Молитва Перепела

Таха Хусейн d. 1392 AH
50

Молитва Перепела

دعاء الكروان

Жанры

ألم تكن غريبة هذه الصداقة بيني وبين هذا الشاب على ما كان بيننا من الائتلاف والاختلاف؟ أكانت صداقة خالصة أم كان وراءها أكثر من الود الذي يكون بين الأصدقاء؟! أما أنا فقد كنت أجد وراء هذه الصداقة حبا ثائرا أكتمه على ما كان يكلفني كتمانه من الجهد ويحملني من المشقة والعناء، وأما هو فقد كتم أمره أسابيع وشهورا حتى خدعني أو كاد يخدعني عن نفسه، ولكنه ألقى النقاب ذات مساء فغير من أمرنا كل شيء، ألقاه في غير جهد وفي غير تكلف، لم يضطرب له صوته، ولم يظهر على وجهه أثر العواطف المضطربة أو القلب الذي تضطرم فيه نار الحب، إنما تحدث إلي في هذا الأمر كما كان يتحدث إلي في أمر المدينة وفي أمر القاهرة بصوت لا ارتفاع فيه ولا انخفاض ولا اعوجاج فيه ولا التواء!

قال: ألا ترين أن الأمر بيننا قد آن له أن ينتهي إلى غايته ويبلغ مداه؟ قلت: وما ذاك؟ قال: هذا الحب الذي اختصمنا فيه وقتا طويلا وسكتنا عنه وقتا طويلا، ولكنه لم يسكت عنا، فما أظنه قد أمهلك يوما كما أنه لم يمهلني ساعة، أما ينبغي أن تنتهي هذه الحياة الغامضة إلى ما يجب لها من الصراحة والوضوح؟ وقد سمعت منه ولكني لم أرد عليه جوابا.

فلما طال عليه صمتي استأنف حديثه في صوت لا يزال سواء، فقال: إنك تفهمين عني اليوم ما أريد، كما فهمت عني من قبل ما كنت أريد. قلت مبتسمة: بل إني لم أفهم عنك شيئا. قال ضاحكا: بل تفهمين أني كنت أريدك على الإثم، وإني الآن إنما أريدك على الزواج.

واحتجت إلى أن أعتمد على كرسي كان مني غير بعيد، فإن فكرة الزواج لم تخطر لي قط، وما كان ينبغي أن تخطر لي؛ فقد أقدمت على كثير من خطير الأمر وتصورت في نفسي كثيرا من جليل العمل، ولكني احتفظت دائما بعقلي ولم يخرجني الحب كما لم يخرجني البغض، ولم يخرجني الأمل كما لم يخرجني اليأس عن طوري في لحظة من اللحظات؛ لذلك أجبته صادقة بأن هذا أمر لا ينبغي العبث فيه.

قال لي وهو يضحك: فإنك تظنين أني أعبث، وتقدرين ما بينك وبيني من الفرق الاجتماعي، متى تزوج السيد الغني المترف من خادمه الشقية الفقيرة البائسة! أليس هذا هو ما تقدرين؟ فأريحي نفسك إذن من كل هذه الخواطر؛ فقد رأيت منذ موقفنا ذاك في المدينة أني لست سيدا كغيري من السادة، وقد رأيت أنا منذ عرفتك أنك لست خادما كغيرك من الخدم، لقد دهشت حين رأيتك تنتظرينني إلى آخر الليل على غير ما تعودت من الفتيات اللاتي سبقنك إلى خدمتي، ولكني لم أكن أقدر أنك ستثيرين في نفسي ألوانا أخرى من الدهش.

ثم أطرق صامتا فأطال الإطراق والصمت، ولبثت ماثلة ذاهلة لا أقول شيئا، وأكاد لا أعي شيئا، ولكنه رفع رأسه، وقال في صوت هادئ حزين: أتقبلين؟ قلت في صوت ليس أقل من صوته هدوءا ولا حزنا: فإن سيدي يعلم أن ليس إلى هذا من سبيل. قال: تفكرين في أبوي! فإني قد فكرت فيهما قبلك وقد حزمت أمري، وما أشك في أنهما لن يمتنعا علي، ولو قد فعلا لعرفت كيف أمتنع عليهما، ولكنهما لن يفعلا، فهل تقبلين؟ قلت: ليس إلى ذلك من سبيل. قال: فمن حقي عليك أن أفهم هذا الامتناع، إنك لتعلمين أن فراقا بيننا مستحيل، وإني لأعلم كما تعلمين أن ليس لقلبينا رضا إلا في الزواج. قلت: فقد قضي على قلبينا ألا يرضيا. قال: ومن ذا الذي قضى عليهما هذا العذاب المتصل؟ وهممت أن أجيب ولكن صوتي يحتبس، ودمعي ينطلق، وإني لأراني أهم بالانصراف، وإني لأراه قد نهض من مجلسه متثاقلا وسعى إلي متباطئا حتى ردني في هدوء ودعة، ثم عاد إلى مجلسه وقال: أترين إلي كيف أملك نفسي! ألا تفكرين في تلك الثورة الجامحة التي شقيت بها وقتا طويلا ؟

أنبئيني من ذا الذي قضى علينا هذا العذاب المقيم؟ قلت: أنت الذي قضى علينا هذا العذاب المقيم، وأنا التي قضت علينا هذا العذاب المقيم، كلانا قضى على صاحبه ما نحن فيه من شر ونكر، وكلانا أتاح لصاحبه ما نحن فيه من هذه الموادعة الهادئة التي لا ينبغي أن نطمع في خير منها، فليس في الحياة خير منها بالقياس إليك ولا بالقياس إلي. قال: فإن حديثك لم يزدد إلا غموضا. قلت: فخير لنا أن نقبله على ما فيه من غموض. قال، وقد ظهر أنه يبذل جهدا ليحتفظ بهدوئه: فإني أقسم لك أني لم أعد أستطيع صبرا على هذه الحياة. قلت: وأنا أيضا لا أستطيع صبرا على هذه الحياة، ولكن ما الذي نستطيع أن نفعل وقد سبق القضاء بما لم نحب. قال: أي قضاء؟ ألم يأن لك أن تفصحي، ألم يأن لي أن أفهم، ألم يأن لهذه الظلمة أن تنجاب؟ قلت: أحريص أنت على ذلك؟ إني لأخشى إن انجابت عنا هذه الظلمة وغمرنا الضوء أن يكره كل واحد منا النظر في وجه صاحبه. قال، وقد غلبه العنف، فارتفع صوته قليلا واضطربت يده اضطرابا خفيفا: بل أنا أريد أن أفهم مهما تكن العاقبة. قلت: فأذن لي بالجلوس، ولم أنتظر إذنه، وإنما جلست على هذا الكرسي الذي كنت أعتمد عليه، وألقيت عليه قصتي في صوت هادئ مطرد لا يبله الدمع ولا يظهر فيه الحزن، ولا ينم عن قليل أو كثير من الاضطراب، إنما ألقيت عليه قصتي كأني أتحدث عن شخص غريب إلى شخص غريب.

وما أدري أطال الوقت الذي ألقيت فيه قصتي أم قصر، ولكني أعلم أني سمعتني أقول: أفهمت الآن؟ أترى إلى هذا الضوء الذي يغمرنا؟ أتستطيع أن تنظر إلي؟! وقد انتظرت جوابه لحظة غير قصيرة، ولكني سمعته كأنما كان يتحدث إلي من مكان بعيد جدا، سمعته يقول: نعم! أستطيع أن أنظر إليك، ولن أستطيع أن أنظر إلا إليك، وأنت أتطيقين أن تنظري إلي؟ أما زلت تضمرين الانتقام؟ ولم أجب إلا بما تجيب به المرأة المغلوبة التي انكسرت نفسها وذاب قلبها، فهو يسيل من عينيها دموعا، ثم أسمعه بعد وقت لا أدري أكان طويلا أم قصيرا يقول لي: لقد كان من الممكن أن نفترق قبل أن يغمرنا هذا الضوء؛ فأما الآن فقد أصبح افتراقنا شيئا لا سبيل إليه، أليس من العجب أن يكون هذا الضوء الذي أخذ يغمرنا شرا من الظلمة التي خرجنا منها؟ إن أحدنا لن يستطيع أن يهتدي في هذا الضوء إلا إذا قاده صاحبه. إن العبء لأثقل من أن تحمليه وحدك، وإن العبء لأثقل من أن أحمله وحدي، فلنحتمل شقاءنا معا حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.

ثم انقطع الحديث بيننا فلم يقل شيئا ولم أقل شيئا، وأطبق على الغرفة صمت هائل رهيب! غرقنا فيه يقظين كما يغرق النائم في نوم بريء من الأحلام.

ولكن صوتك أيها الطائر العزيز يبلغني فينتزعني انتزاعا من هذا الصمت العميق، فأثب وجلة مذعورة، ويثب هو وجلا مذعورا، ثم لا نلبث أن يثوب إلينا الأمن ويرد إلينا الهدوء، فأما أنا فتنحدر على خدي دمعتان حارتان. وأما هو فيقول وقد اعتمد بيديه على المائدة، دعاء الكروان! أترينه كان يرجع صوته هذا الترجيع حين صرعت هنادي في ذلك الفضاء العريض؟!

Неизвестная страница