ثم أستكمل شعوري وأجد نفسي كما كنت قبل أن يغمرني النوم، وأحس كأن شخصا قائما غير بعيد مني، فأتبين هذا الشخص فإذا هي أختي قائمة جامدة لا تكاد تأتي حركة، ولا تكاد تحس شيئا، وكأنها لا تكاد تفكر في شيء.
إنما هو شخص مائل ذاهل قد قام في شيء من الجمود المؤلم، ورفع رأسه إلى السماء كأنه كان ينتظر منها شيئا، وكأنما أبطأ عليه ما كان ينتظر منها فجمد في مكانه لا يستطيع منه انتقالا.
وأنت أيها الطائر العزيز تلقي في الليل العريض المظلم نداءك البعيد العذب، فيصل إلى نفسي فيحييها، ويوقظ فيها الذكرى ويبعث فيها الأمل ويشيع النشاط، وأختي ماثلة ذاهلة كأن صوتك لا يبلغها ولا ينتهي إليها، ومع ذلك فما عهدتها صماء، ولا عهدتها تحسن الحزن أو تجيد الاكتئاب، إنما أعرفها فرحة مرحة، تحب الضحك ولا تحتاج إلى أن تدفع إليه، وإنما تحتاج إلى أن تدفع عنه، أين هي؟ ما بالها جامدة هامدة لا تسمع ولا تحس؟ لعلها قد أرسلت نفسها كما أرسلت نفسي تسبح في هذا الليل العريض فأبعدت نفسها في المسعى وتركت جسمها ماثلا بلا روح.
نهضت من مكاني في هدوء، وسعيت إليها في أناة، حتى إذا بلغتها مسست كتفها مسا رفيقا، فإذا رعشة عنيفة تجري مسرعة في جسمها كأنها رعشة الكهرباء، وإذا هي تجفل كالخائفة، ثم تأمن وتسكن حين تسمع صوتي وأنا أقول لها: لا تراعي، فأنا أختك آمنة، ما وقوفك الآن على هذا النحو ماثلة ذاهبة النفس، كأنك الصنم؟ ماذا تنتظرين من الليل؟ وماذا تبتغين من السماء؟ قالت وقد هوت إلى الأرض كأنها البناء المتهدم وصوتها مضطرب ممزق، يتمزق له قلبي كلما ذكرته: لا أنتظر شيئا ولا أبتغي شيئا ...
ثم عادت الرعشة السريعة فهزت جسمها هزا، ثم انهمرت دموعها انهمارا، ثم احتبس صوتها فإذا هي تضطرب اضطرابا عنيفا، وتسفح دمعا غزيرا، وترسل أنفاسا عنيفة متقطعة، وأنا أجثو إلى جانبها وأضمها إلي وأقبلها، وأحاول أن أرد إليها الهدوء والأمن وسكون النفس ما وسعني ذلك، حتى إذا مضى وقت غير قصير سكن جسمها بعد اضطراب، وانطلقت أنفاسها بعد احتباس، ومضت دموعها تنهمر، وأوت إلى ذراعي كأنها الطفل قد استسلم إلى أمه الرءوم، واطمأن رأسها إلى كتفي، وقضت كذلك لحظة ما نسيت ولن أنسى عذوبتها، وما أرى إلا أنها أحست هذه العذوبة! فقد ثابت إليها نفسها وراجعها رشدها، ولبثت حيث كانت حتى بعد أن سكنت دموعها، كأنما أعجبها مكانها مني، وكأنما وجدت شيئا طالما كانت تتوق إليه فلا تجده ولا تظفر به، ثم سمعتها تقول بصوت خافت بعيد: لقد كنت أحب أن أكون بهذا المكان من أمي لا منك أنت أيتها الأخت الصغيرة؛ فإنك لم تخلقي لتدللي أختك وتمنحيها مثل هذا العطف والحنان.
يا لك من ليل مظلم عريض تضطرب فيه هذه الأضواء الضئيلة البعيدة التي تفنى، ويبسط عليه هذا السكون المخيف ظلالا لا حد لها، ثم يندفع فيه من حين إلى حين صوت هذا الطائر العزيز كأنه سهم مضيء ينطلق في بحر من الظلمات!
كل شيء هادئ مطمئن من حولنا حتى نفس هذه الفتاة التي كانت ثائرة منذ لحظة فقد اطمأنت وسكنت، وانتهت إلى حال تشبه النوم، وإني لآخذ نفسي بالهدوء وأكرهها على الاطمئنان، وألزم جسمي السكون في هذا الوضع الذي هو عليه ليبقى هذا الرأس البائس المحزون مستريحا إلى هذه الكتف الصغيرة الحنون.
ولكن الفتاة ترفع رأسها وتستوي جالسة، ثم تبسط ذارعها فتطوق بها عنقي ثم تضمني إليها، ثم تقبلني، ثم تقول: إياك أن تفعلي ما فعلت أو تخدعي كما خدعت أو تدفعي إلى مثل ما دفعت إليه، إنك إن تفعلي تري نفسك في مثل ما تريني فيه الآن من الجزع والهلع، ومن اليأس حتى من رحمة الله، ومن القنوط حتى من روح الله الذي لا يقنط منه إلا الكافرون.
قلت: وماذا فعلت إذن؟ وما هذا الشر الذي دفعت إليه؟ وما هذا اليأس الذي تغرقين فيه؟ وما هذا الهم الثقيل الذي صب علينا صبا ولم نكن ننتظره ولا نتوقع له مقدما؟ قالت وهي تقبلني: لست أدري أأحدثك بذلك أم أكتمك إياه؛ إني لأعتدي على سنك إن تحدثت إليك: وإني لأعرضك لمثل ما أنا فيه إن كتمتك الحديث.
قلت: فإن صمتك لن يغني الآن شيئا؛ فقد عرفت أن هما ثقيلا ألم بنا، وأن حزنا ممضا يمزق قلبك وقلب أمنا، وأن يأسا مهلكا قد استأثر بنفسك استئثارا، وما أنا بمقلعة عن السؤال والبحث والتفكير حتى أعلم علم هذا كله، وإني لحمقاء إن قبلت أن أنزع من ذلك العيش الناعم السعيد الذي كنت أستمتع به دون أن أعلم لماذا أنزع منه نزعا، فحدثيني حديثك، فمن يدري لعل فيه لي عظة ولك عزاء.
Неизвестная страница