238

Исследования о Мукарриме Ибн Хальдуна

دراسات عن مقدمة ابن خلدون

Жанры

وأما أهل البدو «وإن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم، إلا أنه في المقدار الضروري، لا في الترف ولا في شيء من أسباب الشهوات واللذات ودواعيها؛ فعوائدهم في معاملاتها على نسبتها، وما يحصل فيهم من مذاهب السوء ومذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل الحضر أقل بكثير، فهم أقرب إلى الفطرة الأولى، وأبعد عما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة وقبحها» (ص123). (ج)

وأما القضية الثالثة - وهي القائلة بأن أهل الحضر أكثر ذكاء وفطنة من أهل البدو - فلا يفرد لها ابن خلدون فصلا خاصا بها، بل يذكرها عرضا في الفصل الذي يقرر «أن التعليم للعلم من جملة الصنائع» (ص430-434)؛ ولهذا السبب لم تستلفت هذه القضية أنظار الباحثين كثيرا، مع أنها مسرودة في أواخر الفصل المذكور بوضوح تام: «ألا ترى إلى أهل الحضر من أهل البدو؟ كيف تجد الحضري متحليا بالذكاء، ممتلئا من الكيس، حتى إن البدوي ليظنه أنه قد فاته في حقيقة إنسانيته وعقله، وليس كذلك، وما ذاك إلا لإجادته في ملكات الصنائع والآداب في العوائد والأحوال الحضرية ما لا يعرفه البدوي. فلما امتلأ الحضري من الصنائع وملكاتها وحسن تعليماتها؛ ظن كل من قصر عن تلك الملكات أنها لكمال في عقله، وأن نفوس أهل البدو قاصرة بفطرتها وجبلتها عن فطرته، وليس كذلك؛ فإنا نجد من أهل البدو من هو أعلى رتبة في الفهم والكمال في عقله وفطرته، إنما الذي ظهر على أهل الحضر من ذلك هو رونق الصنائع والتعليم، فإن لها آثارا ترجع إلى النفس كما قدمنا» (ص433-434). (4)

يبحث ابن خلدون في تأثير التجارة والصناعة أيضا، ويظهر تأثير التجارة في الأخلاق، وتأثير الصناعة في العقول. (أ)

يقول في فصل خاص: «إن خلق التجار نازلة عن خلق الرؤساء، وبعيدة عن المروءة.» ويعلل ذلك بما يلي: «إن التاجر مدفوع إلى معاناة البيع والشراء، وجلب الفوائد والأرباح، ولا بد في ذلك من المكايسة والمماحكة والتحذلق، وممارسة الخصومات واللجاج، وهي عوارض هذه الحرفة. وهذه الأوصاف نقص من الذكاء والمروءة وتجرح فيها؛ لأن الأفعال لا بد من عود آثارها على النفس، فأفعال الخير تعود بآثار الخير والزكاء، وأفعال الشر والسفسفة تعود بضد ذلك، فتتمكن وترسخ إن سبقت وتكررت، وتنقص خلال الخير إذا تأخرت عنها بما ينطبع من آثارها المذمومة في النفس، شأن الملكات الناشئة عن الأفعال.» «وتتفاوت هذه الآثار بتفاوت أصناف التجار في أطوارهم؛ فمن كان منهم سافل الطور، محالفا لأشرار الباعة أهل الفسق والخلاعة والفجور في الأثمان إقرارا وإنكارا؛ كانت رداءة تلك الخلق عنده أشد، وغلبت عليه السفسفة، وبعد عن المروءة واكتسابها بالجملة، وإلا فلا بد له من تأثير المكايسة والمماحكة في مروءته» (ص399). (ب)

ويقول ابن خلدون في فصل خاص: «إن الصنائع تكسب صاحبها عقلا، وخصوصا الكتابة والحساب» (ص428)، ويشرح ذلك ويعلله بما يلي: «إن النفس الناطقة للإنسان، إنما توجد فيه بالقوة، وإن خروجها من القوة إلى الفعل إنما هو بتجدد العلوم والإدراكات عن المحسوسات أولا، ثم ما يكتسب بعدها بالقوة النظرية إلى أن يصير إدراكا بالفعل وعقلا محضا، فتكون ذاتا روحانية، ويستكمل حينئذ وجودها، فوجب لذلك أن يكون كل نوع من العلم والنظر يفيدها عقلا فريدا.» «والصنائع أبدا يحصل عنها وعن ملكتها قانون علمي مستفاد من تلك الملكة. فلهذا كانت الحنكة في التجربة تفيد عقلا، والكتابة من بين الصنائع أكثر إفادة لذلك؛ لأنها تشتمل على العلوم والأنظار، بخلاف الصنائع، وبيانه أن في الكتابة انتقالا من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال، ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس، ذلك دائما. فيحصل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلولات، وهو معنى النظر العقلي الذي يكسب العلوم المجهولة، فيكسب بذلك ملكة من التعقل تكون زيادة عقل، ويحصل به قوة فطنة وكيس في الأمور لما تعودوه من ذلك الانتقال.» «ويلحق بذلك الحساب؛ فإن في صناعة الحساب نوع تصرف بالعد وبالضم والتفريق، يحتاج فيه إلى استدلال كثير، فيبقى متعودا للاستدلال والنظر، وهو معنى العقل» (ص429).

5

إن التفاصيل التي ذكرناها آنفا تدلنا على رأي ابن خلدون في «آثار الحضارة» في الطبائع بوجه عام، فإنه يعتقد أن وصول الحضارة إلى غايتها يؤدي إلى فساد الأخلاق من جهة، وزيادة العقل من جهة أخرى.

إن تأثيرات الحضارة في الأخلاق مشروحة بتفصيل واف في الفصل الذي يقرر: «أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره ومؤذنة بفساده» (ص371-374).

نجتزئ من الفصل المذكور بالعبارات التالية؛ لنتبين رأي ابن خلدون في هذا الصدد: «إن الحضارة تؤدي إلى الترف، والترف والنعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتخلق بعوائدها، والحضارة - كما علمت - هي التفنن في الترف واستجادة أحواله، والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه.» «وإذا بلغ التأنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية؛ تبعه طاعة الشهوات، فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة» (ص372).

إن استفحال الحضارة والترف يقترن بوجه عام بارتفاع أسعار الحاجيات، فتزداد عندئذ مشاكل المعيشة بقدر ازدياد الحاجات وارتفاع أسعارها. «فتعظم نفقات أهل الحضارة، وتخرج عن القصد إلى الإسراف، ولا يجدون وليجة عن ذلك لما ملكتهم من أثر العوائد وطاعتها، وتذهب مكاسبهم كلها في النفقات، ويتتابعون في الإملاق والخصاصة، ويغلب عليهم الفقر، ويقل المستامون للمبايع؛ فتكسد الأسواق، ويفسد حال المدينة، وداعية ذلك كله إفراط الحضارة والترف.» «وهذه مفسدات في المدينة، وعلى العموم في الأسواق والعمران، وأما فساد أهلها في ذاتهم واحدا واحدا على الخصوص، فمن الكد والتعب في حاجات العوائد والتلون بألوان الشر في تحصيلها، وما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها بحصول لون آخر من ألوانها؛ ولذلك يكثر منهم الفسق والسفسفة والتحيل على تحصيل المعاش من وجهه وغير وجهه، وتنصرف النفس إلى الفكر في ذلك والغوص عليه، واستجماع الحيلة له (ص372). فتجدهم أجرياء على الكذب والمغامرة والغش والخلابة والسرقة والفجور في الأيمان والربا في البياعات، ثم تجدهم أبصر بطريق الفسق ومذاهبه والمجاهرة به وبدواعيه، وتجدهم أيضا أبصر بالمكر والخديعة يدفعون بذلك ما عساه ينالهم من القهر، وما يتوقعونه من العقاب على تلك القبائح حتى يصير ذلك عادة وخلقا لأكثرهم.» «ويموج بحر المدينة بالسفلة من أهل الأخلاق الذميمة، ويجاريهم فيها كثير من ناشئة الدولة وولدانهم» (ص373). «ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها، لكثرة الترف»، فيقع التفنن «في شهوات البطن من المآكل والملاذ، ويتبع ذلك التفنن في شهوات الفرج بأنواع المناكح من الزنا واللواط»

Неизвестная страница