهم أطفاله، لا، لا، لا. •••

لم تكن هذه هي أول مرة تخرج فيها كلماتي من كهف الصمت فتقطع ألسنتها وتعود إليه كالخفافيش المشلولة العمياء، ولم تكن أول مرة تنطلق من بئر الصمت فيجرها الأوغاد في وحل العالم وأحاول بعد ذلك أن ألملم أشلاءها وأطهرها في ماء من جديد. نعم يا ولدي الذي يسير أمامي على الطريق كالطفل الكامل الذي يرضع من ثدي الأم ولا يعرف الكلام، وأنت يا ثوري الحر الصبور الذي ربما كان أقربنا للأصل والجذور، نعم لم تكن أول مرة تخرج فيها الكلمات عن الطريق فتعضها الأنياب وتوصد في وجهها الأبواب وتهيم جائعة ضالة كالكلاب. آه ما أتعسها وأبشعها حين تسرق منها الأنوار وتفرغ من سر الأسرار وتصبح مضغة في فم الدجال والسمسار والثرثار، وآه من هذا الثرثار! •••

دخل علي بعد أن أبلغني الحاجب أنه قادم من مملكة «لو» وأن اسمه هو الحكيم المشهور «كونج-فو-تزو». دخل صومعتي المكدسة بأكوام الكتب والوثائق والأوراق والعتمة والغبار كأنه مارد قوي اغتسل لفوره في ماء البحر وخرج نظيفا لامعا صبوح الوجه تسبقه ابتسامة عريضة يشهرها في وجهي كالسيف الناصع أو كالقنديل الساطع. كان قصيرا ممتلئ البدن كبير البطن، له شفتا ثور وفم أشبه بالبحر، انحنى أمامي في أدب شديد، وكرر الانحناء حتى تصورت أنه قضى حياته في تعلم فروض الطاعة وأداء طقوس الواجب والاحترام من الأبناء للآباء ومن البشر للآلهة والملوك والحكام، وبعد أن أذنت له بالجلوس وتطلع طويلا إلى جسدي الطويل النحيل ووجهي الصخري الذي لم يفارقه التقطيب والعبوس بدأ في حذر يخرج الكلمات من فمه الواسع كأنه صراف يعد النقود: يسمونني في بلدي المعلم والحكيم، لكنني سمعت عنك فجئت أسألك كالتلميذ الصغير وأتعلم منك ما يتعلمه العصفور من النسر الكبير.

قلت في حذر وأنا لا أخفي إعجابي ببشاشته وحذقه وذلاقة لسانه وثقته في نفسه: النسر الكبير يرقد عاجزا في عشه وهو يتقلب في الصمت وينتظر الموت، ماذا تريد أن تعرف يا بني؟

قال وهو يوسع من ابتسامته المشرقة فتسطع الأنوار من جبينه وتطارد الظلال الهاربة أمامها: سمعت من يقول على لسانك إن العارف لا يتكلم، والمتكلم لا يعرف، وأنا عشت حياتي حتى اليوم لأعرف وأعلم وأحاول أن أصلح بالكلمة والاسم، علمني يا سيدي عن الطريق. - الطريق يا بني لا اسم له، لو كان له اسم ما كان هو الطريق - عميق هو وبلا قرار - هو المنبع والأصل وسر الأسرار. - لكنه تجلى يا سيدي وكشف عن نفسه للحكماء القدماء، وأنت تجلس بينهم وتعرفهم وتنطق بكلامهم وتتقن طقوسهم وشعائرهم ومواعظهم. - هذا صحيح يا بني، ولكن الذين تسأل عنهم قد تعفنوا وصارت عظامهم ترابا، لقد اتحدوا بالطريق فكانوا هم الطريق، تمسكوا به وحققوه بالسكينة والبساطة والوداعة، لم يتكلموا عنه بالخطب والمواعظ ولم يقيموا له الطقوس والشعائر، كانوا هم الطريق ولم يدقوا بالطبول ليدعوا الناس إليه. - لكنهم علموا مواطنيهم يا سيدي وأفادوهم، حببوا إليهم الفضيلة وعملوا على تهذيبهم بالخير والإحسان والمحبة، أنا أيضا أريد أن أفيد مواطني ولا أضرهم. - إذا أردت أن تفيدهم فتخل عن غرورك الذي يزين لك أنك تفيدهم، وإذا أردت أن تغيرهم فابدأ بتغيير نفسك قبل أن تطمح لتغييرهم. - وهذا هو الذي قادني إليك يا سيدي، علمني ماذا أعلم وأعلم كي تصلح المملكة والحاكم والمحكوم. - سمعت أن التاجر الناجح يخفي ثروته في حرص، وأن الرجل العظيم ينهض للعظمة عندما تحين ساعته، لكن قبل أن تحين هذه الساعة توضع العراقيل أمامه. اسمع نصيحتي يا ولدي، لا تضع العراقيل أمامك. - لم أفهم يا سيدي، أرجوك أن توضح ما تريد. - الحكماء القدماء الذين تتكلم عنهم قد عملوا بغير عمل، وعلموا بغير علم، وأصبحوا القدوة والمثل لأنهم لم يدعوا الناس إلى الفضيلة والعدالة والإنسانية، لقد تمسكوا بالطريق فسار الناس على الطريق، رجعوا إلى الأصل والبداية فأحب الناس السكينة والسلام ورجعوا مثلهم للأصل والجذور، تخلوا عن أنفسهم وتخلصوا من شهواتهم وتعففوا عن التعالم والظهور، فكف الناس عن التنازع والصراع والتظاهر والادعاء والحذلقة والتفاخر والنصب والخداع. لا تنس ما قلته لك، إنهم لم يعرفوا الطريق ولم يسموه، ولكنهم اتحدوا به وكانوه؛ لذلك لم يفقدوا أنفسهم ولم يفقدوه.

لكنهم اليوم يتصارعون حتى أصبحت المملكة أشلاء ممزقة، ويغرقون في الشهوة والرذيلة حتى احتاجوا لمن يصلحهم ويدعوهم للمعرفة والفضيلة.

خرجت كلماتي غاضبة كالإعصار وصحت: أتريد أن تغيرهم قبل أن تتغير؟ أن تعظهم بالطريق قبل أن تسير عليه؟! تخل يا بني عن تكبرك! تخلص من تظاهرك وطموحاتك العريضة! ارجع إلى البساطة والسكينة قبل أن تنهض يوما من مرقدك وتتهدم كالجبل العظيم وتنكسر، اذهب يا ولدي وغير نفسك! اذهب يا ولدي. •••

آه! ما كان أحراني أن أحبس كلماتي ولا أخرجها من بئر الصمت، لقد انتشر صيت هذا الرجل السمين الواسع الفم والابتسامة وذاعت شهرته هو وتلاميذه. أسس مدرسته ومذهبه وطبع وجهه على أرض مملكة الوسط الشاسعة، وها أنت أيها العجوز تسمع الجميع يتحدثون عن الفضيلة والإنسانية والخير والإحسان والعدالة والاعتدال بعد أن اختفت جميعها وعمت المذابح والضوضاء واليأس من الماضي والحاضر والمستقبل، آه! ليتني ما أطلقت الكلمات ولا تركتها تخرج من نبع الصمت ! ليتني ما عنفت المسكين ولا طردته، ولقد رجع فيما سمعت إلى تلاميذه فقال لهم إنه رآني فرأى التنين، وعرفني ولم يعرف كيف اعتليت الريح وصعدت فوق السحب إلى السماء. سأصبح أسطورة وسيصير هو إلها ومؤسس مذهب وديانة، ستتردد كلماته وتحفظ قواعده وتقام طقوسه وتعاليمه وشعائره ويكثر تلاميذه وتعلن الحكومات الاعتراف به، لكن من يدري ماذا يخبئ له القدر؟ ربما أدرك في النهاية أن الحكمة مستحيلة على الأرض، أن كلماتها سهلة وبسيطة، ولكنها عصية على الفهم والتنفيذ، ربما تخلى عنه تلاميذه كما تخلى عني تلاميذي، وربما تهدم في النهاية كما يتهدم الجبل المنهار، وذبل كما تذبل الشجرة العظيمة حين تجف وتتيبس قبل أن تميل وتتحطم، أليس هذا هو قدر الكلمة حين تخرج من نبع السر وتدخل في زحام البشر؟ •••

نعم يا ولدي الكامل كالطفل الراضع من ثدي الأم، يا ثوري الحر الصبور الذي يحمل الجبل المهدم والشجرة الذابلة، ماذا تقول يا ولدي؟! اقتربنا من نهاية الطريق؟ ليت البداية الأزلية تعرف النهاية! ليت الطريق يدري كم يتعذب السائر على الطريق؟ اقتربنا من الحدود وظهرت الحواجز، وحارس الجمرك يقترب أيضا وسوف يطالبنا بالضريبة ويفحص الأمتعة؟ وتقول سيسألنا ولا بد أن نجيب؟ ماذا نملك يا ولدي غير الكلمات الخرساء؟ فقير هو وطويل ونحيل كالجرادة؟ ومتى استغنت الجرادة عن الأخضر والخضرة بالكلمات؟ أقلت له إنني كنت أعلم أن الماء وهو أضعف الأشياء يفتت الصخر ويهزم أقوى الأشياء؟ وهو يسأل ويريد مني أن أجيب؟ أجل أجل يا ولدي، من يسأل يستحق أن نقدم له الجواب، لكن ماذا تنفعه الكلمات وهل أشبعت الجائع أو كست العاري؟ ليكن يا ولدي ما دمت تريد، ولتخرج كلماتي من فقر الصمت إلى صمت الفقراء!

3

أحد الفقراء

وقال حارس الجمرك الفقير عند آخر مخفر للحدود:

وقفت أمام الكوخ الذي ضمهما سبعة أيام وليال ورحت أتابعهما وهما يصعدان الطريق الحجري المؤدي إلى الممر الغائر في جوف الجبل، في يدي الأوراق التي سلمها لي الصبي ومعها ابتسامته الحبيبة الخاطفة التي لمعت على وجهه الصغير المستدير مثل الزهرة التي تلمع الآن في السماء الصافية، ما تزال كلماته الهامسة المرتجفة التي أسرها إلي وقد سبقه المعلم إلى مربط الثور الأسود تتردد في سمعي: هذه هي كلمات الحكيم، واحد وثمانون حكمة أملاها علي ثم سكت، حفظها في جوفه طوال عمره، وعليك أن تحفظها في جوفك، قلت له وأنا أقرب فمي من أذنه: تأكد أنني سأحفظها في قلبي وأدونها على لوح صدري، إذا ضاعت الأوراق التي تعبت في كتابتها من يدي فلن تضيع أبدا من عقلي ودمي.

قال ضاحكا: ولكن كل واحدة منها تزن جبلا.

قلت وأنا أزنها في كفي: ومع ذلك فهي أخف من جناح عصفور!

قال وهو يمر بيده على عينيه: أو من دموع طفل.

وانطلق وراء معلمه ليساعده على الركوب على ظهر الدابة، وتبعته لأودعهما وأتمنى لهما رحلة طيبة إلى الغرب البعيد، لم أغادر مكاني الذي وقفت فيه رافعا ذراعي ومحييا حتى اختفى طرف ظلهما الباهت المرتعش مع انبلاج الفجر الزاحف، كطفل سماوي يحبو على مهل وهو يطوي سجادة الليل مع كل خطوة. •••

دخلت إلى الكوخ الذي بقيت فيه رائحة الضيفين وأنفاسهما وأصداء كلماتهما كأنها أرواح طيبة تجتر ذكرياتها، وبدأت أيضا في اجترار ذكرياتي القريبة والبعيدة التي انهالت علي كأسراب طيور جائعة أو سيول أمطار عاصفة فاجأت كوخي الصغير الآمن فطردت النوم من جفوني، ومسحت على وجهي وعيني وأنا أفكر فيما قاله الصبي، وأخذت أقلب صفحات الذكريات وأغوص في دموع الطفل العجوز كأني أغوص في بئر عميقة الغور.

قلت لنفسي عندما رأيتهما ينحدران على الدرب الحجري المترب: لا شك أنهما عجوز وابنه الذي رزق به على كبر، ضاق بهما العيش كما ضاق بالكثيرين الهاربين من الاضطراب العظيم في إحدى الولايات البعيدة أو القريبة من مملكة الوسط، وعندما اقتربا حتى وقفا أمام الحاجز تطلعت في العجوز الجالس فوق الثور كأنه صنم منسي، فتح الصبي فمه وقال متعثرا: إنه المعلم العجوز لاو-تزو، وأنا تلميذه، قلت وأنا أتطلع في وجه العجوز وأحاول في نفس الوقت أن أفتش عن شيء يستحق دفع الضريبة: وماذا كان يعلم؟ ودرت حول الثور والشيخ الصامت فوقه وأنا مشغول عن رد الصبي: إن الماء يفتت الصخر واللين الضعيف يهزم الصلب القوي، قلت وقد تاهت يدي في الجراب الجلدي العتيق فلم تجد فيه غير أرغفة الخبز الجافة وعلبة من الصفيح تفوح منها رائحة الجبن وكتاب وغليون طويل: لا ذهب ولا مال ولا تحف ولا حرير! أهذه هي كنوز معلمك؟ ابتسم الصبي كأنه يعتذر، وأشار إلى رأسه فلم أفهم ما يقصده بإشارته، وعدت أتطلع إلى وجه العجوز وأحك شعر رأسي من الحيرة: ترى ماذا يدور في رأسه؟ ولماذا يذهب إلى المنفى بعد أن شاخت شجرة العمر وكادت أن تسقط مع أول هبة ريح؟ ورفعت صوتي قائلا: اذهبا، يبدو أن حظ الصندوق الأسود معكما قليل، وافتحا عيونكما جيدا في الليل حتى لا تفترسكما الذئاب ويضر بكما قطاع الطرق إذا خاب أملهم فيكما. •••

ساق الصبي الثور في هدوء وسحب المقود ناحية الطريق الصاعد نحو الممر الجبلي، ولف العجوز عباءته السوداء على جسده الطويل النحيل ليتقي ريح المساء الباردة التي بدأت تلسعه كما أخذت تلفح جمرات أفكاري الحائرة فتزيدها اشتعالا، وما هي إلا خطوات قطعاها على الطريق، وقبل أن يتوارى ظلهما الزاحف وراءهما حتى أسرعت أجري خلفهما، كانت الجمرات قد توهجت في عقلي، فرحت أنادي بأعلى صوتي: أيها الغلام! أيها العجوز! توقفا! وعندما وجدت نفسي أمامهما قلت لاهث الأنفاس: ما هي حكاية الماء؟ قل لي أيها العجوز ما هي حكايته؟ أريد أن أعرف كيف ينتصر الضعيف على القوي!

تفرس العجوز في وجهي كأنما أفاق من غفوته، همس في صوت خفيض نقله إلي الغلام بكلمات واضحة: أنت أيضا تريد أن تعرف؟

لم أدر سر هذا السؤال، ربما أثارني أن يكون قد استهان بموظف صغير ومجهول مثلي أو ازدرى رثاثة هيئتي وسترتي، فقلت في غضب لم أستطع كتمانه: إنني كما ترى إنسان فقير ووحيد على الحدود القصوى للصين، لكنني أريد أن أعرف، أرجوك تكلم! تدخل الغلام مداعبا: سمعت المعلم وهو يردد على الدوام: من يعرف لا يتكلم، والذي يتكلم لا يعرف.

قاطعه العجوز بصوت رفيع حاد: ولكن من يسأل من حقه أن يسمع الجواب، أجل يا ولدي، هذا هو فعل الطريق.

قلت مندهشا: الطريق؟ إن كنت تعرف الجواب فتكلم، أمله علي أو على هذا الصبي. عندي الورق والمداد، وأستطيع أن أقدم وجبة العشاء، نزل المعلم من على الثور بصعوبة وأسرع الصبي لمساعدته، وعندما رآه يتقدم في صمت نحو الكوخ قال الصبي وهو يسحب الثور: ويمكننا أن نتقي برد الليل وخيبة أمل اللصوص وقطاع الطريق. •••

دخل العجوز من باب الكوخ بعد أن انحنيت له الانحناءة اللائقة، ظل صامتا طوال رحلة العودة وعذبتني أسئلتي: لماذا يغادر عجوز في مثل سنه أرض المملكة؟ أتراه ناسكا سئم وحدته وأراد أن يسافر ويرى العالم؟ أم تراه قد حاول وحاول مع الحكام الكبار والصغار ولما يئس اختار الخروج؟ هل نفاه أحد منهم وطرده من مملكته أم تركه واقفا أمام بابه كالكلب الضال فعاد أدراجه إلى الصومعة التي كان يعيش فيها؟ وهل جرب ما جربه المعلمون والحكماء القدماء من ألوان التعذيب والعقاب، أم لقي الحفاوة والتكريم وآثر الاعتكاف في أيامه الأخيرة؟ وإذا كان أحد قد كرمه فلماذا يخلو جرابه إلا من أرغفة يابسة وغليون وكتاب وحيد من تراث الآباء والأجداد؟

أسرعت إلى المصباح الصغير المعلق على الجدار فوضعته على المائدة وأشعلته، ونبهني صوت الحكيم الذي رن في أذني أقوى مما تصورت: الورق يا ولدي، الورق والريشة والمداد، هيا فالوقت يمر!

قلت في أدب وأنا أنحني باحترام شديد: ليس قبل أن تتلطف بشرب الشاي الأخضر أو طبق الحساء.

أشاح بيده قائلا: وليس قبل أن نستحق كرم ضيافتك يا بني. وبينما رحت أعد الأوراق والدواة والريشة الطويلة، كان هو يتجول بعينيه في أرجاء المكان، لم يسأل عن شيء ولم يفتح فمه بكلمة، أدركت من نظراته إلي وإلى الكتب والأوراق والرسوم المتناثرة على المائدة الصغيرة والجدران الخشبية الواطئة أنه فطن إلى حالي وفهم أنني أسلي وحشتي بالكتابة والقراءة وملء الفراغ بالعصافير والأشجار والأزهار والبشر والأسماك والحيوانات في خطوط وانحناءات وأشكال ودوائر ورسوم غير دقيقة ولا معبرة بصورة مرضية. ورفت الأسئلة في فضاء رأسي كالفراشات المضطربة وأنا حائر بأيها أبدأ، وهل يسمح العجوز بالحوار معه؟ ورحت أنظف المائدة وأرتب مقاعد القش المتناثرة، بينما المعلم يتكور على نفسه وينكمش في جلسته مثل قط عجوز يتأهب للانقضاض، لم أجد الفرصة مواتية فانسللت إلى الكنة الملاصقة التي يفصلها عن الحجرة الوحيدة ستارة عليها رسم تنين مطرز بخيوط صفراء باهتة، وأخذت أعد للضيفين طبقي الحساء بالأعشاب ومعهما قطع من الجبن والزبد الذي أهدانيه آخر العابرين من الحدود، ولم أنس أرغفة الخبز وبعض الأرز الذي تبقى من غداء الأمس، قدمت الوجبة الهزيلة في صمت وخرجت دون أن أجسر على النظر في وجه العجوز أو ملامسة وحدته وصمته. •••

قبل أن أغلق الباب ورائي وأفتح صدري لأنسام المساء الندية سمعت الصوت الرفيع النافذ الذي انغرز في جلدي كشوكة حادة: «إنه التاو، ولأنه لا يوصف ولا يسمى، فقد سميته الطريق.» واشتقت أن أعرف كنه هذا الذي لا يوصف ولا يسمى فتوقفت قدمي على العتبة، وانساب الصوت كأنه يهبط من السماء داخل غمامة بيضاء، واستطعت أن أتبين بعض كلماته وأميز رنين دقاته دون أن أفهم ترابط عباراته أو أرى تسلسل حلقاته المدوية: «ولأنه بغير اسم، فقد سميته الطريق الأبدي، طريق السماء هو، مبدأ السماء والأرض، منبع كل الأشياء وكل الأسرار.»

تطلعت إلى أعلى فرأيت الزهرة ترمقني كدمعة كبيرة ناصعة وقاسية، تجمدت في عين السماء الصامتة، أنا الذي أقف على الأرض وأشقى عند آخر حدود المملكة يأتي هذا العجوز المتدثر بالسواد والصمت فيحملني كشيطان أخرس إلى سماء الأسرار، وأنا الذي كتبت الشعر وألهبت به مشاعر الغضب والثورة في القلوب أستمع الآن إلى شعر يرفعني فوق الأرض ويلفني في ردائه الضبابي؟ وقبل أن أهبط العتبات الثلاث لأراقب ركبا صغيرا بدأت أصداء ضوضائه وروائح الغبار الذي يثيره تتخلل أذني وتسري في رئتي، لم أشعر إلا وقد أنزلني العجوز على الأرض وأصدر لي أمرا حازما ارتعشت له مفاصلي : تخلص من الشهوة، وسوف ترى سر الأسرار، إذا بقيت محكوما بالشهوات، فلن ترى طرف ثوبه. وسألت نفسي قبل أن أخطو إلى حاجز الحدود: وهل يستطيع فقير مثلي أن يشتهي شيئا؟! •••

كان الركب الصغير ينحدر نحو حاجز الحدود كأنه كتل صخرية متباعدة تتساقط عليها نقط الضوء والخيوط الحمراء الباقية من الشفق المنطفئ الذي داهمته السحب السوداء الزاحفة من جانب الأفق الغربي، وبقى لدي متسع من الوقت للتفكير في هذا الشيطان الصامت الذي بدأ يفتح فمه بكلام لا أفهمه، من هو هذا العارف الذي لا يتكلم ومع ذلك يستجيب لسؤالي بكلام لا يقل سوادا عن ردائه الأسود؟ كيف أعرفه أو يعرفني وهو يأبى الحوار بيني وبينه؟ أتراه أحس بي وبحاجتي إلى معرفة سر الماء الذي تحدث عنه الصبي ففتح نبع أسراره وأخذ يمليها على غلامه لأتملاها فيما بعد؟ من أنت أيها الزائر الأسود؟ ومن أي ليل خرجت؟

ألحت علي الأسئلة وانقلبت الفراشات التي اضطربت في رأسي الغبي قبل قليل إلى خفافيش تتصادم في عتمة جهلي ودهشتي ووحشتي الممتدة بغير نهاية كالطريق الذي سمعت وصفه له، وحدثتني نفسي أن أسترق الخطى إلى الباب وأنصت لعلي أسرق شعاعا من النور يضيء الظلام المخيم حولي وفي، وضعت أذني على الباب فرنت كلمات أخرى أحسست أنها تطلق من داخلها خفافيش جديدة: أنا لا أعرف اسمه، أخاطبه بالطريق حتى يكون له اسم، إذا اجتهدت في تسميته قلت العظمة، والعظمة معناها أن تفقد نفسك كي تجده، أن تفقد نفسك معناه أن تبتعد وتتخلى، أن تبتعد وتتخلى معناه أن ترجع لنقطة البداية، وأن ترجع لنقطة البداية معناه أن تعود إلى الأصل، وأن تعود إلى الأصل معناه أن تجد السكينة، وأن تجد السكينة معناه أن تكون أبديا، وأن تكون أبديا معناه أن تكون متجليا، حقا! من لا يعرف الأبدية يوجد الشر بغير عقل، ومن يعرفها فهو صبور، والصبور هو الحر، والحر هو الذي يعرف كل شيء، ومن يعرف كل شيء هو السماوي، والسماوي هو الذي يلزم الطريق ويحافظ عليه فيحفظه . •••

كانت ضجة الركب الصغير قد بدأت تعلو وتجذبني إليها، ومع أن الكلمات المظلمة ظلت تتردد في سمعي وتدق كالأشباح المزعجة أبواب عقلي بلا فائدة فقد كان من الضروري أن أباشر عملي، ومضيت إلى الكشك الملاصق للحاجز وأعددت العدة للقيام بالتفتيش على الأمتعة وتحصيل الضريبة وتدوين كل ما يلزم تدوينه، وهاجمتني صورة المفتش الأعور الذي ينتظر حضوره بين يوم وآخر لمراجعة الأوراق وتحصيل العوائد وإفراغ الصندوق الأسود مما فيه قبل أن يغادرني شبحه الكريه إلى مخافر الحدود المجاورة.

كان العمل بسيطا لا يحتاج إلى عناء التفتيش والمساومة والاستعطاف التي تعودت عليها كل مرة، وكان الركب مؤلفا من أسرة صغيرة من الفلاحين المعدمين الذين هربوا أمام الغزاة الذين أغاروا على ولاية هان. وكان المشهد مألوفا لا يحتاج إلى الأسئلة والتفاصيل، والأب والأم اللذان افترسهما الجوع والرعب واحتضنا طفلتين شاحبتين لا يفتحان شهية موظف الجمرك لفحص متاع أو طعام لا وجود لهما. وكان عقلي وسمعي متجهين ناحية الكوخ الذي أخذت تتسرب منه بعض الأصوات المختلطة عندما مال علي الأب قائلا: في محافظة هان اضطراب عظيم، وفي المحافظات الأخرى بؤس وكرب وجوع ودماء، هذا يا ولدي هو الاضطراب العظيم. لا تظن أنك بعيد عنه يا ولدي، لا تظن أنك عنه بعيد.

نظرت للرجل الصغير الذي يحتضن طفلتيه وإلى زوجته الملتصقة به، ورأيت كيف يمسخ الخوف من الجوع والمجهول الغامض وجه الإنسان إلى وجه كلب جائع أو أرنب صيد مذعور. تأملتهم طويلا وسمحت لهم بالعبور إلى المجهول وراء الحدود، ولم أقل شيئا، وما فائدة الكلمات لجوف خال لا يملؤه إلا اللحم مع الخبز مع الأرز؟ وطلبوا جرعة ماء فسقيتهم وتمنيت لهم السلامة والنجاة من اللصوص وقطاع الطريق، وأدركوا من سخريتي وقلة حيلتي أن لا داعي لسؤال آخر فتحرك موكبهم الصغير في اتجاه الوادي الأخضر الذي ينبسط للناظر بعد عبور الممر الجبلي الوعر. •••

بقيت وحيدا تحت قبة السماء، مستندا إلى الحاجز الخشبي حينا ومتمشيا على العشب وشجيرات الشوك المتناثرة مع الحصى في المكان، نظرت إلى الزهرة المتألقة في الأفق وقلت أخاطبها: أيتها اللؤلؤة الباكية فوق أرض الوسط المضطربة! هل شعرت بهذا الناسك الذي يبكي في كوخي وربما يذرف مثلك دموعه المؤجلة من زمن بعيد؟ وماذا تنفعني دموعه أو تنفع بدلي ورفاقي وبقايا أهلي المشردين في ولاياتها الممزقة؟ إنه لا يعرف شيئا عن حياتي وقد لا يعرف عنها شيئا، وكيف أروي عليه قصة سجني سنوات بتهمة ترويج الأشعار الملتهبة كشواظ الجمر المحترق، ثم الحكم علي مع بعض رفاقي بالإعدام ونجاتي بالصدفة، ولماذا أحكي له هذا وماذا يستفيد أو أستفيد منه؟ ما الداعي لأن أخبره بحضور الإمبراطور نفسه يوم تنفيذ الحكم وأمره بإنزالي من فوق المشنقة ونفيي إلى الحدود حتى أتعلم كتابة شعر آخر تتألق فيه النجوم وتتنفس الأزهار وتطير الفراشات والعطور وأنسام الربيع وأحلامه وأحزان الخريف والشتاء؟ وماذا يملك أن يفعل لو قلت إنني عشت هنا في المنفى وحين صدر الإذن بسفري إلى «سونج» لرؤية أهلي عرفت أن الغزاة الجدد قد قتلوا الإمبراطور الذي كان يحب الشعر كما قتلوا أمي وأبي؟ حتى قبرهما لم أستطع الاهتداء إليه ولا تقبيل حفنة من ترابه والسجود على بابه، وإخوتي الصغار لم يكن أحد منهم في بيتنا القديم؛ لأن بيتنا القديم كان قد اختفى ولم يبق منه حتى الهشيم المتفحم، ورفاق ثورتنا الذين نجوا من الشنق ولم ينجوا من الجوع والضياع والشتات لم أعثر لهم على أثر ولا على من يدلني على أنبائهم، وفيم السؤال وقد شاع الاضطراب العظيم وانطلق الموت وفي يده المنجل يحصد سنابل الأعمار الباقية، وفي ركابه الطغاة الكبار والصغار والسفاحون والقواد المنتصرون الفرحون بالدماء والأشلاء؟ أيها الناسك الإلهي الذي سألته عن الماء الذي يغلب الصخر فأخذ يملي على صبيه المسكين عن التمسك بالطريق والحفاظ على السكينة والفضيلة والاعتدال وتجنب التهور والخيلاء! •••

وتوالت الأيام والليالي السبعة، كنت أفتح الباب همسا، وأتكلم وأسير همسا على أطراف أصابع قدمي، وأسب المهربين والهاربين بصوت هامس حتى لا أحرج السكينة ولا ألامس وعاء الصمت، وكان صوت العجوز يعلو شيئا فشيئا ويرتفع في كل يوم عن اليوم الذي سبقه، وخيل إلي أنه كان يوجهه إلى داخله عندما كان يتكلم عن الحكيم الذي يعمل للباطن لا للعين، وكان يسقطه في أعماق بئره كلما ذكر التخلي عن النفس والعالم والتخلص من كل الشهوات إلا شهوة عدم الاشتهاء، والتواضع للحضيض للارتفاع إلى القمة، والبدء بتغيير النفس قبل التفكير في تغيير العالم، والتأخر عن الصفوف لإحراز التقدم، وترك العمل لكي يعمل كل شيء من نفسه، كانت صورة الماء الرقيق الضعيف تؤكد حضورها في صوره المتلاحقة عن الوداعة والسكينة والسر والصمت والرضا والقناعة، وكذلك لم تغب عن حكمه التي سمعت منها كلمات متناثرة أو قرأتها بعد أن تسلمت الأوراق من يد الغلام ذي الوجه الأبيض المستدير والابتسامة الساحرة الساخرة، حتى كانت ليلة زلزلت فيها الأرض تحت كوخي الصغير وتفجرت الحمم من البركان الراقد في قلب الجبل المتجهم الصامت. كنت قد أغمضت عيني في الكنة المجاورة للحجرة التي يملي فيها كلماته على الغلام بعد أن قدمت لهما طبقي الحساء مع الأرز في هدوء الأشباح الحيية، وكانت عيني قد غفلت قليلا بعد أن تساقط عليها تعب النهار كما يتساقط المطر من السحاب على شجرة ذابلة أو بحيرة راكدة، ودوى صوت المعلم في أذني كأنه أبواق النذير التي يطلقها قائد جبار على مدينة أطبق عليها الحصار، تحول الصوت الرفيع النحيل إلى زمجرة وتتابعت قذائف النار من البركان المتفجر وانقلب جدول الماء الوديع إلى شلال يصب سيلا من الحمم، كان الحكيم يتكلم عن الحاكم الحكيم ويحذره وينذره ولا يكتفي بنصحه وتعليمه: ما يعلمه الناس أعلمه أنا أيضا، المتجبر لا يموت ميتة طيبة، افعل بغير أن تتدخل بالفعل، احكم بغير أن تلجأ للقوة، أتريد أن تغزو العالم وتصنع منه ما تشاء؟ أبدا لن تفلح في ذلك أبدا، العالم وعاء الله، من يلامسه بالعمل يفسده، من يتشبث به يفقده، تجنب التطرف! تجنب التهور! تجنب الخيلاء! الأسلحة أدوات الشر، لا تسكن بالقرب منها! إن أردت أن تكون الحاكم الحكيم للبشر فلا تفكر في أن تهزم غيرك أو تغزو مملكته بالسلاح، هذا السلاح سوف يعود فينقلب عليك، وحيث تكون الجيوش تنمو الأشواك والأحراش، حيث تزحف الجيوش تزحف السنون العجاف، تقول وماذا أفعل لو غزا الأعداء؟ تتم عملك ثم تتوارى، تحارب معركتك ولا تحتفل بالنصر، تحقق هدفك ولا تمجد نفسك، لأن من يجد الانتصار جميلا هو الذي يفرح برؤية الدماء، من يفرح برؤية الدماء فقد خالف الطريق، وكل من يخالف الطريق فلا بد أن ينتهي ولما يزل في شبابه، إذا كان الشعب يجوع فلأن حكامه يرهقونه بالضرائب التي تزيد عن طاقته. إذا كان اللصوص وقطاع الطرق يتزايدون، فلأن القوانين التي يضعها الحاكم قد زاد عددها، احكم بغير أن ترزح فوق صدر الشعب! قده بغير أن تضر به! كن خيرا مع الأخيار ومع الأشرار كذلك خيرا! اجعل قلب الشعب هو قلبك والق الجميع كأنهم أطفالك! لا تشته أن تبرق كالجوهرة ولا أن ترن كالمعدن الرنان! تذكر أن الحكام القدماء الذين كانوا نموذج المملكة سموا أنفسهم باليتامى والعجزة والفقراء. كن كالماء، كن كالماء، عندئذ تغسل قذارة العالم وتصبح سيد المملكة، عندئذ تحمل ذنوب العالم وتغدو ملك العالم. •••

كان الحكيم قد تعب وأتعب الغلام فوق طاقته، قال له الآن يمكنك أن تخلد للنوم وتجفف المداد يا ولدي، أما أنا فقد جفت دموعي التي أمليتها عليك، حاول أن تغمضهما قليلا قبل أن نستأنف رحلتنا، وفي الصباح سلمها للحارس الفقير وسيعرف أنها وصيتي التي كتبتها بدموعي المؤجلة. •••

في الصباح وبعد أن قضيت ليلة لم يغمض لي فيها جفن سلمني الصبي الأوراق وهمس في أذني بما قلته في البداية، وانكفأت بعد ذلك ليالي أخرى على الأوراق ولم أكتف بأن أبللها بدموعي، كنت قد صممت منذ تلك الليلة العاصفة على أن أحملها للعالم وأوزعها على الناس وأعلمها وأحفظها في قلبي لو حدث أن انتزعها مني أمثال المفتش الأعور، وكان لا بد أن أهجر المخفر والمنفى وأرجع إلى مساكن البشر وفي قلبي هذا الكتاب العجيب. أما أنتم يا من ستقرءونه بعدي فاذكروا، حين تشاهدون اسم الحكيم يسطع على غلافه، ذلك الغلام الصغير الذي دونه في سبعة أيام وليال لا تتكرر، واذكروا أحد الفقراء الذي انتزع من الحكيم وصيته التي ملأها بدموعه المؤجلة.

1

Неизвестная страница