1 - حليم
2 - الحب
3 - المدن الثلاث
4 - الحديقة
5 - تمهيد الجلسات الثلاث
6 - الجلسة الأولى
7 - الجلسة الثانية
8 - الجلسة الثالثة
9 - وضع الجنون موضع العقل
10 - تحالف الأرض والسماء
الخاتمة
1 - حليم
2 - الحب
3 - المدن الثلاث
4 - الحديقة
5 - تمهيد الجلسات الثلاث
6 - الجلسة الأولى
7 - الجلسة الثانية
8 - الجلسة الثالثة
9 - وضع الجنون موضع العقل
10 - تحالف الأرض والسماء
الخاتمة
الدين والعلم والمال
الدين والعلم والمال
المدن الثلاث
تأليف
فرح أنطون
المقدمة
بقلم فرح أنطون
الإسكندرية في 1 يوليو (تموز) سنة 1903
من الروايات ما ينشأ للتفكهة والتسلية، ومنها ما ينشأ للإفادة ونشر المبادئ والأفكار، والذين أنشئوا رواياتهم للإفادة في الغرب معدودون في مقدمة مشاهير المؤلفين كتولستوي وزولا وكيبلنغ وغيرهم، فإن كل واحد من هؤلاء الكتاب لا يرى في وضع الروايات حطة وضعة، بل يعتبر الرواية منبرا ينشر منه آراءه وأفكاره بطريقة تبلغها إلى أذهان القراء بسهولة، ونحن في الشرق محرومون هذه الطريقة لعدم رواجها لأسباب لا محل لذكرها هنا؛ ولذلك كانت الروايات التي تنشر عندنا لا غرض منها غير التفكهة إلا بعضها.
ولما وصلنا في إبراز مواد «الجامعة» إلى المواضيع المهمة التي تكمل مباحثها السابقة خطر لنا أن نهجر أسلوب المقالات المتقطعة والفصول المتفرقة إلى أسلوب الرواية؛ لأنه أجمع وأوعى، فضلا عن كونه أشد تأثيرا وأحسن وقعا، فعزمنا بحوله تعالى على إبراز عدة روايات كل واحدة منها تبتدئ وتنتهي في جزء واحد تسهيلا لمطالعتها واستيعابها لأن الانتظار يقطع الرغبة فيها، وسيكون اهتمامنا فيها بالمبادئ والأفكار مقدما على الاهتمام بالحوادث والأخبار، ولكن هذا لا يمنع من التزام ما تقتضيه الروايات من الوصف وتصوير العواطف والحوادث تصويرا طبيعيا، لأن فن الروايات فن بسيكولوجي جماله وتأثيره متوقفان على حسن سبكه ولطف أسلوبه ودرس باطن الإنسان وأخلاقه وبيئته درسا دقيقا.
وهذا الكتاب «الدين والعلم والمال» هو الرواية الأولى من هذه الروايات، وموضوعه معروف من عنوانه، وقد سميناه هنا (رواية) على سبيل التساهل لأنه عبارة عن بحث فلسفي اجتماعي في علائق المال والعلم والدين، وهو ما يسمونه في أوروبا «بالمسألة الاجتماعية» وهي عندهم في المنزلة الأولى من الأهمية لأن مدنيتهم متوقفة عليها .
وربما قيل: إن هذا الموضوع غير لاصق بنا كل اللصوق لأن «المسألة الاجتماعية» لا تزال صغيرة عندنا، فالجواب أن هذه المسائل هي مدخل للمباحث التالية في الكتب التالية؛ ذلك لأن المباحث الاجتماعية والفلسفية مرتبطة في الحقيقة بعضها ببعض، فلا يمكن تحقيق أحدها دون الغوص إلى أعماقها لمعرفة أساسها، وقد أظهرنا الأساس في هذا الكتاب، فعسى أن ينال من رضى ساداتنا القراء والكتاب ما ينشطنا في خدمتنا.
الفصل الأول
حليم
والمدن الثلاث التي كان يحج إليها الناس
فقال له الشيخ: وهل تقيم عندنا طويلا يا بني.
فأجاب الشاب: نعم يا عم فإنني جئت من أقاصي البلاد لأشاهد المدن الثلاث التي سار بذكرها الركبان، وربما استغرقت إقامتي عندكم شهرا على الأقل، لأنني سأزورها واحدة واحدة وأبحث في شؤونها بحث مؤرخ دارس لا بحث متفرج.
فتنفس الشيخ الصعداء وقال: أف أف، كم يزور الناس هذه المدن الثلاث، فهم يظنونها عجيبة من عجائب الدنيا مع أننا نحن لا نراها إلا مدنا كباقي المدن، انظر إليها، أي فرق بينها وبين باقي المدن سوى قيامها في هذا السهل الفسيح بشكل مثلث.
فنظر الحاضرون إلى حيث أشار الشيخ فشاهدوا أمامهم سهلا فسيحا لا يعرف الطرف آخره، وكان في هذا السهل ثلاثة بلدان جميلة البنيان محاطة من كل جهة بالحدائق والبساتين والحقول الصفراء من منظر الزرع تتخللها المواشي المختلفة وهي ترعى بحراسة فتيان وفتيات كانوا جالسين أفرادا وأزواجا وجماعات تحت الأشجار المثمرة أو في ظل بعض السياجات.
فقال الشاب بعد أن سرح طرفه في هذا المنظر البري، حقا إنه منظر بديع.
وكان المكان الذي يقيم فيه الشاب والشيخ مع بعض من الزائرين منزلا صغيرا في قرية صغيرة قريبة من «المدن الثلاث» وكانت هذه القرية في أول السهل على مقربة من النهر الجميل الذي كان ينساب في السهل انسياب الأفعى ليسقي زروعه وأشجاره، وقد سمى الناس هذه القرية «الدخول» أو قرية الدخول لأنها المدخل إلى المدن الثلاث، إلى تلك البقعة التي كان يحسبها الناس جنة الله في أرضه.
فبعد أن أمعن الشاب النظر قليلا في المدن الثلاث التفت إلى الشيخ وقال: هل تعرف يا عم تاريخ تأسيس هذه المدن بالتدقيق.
فأجاب الشيخ: كل الناس هنا يعرفون هذا التاريخ يا بني لأنهم لا ينسون ذكر ذلك الرجل الكريم والإنسان الذي لا مثيل له بين البشر، مؤسس هذه المدن ومنشئها، انظر إلى تلك الحديقة البعيدة الكائنة في وسط المدن الثلاث، هذه حديقته وقد أقام له فيها أهل هذه المدن تمثالا عظيما يحتفلون بتذكاره مرة في كل عام.
فقال الشاب: إنك تتكلم عن المرحوم الشيخ سليمان فاحك لي قصته وقصة تأسيس هذه المدن من أولها.
فسعل الشيخ قليلا وأصلح جلوسه فوق الوسادة ثم أخذ يقول: منذ نحو مائة سنة يا بني كان الشيخ سليمان فتى فقيرا يتيما يتجول في المدن يطلب عملا، فذاق في صباه كل أنواع العذاب في هذه الحياة، ومما كان يزيد عذابه نفسه الحساسة الكبيرة، طبقا لما قيل:
وأتعس الناس حالا من تكون له
نفس الملوك وحالات المساكين
ولكن يظهر أن العناية الإلهية يا بني لا تخص بعض هذه النفوس بالشقاء والنقم والعذاب إلا لمقاصد سامية، فإنه إذا كانت المصائب تسحق النفوس الصغيرة وتفل عزائمها فإنها تشدد عزائم النفوس الكبيرة لأنها تعلمها بالاختبار ما لا تتعلمه بسواه، فهي كالعود الطيب الذي لا تنتشر رائحته إلا متى مسته النار، أو كالزيت الذي لا يضيء إلا بالاحتراق، وهذا ما جرى للشيخ سليمان، فإنه بعد أن ذاق من مصائب الحياة ما ذاق في إبان الفقر والضيق لم تسمح له طبيعته الكريمة أن ينسى ذلك في أيام الثروة والرخاء.
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا
من كان يألفهم في المنزل الخشن
ولذلك كان همه أول ما أثرى وجمع مالا طائلا أن يقوم بمشروع كانت تحدثه نفسه به منذ صباه.
فإنه في ذات يوم أعلن في البلاد كلها إعلانا غريبا ألصقه في الشوارع وفرقه في الناس وبعثره في الطرق والأسواق، ومحصل هذا الإعلان أن كل فتى وكل فتاة يجولان في الشوارع بلا شغل ولا رزق إذا قصداه فإنه يعطيهما شغلا ورزقا واسعا، فلم يمض على هذا الإعلان أسبوع واحد حتى بلغ عدد الفتيان الذين قصدوه 3245 فتى وعدد الفتيات 3120، فاشترى الشيخ سليمان هذا السهل الواسع الذي أمامنا ومساحته 5000 فدان، وأسكن أولئك الفتيان والفتيات فيه وأحضر لهم زراعا وصناعا يدربونهم على الزراعة والصناعة، وأقام منهم حكومة لهم، وسن لهذه الحكومة قوانين وجعل فيها قضاة وجندا ورئيسا أعلى، نعم إن ذلك كان مضحكا في بدء الأمر ولكنه لم يلبث أن صار جديا مهما، فإن أولئك الفتيان والفتيات الفقراء الذين اجتمعوا من كل الجهات انتقلوا بهذه المعاملة من حالة إلى حالة، فبعد أن كانوا مثلا يجمعون أعقاب السكائر من الشوارع والأسواق ليبيعوها إلى تجار الدخان، أو يطوفون المدينة بالنهار بأثواب بالية قذرة يستعطون قوتهم أو يطلبونه من فضلات المنازل في المزابل، وفي الليل ينامون أكداسا أكداسا في زوايا الطرق على البلاط البارد حتى في أشد ليالي الشتاء بردا كأنهم حيوانات لا بشر - صاروا يشتغلون بشرف واجتهاد في أماكن معدة لذلك ويلبسون من أجرة شغلهم ثيابا نظيفة ويتغذون بأطعمة مغذية، ولم تعد ترى في عيونهم ذلك القلق الشديد الذي كان فيها حين كانوا في تيار تلك المعيشة الهائلة التي لا يكون فيها الإنسان على ثقة حتى من بلغة يسد بها رمقه في المساء أو في الصباح لتدوم له حياته، بل حل محل ذلك القلق طمأنينة تامة لثقة ذلك العامل الصغير بأن حياته صارت مضمونة، ولذلك صار يبتسم للحياة ابتسام الراحة والارتياح بعد أن لم يكن يبتسم من قبل إلا ابتسام عدم المبالاة بشيء حتى بالحياة، ومما زاده راحة وسعادة حكومته نفسه بنفسه تحت مراقبة الشيخ سليمان وصيته، فإنه لم يمر على هؤلاء الأولاد نحو سنة من الزمان حتى صاروا يشعرون بالتبعة التي عليهم ولذلك صاروا يراعون الحدود في سلوكهم، ومن هذا اليوم يبدأ تاريخ نهوضهم من عثرتهم.
فقطع الشاب كلام الشيخ وقال: إذا أجداد سكان هذه المدن الثلاث كانوا من فضلات الأزقة والشوارع.
فقال: نعم يا بني ولكن تذكر أن الورد لا ينبت إلا من الشوك والنرجس لا يخرج إلا من بصل، على أننا نحن سكان هذه القرية كنا نود لو اقتصر سكان هذه المدن الثلاث على المعيشة التي عاشها أجدادهم أولئك الفتيان العاملون؛ لأن في ذلك راحتنا من الاضطرابات والفتن التي قام قائمها بين السكان في الأزمنة الأخيرة، فأولئك الفتيان كان لا هم لهم غير زراعة أرضهم وإتقان مصنوعاتهم والمعيشة بسلام بعضهم مع بعض، أما أصحابنا هؤلاء فإن دأبهم النزاع والخصام، فنعم الآباء ولكن بئس ما ولدوا.
فقال الشاب: وما سبب نزاعهم وخصامهم؟
فقال الشيخ: أنت ترى يا بني أن هذه المدن ثلاث، فإحداها تدعى مدينة المال لأن أهلها كلهم يشتغلون بجمع المال، والثانية تدعى «مدينة العلم» لأن أهلها كلهم يشتغلون بالعلم، والثالثة تدعى «مدينة الدين» لأن أهلها كلهم منقطعون إلى الدين، وقد حدث هذا الانقسام على ما ترى منذ زمن بعيد، فإن أولئك الفتيان والفتيات الذين أسسوا هذه الجمهورية الصغيرة بعد اشتغالهم بزراعة الأرض وإتقان المصنوعات أصابوا نصيبا من الثروة والسعة، فلما تزاوجوا وتكاثروا جاء أبناؤهم أرقى منهم وأكثر ميلا إلى الشؤون النفيسة، فعكف بعضهم على التجارة وبعضهم على العلم وبعضهم على الأدب وبعضهم على الدين، كل بحسب استعداد نفسه وقابليتها، فلم يمر زمن طويل حتى قام النزاع بينهم على ساق وقدم، فارتأى بعض منهم زيادة في توسيع المعيشة على السكان أن ينشئوا بلدتين أخريين قريبتين من البلدة الأصلية، ثم رغبة في حصر النزاع في مكان واحد أو منعا للنزاع قرروا أن تسكن كل طبقة في بلدة، فطبقة المال تسكن في البلدة الشرقية وطبقة العلم في البلدة الغربية وطبقة الدين في البلدة الجنوبية، ولكن هذا التدبير قد ذهب سدى بلا جدوى لأن النزاع ما زال قائما بينهم.
الفصل الثاني
الحب
في قلب لم يعرف الحب
وكان الشاب الذي ألقى على عمه الشيخ تلك الأسئلة في نحو الثلاثين من العمر وقد جاء سائحا لمشاهدة هذه المدن الثلاث التي سمع بها من بلده، وكان رجلا قد درس علوم المتقدمين والمتأخرين ووقف على المبادئ القديمة والحديثة وصار يطلب ضالته بينها على غير فائدة، فلا المدنيات القديمة كانت تعجبه لأن حقوق الضعفاء كانت مهضومة فيها وبناءها قائم على القوة والعنف، ولا المدنيات الحديثة كانت ترضيه لأنها جعلت الحياة عراكا هائلا وجهادا عظيما بين الناس، وكان وهو في المدرسة قد لمح في ذهنه عصرا يسميه مؤرخو اليونان العصر الذهبي، ويسميه كتاب المسيحية عصر الفردوس الأرضي، فبقي منه في فكره أثر كان يحضر فيه كلما رأى زحام الحياة وجهادها بين أفرادها، فلما سمع بهذه المدن الثلاث ومعيشة سكانها في وسط الطبيعة معيشة خالية من أدران الاجتماع ورذائله خيل له أنها بداية العصر الذهبي الموعود به الإنسان في الأرض
1
فقال في نفسه: فلنذهبن لمشاهدة تلك البقعة التي ابتدأ بها العصر الذهبي فإنه قد آن للإنسانية في الأرض أن تصل إليه وتجد شيئا من الراحة بعد جهاد القرون الماضية.
لكن لما سمع الشاب ما حدثه به الشيخ عن نزاع تلك المدن الثلاث سقط أمله وخاب ظنه، على أنه كان من الذين يستفيدون من كل شيء، فقال في نفسه: إنني مولع بدرس كل ما له علاقة بتنازع المال والعلم والدين، فربما قدرت في هذه المرة على اكتشاف أسرار جديدة بهذا الشأن، بل ربما كان تنازع هذه المدن الثلاث المنصوبة إحداهما تجاه الأخرى كمنجانيق للحرب مؤديا إلى حل لهذه المشكلة القديمة.
وبينما كان الشاب يفكر في هذه الأمور إذ سأله الشيخ: متى تدخل إلى هذه المدن يا ولدي حليم؟ فأجاب الشاب: سأدخلها غدا، فقال الشيخ: وهل تعرف فيها أحدا يا بني؟ فتنهد حليم وأجاب مبتسما: كلا، فقال الشيخ: لقد رابني في جوابك شيئان: تنهدك وابتسامك، فأصدقني، فزاد حليم في الابتسام وقال: وما يمنع من أن أصدقك لو كنت أعرف فيها أحدا.
إلا أن حليما لبث بعد هذا الجواب مبهوتا، وقد تنهد هذه المرة تنهدا لم يدع عمه الشيخ يشعر به وشخصت عيناه حينئذ إلى المدينة الشرقية، مدينة المال، ثم انتقلت من مدينة المال إلى حديقة واقعة تجاه القرية على شاطئ النهر عند مدخل السهل، ولما وقع نظره عليها أغمض عينيه كما يغمضهما من لا يريد أن ينظر ما أمامه أو من يريد أن ينظر في داخله صورة نفيسة مخبوءة فيها، وكان غرض حليم الأمرين معا.
وكان مع حليم رفيق أكبر منه سنا وأضخم منه جسما، فلما شاهد حركاته هذه ابتسم له، فتوردت وجنتا حليم لهذا الابتسام لأنه فهم معناه، فخشي رفيقه أن يكون قد أساء إليه بهذه الإشارة فمال نحو أذنه وهمس فيها قائلا على سبيل المداعبة: أما تظن أن العصر الذهبي قد ابتدأ.
فازدادت حمرة حليم وأجاب صديقه ضاحكا: مهما كان في عبارتك من التهكم فإنها مقبولة لأنها اختراع حليم.
فقال له صديقه على سبيل المداعبة أيضا: أنت أجمل يا صاح، ولكن لا تله نفسك الآن بهذا الكلام عن الأمور المهمة، ثم أشار نحو الطريق.
فلفت حليم نظره إلى حيث أشار صديقه فتمشى قلبه في صدره لمنظر رآه بعيدا، ذلك أنه شاهد خمسة جياد عليهن خمس فتيات يركضن عليهن خببا، فطار نظره في الحال إلى التي تلبس ثوبا أبيض بينهن، فرآها تسير في الوسط وهي أخفهن حركة وجوادها أسرع خطى، فلبث شاخصا نحوها، أما صديقه فتركه في مناجاته ولم يزعجه هذه المرة بالمزاح الثقيل لأنه كان يعلم أن النفوس الحساسة المخلصة لا تطيق المزاح أحيانا في بعض الأشياء، ذلك أن المزاح سهم يخدش دائما وإن كان خدشه خفيفا، والرجل الكريم يغار على ما هو نفيس عنده ومحبوب أن يخدش حتى بوردة، ومن الغريب أن سؤالا واحدا كان في تلك البرهة يشغل فكر حليم وفكر صديقه معا، وهذا السؤال هو: هل تلتفت الفتاة إلى النافذة أم لا، إلا أن حليما كان يشك في التفاتها، وأما صديقه فإنه كان على يقين منه، ذلك لأنه رأى منها في البستان الذي شاهداها فيه مع رفيقاتها قبل وصولهما إلى هذه القرية ما لم يره حليم منها، وكانت عالمة أنهما سينزلان في ذلك المنزل، ولكن مع ذلك صدق ظن حليم وخاب ظنه هو، فمرت الفتاة مع رفيقاتها في الطريق البعيدة دون أن تلتفت إلى النافذة.
كان حليم شابا كريما، وكان قد صرف عمره في مطالعة الكتب وانتقاد أحوال الاجتماع، ومن سوء حظه لم تعرض في طريقه فتاة تريه خطأ ذلك الانتقاد، ولذلك كان حليم إلى تلك الساعة بلا حب، ولكن لا يجب أن يستدل بهذا القول على أن قلبه كان جامدا كالحجارة ولذلك لم يتحرك قبل الآن، كلا، إن قلب حليم كان بسلاسة الماء ولطف النسيم ولين الشمع، ولكنه لم يكن يجد في طريقه من تقدر أن تؤثر عليه وتحرك هذا القلب، فهل الذنب ذنبه في هذا الأمر أم ذنب الناس، وكيف تريدون من النار أن تشتعل إذا لم يكن هنالك حرارة للإشعال، أو من الحديد أن يجذب إذا لم يكن هنالك مغناطيس للجذب، وقد كان يقال له أحيانا: كيف يمكن أن تحب وتتزوج إذا بقيت بعيدا عن الناس كما أنت، هل الحب هواء يطير ويدخل في الأجسام ليأتيك وأنت بعيد عنه بين المحابر والألوان والأقلام، كلا، إذا فعاشر وساير إن رمت أن تحب، أما هو فقد كان يجيبهم باسما: إنني من الذين يقرأون الرسالة من العنوان ويعرفون الشجرة من الثمرة، فأنا في واد ونساؤكم وبناتكم في واد، على أنني لست ألوم النساء إذا لم يفهمن أخلاقي وعواطفي ما دام الرجال أنفسهم لا يفهمونها، فالانفراد عن هذه الهيئة الباطلة الكاذبة التي نعيش فيها غير مبالين بها ولا بمسراتها ولا بآمالها - لأنها تختلف عن مسراتنا وآمالنا - خير من الانضمام إليها وسريان عدواها إلينا.
ولذلك كان حليم يقابل السيدات بلا مبالاة ولا مجاملة كما يقابل الرجال، وبينما كنت ترى جميع الشبان في الحفلة يطوفون بكراسيهم أجمل السيدات والبنات ويبذلون جهدهم في خدمتهن كأنهم كلاب صيد لا شأن لهم في الجلسة إلا إحضار ما يطلبنه أو ندامى لا غرض لهم إلا بسطهن وتسليتهن - كنت ترى حليما جالسا في زاوية يضحك من أولئك وهؤلاء، ويتسلى بمراقبة الحركات الباردة والكلمات الشاردة والنظرات المجاهدة، وعند كل واحدة منها كان يضحك في نفسه ويقول: ما أكذبك أيها الإنسان.
ولكن لما قدم حليم في هذه المرة إلى هذه القرية قاصدا السياحة في المدن الثلاث ووجد في طريقه قبل الوصول إلى القرية تلك الفتاة بين رفيقاتها، تغير وجه المسألة في نظره، والغريب أن هذا الوجه قد تغير بلا سبب مغير أي من غير أن يحادث حليم هذه الفتاة ويختبر أخلاقها ليعرف ما وراء جمالها وهل هي أرقى من بنات بلده حقيقة لتستحق ميله وحبه، فهل ترى كان ذلك التغيير من تأثير السفر على الأخلاق لأنه يهيئها لقبول كل تأثير يعرض لها لأنها تكون في حاجة إليه في غربتها؟ أم ذلك لميل النفوس دائما إلى البعيد ونبذها القريب المألوف طبقا لقول العامة: «الدير القريب لا يشفي»؟ أم ذلك لأن عواطفه المضغوطة في قلبه قد وجدت هذه المرة منفذا ففاضت رغما عنها إذ طال بها عهد انتظار الحب وهو لا يأتي؟ أم ذلك لأن علم حليم بأن تلك الفتاة من إحدى المدن الثلاث قد جعل لها في نفسه مكانا سنيا في الحال فنظر إليها بعين الكمال بعد أن كان ينظر إلى بنات جنسها بعين النقص؟ أم ذلك لأن كهربائية حليم وكهربائية الفتاة قد اتحدتا لأول نظرة؛ لأنهما خلقا ليتحدا معا طبقا لاعتقاد بعض المتقدمين بأن الله يصنع النفوس أنصافا أنصافا وأن الحب هو عبارة عن وجود النفس نصفها الثاني المكمل لها؟
الفصل الثالث
المدن الثلاث
مدينة المال، مدينة العلم، مدينة الدين
وفي صباح اليوم الثاني استعد حليم ورفيقه صادق للدخول إلى المدن الثلاث، فنهض حليم إلى ثيابه يصلحها بتأنق خلافا للعادة، فنظر إليه صديقه وابتسم، فعبس حليم قليلا وقال له: يظهر أن صحبتك ستكون ثقيلة قليلا بعد الآن، فأجابه رفيقه: قل ما تشاء في ذمي ولومي ودعني أرى فيك ما لم أره قبل الآن، وهو اهتمامك بظاهرك، فقال حليم: وقد رام تغيير الحديث: بأي مدينة نبتدئ؟ فابتسم رفيقه وأجاب: هل من حاجة للسؤال فإننا سنبدأ بمدينة المال، ففهم حليم حينئذ أنه انتقل من الرمضاء إلى النار فأجابه ضاحكا ومتوردا خجلا: حقا إنك لا تستطيع ترك المزاح.
وما طلعت الشمس في ذلك النهار تبعث إلى الخليقة حرارتها المحيية ونورها المنعش حتى خرج حليم وصادق من القرية وقصدا المدن الثلاث، فوجدا في الطريق الزراع خارجين إلى حقولهم وبساتينهم، والرعاة يسوقون مواشيهم إلى مراعيها الخصيبة وفي مقدمتها ومؤخرتها الكلاب لحراستها وهم سائرون وراءها في أيديهم قصب رخيم الصوت ينفخون به نفخا يذكر السامع نفخ مزمار الرعاة في جبال لبنان وأوديته أو غناء الرعاة في عصر الإله أبولون لما نزل إلى الأرض وجعل نفسه راعيا وعلم الرعاة أناشيد الآلهة، ثم سارا بضع خطى فوجدا أعمى يستعطي جالسا تحت سياج بستان على الطريق ووراء السياج في داخل البستان رجل في يده كيس كبير يملأه من الثمار، والقلق باد على وجهه مما يدل على أنه يسرق تلك الأثمار، ثم بعد برهة شاهدا صيادا يطارد الطيور ليصطادها رغبة في لحمها ويترك بعد ذلك صغارها تنتظرها في أعشاشها حتى تموت بردا وجوعا، وبعيدا في رأس شجرة منفردة صبي لا يتجاوز عمره عشر سنوات ينصب قضبان دبق للطيور ليمسكها بها، وقريبا من هذه الشجرة رجلان كل منهما آخذ بخناق رفيقه وهما يتشاتمان ويتضاربان بحدة وجنون كأنهما كلبان يقتتلان على عظمة، وفي الجانب الآخر وراء جذع شجرة فتى يرافق فتاة لا هي أخته ولا هي نسيبته.
فلما شاهد حليم هذه المشاهد قال في نفسه باسما: نحن في واد والعصر الذهبي في واد، فإن هذه المصائب والقبائح تدل على أننا قرب مدن كالمدن المألوفة الاعتيادية.
وبعد المسير نحو ساعة وصل الصديقان إلى مدينة المال، فدخلا إليها بلهفة وشوق ليروا داخلها.
وكانت هذه المدينة أكبر المدن الثلاث وأوسعها، وكانت ممتازة عن المدينتين الأخريين بقصورها الشاهقة ودورها الباذخة وجنائنها المحيطة بمنازلها، فلما أخذ حليم ورفيقه يجولان في أسواقها وشوارعها لم يكونا يسمعان إلا نداء الباعة وأصوات التجار ورنين المال يدفع أو يقبض ودوي أصوات البضائع تحمل أو تنزل، ونظر حليم إلى أهلها نظر منتقد فرآهم بأجسام سمينة وعيون هائمة لا تستقر في مكان لألفتها النشاط والحدة والتفتيش، وثياب نظيفة مرتبة تدل على سعتهم، فخيل له أنه بين قوم سعداء بمالهم أقوياء بنشاطهم وجدهم، لكنه كان من الذين لا يكتفون بظواهر الأشياء للحكم عليها حكما سديدا، فقال في نفسه سنرى النتيجة بعد زيارة المدينتين الأخريين.
ومما لا يحتاج إلى بيان أن حليما كان يفتش بعينيه كثيرا عن فتاته لعله يلمحها في نافذة مفتوحة أو شرفة أو حديقة، ولكن تعبه ذهب بلا جدوى، فإنه كان يرى في النوافذ والشرفات والحدائق والطرق كثيرات من الحسان وكلهن كأنهن أقمار فوق أغصان بان، إلا أنه لم يقف على أثر لحسنائه، فكان كلما رأى حسناء وظنها إياها ثم ظهرت له خيبة ظنه يردد قول الشاعر:
أليس عجيبا أن نكون ببلدة
كلانا بها ثاو ولا نتكلم
وبعد أن جال حليم وصديقه في مدينة المال ساعتين خرجا منها إلى مدينة العلم، فمرا في طريقهما إليها بالحديقة العظيمة الواقعة بين هذه المدن الثلاث وهي ملتقى أهلها ومجمعهم ومتنزههم، فشاهد فيها حليم ورفيقه رهبانا وقسسا وشيوخا وأئمة ورجالا وشبانا يحملون بأيديهم كتبا وصحفا وهم تارة يقرأون فيها وطورا يتأملون وآونة يتذاكرون، فقال حليم لرفيقه هذه طلائع مدينتي العلم والدين، ثم مرا قاصدين مدينة العلم دون أن ينتبه إليهما المقيمون في الحديقة.
ولما وصل حليم ورفيقه إلى مدينة العلم وجدا السكون والهدوء مخيمين عليها حتى إنك لتسمع حين مرورك في الشوارع طنين الذباب في طيرانها، وكانت منازلها صغيرة حقيرة وشوارعها ضيقة، فارتاحت نفس حليم لما وجده من الهدوء فيها وقال: أين نحن من جلبة تلك المدينة. غير أن البياض إذا اشتد صار برصا، ولذلك لم يوغل حليم في المدينة حتى صار ذلك الهدوء التام ثقيلا على نفسه، فإنه لم يكن يسمع حركة ولا يرى شخصا في الشارع ولا يلمح يدا ولا وجها في النافذة، فكان كأنه في مقبرة أو مدينة أموات لا أحياء، إلا أنه كان أحيانا في مروره ببعض المنازل يرى شابا مستلقيا على سريره وكتابه في يده، أو رجلا يروح ويجيء في غرفته وهو يفكر ويتأمل كأنه متجرد عن هذا العالم، أو قارئا كتابه في يده ولكن فكره يسبح بعيدا في الفضاء الأبدي.
ولو لم يكن حليم ممن ألف هذه الحالات وأحبها لداخلته خشية منها وعراه نفور عنها، لأن هذا الهدوء هدوء الأموات، وذلك الانقباض البادي في وجوه النفر الذي رآه لمما يبعث في النفس شعورا رهيبا لمعرفتها أن ما يقع في ذلك الحين في وسط ذلك الهدوء الشديد مع ذلك الانقباض الأليم يجب أن يكون أمرا رهيبا خطيرا تقف عنده النفوس رهبة وإجلالا، والنفس غير مخطئة في شعورها هذا لأن ذلك الأمر هو عبارة عن عراك ونضال بين الأرض والسماء، والمعلوم والمجهول، والمادة والروح، والمحدود وما لا حد له، ذلك أن الإنسان الترابي القاصر الضعيف يطلب الوصول بفكره إلى الذي لا يصل إليه فكر، والعقل المحدود يروم الاستيلاء على العقل الذي لا حد له.
وبعد ساعتين خرج حليم ورفيقه من مدينة العلم وقصدا مدينة الدين، وكان حليم يمشي وفكره مشغول للعواطف التي قامت في نفسه حين مروره في مدينة العلم، فهناك تجددت هواجسه كلها وبلغ اضطرابه معظمه، هناك كان ينتظر أن يرى العلم ضاحكا باشا لأنه وجد ضالته فإذا به يراه كما عهده منقبضا مظلما يطلب ويفتش عبثا، فانقبض صدر حليم ونسي في هذه الدقيقة حسناءه نسيانا حقيقيا، ومن هنا تقدر أن تستدل على أخلاق هذا الشاب استدلالا مهما وتعرف السبب الذي جاء من أجله إلى هذه البلاد، فإن الناس يضعون عادة حبهم فوق كل أمر، وقد وضعه الملوك مرات كثيرة فوق تيجانهم وعروشهم، أما حليم فلم يكن يعرف أحب إليه من أن يعرف.
1
ولكن لم يلبث حليم أن دنا من مدينة الدين، وكان يسير إليها وهو مطرق مفكر بكل ما في فكره من القوة، ولكنه ما قرب من باب المدينة حتى سمع أصواتا شقت الفضاء وأناسا بأنغام رخيمة يصيحون من أعالي المآذن: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، فالتفت حليم بغتة وقال: هل وصلنا؟ ثم سرح بصره في المدينة التي أمامه، وكان حينئذ دخول الظهر والمؤذنون يدعون في المآذن إلى الصلاة، فلبث حليم يتأمل فيهم من بعيد بلذة لا توصف وهو يتبع كل حركة من حركاتهم، وما كاد ينتصف الأذان حتى علت أصوات الأجراس أيضا من قبب الكنائس، فامتزجت أصوات الأذان بأصوات الأجراس تذكر البشر في الأرض بالخالق جل جلاله وتنبههم إلى واجباتهم وتنذرهم بأنهم ضيوف في هذا العالم، أما رفيق حليم فإنه ضحك وقال: في بلادنا تستمر الصلاة إلى الساعة الحادية عشرة قبل الظهر في يوم الأحد أما في هذه البلاد فالظاهر أنها تستمر إلى الظهر، غير أن حليما لم تكن نفسه مستعدة للضحك في تلك الساعة لأنها كانت تفكر في موضوع أرفع وأسمى، فسرح نظره في مدينة الدين بين أصوات المؤذنين الشجية ونغمات الأجراس الرخيمة التي تناجي السماء فراقه جمال هذه المدينة بجوامعها النحيفة الجميلة ومآذنها الأنيقة وكنائسها وقبابها المبنية أجمل بناء، وصار يقول في نفسه: هذه مدينة السلام لكثيرين من الناس، هنا مستقر السعادة والراحة لملايين من البشر، هنا وطن الإخاء والحب والحرية والسواء، هنا مدفن أحقاد الإنسانية ومصائبها ومتاعبها وصغائرها لو كانت تعلم.
ولما دخل حليم إلى مدينة الدين استغرب ما رآه فيها من آثار الثروة والنعمة والغنى، فإن جوامعها وكنائسها - وكلها كانت كنائس وجوامع - كانت مبنية بإتقان وزخرف يستوقف النظر، وكانت شوارعها فسيحة فيها الناس يروحون ويجيئون إلى الجوامع والكنائس ومنها، وهم بين رجال ونساء بأفخر زينة.
فبعد أن جال حليم ورفيقه ساعة في المدينة وشاهدا ما فيها قال لرفيقه: لقد شاهدت الآن ما أردت مشاهدته من هذه المدن فهلم بنا الآن نذهب إلى الحديقة التي هي مجمع أهلها ومتنزههم فقد بقي علينا الوقوف على دخائلها بعد أن وقفنا على ظواهرها.
فقال صديقه: ولكن الحديقة تكون خالية في وقت الظهر فأجل إلى المساء دخولنا إليها وهلم بنا الآن إلى فندق لنتغدى ونستريح فقد تعبنا.
الفصل الرابع
الحديقة
والظاهر أن حليما ورفيقه قد ناما قليلا في الفندق بعد الغداء ولذلك لم يخرجا منه إلا بعد العصر، فأقبلا نحو الحديقة وكانت غاصة بالناس من كل الطبقات.
وكان في الحديقة ثلاث قاعات كبرى كل واحدة منها قائمة في أحد جوانب الحديقة، فكان كل فريق من سكان مدينة العلم والدين والمال يجتمع في إحدى هذه القاعات للبحث في شؤونهم وأحوالهم، فكانت قاعة أهل المال عبارة عن بورصة صغيرة وقاعة أهل العلم عبارة عن مكتبة كبيرة، وقاعة أهل الدين نصفها مكتبة ونصفها مجتمع للحديث.
فلما دخل حليم ورفيقه إلى الحديقة شاهدا الناس منتشرين في أطرافها بين أشجارها الجميلة وأزهارها العطرية، وأكثرهم يتحادثون ويتجادلون بحدة، غير أن دخول هذين الزائرين الغريبين إلى الحديقة نبه المتنزهين فيها إليهما فصاروا يقلبون أنظارهم في هيئتهما وملابسهما، فقال حليم حينئذ لرفيقه: إن القوم قد التفتوا إلينا فإذا سألك أحد عن اسمي فقل له: إنني أدعى حليما وصناعتي التجارة وقد جئنا نستبضع من مدينة المال، وإياك أن تذكر لأحد اسمي فإنني أكره الرسميات في سياحتي هذه.
وبينما كان حليم يوصي رفيقه بهذا الأمر على مقربة من قاعة أهل العلم كان ثلاثة شبان وقوفا قرب هذه القاعة وهم يتفرسون بهما جيدا، ثم سمع أحدهم يقول: لا شك أنه هو لأنني شاهدت صورته قبل اليوم في إحدى مجلاتنا، فقال الآخر: لا يبعد أن يكون هو بعينه فإن منظره اللطيف الهادئ لا يكذب شهرته الواسعة. وحينئذ انفرد المتكلم الأول عن رفيقيه وسار نحو حليم وصديقه بخطى واسعة وهو يبتسم.
فلما رآه حليم قادما بهذه الهيئة لم يشك في كونه قادما لمخاطبته فتشاغل عنه بمحادثة رفيقه، أما الشاب القادم فإنه لما صار على مقربة منه مد يده إليه مسلما وقال باحترام وبشاشة: أرجو أن تسمح لي بسؤال يا سيدي، هل تريد أن تشرفني بمعرفتك، فتلعثم حليم قليلا لأنه كره الكذب ثم أجاب: نحن ضيوف يا سيدي في المدن الثلاث الجميلة وقد جئنا لمشاهدتها والاستفادة من أهلها الكرام، فقال الشاب: نعم، لا ريب عندي في أنكم ضيوف، ولكني أول ما وقع نظري على جنابك تذكرت أنني شاهدت هذا الوجه قبل الآن في إحدى مجلاتنا، ألست جنابك الخواجا حليم المصور الطائر الصيت.
فلما رأى حليم أنهم عرفوه ضحك وأجاب: إن ذكاءكم في هذه البلاد غريب يا سيدي فإنكم تعرفون الرجل من غير أن تعرفوه.
فلم يتمالك الشاب أن عاد وثبا إلى رفيقيه وأخبرهم أن ذلك الضيف هو المصور حليم نفسه، فانتشر هذا الخبر بسرعة البرق في الحديقة كلها، فصار الناس يتداعون لمشاهدة الرسام الطائر الصيت الذي بارى في هذا الفن أشهر الرسامين وطارت شهرته في جميع أقطار العالم، ولم تمض دقيقتان حتى اجتمع كل من في الحديقة من أهل العلم والمال والدين حول حليم ورفيقه وصارت الأعناق تتطاول إليهما من كل صوب، فازداد الورد في وجنتي حليم خجلا من ذلك لأنه كان كثير التواضع قليل الجرأة على مقابلة آلهة الشهرة، ولكنه لم يكن ضعيفا إلى حد الجبن، ولذلك رفع رأسه بعد ذلك الحياء بجرأة وبشاشة وحيا بهز رأسه باسما، وكان الجمع الذي حوله في حركة في ذلك الحين ثم انفرد منهم خمسة بينهم رجال من أهل المال والعلم والدين وتقدموا نحوه، فتبعهم باقي الجمع زاحفين نحو حليم كالجند وهم كالبناء المرصوص، فخطا حينئذ حليم نحوهم بخطى واسعة وهز الأيدي التي كانت تمد إليه من كل جانب كأنها أغصان مشتبكة.
ومنذ هذا الحين فقد حليم نصف لذة السفر لأنه صار مقيدا بعد أن كان مطلقا يروح ويجيء كما يشاء، إلا أن خسارته هذه لا تعادل الفائدة التي استفادها في ساعة واحدة بعد أن عرفه أهل هذه البلاد، فإنه صار دفعة واحدة في وسطهم فأصبح قادرا على الوقوف على كل ما أراد الوقوف عليه منهم.
وبعد أن جلس حليم واستراح برهة حدثهم في أثنائها عن سفره وما شاهده في المدن الثلاث هم بالاستئذان فدنا منه الشاب الذي كان أول من عرفه وقال: لي على جميع أخواني حق التقدم لأنني كنت أول من تشرف بمعرفتك، فأنا أرجو أن تتخذني صديقا ورفيقا لك في هذه الديار لأدلك في سياحتك، فشكر له حليم لطفه وأدبه، ثم نهض يطلب الخروج من الحديقة وكل جوارحه تتمناه، فهمس ذلك الشاب في أذنه قائلا: ألا تحضر الاجتماع الليلة في الحديقة، فقال حليم: وأي اجتماع؟ فقال الشاب: إن الليالي الثلاث القادمة ليالي في غاية الأهمية، فإن السكان عزموا على الاجتماع فيها ثلاث مرات لحل بعض المشاكل التي بينهم والتي هي سبب النزاع والخلاف بين طبقاتهم، ولا ريب أن خراب مدننا الثلاث وعمرانها يتوقفان على نتيجة هذه الاجتماعات، والليلة الأولى مخصوصة بالمال، والليلة الثانية بالعلم، والليلة الثالثة بالدين. فقال حليم: سأحضر هذه الاجتماعات لا محالة، ثم ودع وخرج مع رفيقيه وهو يقول في نفسه: إنه قد جاء في أحسن الأوقات وأهمها.
الفصل الخامس
تمهيد الجلسات الثلاث
رجاء الشيخ الرئيس وشكاوى أهل العلم والدين والمال
وفي المساء برزت الحديقة بالأنوار الساطعة وأقبل الناس عليها من الجهات الثلاث وأكثرهم سكوت كأنهم يفكرون في أمر عظيم، وكانت أشكال ملابسهم تدل على أنهم من طبقات مختلفة بين تجار وعمال وأهل علم وأهل دين، وكان كل فريق مشغولا عن الفريق الآخر بمناجاة حزبه همسا استعدادا للجدال العلني الشديد، وما دخلت الساعة التاسعة مساء حتى غصت الحديقة بالناس على اتساعها وجلسوا ينتظرون، وكان حليم ورفيقه قد اختارا مقعدا في زاوية مظلمة قريبة من دكة الرئيس فكانا يشاهدان الحاضرين دون أن يشاهدهما أحد.
وفي الساعة التاسعة والدقيقة الأولى جلس رئيس ذلك الاجتماع على كرسيه، وهو رئيس جمهورية المدن الثلاث، وكان شيخا جليلا في نحو الثمانين من العمر وهو بقية الشيوخ الذين عاصروا الشيخ سليمان مؤسس هذه المدن، فلما سكنت الضوضاء أخذ يقول:
أيها الأبناء الأعزاء:
قد عزمتم على عقد ثلاثة اجتماعات كبرى لتتباحثوا في مسائلكم المهمة والمشاكل التي نغصت عيشكم وعطلت أشغالكم وقسمت قلوبكم وعيالكم، فيسرني أنا حاكمكم وأبوكم أن تؤدي هذه الاجتماعات إلى قطع كل ما بينكم من أسباب النزاع والخلاف حرصا على سعادتكم وعلى عمران مدننا الثلاث التي تعبنا في إنشائها وترقية شؤونها، إنما قبل الشروع في المباحثة أتمنى من صميم قلبي أمرا، وهو أن يجتنب كل فريق منكم في أثناء كلامه كل قول يسوء الآخر فإن الإنسان يستطيع أن يصرح بأدب ولطف بكل ما توجب عليه مصلحته التصريح به، ولا يجدي العدوان والشدة نفعا، وإنني أسأل الله أن يوفق أعمالكم ويسدد آراءكم وينير عقولكم.
فهنا حصلت ضجة بين بعض من أهل العلم، فانتصب رجل من فريق الدين وقال بصوت جهوري: ماذا؟ هل صرتم تكرهون أن تسمعوا اسم الله أيضا، فصرخ خمسون عاملا من العملة كانوا جالسين قرب فريق أهل العلم: كذاب كذاب. فانتصب حينئذ أحد هؤلاء وكان أقربهم إلى العملة وقال مخاطبا فريق أهل الدين: لا تبدأوا بالعدوان إذا كنتم مخلصين في طلب المسالمة. فقال الشيخ الرئيس حينئذ: لست أجهل سبب الضجة التي حصلت بين بعض من الأبناء، فإنهم لا يزالون يطلبون ترك المسائل الدينية للجوامع والكنائس ولذلك لا يجيزون لحاكمهم أن يلفظ عبارة دينية في منصبه الرسمي، وأنا على ثقة من أن ذلك لم يكن منهم عن إنكار للمسائل الدينية بل عن رغبة في الفصل بين شؤون المذاهب المختلفة، ولكني أظن أنهم يجيزون لشيخ بسني صار قريبا من القبر أن يستسلم لعواطفه أحيانا.
ثم قال الرئيس: أما الآن فإننا نسمع الشكاوى التي اجتمعنا للنظر فيها بصدق وحسن نية، ولنعلمن قبل نوعها وتفصيلها.
فنهض حينئذ زعيم العملة وقال: إن شكوى العمال من طمع أرباب الأموال، فالعمال يتعبون ويجنون وأرباب الأموال يتمتعون بتعبهم ويتلذذون، فمن العدل أن يشارك أولئك هؤلاء في كل الأشياء.
فنهض النائب عن أرباب الأموال وقال: إن شكوى أرباب الأموال لم تكن من العملة أنفسهم فإننا نحب عمالنا كما نحب أولادنا، كيف لا وهم رفقاؤنا وشركاؤنا في أعمالنا، وإنما شكوانا من بعض الطامعين الذين يثيرون خواطرهم علينا ويحرضون طبقتهم على طبقتنا، فلتفصل الحكومة العمال عن هؤلاء المحرضين فيستتب السلام بين الجميع.
فنهض رجل من فريق العلم وقال: إذا صح أنه متى رفعت يد الذين يسمونهم «محرضين» من بين العمال وأصحاب الأموال فإن السلام يستتب في الحال فقد زال نصف شكوى أهل العلم، وإنما يبقى عليهم في هذا الموضوع أن يبحثوا هل يرافق السلام الذي يحصل حينئذ هناء العمال وراحتهم وسعادتهم أم يبقى سلامهم موتا أدبيا وماديا كسلام أهل القبور، وإننا معشر أهل العلم نفتخر في هذا العصر بأننا حللنا في هذه المسألة محل أهل الأديان وصار همنا الأول التفكير بإنهاض الشعوب وترقيتها بينما نرى أهل الأديان يسلمون الشعوب بأيديهم إلى الأطماع المختلفة، فكان مثلهم مثل ملوك يخلعون أنفسهم بأنفسهم، ولذلك تراهم يكثرون من التزلف للأغنياء وأرباب الأموال ويجارونهم في كل شيء حتى في ما يخالف مبادئهم الدينية وينقض أساسها ويلهون الشعب في أثناء ذلك بالتدجيل عليه ليشغلوه بالأوهام والأحلام عن مصالحه الحقيقية، فغرض العلم في هذا الزمان تفتيح عيني الشعب وترقية أحواله والضرب على أيدي المدجلين، وشكواه من كل من يحاول منعه من الوصول إلى هذا الغرض الشريف.
فهمس حينئذ واحد من أهل العلم كان قريبا من الخطيب في أذن جاره قائلا: ليت أصحابنا أنابوا عنهم خطيبا أكثر اعتدالا من هذا الخطيب فإن مقاما كهذا المقام لا يفيد فيه غير التأني والاعتدال، أما رأيت السياسة التي اتخذها نائب أرباب الأموال.
وكان قد نهض نائب فريق الدين فقال: أما شكوانا نحن خدمة الله تعالى فمن أولئك الكفرة الجاحدين الذين يبثون روح ضلالهم وكفرهم في النفوس، فإننا والحق يقال لولاهم لكنا كلنا في ألف نعمة من الله تعالى، فإنهم بدأوا ضلالهم بيننا بتعليم أولادنا مبادئهم الطبيعية الممقوتة والعياذ بالله، ثم تدرجوا منها إلى إنكار المذاهب المختلفة فالوحي وجحود الخالق سبحانه وتعالى، فما دام هؤلاء المفسدون يفسدون عقول الناس فلا سلام ولا راحة عندنا.
فقال الشيخ الرئيس حينئذ: نعم هذه هي الشكاوى المختلفة التي مر علي عشرات السنوات وأنا أسمعها، فأستحلفكم بكل ما هو عزيز مقدس لديكم، أستحلفكم بالشيخ الجليل المحسن إلى هذه المدن والواقف الآن بيننا في وسط الحديقة على تمثاله الرخامي يسمع كلامنا وينظر إلينا، أن تكسروا حدتكم قليلا وتتباحثوا في مشاكلكم بسلام وأدب، فإننا كلنا يا أبنائي إخوان، وكلنا في هذه الأرض ضيوف وغرباء.
أجارتنا إنا غريبان ها هنا
وكل غريب للغريب قريب
وأنتم تعلمون أن الإنسان لا يعيش في الأرض عمرين وأن أيامه فيها معدودة، فلماذا لا يصرف هذه الأيام بما يدعو إلى الراحة بدل أن يصرفها في خصام صبياني، هل أن حطام الدنيا وخيراتها الزائلة ومسراتها الفانية تستحق هذا الاقتتال الشديد عليها، أما سمعتم ذلك القول البديع المنسوب لحكيم عظيم:
1
أخي خل حيز ذي باطل
وكن للحقائق في حيز
فما الدار دار مقام لنا
وما المرء في الأرض بالمعجز
ينافس هذا لهذا على
أقل من الكلم الموجز
وهل نحن إلا خطوط وقع
ن على نقطة وقع مستوفز
محيط السماوات أولى بنا
فماذا التنافس في مركز
فتباحثوا الآن في مسائلكم واذكروا أن عمران مدننا وخرابها متوقفان على نتيجة بحثكم، ولنبدأ أولا بمشكلة العمال وأرباب الأموال وإن كانت هذه المسائل كلها مرتبطة بعضها ببعض.
الفصل السادس
الجلسة الأولى
المال ومشاكله
فساد حينئذ في الحديقة سكوت تام لم يسمع في أثنائه سوى حفيف الأوراق وهمس بعض السيدات اللواتي كن جالسات على مقعد في زاوية مقابلة للزاوية التي جلس فيها حليم ورفيقه، وكان حليم قد بدأ يرمي ببصره إلى هؤلاء السيدات منذ لمح وجودهن هناك لعله يجد ضالته بينهن.
دعوى زعيم العمال
وبعد دقيقة تقدم زعيم من زعماء حزب العمال وقال مفتتحا البحث:
لقد أحسنتم في تخصيصكم الجلسة الأولى بمشاكل العمال وأصحاب الأعمال لأن هذه أكبر المشاكل في الحقيقة، ومتى حللناها حللنا معها سواها، ولكن لا سبيل إلى حلها إلا بطريقة واحدة، وهي إشراك العمال في ربح الأعمال؛ فإننا الآن نخدم أصحاب الأعمال كما يخدم العبد سيده، وأسعدنا حظا وأعظمنا قدرا يتناول في الشهر مائة فرنك، أي يأخذ في السنة أجرة لعمله 1200 فرنك، فإذا افترضنا أن عددنا في العمل 30 عاملا كان مجموع ربحنا جميعا في العام 36 ألف فرنك، على حين أن ذلك العمل يربح في كل عام مليون فرنك ربحا مجردا، وكل هذه القيمة تذهب وتنصب في صندوق صاحب العمل مع أننا نحن السبب في ربحها، فأية عدالة عند الله والناس تجيز هذا الأمر، وأي دين يرضى بأن يسعى مائة وواحد يأكل.
ولكن فلنترك مسألة الربح جانبا ولننظر إلى مسألة أخرى، وهي أن بين العمال المستخدمين قوما لا يتناولون في اليوم أكثر من فرنك واحد أجرة لهم، فكيف يمكن أن يكفيهم هذا الفرنك خصوصا إذا كان لهم أولاد عليهم القيام بأودهم، أليس ذلك عبارة عن ضرب الشقاء والذلة عليهم مدى العمر.
ثم إن العامل قد يمرض وقد يعجز وقد يموت، فماذا يحل به وبعائلته إذا كان قد صرف حياته كلها في خدمة صاحب العمل ولم يعد قادرا في مرضه وفي آخر عمره أن يكسب رزقه بعرق جبينه، أيموت جوعا هو وعائلته، أم يدور في المدينة يستعطي.
لذلك نطلب منكم نحن العمال باسم الإنسانية والإخاء البشري أن تنصفونا فإننا نحن الأكثرية في البلاد، وبدوننا لا تقدرون أن تصنعوا شيئا، فنحن نحارب لرد غارة العدو، ونحن نفلح الأرض لنخرج منها القوت والغذاء، ونحن نخدم في دوائر الحكومة والمحال العمومية والخصوصية، ونحن ندير المصانع لصنع المصنوعات ونسج الأنسجة، فحرام أن نصنع كل شيء وعلى ظهورنا تلقى كل الأحمال ثم تترك الحكومة فريقا قليلا من أصحاب الأموال يحتكر منافع البلاد وفوائدها وخيراتها ويسخر لنفسه الأمة كلها.
فصاح به حينئذ صائح من فريق المال: ولكن ماذا تريدون أن تصنع الحكومة، هل من حقها أن تتداخل بينكم لتجبر أرباب الأعمال على زيادة أجوركم أو مقاسمتكم أرباحهم، ألا تعلمون أن لأصحاب الأموال الحق المطلق في التصرف في أموالهم وأملاكهم كما يريدون، وأن الحكومة لا يمكنها التعرض لحق الملكية لأنه من الحقوق الطبيعية التي لا تنقض.
فأجاب الخطيب زعيم العمال: هذه شنشنة عرفتها من أخزم، فكأنكم نسيتم أن هنالك مذهبين متناقضين واحد معكم وواحد عليكم، ومما يحق لنا الفخر به نحن العمال الصغار أن مذهبنا في هذه المعضلة موافق لمذهب جميع شارعي الأديان من موسى إلى يسوع إلى محمد، فإن هؤلاء الكواكب الثلاثة الذين أناروا سماء الشرق والعالم قاطبة لو عادوا اليوم إلينا لكانوا من حزبنا، ذلك لأنهم يعلمون أن كل هيئة اجتماعية تبنى على ظلم الفئة الكبرى وراحة الفئة الصغرى هيئة فاسدة ستسقط لا محالة، فإذا كان في حزبكم فلاسفة كبار وعلماء أعلام ففي حزبنا من هم فوق العلماء والفلاسفة، ثم هل تريدون منا فلاسفة فاسمعوا رأي الفيلسوف كارل ماكس.
فضحك هنا بعض فريق المال وقال أحدهم: ما شاء الله، تستشهدون بأشد أنصاركم غلوا.
فقال الزعيم: لا، بل نستشهد بفيلسوف من الفلاسفة رأيه يناقض رأيكم في الملكية، فإنكم تقولون: إن أرباب الأموال مطلقو التصرف في معاملهم ومصانعهم ومتاجرهم، أما نحن فنقول لكم مع هذا الفيلسوف: إنكم في خطأ عظيم، فإن معامل الأمة ومصانعها ومتاجرها وأراضيها هي من مرافقها ومنافعها كالأنهر والأبحر والهواء، ولذلك لا يجوز أن تكون ملكا لفرد أيا كان، بل هي ملك لجميع الأمة، فعلى الأمة إذا أن تتولى إدارتها بنفسها وتوزع أرباحها بين أبنائها، أي أن الحكومة تجعل نفسها التاجر الكبير الوحيد الذي تنحصر في يده تلك المتاجر والمصانع والمزارع وتستخدم فيها أفراد الأمة وتعطيهم أجرتهم من تلك البضائع نفسها أي من عين المال، كلا بقدر حاجته وكفاءته، والعامل يستطيع أن يستبدل البضائع التي تجتمع عنده بأي بضاعة احتاج إليها، هذا ما يراه بعضهم عدلا وإنصافا، ونحن لا نطلب منكم كل هذا فإننا نترك لكم مصانعكم ومعاملكم ومتاجركم وأراضيكم، وإنما نطلب منكم أن تعطوا نصف ربحها في كل عام للعمال والمستخدمين الذين تخدمونهم فيها وتبقوا النصف الثاني لكم.
ولا تقولوا إننا قد طلبنا شيئا كثيرا فإننا لا نطلب إلا حقوقنا، لقد كرهت نفوسنا الخدمة بالأجرة كالأجراء، لقد كرهنا هذه العبودية الجديدة التي اخترعها التمدن الجديد، فإذا لم تنصفونا وتريحونا منها فاعلموا أننا نحذو حذو شمشون إذ نأخذ بأعمدة الهيئة الاجتماعية ونشدها قائلين: «علينا وعلى الجميع يا رب»، فيسقط البناء علينا وعليكم.
أيها الإخوة، إن نور الشمس ونسيم الصباح وحنان الأمهات ورغد العيش ومسرات الاجتماع وراحة البال، كلها لم تخلق فقط لأرباب الأموال ، فإن الله العادل خلقها لجميع البشر على السواء، ونحن معشر الفقراء المساكين من جملة البشر، فانظروا إلينا وارحمونا، صدقونا إن لنا نفوسا كنفوسكم تتألم من المصائب والفقر والشقاء، وإن لنا أولادا كأولادكم ونساء كنسائكم يجب علينا سد حاجاتهم، صدقونا إن الطبيعة - تلك الطبيعة القاسية الظالمة - لم تخصنا بخواص الجماد، فإنها من - سوء حظنا - جعلت لنا معدا تتألم من الجوع، وقوى تخور إذا لم تغذ، ونفسا تفضل الجحيم أحيانا على هذه الحياة، وهذا ما يدفعها مرارا إلى أقصى حدود الوحشية: كالفوضوية وما أشبهها، ففي أيديكم الآن يا أبناء الوطن خراب بلادكم أو عمرانها.
وما سكت زعيم العمال حتى قامت ضجة في صفوف أهل المال فصاح أحدهم: يتهددوننا بالفوضوية، وصاح آخر: لا نخافهم فوراءنا جيش الحكومة، ولكن لم يلبث أن نهض زعيم أهل المال وأشار إلى رفاقه بالسكوت ثم أخذ يقول:
دعوى أهل المال
أيها السادة:
مسألتنا مع عمالنا مسألة قديمة منذ وجود الإنسان في هذه الأرض، فمنذ وجد فيها رجل نشيط قوي مدبر عامل ورجل ضعيف ساذج مهمل تسلط الأول على الثاني واستخدمه في ما فيه مصلحتهما معا، وإن هذا الاتفاق بين القوي والضعيف - بين الرأس المدبر الآمر والجسد المدار المأمور - بقي وثيقا وطيدا إلى ذلك اليوم الذي قام به الحسد والطمع يحرضان الضعيف على القوي ويغريانه بأن يعطل أعماله إن لم يشاركه فيها، فالحسد والطمع سبب كل هذا الخلاف.
ولقد كان العمال قبلا يشكون من أن أجورهم قليلة وشغلهم كثير، فإنهم كانوا يعملون من شروق الشمس إلى ما بعد غروبها، وأسعدهم حظا كان يتناول فرنكين في النهار، فرأينا أن نخفف عنهم فجعلنا أوقات عملهم 8 ساعات في النهار
1
وأبلغنا راتب الواحد منهم إلى مائة فرنك، ثم أنشأنا لهم منازل صحية رخيصة الأجرة ليقيموا فيها، واعتنينا بنسائهم وأولادهم في أوقات الولادة والمرض، ولكن كل هذا لم يقنعهم بل تدرجوا من طلب إلى طلب حتى وصلوا إلى طلب مشاركتنا في مصانعنا ومتاجرنا ومزارعنا، فإذا أجبناهم اليوم إلى ذلك فإنهم لا يلبثون أن يطلبوا غدا طردنا منها ليستولوا عليها من دوننا.
فاعلموا أيها السادة أنكم الآن بإزاء الطمع والحسد الاجتماعي لا بإزاء مظالم بشرية كما يقولون، والويل لحكومتنا ولهيئتنا الاجتماعية إذا تركتموها تخضع للطمع والحسد، ولا ريب عندنا أن حرصكم على مصلحة وطنكم المرتبطة بمصلحة أهل المال والأعمال أشد ارتباط سيجعلكم تردون دعوى العمال لا محالة.
ذلك أنكم تذكرون ولا بد في هذا المقام أمورا عظيمة عليها تتوقف حياتنا وحياة بلادنا:
الأمر الأول:
منزلة أهل المال في الهيئة الاجتماعية، فإنكم تعلمون أيها السادة أننا مصدر ثروة البلاد وحياتها، فبتدبيرنا وسعينا ننشئ المتاجر الواسعة والمصانع العظيمة والمزارع الخصيبة، وندر على الأمة بها أخلاف الثروة، ولو شئنا أن نحبس أموالنا ونقفل صناديقنا ونبطل سعينا لماتت الأمة في سنة واحدة، والحكومة التي قراطيسها المالية في أيدينا تعرف ذلك حق المعرفة، وإن قيل لكم: إن العملة وأهل العلم سبب هذه الثروة فأجيبوهم: لماذا إذا لا يستغنون عنا ويتصرفون بهذه الثروة كما يشاءون دون حاجة إلينا إذا كانوا صادقين، ولكنهم غير صادقين لأنهم يبالغون في نسبة الفضل إليهم، فإنهم بينما يكون الواحد منهم غائصا في أحلامه وأوهامه يكون فكر الواحد منا حائما حول متاجر الأرض ومصانعها يفتش عن ثروة جديدة لبلاده، بينما يكون أحدهم منهمكا بكتابة مقالة على مائدته (حبر على ورق) أو نظم شعر في غرقته (هباء في الهواء) فإن أحدنا يسمع الأمة موسيقى أجمل من موسيقى الشعر ويريها جمالا أبهى من جمال الأدب، أعني به جمال الذهب الذي ينساب من صناديقنا قناطير قناطير وينشر الراحة والسعة والخيرات في طبقات الأمة كلها، فإذا كنتم أيها السادة في غنى عن هذه القوة التي لا تعادلها في الوجود قوة فأخبرونا ذلك ولا تخجلوا منا.
الأمر الثاني:
حفظ مركز الأمة الصناعي والتجاري والزراعي، فإنكم تعلمون أن المزاحمات الصناعية والتجارية قائمة في الدنيا على ساق وقدم، والنصر النصر في هذه المزاحمات لمن يصنع المصنوعات والبضائع بأرخص الأثمان، فإذا حكمتم علينا بزيادة أجور العمال وتقليل مدة العمل أو إشراكهم فيه كنتم كأنكم تحكمون بإقفال معاملنا ومتاجرنا لأننا بعد ذلك لا نستطيع مزاحمة المعامل الأجنبية.
الأمر الثالث:
حفظ شرائعنا المقدسة حفظا مطلقا، فإن حق الملكية حق مقدس لا يجوز للحكومة مسه، ونحن بموجب هذه الشرائع مطلقو التصرف في أملاكنا ومزارعنا ومتاجرنا، فإذا رامت الحكومة الضغط على حرية الملك نقضت الشريعة والنظام نقضا يخشى منه بعد ذلك على أساس هيئتنا الاجتماعية.
الأمر الرابع:
إيقاف تيار الاشتراكية عند حده، فإن هذه الآفة الكبرى قد عظم خطبها وجل أمرها، ولذلك طريقتان بسيطتان: (الأولى) امتناع الحكومة عن المداخلة بين العمال وأصحاب الأعمال لأن ذلك ليس من وظيفتها، (والثانية) إبطال الحكومة جمعيات العملة، أي عدم معرفتها إياها رسميا ومنع مداخلتها بين العمال وأصحاب الأموال، فإن الشر كل الشر وارد من هذه الجمعيات التي تحرض العملة وتغرر بهم بوعود باطلة، وهنا مهد الاشتراكية، إذ متى فرقت الحكومة هذه الجمعيات استؤصلت جرثومة الاشتراكية لسقوط نيرها عن أعناق العمال المساكين وصار أرباب الأعمال يحلون مشاكلهم معهم بكل لطف وسلام. (فقهقه هنا بعض في صفوف العمال وصاح أحدهم: هذا وعد الهرة للفأر أن لا تأكله)
فقال زعيم أهل المال من غير أن يجاوبه:
والأمر الخامس:
هدم التجارة والصناعة والزراعة متى صار صاحب العمل شريكا لعماله، ذلك لأن هذه الفنون المتشعبة العظيمة تقتضي وحدة الإدارة وإطلاق الإرادة، فمتى كان صاحب العمل مقيدا بآراء عماله فقد خرب العمل لا محالة وخمدت نار النشاط والإقدام الشخصي على الأعمال؛ لأن الفرد لا يعود يخاطر بماله ووقته وذكائه من أجل غيره.
والأمر السادس:
أن تذكروا أيها السادة أن حكومة بلاد كبلادنا لا يليق أن تبنى على الأوهام والأحلام ويلقى زمامها إلى أصحاب التصورات والتخيلات، إن المخلوقات كلها قد خلقها الله طبقات مختلفة، ففيها القوي والضعيف والكبير والصغير والخامل والنبيه، وما الاشتراكية التي تحاول جعل جميع الناس متساوين إلا وهم وخيال، فهي تطلب مثلا أن توزع ثروة الدنيا وأراضيها على جميع البشر بالسواء حتى لا يكون فيهم فقير وغني بل يكونوا كلهم في مرتبة واحدة، فهل سمعت خرافة كهذه الخرافة: وهب أننا وزعنا أموال الدنيا وأراضيها بين الناس بالسواء فماذا تكون النتيجة؟ تكون النتيجة أن الكسالى والجهلاء والضعفاء والخاملين والمسرفين ينفقون أموالهم ويبيعون أراضيهم بعد مدة وجيزة، فيحصرها ويستولي عليها المجتهدون والمقتصدون وأهل الذكاء والتدبير، وحينئذ تعود الحالة إلى ما هي عليه اليوم ونرجع إلى ما نحن فيه، فهل تريدون ضعضعة أساس الهيئة الاجتماعية من أجل تجربة كل التاريخ البشري في الأرض يشهد بفسادها، كلا، لا تخالفوا نواميس الاجتماع والطبيعة نفسها، إن نواميس الطبيعة الثابتة تثبت هذا الامتياز بين المخلوقات، ولذلك يأكل قوي الحيوانات ضعيفها، أية قوة في العالم تقدر أن تساوي بين الذئب والحمل والهرة والفأر والبازي والعصفور، أية قوة تقدر أن تنقض ناموس تنازع البقاء وبقاء الأفضل في الأرض، إن هذا الناموس وحده كاف لنقض مذهب الاشتراكية، ففي الحياة طبيعيا واجتماعيا وسياسيا القوي يقوم والضعيف يسقط، وهذا سبب انقراض كثير من الأمم وقيام كثير من الشعوب، فمن أراد جر القوي من طبقته وإنزاله ليساوي بينه وبين الضعيف كان كمن يهدم قوة الهيئة الاجتماعية ويجعل جميع أفرادها ضعفاء خاملين بحجة المساواة بينهم.
ولقد ختم نائب العمال كلامه بذكر كارل ماكس وبتهديده لنا، فنحن نشك في رضائكم عن هذه المبادئ لأنكم تعلمون عقباها، إنكم لا تجهلون أن دعامة مذهب كارل ماكس اعتقاده بأن الحكومات لا يمكن أن تهب الشعب والعمال من تلقاء نفسها حق الاستيلاء على مرافق الأمة ومنافعها لأن رجال هذه الحكومات من أهل المال الذين هم في رأيه أعداء للعمال، ولذلك يوجب على الشعب أن يغتنم إحدى الفرص ويهاجم الحكومة ويستولي عليها، وبعد ذلك يتصرف بها طبقا لمصلحته من جعل المعامل والمتاجر والمصانع والمزارع ملكا للأمة نفسها وإعطاء أصحابها تعويضا عنها، فإذا كانت هذه مبادئهم أيها السادة فما هذا التحكيم والرغبة في المسالمة إلا رياء لا ينطلي محالة علينا.
فهم استحلفوكم أيها السادة باسم الإخاء الإنساني أن تجيبوهم إلى طلبهم أما نحن فنستحلفكم باسم دستورنا وعمران بلادنا ومستقبل أمتنا وشرف صيت حكومتنا عند الأمم أن تردوا هذا الطلب.
وما جلس زعيم أهل المال في مجلسه حتى اضطربت صفوف العمال وصفوف أهل العلم المجاورة لها، ثم انفرد أحد رجال العلم وقام، فشخصت إليه جميع الأنظار وأشرقت وجوه العملة لأنه كان معروفا عندهم، فابتدأ هذا الخطيب خطابه قائلا:
دعوى أهل العلم
أيها السادة:
كان في نيتي أن لا أتكلم اليوم بل غدا ولذلك سمعت كثيرا من الأقوال والمزاعم التي تقتضي الرد دون أن تتحرك نفسي للرد عليها، غير أن كلمة واحدة لفظها خطيب إخواننا أهل المال في آخر مقاله أثارت نفسي للكلام رغما عنها.
فهو أيها السادة استحلفكم في آخر خطابه «بمستقبل أمتنا» أن لا تجيبوا الشعب إلى ما طلب من مشاركة أصحاب الأعمال في أعمالهم، فهذا الاستحلاف «بالمستقبل» أمر مدهش أيها السادة في مسألة كهذه المسألة، المستقبل! بالله دعوا المستقبل لله، وهل تعتقدون حقيقة أن الإنسانية ستكون في المستقبل على ما هي عليه اليوم من الشقاء، أتصدقون أن أكثرية البشر سيبقون في المستقبل عبيدا وخداما للأقلية، أيدخل في تصديقكم أن الشعوب ستبقى ضعيفة ضئيلة تحت نير الاجتماع، أقوياؤها يموتون ضنى وجهادا في هذه الحياة لأنهم لا يكادون يقدرون على تحصيل رزقهم ورزق أولادهم، وضعفاؤها يموتون جوعا وبردا في الشوارع والأسواق، وعاجزوها يعاملون معاملة الكلاب، بينما أفراد قليلون في المدينة يجمعون قناطير الأموال.
إذا كنتم تعتقدون حقيقة بذلك فقد أنكرتم الله وجحدتم العدالة وقررتم الإباحة وبررتم قول من يقول: بطون تدفع وأرض تبلع فلا نظام ولا ناموس.
فصاح حينئذ واحد من صفوف رجال الدين: هذا قول بارد، فإن الإنسان حر، وله أن يتصرف بحريته كما يشاء، ولذلك كان مسئولا عن أعماله، وما الحيلة بسنة تنازع البقاء.
فاستشاط الخطيب حينئذ وصاح مخاطبا فريق الدين: لله ما أجهلكم.
فأجابه ذاك: لله ما أحمقكم.
فقال الخطيب: نعم نحن نحمق من جهلكم، ألا تعلمون أن سنة تنازع البقاء هذه سنة وحشية تناقض كل سنة دينية، ألا تعلمون أن السنة الدينية ما وضعت إلا لمقاومتها، ألا تعلمون أن رجال الدين إذا قالوا بها كانوا كأنهم ينتحرون وينحرون مبادئهم.
سنة تنازع البقاء معناها أن كل واحد من البشر يسعى لنفسه ويجاهد رفيقه ليستأثر بالمنافع والخيرات دونه، وتكون خاتمة هذا الجهاد أن الأقوى يكون الفائز، والضعيف يغلب ولا بأس أن يموت أيضا؛ لأن الهيئة الاجتماعية في غنى عنه، وبعض المتقدمين كانوا يقتلون أطفالهم الضعفاء وفقا لناموس بقاء الأفضل، فهذه الحالة هي حالة الحيوانات تماما أيها السادة، كذا تحيا وتعيش وتموت وتنمو أو تنقرض، فهل صار من فخرنا في تمدننا هذا أن نقتدي بالحيوانات في معيشتها الدنيئة.
فمبدأ تنازع البقاء وبقاء الأفضل مبدأ فظيع وحشي يهدم كل ما بنته الأديان وكل ما وضعه الفلاسفة وعلماء الآداب في الأرض، إذ ما الفائدة من مراعاة الآداب والفضائل ما دامت الطبيعة تسن أن للقوي أن يتمتع بكل قواه، ولماذا توضع الحدود والشرائع لكف الناس آذاهم بعضهم عن بعض ما دام القوي معذورا في اعتدائه لأنه يعمل وفقا للناموس الطبيعي، ولماذا تكذب الأديان وتحثنا على الخير والبر والرفق والزهد والوئام والسلام ما دام كل هذا مخالفا لناموس تنازع البقاء، والكلمة العليا هي لهذا الناموس دائما، أليس ذلك بمثابة غش للضعفاء من أجل منفعة الأقوياء.
فرحماكم لا تخلطوا بين الحالة الطبيعية والحالة الاجتماعية، إن تنازع البقاء وبقاء الأفضل أمران صحيحان في الحالة الطبيعية، وهنالك لا مرد لهذين الناموسين الهائلين، لذلك يأكل القوي الضعيف ويسحق الكبير الصغير كما تصنع الحيوانات الوحشية، أما في الاجتماع فإن الحالة تختلف كل الاختلاف، ذلك أن الحكومة قد أخذت على نفسها من حين عزم البشر على الاجتماع والمعيشة معا في مدينة واحدة «أن ترفع ظلم القوي عن الضعيف وتمد الضعيف بالقوة ليعيش بأمن وسلام»، وهذا ميثاق معقود بين الحكومة والناس، وبموجبه يعيش في المدن جنبا إلى جنب الأقوياء والضعفاء، الأغنياء والفقراء، المرضى والأصحاء، فلزم عن هذا إذا أن يكون للحكومة حق التداخل لرفع ظلم القوي عن عنق الضعيف كلما شكا الضعيف من الظلم، أي أن وظيفة الحكومة الأصلية التي أعطت على نفسها بها عهدا إنما هي حماية الضعفاء من الأقوياء، أي: مقاومة ناموس تنازع البقاء.
فعلى الحكومة إذا لا أن تنزل الأقوياء من طبقتهم لمساواتهم بالضعفاء بل أن ترفع الضعفاء من طبقاتهم لمساواتهم بالأقوياء، وهذا أمر ممكن وذلك بالتعليم والتدريب والمساعدة، ومتى حصل هذا وصار جميع أفراد الشعب أقوياء بتربيتهم العمومية سقطت حجة الذين يقولون إن البشر نبيه وخامل، وإنه لا بد من تسلط الأول على الثاني كما قال الخطيب.
هذا ما نسميه إصلاح ظلم الطبيعة، على أننا لو كنا حيوانات ضارية نعيش في واسع البر لكان من المحتمل أن نترك الطبيعة تفعل فعلها الذي يحلو لها.
ولكنني أؤكد لكم أننا لو كنا نعيش في الطبيعة كالحيوانات لما عاش بيننا كثيرون مثل نيوتن، فإن هذا النابغة كان ضعيفا في صباه إلى درجة الموت، ولم يعش إلا بعناية أمه وعناية الله، ولو عاش بين الأسبرطيين مثلا لكانوا قتلوه لأنه ضعيف لا يجدي نفعا فذهب ضحية ناموس بقاء الأفضل وتنازع البقاء، وأنتم تعلمون كيف قلب هذا الرجل العلم باكتشافاته العظيمة، وذلك يثبت أن ناموس بقاء الأفضل وتنازع البقاء قد يكون أحيانا ضد ناموس العمران.
2
بقي بعد هذا أن نسأل: ماذا يصنع الشعب بعد أن يقوى ويتعلم ويتدرب؟ هل يعود للاستخدام كالرقيق أم يذهب ويستخدم هو نفسه بعضا من إخوانه بني الإنسان ويكون سيدا عليهم فيعمل بذلك عملا كان هو نفسه يشكو منه؟ لا هذا ولا ذاك، بل على الحكومة حينئذ أن تسلمه معامله ومصانعه ومتاجره ومزارعه، أي أن تشغله فيها تحت إدارتها هي ومراقبتها، وتوزع أرباحها عليه، وفي شيخوخته تعين له راتبا صغيرا يكفيه حتى لا يموت جوعا: هذه كل مطاليبهم أيها السادة، فإذا عرضنا هذه المطاليب على بدوي ساذج لم يدخل المدن قط لاستغرب أن يوجد بين البشر قوم ينكرونها.
يقولون: إن حق الملكية لا ينقض، ولكن لماذا تنقضه الحكومة يوم تقرر نزع ملكية الأراضي والأملاك التي تحتاج إليها في مقابلة تعويض تعطيه لأصحابها، فالمعامل والمصانع والمتاجر والمزارع تنزع ملكيتها ويعطى أصحابها تعويضا عنها.
يقولون: إنه إذا قسمت الأموال والأملاك بين الناس على السواء فإنها تعود تجتمع في أيدي المدبرين المقتصدين، نقول: ليس أحد يطلب قسمتها بالسواء فإن هذا وهم وافتراء علينا وعلى العمال، وإنما نطلب وقف المصانع والمزارع والمتاجر والمعامل للأمة وقفا لا يجوز بيعه وشراءه لأنه للجمهور، وليس يجوز للجمهور أن يتمتع بسوى ريعه، وتكون الحكومة الوكيلة العظمى لهذا الوقف العظيم.
يقولون: إن ذلك يضعف الهيئة الاجتماعية لأنه يجعل الأقوياء ضعفاء، نقول: بل بالعكس إنه يقوي الهيئة الاجتماعية لأنه يجعل الضعفاء أقوياء.
يقولون: إن ذلك يهدم التجارة والزراعة والصناعة من قلة الإقدام حينئذ عليها وتقييد صاحب العمل بآراء عماله، نقول: إذا كيف تنجح المشروعات الكبرى التي تديرها الشركات الكبرى، والحكومة أليست حاضرة للمساعدة، وهل نجحت الأعمال التجارية والصناعية والزراعية من غير تنشيط الحكومات ومساعداتها.
يقولون: إن المتاجر تكسد لأنها لا تعود قادرة على مزاحمة البضائع الأجنبية الرخيصة، نقول: إن بضائعنا ترخص أثمانها حينئذ بدل أن تغلو لأن الحكومة لا تطلب ربحا منها تخزنه في صناديقها.
يقولون: إن ذلك يضر بالحالة الحاضرة، فنقول: ولكن هل تريدون أن نخون المستقبل ونؤخره حفظا للحالة الحاضرة.
المستقبل، لقد عدنا للمستقبل، إننا نريد في المستقبل حياة أفضل من حياتنا الآن، فإن أعصاب الإنسانية الآن كلها متوترة متهيجة، كل واحد لا يأتمن أخاه على أقل الأشياء، كل واحد يحذر أخاه حذره من الذئاب الضارية، وما ذلك إلا لذلك المبدأ الملعون الذي انبث في نفوسنا وهو مبدأ تنازع البقاء، مبدأ طلب الفائدة للذات بكل الطرق وإن أضر ذلك بالغير ضررا عظيما، فنحن نريد بدل هذه الإنسانية المضطربة المتشنجة إنسانية هادئة مطمئنة متمتعة بأمن وسلام بنعم الأرض والسماء، وهذا لا يتم مع النظام الحاضر والحالة الحاضرة لأن الإنسان لا تهدأ نفسه ويسكن جأشه وتتلطف أخلاقه إلا إذا صار أمينا على رزقه، ولا أمن على الرزق ما دام الأقوياء متروكين على الضعفاء يمتصون دماءهم والضعفاء يزمجرون ويزبدون في سرهم حسدا وطلبا للنقمة.
ولقد سمعت الخطيب الثاني يتهكم على العلم وأهله ويقول: إن أهل المال هم المحسنون إلى الهيئة الاجتماعية بقناطيرهم الذهبية، فهذه دعوى غريبة لأنني كنت أظن أن المال يسمم الآن هيئتنا الاجتماعية تسميما.
وليس سبب هذا السم المال نفسه ولكن الطريقة التي يستعمل بها، فإن طلاب المال لا غرض لهم في مصانعهم ومتاجرهم ومزارعهم سوى «ربح أكثر ما يمكن ربحه بكل الطرق» ولذلك نظلمهم إذا أردنا وضع قواعد أدبية ورمنا منهم حفظها في معاملاتهم، إن طلب المال والأدب لا يجتمعان، ولذلك قيل: «لا يعبد ربان: الله والمال»، وهذا بخلاف ما لو كانت تلك المصانع والمزارع والمتاجر في أيدي الحكومة، فإنه لما كان أساس كل حكومة عادلة الفضيلة المطلقة، وكان غرضها حماية الضعفاء لا جمع المال، فإنها تنبو بالطبع عن الروح التجاري الإفرادي الذي يسمم الهيئة الاجتماعية اليوم ويبث فيها روح الفساد بدل روح الإصلاح والإحسان الذي أشار الخطيب إليه.
وروح الفساد هذا ظاهر في كل مكان، فإن النفوس اليوم لم تعد تعرف نظاما غير الذهب، ولا فضلا لغير الذهب، ولا قيمة لغير الذهب، انظروا إلى أعمالهم لا تجدوا لها غرضا غير جمع الذهب والظمأ إلى الذهب، ولذلك صار كل شيء يشرى ويباع عندهم بالذهب، فالاستقامة والأمانة: كلام فارغ لأن المقصود جمع الذهب. الآداب والفضائل: حلية العاجزين لأن الحلية الحقيقة حلية الذهب، الضمير والذمة والشرف والمبادئ الأزلية والرفق بالناس ومحبة القريب وصنع الخير والله: دعنا منها كلها فما هي إلا حبائل نصبها الساسة والشارعون لإخضاع الشعوب، والحقيقة أن كل شيء دون الذهب. فما هذه الحالة الهائلة التي ترتعد منها فرائص الإنسانية أيها السادة، هذه هي جهنم الحقيقية، هذه هي الهاوية السافلة التي يلقون فيها كل ما هو محبوب وكل ما هو مقدس وكل ما هو جميل وكل ما هو عزيز عندنا، وهم يسمون هذا الأمر سعة وثروة وخيرات ونعما، وأما أنا فأسميها فظاعة وجنونا وهوسا وشراهة ونهما وقبضا على الهواء.
وقد قلت «قبضا على الهواء»؛ لأن طالب الذهب يرى وهو على فراش الموت في يومه الأخير في ساعته الأخيرة أنه سعى وتعب وجد عبثا؛ إذ ماذا عمل؟ وأي فائدة له مما جناه؟ هل كان يأكل كل يوم ألف كبش كما تهكم عليه اليازجي، أم كان يكتفي بكسرة من الخبز وقطعة من اللحم كما كان يأكل جاره الفقير، وما يعمل أولاده بتلك القناطير المقنطرة التي تركها لهم، هل ترى جمعها قطعة قطعة من كل طريق وبكل الوسائط ومن كل الجيوب لكي يرى عدم فائدتها في ساعته الأخيرة وعجزه عن أخذ شيء منها معه، وحينئذ يتمثل له الأشخاص الذين امتصها منهم في حياته، والدموع التي جرت من بعضهم، والغضب الذي ثار في بعضهم، والعرق الذي انصب من بعضهم في سبيل خدمته، فيرى أن حياته كانت حملا ثقيلا على البشر، وفي هذه اللحظة الأخيرة يفهم معنى قول المالي المشهور كارنجي غريبة الغرب: «سيأتي يوم يكون فيه كل غني يموت دون أن يفرق أمواله موصوما عند الناس بوصمة العار»، فيغطي حينئذ عينيه بيديه ويقول: لم يبق لي غير رحمة الله، ولكن الله لا يرحمه إلا إذا كان يهب في تلك اللحظة نصف ماله للفقراء والمساكين: أي أن يعيد نصف ماله للأمة التي أخذه منها. وعلى خلاف ذلك من لا يجعل غرضه في حياته مقصورا على جمع المال، بل يطلب غرضا أشرف موافقا لمصلحته ومصلحة الهيئة التي يعيش فيها معا.
وهذا الغرض الأشرف هو حفظ النظام في الأرض والمساعدة على حفظه، فإن البشر لا يمكن أن يعيشوا براحة في الأرض من غير شرائع تحكمهم، وهذه الشرائع منها سياسي وديني واجتماعي وأدبي، ومجموعها نسميه «النظام» أي الشريعة المطلقة التي تدخل فيها كل الشرائع، وحفظ النظام أول ما يجب على الإنسان الذي يستحق أن يسمى إنسانا، وكل من يخرق هذا النظام يخرج عن حدود الإنسانية، ولكن كيف يخرق هذا النظام؟ يخرق بطرق عديدة، فالصانع الذي يغش صناعته والزارع الذي يغش زراعته والتاجر الذي يغش تجارته إنما يخرقون ذلك النظام لأنهم يخدعون إخوانهم بني البشر ليربحوا منهم أكثر مما اعتادوا ربحه، وصاحب العمل الذي يستخدم العمال في عمله بأجرة قليلة بالنسبة إلى ربحه، وصاحب الأموال الذي يضايق مديونيه، والسيد الذي يسيء في معاملة مسوده لأنه لا يعظمه بقدر ما يريد أن يعظم، كل هؤلاء أيضا يخرقون حرمة النظام الاجتماعي لأن الرفق والرأفة أساس هذا النظام، فأنتم ترون أن «حفظ النظام» و«جمع المال» نقيضان لا يجتمعان وضدان لا يأتلفان، فأين ما قاله الخطيب من أن الهيئة الاجتماعية لا تستغني عن أهل المال.
كلا ثم كلا، إن الهيئة الاجتماعية تحتاج إلى المال لا إلى أهل المال، والمال متى عاد إلى صندوقه الحقيقي انحصر في يد الحكومة، أما الذين لا يمكن للهيئة الاجتماعية أن تستغني عنهم فهم أهل العلم، هم حفظة هذا النظام الذين نشير إليه، هم الذين يطرحون أنفسهم بين الإنسانية المقتتلة على حطام الدنيا وخزعبلاتها ليسمعوها كلمة المحبة والرفق والألفة، ويذكروها بزوال هذه الأباطيل، هم الذين يولدون فقراء ويعيشون فقراء مفتخرين بفقرهم لأن قناطير الأموال التي تجمع في الصناديق إنما تجمع من دماء بني جنسهم، إما من التسفل لأقويائهم أو الضغط على ضعفائهم، هم الذين تراهم مع فقرهم هذا مكتفين قنوعين يستنشقون براحة وهناء هواء جوهم النقي من جراثيم الرذائل والفظائع التي تسمم جو غيرهم، هم الذين يطبقون أعمالهم على أقوالهم فلا يظلمون ولا يخدعون ولا يتسفلون، فكأنهم أعمدة شامخة نصبها الله بيده الأزلية في هذه الأرض ونقش عليها فضائل أديانه بكتابات جديدة وطرق جديدة بعد أن فسدت الأعمدة الأولى التي نقشها عليها أولا بفساد قلوب الرجال الذين كانوا يحرسونها.
هذا ما يقال في العلم حافظ «النظام المطلق» في الأرض، بقطع النظر عما كان له من الفوائد العلمية كالاكتشافات والاختراعات التي أحيت التجارة والصناعة والزراعة ولولاه لما كانت الآن على جزء من تقدمها الحاضر.
فمن الغريب أن يهاجمنا أهل المال وينكروا فضل العلم ونعمته بعد كل ما صنعه العلم للهيئة الاجتماعية.
أما حكمكم في مشاكلنا هذه أيها السادة فليكن كما تشاءون ولكن علينا أن نذكركم بأن الدنيا كلها تنتظر حكمكم بشوق شديد لترى إلى أي درجة وصل العدل في الكرة الأرضية.
ولما جلس الخطيب تزحزح الشيخ الرئيس ونظر في ساعته ثم قال بصوت جهوري: إنني مسرور لأننا سمعنا أقوال الخطباء الثلاثة بكل هدوء وسكينة، فهل ترون أن نتباحث الآن فيها.
فنهض واحد من فريق رجال الدين وقال: بل أرجو أن نترك البحث في كل المشاكل إلى ما عبد سماع أقوال باقي الخطباء.
فهز بعض من فريق العلم رؤوسهم لأنهم علموا أن هذه حيلة عليهم، وقال الشيخ الرئيس: إذا نعقد غدا الجلسة الثانية.
الفصل السابع
الجلسة الثانية
العلم ومشاكله
وفي الليلة التالية ازدحمت الحديقة بالأقدام ازدحاما شديدا، ذلك أن الخطب التي ألقيت أمس حمست السكان ولم يكن في المدن الثلاث في ذلك النهار حديث في غيرها. وقد حدثت بعد العصر عدة فتن في مدينة المال بين العمال وأصحاب الأعمال فاضطرت الجنود إلى المداخلة إعادة للنظام، ولذلك كان عدد الجند حول الحديقة في هذه الليلة أكثر منه في العادة.
ولما انتظم عقد الاجتماع وجلس الشيخ الرئيس في كرسيه وعلى وجهه لوائح القلق واشتغال البال أنصت الجميع، فقال الشيخ الرئيس: كملوا يا أولادي مباحثتكم في مصالحكم واذكروا وصيتي لكم بالهدوء والسكينة.
وكانت هذه الجلسة مخصوصة بالعلم ورجاله، فنهض زعيم كبير من صفوف رجال الدين وابتدأ يخطب في الجمع بصوت جهوري، فقال:
دعوى أهل الدين
أيها السادة:
لما كنت أصغي إلى الخطب الثلاث التي ألقيت أمس كنت أظنني في حلم؛ لأن الخطباء الثلاثة بعد كل ما ذكروه في أثناء كلامهم لم يدخلوا في أساس الموضوع، فكل كلامهم كان خارجا عن دائرة المسألة.
إن المسألة الكبرى التي هي مسألة المسائل في الهيئة الاجتماعية هي «كبح هوى الإنسان» أي وضع شكيمة تضبط شهواته وأهواءه لأن الاجتماع مستحيل من غير هذه الشكيمة. وهذا هو السبب في نزول الأديان وقيام المهذبين والمرشدين ليعلموا البشر أنهم لا يكونون بشرا إلا إذا كسروا حدتهم وقللوا طمعهم وسكنوا أهواءهم وسامحوا المسيئين إليهم، إلى غير ذلك، ولكن تعالوا وانظروا ماذا يصنع أهل الكفر والضلال.
فصاح صائح من بين صفوف أهل العلم: لم يصنعوا شيئا سوى أنهم نقلوا الجنة من السماء إلى الأرض.
فأتم الخطيب كلامه دون أن ينتبه إليه قائلا: إنهم قاموا يعلمون الناس الانفكاك من هذه القيود الأدبية الجميلة التي حفظت الهيئة الاجتماعية إلى اليوم، فإنهم يحرضون الضعفاء على أن يتمتعوا بالحياة كالأقوياء، ويعلمونهم أن ذلك من حقهم لأنهم الأكثرية، وأن اللذات الموعودين بها فوق، تعويضا لهم عما فاتهم منها هنا، إنما هي لذات وهمية، وبهذا التعليم أيها السادة يهدمون نظام الاجتماع الذي يزعمون أنهم حفظوه ويثيرون كل ما في نفس البشر من الأحقاد والضغائن والشهوات الحيوانية.
فصاح حينئذ صائح من صفوف العمال: كم أعطاك أهل المال لتقوم مدافعا عنهم؟
وصاح صائح آخر منهم: لا عتب علينا نحن العوام إذا كنا نطلب التمتع بخيرات الأرض، ما دام رجال الدين قد سبقونا إلى ذلك منذ أزمان.
فأتم الخطيب كلامه قائلا: فأهل الضلال هم السبب في كل هذه الفتن وهذه الاضطرابات، ولست أسميهم «أهل العلم» لأن العلم الحقيقي براء منهم، وها في صفوفنا نحن كثيرون من أهل العلم الحقيقي ينكرون تلك البدع المهلكة.
أيها السادة، إن بابل ونينوى وسدوم وعمورة إنما خربت وصب عليها غضب الله لأنها أطلقت أهواءها وشهواتها من كل قيد، فهل ترومون أن يصيبنا ما أصابها.
هؤلاء المصلحون أصلحهم الله يريدون الاشتراكية، أي يريدون هيئة اجتماعية فيها الجميع إخوة وتكون إدارتها تهتم بالجميع، فعافاكم الله أيها المقلدون الذين يسمون أنفسهم مخترعين، ألا ترون أن هذه الهيئة هي هيئتنا نفسها، فتعالوا إذا إلينا، ولكنكم لا تأتون لأن اشتراكيتنا نحن مبنية على المحبة والرفق لا على العنف والغصب، نحن نعتبر الكبير فينا صغيرا والصغير فينا كبيرا، وأما أنتم فتريدون أن تكونوا كلكم كبراء، نحن نجامل الجميع ونساوي بين الجميع لنرضي الجميع وأما أنتم فتريدون جعل الفقراء أغنياء والأغنياء فقراء، نحن نطلب خيرات الدنيا لنفرقها على غيرنا وأما أنتم فتطلبونها لتدفنوها في بطونكم. «فالفرق بيننا وبينكم في المسألة الاقتصادية كالفرق بين الخير والشر والبياض والسواد، أنتم تحرضون وتهيجون ونحن نسكن ونهمد، والله من أعالي السماء يعلم أينا أنفع للهيئة الاجتماعية.
فصاح حينئذ صائح من بين العمال: هذا افتخار من يكبح جماح البقرة ويمسكها لمن يريد حلبها.
وصاح صائح من فريق أهل العلم: نراكم صرتم تفتخرون بفوائد مبادئكم بدل الافتخار بصحتها.
فأجاب الخطيب: إن المفيد يكون صحيحا دائما.
فصاح واحد آخر من فريق العلم: إن دين بوذه وكونفوشيوش وبرهما صحيح أيضا لأنه مفيد. فاستشاط الخطيب غضبا حينئذ وصاح مخاطبا أهل العلم: كل المذاهب خير من مذهبكم، ونحن سواء كنا مسيحيين أو مسلمين أو إسرائيليين أو بوذيين أو براهمة أو كونفوشيوشيين كلنا على اتفاق ضد مبادئكم المهلكة.
فصاح صائح آخر من فريق العلم: هذا افتراء فظيع علينا فإننا نؤمن بالله مثلكم.
فاشتد غضب الخطيب فقال: نعم تؤمنون بالله لتتخذوا هذا الإيمان ستارا تنشرون وراءه مبادئكم، وهل تحسبوننا بلها إلى هذا الحد حتى نكتفي منكم بالإيمان بالله، فإما أن تؤمنوا كما نؤمن نحن أو تكونوا جاحدين، هل تؤمنون برسالات الرسل والأنبياء والأقانيم الثلاثة وعلم الله بكل شيء ومقدرته على كل شيء والبعث والحساب في عالم آخر فيه جنة وفيه نار، كلا إنكم لا تؤمنون بذلك، ومع ذلك تنادون: «أن علمكم موافق للدين»، وعلمكم لا يكون موافقا للدين عندنا إلا متى أضاف إلى إيمانه بالله الإيمان بهذه الأمور لأنها هي الدين، فتدجيلكم أجيزوه بعد الآن على السذج لا علينا.
فقطع كلامه أحد رجال العلم قائلا: هل تعلمون سياستكم هذه إلى أي هاوية تجركم؟
فأجاب الخطيب: كل الهاويات عندنا مقبولة بالنسبة إلى هاويتكم، إنكم تهدمون ما بنيناه في عدة قرون، إنكم تضعضعون الهيئة الاجتماعية من أساسها، فعلينا محاربتكم بكل سلاح. «ولكن خبرونا ماذا تريدون أن تضعوا بدل الشيء الذي تطلبون هدمه، لا ريب أنكم تعلمون المبدأ القائل: «لا يمكن في الاجتماع هدم شيء إلا متى أمكن وضع شيء آخر مكانه يقوم مقامه»، فماذا تضعون موضع الدين؟ أتضعون العلم؟ لله ما أسخف أحلامكم، اذهبوا وقولوا للناس وخصوصا للشعب المسكين: يجب عليكم أن تحبوا قريبكم من أجل العلم، وتصنعوا الخبز من أجل العلم وتعفوا عن مال غيركم إكراما للعلم، ولا تصنعوا شرا في السر ولا في العلانية إكراما للعلم. وحينئذ تسمعون الجواب، ولكن ويل للهيئة الاجتماعية في ذلك اليوم الذي تقطع بيدها الأثيمة قيود خوف الله ورهبة الدين لتجرب هذه التجربة الهائلة.
فقطع هنا كلامه خطيب العلم السابق قائلا: هل تسمح لي أن أجيبك الآن عن هذا الكلام؟
فقال الخطيب: إذا كان جوابك وجيزا فلا بأس.
فقال المعترض: معاذ الله أن نروم هدم الدين كما تفترون علينا، وإنما نروم هدم الأوهام والخزعبلات في الدين، فلماذا تجعلون هذه قسما منه، وأول هذه الخزعبلات قولكم إن الإنسان لا يمكن أن يعبد الله ولا أن يفهم الكتب الدينية إلا بواسطة كاهن أو شيخ، وبذلك تضعون أنفسكم بين الله وبين عباده رفعا لشأنكم وطلبا للفائدة لكم، وهذا ما جعل بعض رجال الدين في بعض خطبه العمومية يفضل الذبيحة اليومية في الكنيسة على كل ما في الديانة المسيحية من الفضائل وروح الكمال، فنحن إذا حاربناكم فإنما نحارب هذه السيطرة على عقول الناس، أي نحارب اتخاذ المبدأ سبيلا للمصلحة. «أما ماذا نضع موضع الدين؟ فهذه مسألة يجيبكم عنها علماء الفلسفة الوضعية أو الحسية، فإنهم يقولون: إن للبشر ثلاثة أطوار: طور الطفولية وهو الاعتقاد بأن العالم محكوم بالأرواح الآلهة، وطور الشباب وهو البحث في ما وراء الطبيعة، وطور الرجولية وهو طلب الهيئة الاجتماعية «نفع الناس» بناء على «الواجب» ومحبة الناس والعقل والمصلحة المتبادلة. وهم يقولون: إن البشر متى وصلوا إلى هذا الطور صاروا يعملون ما يجب عليهم عمله من غير إرهاب ولا تشويق بل بسائق فطرتهم ومصالحهم المتبادلة المحصورة في هذه العبارة «يجب أن لا أصنع بالناس إلا ما أريد أن يصنع الناس بي».
فصاح الخطيب: إذن تكون قصارى فلسفتهم أيها السادة أن يأكل الناس ويشربوا ويناموا ويعيشوا معيشة الخنازير. هذه هي «المعيشة الوضعية» وكثيرون من البشر هذا شأنهم اليوم، وهم يضيفون على ذلك التمتع بكل شهواتهم وأهوائهم الحيوانية، فهل يكون في المستقبل أيها السادة هؤلاء الحيوانيون العابثون بكل شيء مصيبين والذين صرفوا حياتهم بالعفاف والزهد والفضيلة والخير والصلاح مخطئين، هل المستقبل سيذبح الفضيلة هذه الذبحة الهائلة بأن يثبت أن أولئك كانوا أقرب إلى الحقيقة من هؤلاء، إذن ما أفظع الحاضر وما أقبح المستقبل، ويا هاويات الفناء، يا جحيم العدم، ابتلعينا منذ الآن وأريحينا من حاضر فظيع ومستقبل قبيح.
ولكن لا لا، إن الله موجود أيها السادة «وكل ما في الطبيعة يدل عليه ويشير إليه، ولا ينكره إلا الأشرار الذين يخافون عدله»، ونحن لا نعلم هل يوجد في العالم بشر تكفيهم تلك المعيشة الخنزيرية المجردة عن كل عاطفة إنسانية كريمة وكل جنوح إلى ما وراء الطبيعة، ولكننا على ثقة من أن في العالم قوما لا تكفيهم هذه المعيشة الحيوانية، بل إن نفوسهم الشريفة وفطرتهم السامية تجنح دائما إلى خالق الطبيعة وواهبها قواها، إلى الآخرة التي هي وطننا الحقيقي، إلى الحياة الروحية التي هي الحياة الحقيقية، وبناء على ذلك يكون علمكم وفلسفتكم مما يرضي قسما من الإنسانية فقط، والقسم الثاني لا يستغني عن علمنا وفلسفتنا، أي عن مبادئنا الدينية، ولذلك يكون الدين من حاجات قسم كبير من الناس لاختلاف قلوب الناس باختلاف فطراتها ولأن أصوله مغروسة في النفوس لا في الكتب والأوراق.
فصاح به المعترض: ولكن هذا الفريق من الناس ينقرض متى دخلت الإنسانية في الطور الثالث من أطوار الفلسفة الوضعية التي تقدم ذكرها.
فصاح الخطيب ضاحكا ومتهكما: انتظروا فإننا معكم منتظرون، ولكن على افتراض أن هذا القول صحيح هل يجوز جرح عواطف النفس بمهاجمة معتقداتها قبل حصول هذا التغيير ودخول الإنسانية في طور التحول عما بين يديها؟
فأجاب المعترض: نحن نجاهد كالرسل والأنبياء، ولولا هذه المجاهدة لما تقدمت المبادئ، وهل تظنون أن المسيحيين والمسلمين لو انتظروا حصول التغيير في الأرض من مجرد سير المبادئ كانوا قد وصلوا إلى ما وصلوا إليه؟
فصاح الخطيب وقد فرغ صبره: بئس هذا الجهاد الذي تقومون به، فإنكم تهدمون به كل شيء محبوب إلينا. وأي شيء سلم من هدمكم، لقد هدمتم الدين وهدمتم الوطن وهدمتم الجيش وهدمتم العائلة وهدمتم العادات الجميلة المقدسة.
فضحك هنا كثيرون من فريق العلم وقال أحدهم: إنك تتسلح بالمبادئ الوطنية وبالدفاع عن الجيش تقوية لحجتك؟
فقال الخطيب: وهل تنكرون أنكم أفسدتم الفكرة الوطنية وشوهتم مبادئها المقدسة، أما نسمعكم دائما تعلمون الناس أن البشر إخوان وأن الحدود يجب أن تزال من بين بني الإنسان، فما معنى هذا عندكم، أليس معناه تسليم الوطن للأجانب؟ ثم أما أنتم الذين تدعون إلى نزع السلاح وقصدكم من ذلك إضعاف جيشنا لكي يصبح غير قادر على مقاومتكم يوم تريدون إنفاذ أغراضكم، أما أنتم الذين تحرضون الجنود على الفرار من الخدمة العسكرية؛ لأنها عار في مذهبكم لقيامها على حمل السلاح وسفك الدماء، وتنشرون المنشورات بين صغارهم ليعصوا قوادهم ولا يكبحوا جماح العمال في أوقات الاعتصاب، أما أنتم الذين أدخلتم الطلاق في العائلة فضعضعتم به أساسها وأساس الهيئة الاجتماعية ثم تريدون الآن توسيع نطاقه بإعطاء كل واحد من الزوجين حق الطلاق حينما يطلب ذلك وإن لم يرض به الثاني، أما أنتم الذين تدعون إلى إباحة الزواج من غير زواج والعياذ بالله، أي من غير عقد رسمي سوى رضي الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، ومتى شاءا يفترقان كما اجتمعا.
فصاح حينئذ كبير من فريق رجال العلم: يظهر أن هذا الكذب لا حد له عندكم فإنكم تنسبون إلينا كل أعمال الاشتراكيين مع علمكم أننا براء منها.
فقال الخطيب: ولكن أليست هذه كلها نتائج مدنيتكم هذه، إنما أردنا أن نظهر للأمة الهاوية التي تجرون البلاد إليها إذا بقيت لكم الحرية، فإنكم تعطلون عقائد الأمة بجرها إلى الإلحاد، وتثيرون الحرب الأهلية بتحريضكم الصغار على الكبار والضعفاء على الأقوياء، وتفرقون الجامعة الوطنية والدينية بدعوتكم إلى الإخاء والتعاون الإنساني، وتضعفون قوة البلاد بمقاومة جيشها وإهانته في كل يوم، وتهدمون الهيئة الاجتماعية والفضائل المدنية بمحاربتكم العائلة ووضعكم الفاحشة موضع الزواج المقدس اللطيف.
هذه ثمار أعمالهم أيها السادة، ومن ثمارهم تعرفونهم، فلا يفتخروا بعد الآن بأنهم حفظة «النظام المطلق» مع أنهم مضعضعوه، إن النظام يقتضي قبل كل شيء «إنكار الذات» أي أن يتنازل الإنسان عن شيء من حقوقه في سبيل المصلحة العمومية إكراما للذين يخدمون وينفعون، فالرؤساء والحكام والأغنياء والكبراء يتفانون في الخدمة العمومية ونفع الأمة، ولذلك يجب على أفراد الأمة أن ينكروا ذواتهم قليلا ويتركوا لهم شيئا من حقوقهم في مقابلة متاعبهم ومسئوليتهم، ولذلك تكون المساواة المطلوبة بين هؤلاء وأفراد الأمة عبارة عن وهم وخيال، أما المساواة الممكنة الحقيقية أيها السادة فهي تكون في السماء لدى الله لا في الأرض بين الناس.
وهنا فرغ الخطيب من خطابه وجلس وهو يمسح العرق عن جبينه، ويظهر أن الغيظ الذي كان في أثناء كلامه يجيش في صدور العمال والغلاة من أنصارهم قد طفح حين سكوت الخطيب، فهاجوا وماجو وصرخوا صرخة واحدة قائلين: «فليسقط الظالمون»، وصاح أحدهم: «قلت إن المساواة وهم وخيال فالوهم معتقدك والخيال في دماغك أما المساواة فسنحققها أو نموت»، وصاح آخر: «إن قولك وهم وخيال ينقض كل الأديان ولكن لا يهمكم دينكم ما دامت مصلحتكم مصونة»، فرد عليهم حينئذ فريق من رجال المال ورجال الدين، وعلت الضوضاء واحتدم الجدال وتماسك فريق منهم بعضهم ببعض وتضاربوا فعمت الفتنة الحديقة كلها واضطرت الجنود إلى المداخلة حفظا للأمن، ولكن الجنود لم تتمكن من ذلك إلا بشق النفس لعظم الاضطراب، ثم انجلت الفتنة عن جريحين حملا إلى المستشفى بحالة النزع، وأخرجت الجنود الناس من الحديقة وفرقتهم في المدن الثلاث لأن التحمس كان شديدا.
الفصل الثامن
الجلسة الثالثة
الدين ومشاكله
وفي اليوم التالي انتبه السكان على أصوات جلبة العمال واجتماعهم في الشوارع والأسواق أفواجا لاعتصابهم وتركهم العمل بتاتا في ذلك اليوم، فتفاقم الخطب وازداد الاضطراب، لكن لما بلغ العمال أن شيخ أهل العلم سيخطب في تلك الليلة ردا على خصومهم خمدت قليلا نار حدتهم، ولما أمسى المساء غصت الحديقة بالناس حتى لم يبق فيها مكان لموضع قدم، وكانت جميع الأبصار حائمة على صفوف أهل العلم لتشاهد شيخهم الكبير الذي كان لا يخرج من خلوته في مدينة العلم، ولا يحضر المجتمعات العمومية ليبدي رأيه فيها إلا في أشد الأوقات، وبينا هم يتطاولون نحو صفوف العلم انفرد من هذه الصفوف شيخ مهيب جليل كلل الشيب رأسه وهو يناهز السبعين، فجلس على كرسي منفرد كان موضوعا على دكة، وابتدأ خطبته والناس سكوت كأن على رءوسهم الطير، وكان حليم جالسا مع رفيقه في الزاوية التي تقدم ذكرها قريبا من شيخ العلماء والشيخ الرئيس، وقد صار شديد الاهتمام بما عليه أهل هذه المدن من الاختلاف بعدما سمعه في الليلتين السابقتين.
أما شيخ العلماء فإنه أنشأ يقول:
خطبة شيخ العلماء
أيها الإخوان:
قرأت اليوم في الجرائد خطبة أخينا المدافع عن الدين الحامل على العلم حملة منكرة، فخيل لي وأنا أقرأها أنني في مشهد صراع وأن الخطيب مصارع يطلب إعدام خصمه لا إقناعه، فذكرت حينئذ مشهدا كهذا المشهد فيه فكاهة وعبرة معا، فإنني كنت أسمع مرة أحد المتحمسين في الدين يدعو إلى دينه، فكان يتكلم بصوت كالرعد القاصف ويخبط الهواء بيديه خبطا متواليا ويرفس الأرض بقدميه رفسا شديدا وينادي ملء فيه: إن البشر لا يستغنون عن الدين، إن دينه خير الأديان كما ورد في كتابه، ثم أردف ذلك بأقوال عن العلة والمعلول والفاعل والمفعول والواجب والممكن وغيرها، فلبثت في مكاني مبهوتا وأنا أقول: إن هذا الرجل يطلب أن يدلنا على طريق السماء ومع ذلك فإنه يغطي وجهها بالغبار الذي تثيره حدته، وبالسحب المتراكمة من أقواله الجافة الغامضة التي لا يفهم سامعوه لها معنى، والتفت لأرى حالة سامعيه، فأبصرت في زاوية أمامي فتاة جاثية على بلاط الأرض ووجهها لاصق بالثرى، وهي تصلي ولا تسمع شيئا من كلام ذلك المتحمس، فثارت نفسي لهذا المشهد وقلت إن هذه الفتاة بلطفها وهدوئها وسكوتها تعرف طريق السماء وتؤثر في الإرشاد إليها أكثر من ذلك الواعظ البليغ الفصيح.
وإن سألتم لماذا يكون تأثير هذه الفتاة مع سكوتها أوقع في النفوس من تأثير ذلك الواعظ المتحمس مع كثرة كلامه؟ فأجيب: ذلك لأن هذه الفتاة تتمسك بأسمى مبادئ الدين ولا تلتفت إلى ما بقي، وأسمى مبادئ الدين التسليم والاستسلام إلى الخالق، وترك الدنيا لطلب ما وراءها لا للاستيلاء عليها وعلى عقول ساكنها، بماذا كبرت الأديان وشرفت وعظمت؟ هل كان ذلك بالحروب والسيوف والمدافع؟ كلا وإنما كان ذلك بدم الشهداء، أي بتسليم الإنسان نفسه إلى كبرياء المخلوق اعتمادا على عدل الخالق، وقد كان الخالق عادلا، فإن ذلك المسيحي الذي كان يحتمل كل عذابات الموت بسكوت وفرح وشكر لله لأنه اختاره ووجده أهلا لأن يتعذب من أجله، وذلك العربي الذي كان في واقعة اليرموك يهجم طالبا الموت مناديا «يا محمد أمتك أمتك»، قد أسسا في العالم أديانا عظمى وممالك كبرى، فكان انتصارهما عظيما. «فدماء الشهداء أيها السادة وظلامات المظلومين هي التي نصرت الأديان وجعلت على هامة الدين إكليلا من الجمال والسناء، فاحذروا أن ترفعوا هذا الإكليل عن هامة الدين، وإنكم لترفعونه عنها وتضعونه على هامة قوم غيركم يوم يصير الشهداء في صفوف غير صفوفكم، فينتقل يومئذ صولجان العظمة والجمال منكم إلى أولئك الذين تعادونهم وتعذبونهم، إذن لا تضطهدوا العلم والعلماء، ولا تفتروا عليهم، ولا تقاوموا العمال المساكين انتصارا لأصحاب الأعمال، فإن هؤلاء العمال هم شهداء العصر الحاضر، وارجعوا إلى الله في نفوسكم وإلى مبادئكم الأساسية التي منها درجتم فتنكشف لكم الحقيقة التي ننشدها معكم.
ولا تخشوا أن أقع في الخطأ الذي يقع فيه الناس عند طلبي التساهل والاعتدال منكم، فإنني أعلم أن التساهل الديني ليس سوى فرع من التساهل العمومي الواجب بين جميع الناس في جميع المعاملات، إذ ماذا يفيدنا أن نطلب التساهل الديني فنحصل عليه ثم يبقى التعصب والتصلب في باقي الأمور شديد البنيان راسخ الأركان، كلا، إننا نطلب التساهل المطلق، التساهل بكل فروعه؛ لأن هذا التساهل العام هو وحده الضربة القاضية على الحيوانية والأثرة البشرية، فالذي يفتخر بأنه متساهل في دينه لا يبغض غيره ولا يطلب ضرره بسبب مذهبه، ثم تراه ظالما في معاملاته الخصوصية فسمه متعصبا لا متساهلا، وهكذا يكون صاحب العمل الذي يظلم عامله متعصبا، والعالم الذي يتصلب برأيه ولا يحتمل رأي غيره متعصبا، وهلم جرا، فاطمئنوا فإنكم لستم وحدكم مصدر التعصب لأن للتعصب أنواعا متعددة.
ولكني أعتقد أنه يحسن بخدمة الله أن يكونوا البادئين بإقامة مملكة التساهل في الأرض وقتل روح التعصب على أنواعه، فساعدونا أيها السادة على محاربة الأثرة البشرية وحب الذات وإعادة الأمن والنظام إلى نصابه في البلاد.
وتوصلا لذلك علينا أن نبحث معكم في مسألتين: (الأولى) علاقة العمال بأرباب الأعمال، (والثانية) علاقة العلم بالدين.
أما المسألة الأولى فقد قرأت أقوال الفريقين فيها، فرأيت الغلو في الجانبين، فلتكن وظيفتنا أيها السادة التوفيق بين المصلحتين لا نصرة إحداهما على الأخرى.
وقد ألقيت إلى حضرة الرئيس حين دخولي إلى هذا المكان لائحة فيها عدة اقتراحات، أظنها كافلة بهذا التوفيق.
أما المسألة الثانية فحلها أسهل من حل المسألة الأولى، فإن العلم والدين إذا اختلفا في الطرق فإنهما يتفقان في الغرض، ذلك لأن غرض العلم والدين واحد وهو تحسين حالة الإنسانية وترقية شئون البشر، فما الموجب لجعل الواحد يناقض الثاني ويحاربه.
لا موجب لذلك سوى الأهواء والمصالح أيها السادة.
فلننبذ الأهواء والمصالح ولنتمسك بالمبادئ، والمبادئ توفق بيننا وإن اختلفنا في تفسير بعضها.
ولكن فاعلموا جيدا أيها السادة أنه لا سبيل للوفاق بين الفريقين إلا بتساهل الاثنين، فعلى الدين قبل كل شيء أن يتذكر أن العالم قد تغير وتبدل، ولذلك يجب أن يغير شيئا من مبادئه وقواعده القديمة، وعلى العلم أيضا أن يتذكر أن العالم قد تغير وتبدل ولذلك يجب أن يغير شيئا من مبادئه وقواعده الماضية، ذلك أن العدو الحقيقي للدين والعلم أيها السادة إنما هو الأثرة والشراهة والرغبة في الانفكاك من كل قيد، أو كما يقول بعضهم: «إعطاء الفرد مداه لإشباع كل قواه»، وما نتيجة هذا الأمر إلا استعلاء ذوي الفطر الدنيئة على ذوي الفطر السامية، أي تغلب صغار النفوس على كبارها لأن المواهب السامية والعواطف الكريمة المودعة في النفوس الكبيرة لا تعود نافعة لشيء ما دام الغرض من الحياة التمتع بما فيها من اللذات، وحينئذ يملك في الأرض أصاغر سكان الأرض، أعني الشرهين والحمقى والوقحين والمعتدين والظالمين، وينزوي الأكابر الحقيقيون في زوايا الإهمال يندبون سقوط كل ما هو جميل وجليل، ولا عزاء لهم حتى ولا بحياة أخرى، لأن أولئك يضحكون منهم ويخبرونهم أنها حياة وهمية.
نعم أيها السادة إننا مثلكم نبكي حزنا وأسفا كلما رأينا العلم يؤدي ببعضهم إلى هذه النتائج المكروهة، ولكن رحماكم! أنصفوا ولا تلقوا التبعة في ذلك على العلم، بل على الذين أخرجوه هذا المخرج، أي على النفوس التي استنتجت منه هذه النتيجة القبيحة، إن العلم «كندى السماء، ولا يبقى الندى نقيا إلا إذا وضع في إناء نقي»، فالنفوس التي تخرج العلم المقدس ذلك المخرج ليست بنفوس نقية، ولذلك يفسد العلم فيها، فقبل لومكم العلم لوموا الفطرة الطبيعية الدنيئة.
ثم هل تظنون أن العلم وحده ينتج نتائج كهذه النتائج. كلا، فإن تعليمكم الدين بالطريقة التي تعلمونه بها ينتج مثلها أيضا، فإنكم تعلمون مبادئ وقواعد قديمة لم تعد العقول تقبلها في عصر كهذا العصر، وتطلبون تدبير الحاضر بالماضي، وتقولون إن الناس لا يمكنهم فهم الكتب إلا بواسطتكم؛ ولذلك تفسرونها وتضعون رأيكم في هذا التفسير في موضع الحقيقة الثابتة التي لا يجوز مسها بدل أن تتركوا الناس يفهمونها كما تسوقهم فطرتهم، فكم من نفس ساذجة كريمة تفهم مع سذاجتها تلك الكتب بالروح أكثر مما تفهمونها أنتم، بل هي تصنع أفضل من هذا فإنها لا تفهمها فقط بل تعمل بها أيضا، وهذا فضل لها عظيم عليكم يا من تكتفون بالقول دون الفعل، فلماذا تجعلون أنفسكم بين الله والناس في منزلة الوسيط والمدافع عن الدين، أي عن الضمير البشري، من أقامكم وسطاء ومدافعين عن هذا الضمير، دعوا البشر يعيشون بملء حريتهم الروحية، فإن كتبهم الدينية بين أيديهم، وضمائرهم إذا لم تفسدوها بالجدل والمماحكة والأهواء فإنها لا تقرأ فيها إلا الحقائق الأزلية ومبادئ الإخاء البشري، ولا تقولوا نحن نرشدهم، فإنكم بشر مثلهم، أي فيكم جميع أهواء البشر الصالحة والفاسدة، وهذا الإرشاد لا يقبله البشر إلا من الملائكة، ويوم تصيرون ملائكة مجردين من كل ضروب الشقاء البشري فاعلموا أننا نحن نسعى إليكم من غير أن تأتوا إلينا ونطلب مساعدتكم، فدعونا ولا تقفوا بيننا وبين الله لتجبرونا على أن نفهم حياتنا وكتبنا وإلهنا ومصالحنا كما تريدون أنتم؛ فإن ذلك الضغط يجرنا إلى الكفر بكل شيء.
ثم هل أنتم تكتفون بذلك؟ كلا، فإنكم لا تنفكون عن محاربة بعضكم بعضا، فهذا المذهب يكفر ذاك وذاك هذا إلى ما شاء الله، والأقبح من ذلك الحرب بين الأديان، أي بين دين ودين لا بين مذهب ومذهب فقط، فإن الذين مصلحتهم قائمة بتكدير الإخاء بين البشر وإثارة التعصب في نفوس أهل السذاجة (ولولا ذلك لم يكن ثمت موجب لوجودهم ولا معنى له) لا ينفكون عن النداء أن دين أولئك باطل لاحتوائه على كذا وكذا، فيجيبهم غلاة هذا الدين بل دينكم الباطل لاحتوائه على كذا وكذا، وفي أثناء ذلك يكون رجل ثالث واقفا بعيدا عن الفريقين يسمعهما، فلما يرى الفريقين في سكرة من الجنون والحماقة إلى هذا الحد، لما يرى أنه لا غرض لهما من هذا الطعن غير التدجيل والشعوذة «لملء الخزانة وإشباع الحزانة» كما قال الزمخشري في بعضهم، على افتراض أن هذا التدجيل يجوز على عقول أهل السذاجة، فإنه حينئذ يهب من مكمنه ويقول للفريقين: إن رمتما الحق فكلاكما في ضلال، وليس هناك دين صحيح غير ديني، فيسألانه: وما هو دينك؟ فيجيبهما: «ديني أن أفعل ما أريد كما أريد وقتما أريد، وما بقي فأوهام وخزعبلات حاكتها التصورات والخيالات وهدمتها كل الفلسفات»، وهكذا يكون تكفير الناس بعضهم بعضا في عصر كهذا العصر مؤديا على خط مستقيم إلى هدم جميع الأديان على السواء، وليست التبعة في ذلك واقعة فقط على الغلاة من أهل العلم والفلسفة بل هي واقعة أيضا على الغلاة من أهل الأديان في أي دين كان.
من أجل هذا طلبنا منكم التساهل والاعتدال وترك الصراع والنزاع، إن مبادئكم - كتلك الفتاة التي كانت جاثية بخشوع على البلاط تصلي في أثناء هياج الخطيب المصارع - لا تؤثر تأثيرا حقيقيا إلا بالتسليم لرحمة الله والهدوء والإقناع، فكونوا هادئين ومخلصين مقنعين ومقتنعين ... واعلموا أن الوفاق في بلادنا بين عناصرنا لا يمكن إلا بمراعاة الوسط الجديد الذي صرنا فيه؛ لأن الوسط الماضي قد تغير علميا ودينيا واجتماعيا وسياسيا، وهذا الوسط لا بد أن تجتمع فيه جميع المذاهب والآراء والمبادئ والأفكار، وبناء على ذلك لا سبيل لدوام الوفاق بين الجميع إلا بإطلاق الحرية المطلقة لجميع تلك المذاهب والآراء والمبادئ والأفكار من أي نوع كانت، وهي من تلقاء نفسها متى تركت لذاتها ولم يكن هنالك شهوة دنيئة تحركها تتفق وتتجه إلى غرض واحد وهو الخير، أي محاربة الرذيلة والشناعة والفظاعة والشرور في الأرض من أي مصدر وردت وبأي صورة كانت، وبعد حين لا يبقى منها إلا الأفضل «لأن الأفضل ينسخ بما هو أفضل منه» كما قال ابن رشد. ونحن نقبل هذا الأفضل في أي جانب كان ومن أي مصدر كان.
ولا تقولوا إن أقوالي هذه تهدم آمالكم القديمة وأحلامكم الجميلة، كلا فإنه لا حلم ولا أمل أجمل من رفع الجنس البشري وإنهاض الشعوب، فاصرفوا هممكم لا إلى تحريك التعصب في صدور الشعوب ولا إلى طلب المستحيل بل إلى خدمة الشعب خدمة حقيقية، ويتم ذلك بإنارة عقول أبنائه - دون سيطرة عليها - ومساعدتهم في حياتهم وتعزيتهم في مصائبهم وذلك بالفعل لا بالقول فقط، فإن القول لم يعد يؤثر شيئا والقدوة خير المعلمين، فاحملوا إذن لواء الفقر والرفق والمحبة والإيثار والزهد، وامشوا في طليعة جيش الشعب، فإنكم لهذا وجدتم، أما إذا رمتم حمل لواء البذخ في صفوف الحكام والكبراء وأصحاب الأعمال فيكون حينئذ مثلكم مثل ملوك يخلعون أنفسهم ويخونون وظيفتهم وينقضون مبادئهم.
ولما سكت الشيخ الخطيب علا من صفوف العمال شيء من الجلبة لعدم رضائهم عن هذه الخطبة كل الرضى، وأما صفوف أهل المال وأهل الدين فإنهم صاروا أقل مقاومة مما كانوا، على أن الجميع باتوا ينتظرون الاقتراحات التي أشار إليها الخطيب في أثناء كلامه ليروا منها هل الاتفاق ممكن أم لا، فتناول الرئيس حينئذ ورقة ونشرها ثم قال يخاطب الجميع:
أيها الأبناء:
إليكم نص الاقتراحات التي يقترحها من احترامه واجب علينا جميعا، وذلك حسما للنزاع والخلاف، وإنني أرجو أن تكون وسيلة لاتفاقكم:
المادة الأولى:
تزاد رواتب العمال والمستخدمين والموظفين 50 في المائة، ولكن هذه آخر زيادة إلا للذين تجب مكافأتهم في المستقبل حين الاقتضاء.
المادة الثانية:
لا يمكن استخدام أحد في أي عمل كان بأقل من مائة فرنك في الشهر.
المادية الثالثة:
ساعات العمل في اليوم 8 فقط، 4 قبل الظهر و4 بعده.
المادة الرابعة:
أما الأولاد والنساء فإنهم يعملون 6 ساعات فقط؛ لأن كثرة العمل تهدم بنية الولد وتمنع النساء من افتقاد منازلهن.
المادة الخامسة:
ينشأ صندوق يدعى «صندوق تقاعد العمال» وكلما شاخ عامل أو عجز عن العمل لمرض فإنه يتناول رزقه الضروري من هذا الصندوق طول عمره.
المادة السادسة:
لا يجوز لأصحاب الأعمال أن يستغنوا عن أحد من المستخدمين والعمال بحجة قلة العمل أو أن يخفضوا أجور بعضهم لأي سبب كان، وعليهم أن يعتبروا جمعيات العملة نائبة عن هؤلاء في كل مخابراتهم.
المادة السابعة:
توضع ضريبة على الإيراد مقدارها 10 في المائة، فمن كان إيراده ألف جنيه في العام يدفع 100 جنيه ومن كان إيراده 10 آلاف جنيه يدفع 1000 جنيه وهلم جرا، وذلك لتخفيف الرسوم والضرائب عن عنق الشعب، ولكن كل من كان إيراده أقل من 200 جنيه فإن ضريبته تكون 2 في المائة فقط ومن كان إيراده أقل من 100 جنيه 1 في المائة، ومن كان إيراده 50 جنيها فلا يدفع ضريبة ولا رسما على الإطلاق.
المادة الثامنة:
تتعهد الحكومة بأن تنشئ في البلاد من أموال الضريبة على الإيراد التي تقدم ذكرها مزارع واسعة ومصانع عديدة تشغل بها كل من كان بلا عمل، وبأن تبني في كل مدينة من المدن الثلاث مستشفيين للمرضى وملجأين للشيوخ والعجزة ودارين للأيتام ودارا للقطاء.
المادة التاسعة:
تتعهد الحكومة أيضا بأن تنشئ للشعب مدارس مجانية يكون فيها التعليم إجباريا لكل أبناء الأمة، ولا يدرس في هذه المدارس صغراها وكبراها من الأصول الدينية غير المبادئ العمومية التي تقبلها جميع المذاهب.
تلك كانت اقتراحات شيخ العلماء، وقد تغامز أهل المال كثيرا بينما كان الرئيس يتلوها، ويظهر أنه لم يسؤهم منها كثيرا غير وضع الضريبة على الإيراد لأنها من أمهات المسائل، أما العمال وأهل العلم فصاروا يتناجون في السر ويتساءلون عن النتيجة، وفي هذا الحين قال الشيخ الرئيس مخاطبا الجمهور: لا أرى مانعا من فض هذا الاجتماع الآن للبحث في هذه الاقتراحات غدا لأنها تقتضي الإمعان والمشاورة.
الفصل التاسع
وضع الجنون موضع العقل
وخرج الجمع من الحديقة وهم يتباحثون في هذه الاقتراحات، وكان حليم في جملتهم يباحث فيها رفيقه صادقا ويعرب له عن سروره بنيل الشعب ما لم ينله سواه في باقي البلاد.
وقد انقضت تلك الليلة بهدوء وسكينة، لكن لم يطلع الصباح حتى علت ضوضاء شديدة في المدينة، فإن السكان انتبهوا على أصوات باعة الجرائد: «خيانة خيانة»، ففتحوا نوافذهم فوجدوا على الجدران في كل مكان إعلانات حمراء طويلة عنوانها بأحرف غليظة:
الشعب المهذب يخون الشعب المسكين
وهذا نص ذلك الإعلان الغريب:
أيها الإخوة العمال والمستخدمون، لقد خانوكم وضحكوا عليكم، فلا تصدقوهم، ولا ترضوا باقتراحاتهم؛ إذ لا غرض لهم من هذه الاقتراحات سوى إرجاعكم إلى العبودية بالأجرة، وأنتم لا تطلبون الضريبة على الإيراد ولا زيادة رواتبكم، بل تطلبون مشاركة أصحاب الأعمال في أعمالهم، فإذا رفضوا هذا الطلب فإن من حقوقكم الاستيلاء على المعامل والمزارع والمتاجر والمصانع؛ لأنها ملك لكم بحكم الطبع وهو خير من حكم الشرع، فاستولوا عليها ولا تخافوا فإن الجيش معكم.
أيها الأخوة، هل تعرفون الذين خانوكم؟ خانكم أولئك الذين يسمون أنفسهم علماء معتدلين، وما دروا أن الاعتدال لا يحصل حقا ضائعا، يقولون إنهم أهل العلم وإنهم خرجوا من أحشاء الشعب ولذلك يرومون خدمته، فأخبروهم أنكم في غنى عن خدمتهم إذا كانت على هذا المثال، وخير لنا عداوتهم، إنهم اقتدوا برؤساء الدين ومالوا لأصحاب الأموال ترويجا لمصالحهم وإشباعا لبطونهم، فقولوا لهم إن خيانتهم مزدوجة، أولا لأنهم يفتخرون بكونهم خرجوا من الشعب، وثانيا لأنهم تهذبوا ولم يمنعهم تهذيبهم من الخيانة، فما أحط ابن الشعب الذي حين ارتقائه لا يصرف همه إلا لخيانة أبيه الشعب الفقير المسكين، وأنتم تفضلون ولا شك أرباب الأعمال المتغطرسين عليكم والمقاومين لكم على هؤلاء الأخوة الكاذبين الخائنين.
أيها الأخوة، نحن في غنى عن الجميع، واعتمادنا على أنفسنا، فلنجتمع اليوم على أبواب المصانع والمزارع والمتاجر لنناقش أصحابها الحساب ونريهم قوتنا ونبلغهم نهائيا أننا نطلب الموت أو مشاركتهم في أرباح أعمالهم.
فلما نزل حليم من الفندق وقرأ هذا الإعلان في الشارع أحس بقشعريرة تدب في جسده، وقال لرفيقه صادق: إن الموقف حرج والمصير سيئ، ثم ذهب يجول في أسواق المدينة وشوارعها فوجد الاضطراب سائدا فيها، فإن أصحاب المعامل والمزارع والمتاجر بعثوا حين وقوفهم على ذلك الإعلان يطلبون من الحكومة جندا لحراسة مخازنهم ومعاملهم، فجاء الجند وطوقوها تطويقا، وكان العمال والمستخدمون يتوافدون عليها مئات مئات من كل صوب وهم يصيحون: «الاشتراك أو الموت»، فلما قربوا منها وشاهدوا الجند حولها ازدادوا حدة وهياجا وصاروا يصيحون: «أيها الجنود نحن وأنتم إخوان لأننا جميعا من أبناء الشعب، فلا تسيئوا إلينا»، وكانت الجنود تسمعهم وتحول نظرها عنهم اتباعا لنظامها.
ولما حاول بعض العمال الدخول إلى المعامل والمخازن حال الجنود بينهم وبين الدخول، فحدثت فتنة بين الفريقين، واتفق في هذا الحين أن أطلق واحد من العمال طلقا من مسدس كان معه فأصاب كتف أحد الجنود، فعم الاضطراب في تلك الناحية، وصدر الأمر إلى الجنود بأن تجرد السلاح وتهجم لتفرق العمال من غير سفك دم، فهجمت الجنود طاعة لرؤسائها هجمة واحدة، غير أن صفا واحدا منها كان مؤلفا من 50 جنديا ألقى سلاحه وانضم إلى العملة، فصرخ العملة حينئذ صراخ الابتهاج والفرح، أما رؤساء الجند فعلا وجوههم الاصفرار من هذا التمرد، وخافوا أن يحذو باقي الجند حذو هؤلاء المتمردين فيصير الأمر للعمال، ويقضى على السلطة القديمة.
لكن النظام العسكري كان متأصلا في نفوس أولئك الجنود بتربية عدة سنين، ولذلك كان أكثرهم يسيرون كالعميان إلى حيث يقودهم رؤساؤهم، ولو كان ذلك ضد مصلحتهم، فتمكن الجند في ذلك النهار من تفريق العمال وإعادة النظام، ومع ذلك لم يرض الشيخ الرئيس حاكم المدن الثلاث أن يعقد جلسة في تلك الليلة في الحديقة لأن الأفكار كانت شديدة الحماسة.
الفصل العاشر
تحالف الأرض والسماء
على تاركي مبدأ الرفق والإخاء
ولما أقبل المساء ساد على المدينة سكون تام، فتنفس الحكام وأصحاب الأعمال الصعداء واطمأنت نفوسهم قليلا، وعاد لمدينة المال شيء من منظرها الاعتيادي بعد ذلك الاضطراب، فكان الناس في القهاوي والساحات العمومية جالسين يستنشقون نسيم المساء وهم يتباحثون بهدوء في حوادث النهار.
ثم انتصف الليل فأطفأت الأنوار في المدينة ونام جميع السكان، وساد سكوت تام حتى لم يسمع فيها سوى خرير النهر الجاري يسقي المدن الثلاث وصوت الخفاش في طيرانه في الظلام ووقع أقدام الجنود والحراس الذين كانوا يحرسون المدينة في الليل، وكان هؤلاء الحراس يسمعون حينا بعد حين في ظلمة الليل صوت طائر بعيد فيقول بعضهم لرفاقه: إن عظامي تنتفض كلما سمعت هذا الصوت في الليل في أحوال كهذه الأحوال.
ذلك أن ذلك الصوت كان صوت البوم المشهور بأنه نذير الخراب.
وبقيت المدينة نائمة بهدوء واطمئنان تحت جنح الدجى حتى الساعة الثالثة قبل الفجر، ففي هذه الساعة انتشرت في أنحاء المدينة أنوار مختلفة في جوانبها الأربعة، ثم علا الصياح والصراخ، ثم ارتفع الدخان فسد منافس الفضاء، وحينئذ حدث حادث ترتعد له الفرائص وترتجف القلوب، فإن المدينة كلها هبت من الرقاد هبة مجنون، وصار الرجال يصرخون والنساء يولولن والأولاد يبكون وينتحبون، ذلك أن لسان النار لعبت في أكثر منازل المدينة خصوصا في معاملها ومتاجرها ومنازل أصحاب الأعمال فيها، وهجم عليها جماعات كأنهم أبالسة خرجوا من الجحيم فصاروا ينهبون ويسلبون، وكان حليم ورفيقه نائمين في فندق من أشهر فنادق المدينة، فلما انتبها وشاهدا النار تأكله أخذا الستائر والسجادات فعملا منها سلما وتدليا عليها إلى الأرض، ولما باتا في الشوارع أبصرا فيها ما تتفطر له القلوب، أبصرا الإنسان بحالته الحيوانية الحقيقية، فإن جماعات السلابين النهابين كانوا يهاجمون كوحوش ضارية ويكسرون المخازن والحوانيت ويحملون ما فيها، وكانوا يصعدون إلى القصور الكبيرة والنار تضطرم فيها وبدل أن ينقذوا النساء والأولاد الذين كانوا يختنقون فيها من الدخان أو يحترقون بلهيب النار كانوا يقتلون وينهبون كل ما وصلت إليه أيديهم، أما الجند والمطافئ فماذا تقدر أن تصنع في ثورة عمومية كهذه الثورة، فإنه لم يكن في المدينة سوى 10 مطافئ ومع ذلك فقد كانت النار مضطرمة في 500 منزل، وعن قريب ستصل إلى باقي المنازل فتأكلها كلها.
وقد ظن حليم لأول وهلة أن هذا المصاب قد حل بمدينة المال وحدها ولكنه لم يلبث أن سمع الصراخ من جهتي مدينة العلم والدين ورأى اللهيب يرتفع من جوانبهما، فقال لرفيقه: هذه مؤامرة دبرها الغلاة المتطرفون ولا شك أنها نتيجة الإعلان الذي نشر أمس، فسأله رفيقه وما رأيك فيها، فأجاب حليم لو كنت أملك الآن مسدسا ومائة خرطوشة لكنت أظهر لك رأيي فيها، فإنني كنت أذهب وأحرق أدمغة كل من أراه في طريقي من هؤلاء الأبالسة الذين يقتلون وينهبون، ولا شك عندي أن عقلاء العمال والاشتراكيين أنفسهم يأنفون من إنزال مبادئهم إلى هذه الحمأة من اللصوصية والسفالة، فقال له رفيقه: ولكن ألا تظن أن هذا التطرف نتيجة لازمة عن تطرف الفريق الثاني.
فهم حليم أن يجيبه بأنه لا يريد أن يعرف عذرا للسلب والقتل والنهب مهما كان سببه، وإذ ارتفع في المدينة صراخ اليأس والاضطراب تمازجهما طلقات البارود، فأصغى حليم وسأل ما هذا؟ ثم علم أن الجنود قد أخذوا كل ما في ثكناتهم من الرصاص وهجموا بقيادة رؤسائهم على جماعات الثائرين يفتكون بهم فتكا ذريعا، فدارت بين الفريقين رحى حرب حقيقية سالت بها الدماء، وكانت لتلك الدماء على أشعة النيران المتقدة حولها بين حشرجة القتلى وولولة النساء وصراخ الرجال منظر مريع.
وكان حليم يسرح نظره من بعيد في المشاهد الفظيعة التي كان يراها أمامه وهو مشتغل البال بها لا يقدر على رد شيء منها، ومضطرب الفكر لما عسى أن يكون قد جرى للفتاة العزيزة التي شاهدها في البستان عند «قرية الدخول» وكان يفكر بها، لكنه بعد برهة سمع هديرا عظيما قريبا فعلم أنه صوت انهدام القصور المحترقة، ثم سمع أصوات القتل والبنادق أقرب منه مما كانت، فرأى أن يخرج من المدينة فرارا من البلاء ما دام لا يقدر أن يرده، فأخذ رفيقه وخرج معه من المدينة بنفس متألمة أشد ألم، وقصدا أكمة قريبة مشرفة على المدن الثلاث وكانت مغروسة أشجارا يتفيأ السكان ظلها في حر الهجير، فشاهدا منها مشهدا جميلا مريعا، فإن ألسنة النار كانت تندلع في المدن الثلاث فتنير الأفق بنور تخالطه سحب من الدخان القاتم تحت سماء مستترة بالغيوم السوداء، كأن السماء خجلت من أن تشاهد فظائع البشر في الأرض في تلك الساعة، وكانت أصوات القتال ترد من المدن الثلاث في صفاء ذلك الليل فتزيد ذلك المنظر رهبة وفظاعة.
ولكن يظهر أن السماء كرهت أن تبقى واقفة لدى هذه الفظائع الأرضية وقفة المتفرج المشاهد زمنا طويلا، نعم إن صبرها طويل ولكن لكل شيء حدا، ولذلك تناول جوبيتير أقوى صواعقه وأرسلها في الفضاء، فلعلع الرعد فوق تلك المدن الثلاث كإنذار وتهديد للأرض من السماء أن تسكن وتهدأ وإلا أخربتها، ولكن أهل الأرض لم يسمعوا هذا الإنذار لأن أصوات البارود وصراخ القاتلين والمقتولين كانت تصم آذانهم، فحدث حينئذ ما زاد تلك المناظر رهبة وفظاعة، فإن زوبعة هائلة هبت على السهل الذي كانت فيه المدن الثلاث وصارت تكنس كل ما في طريقها، وزأرت الريح وقصفت الرعود ومدت التنانين خراطيمها من السحاب وهطل المطر كأفواه القرب، وكأن الأرض خشيت من السماء قبل البشر ولذلك اهتزت تحت المدن الثلاث بزلزلة شديدة، وهكذا تحالف على المدن الثلاث التعيسة النار والقتل والصواعق والزوابع والزلازل، كأن السماء تخلت عنها وقضت عليها قضاء نهائيا.
وكان حليم في ذلك الحين جالسا مع رفيقه تحت شجرة والمطر قد بلل ثيابهما، ومع ذلك فقد كانا ينظران باهتمام إلى تلك المدن وينتظران طلوع الفجر، فلما طلع الفجر وصار في إمكانهما أن يلمحا المدن لم يشاهدا فيها - وا أسفاه - سوى خرائب وأكوام سوداء ينبعث الدخان عنها.
فصاح حليم حينئذ: وا حرباه، أهكذا خربت سدوم وعمورة وبابل ونينوي في القرون الماضية؟
ولما لفظ حليم هذه العبارة وقع نظره على فرسان قادمين من جهة مدينة المال، فلبث يحدق في جهتهم حتى انكشفوا له وكان الفجر قد زاد إشراقا، فدبت حينئذ في نفس حليم قشعريرة شديدة، ذلك أن هؤلاء الفرسان كانوا خمس فتيات، وهن هن اللواتي شاهدهن في البستان قرب قرية الدخول، وكانت حسناؤه صاحبة الحلة البيضاء راكبة في وسطهن كما كانت هناك، فصاح حليم برفيقه: ماذا نصنع الآن، أترى هؤلاء الفتيات بقية من بقي من سكان المدن الثلاث فجئن يلجأن إلى هذه الأكمة فرارا من الزلازل والنار، عزيزي صادق ماذا نصنع، ألا تظن أنهن يجفلن ويخفن منا إذا شاهدننا هنا.
وبعد برهة دنت الفتيات على أفراسهن، وكان في يد كل واحدة منهن منديل تمسح به دموعها من حين إلى حين، وهن بلباس النوم، وكانت وجوههن صفراء كوجوه الموتى، فلما وقع نظر حليم على هذه الوجوه وتلك الدموع لم يتمالك أن بكى ملء عينيه، وقال في نفسه، إن الأبالسة والشياطين حين إتيانهم الشر في الأرض لا يفتكرون أن شرهم لا يقع أشد أذاه إلا على اللواتي هن أقل تحملا له.
ولما صعدت الفتيات إلى الأكمة وشاهدن فيها بشرا أغرقن في البكاء، وصرن لا يرفعن مناديلهن عن عيونهن إلا للنظر إلى المدن وما صارت إليه، فأين بكاء أرميا على أنقاض «ابنة صهيون» من بكاء هؤلاء العذارى على وطنهن المحبوب، لقد فقدن - بفقده - كل شيء، لقد خرجن منه كما يخرج السيف من غمده، فالأهل والمال والمنزل والصداقة ورغد العيش والوطن والعائلة والآمال، كل هذه ذهبت في ليلة واحدة ولم يبق في مكانها غير أكوام الفحم والحجارة وأشلاء القتلى ورائحة الدماء والدخان، فيا أيتها السماء لماذا كنت قاسية إلى هذا الحد، يا أيها الخالق الحكيم ليتك كنت أكثر رحمة وأشد رأفة؛ لأنه إذا استأهل كل أولئك العتاة القساة عقابك فهؤلاء الضعيفات الطاهرات الرقيقات - وألوف غيرهن - لا يستأهلنه.
وكان حليم في تلك الأثناء منزويا مع رفيقه وقلبه يتقطع حزنا وأسفا، وبعد برهة تقدم وهو يبكي لبكاء الفتيات التعيسات وقال مخاطبا حسناءه وكان يظهر أنها أكبرهن سنا وأرشدهن رأيا: هل تسمح سيدتي في حين كهذا الحين أن أعرض عليها وعلى رفيقاتها خدمتي؟ وكان حليم قد خاطب حسناءه بقلب خلا في تلك الساعة من الحب لأن عاطفة الحب قد غرقت حينئذ في عاطفة الحزن والشفقة والرأفة، وهذا شأن القلوب الكريمة؛ ذلك لأن عاطفة الحب أكثرها مصوغ من عاطفة محبة الذات، وأما عاطفة الحزن والشفقة والرأفة فأكثرها مصوغ من محبة الغير، والقلب الكريم في ساعة كهذه يفتكر بغيره لا بذاته.
فاشتد بكاء الفتيات عند سؤال حليم، وأجابته فتاته: عفوا يا سيدي، ماذا تقدر أن تعمل؟ إن أبانا حاكم المدينة كان أول القتلى، ومنزلنا كان أول المنازل المحروقة، ولولا مساعدة الجند الذين كانوا نياما في دارنا لما نجا منا أحد، بل كان حل بنا ما حل بباقي السكان الذين مات نصفهم بالسيف والنار والرصاص ونصفهم بالزوابع والزلازل، فكل ما نطلبه منك هو أن تصلي إلى الله معنا أن يرحمنا ويعزينا.
ورغبة من حليم في أن يروح هموم الفتاة قليلا ويشغل فكرها عنها ولو دقيقة سألها: ولكن ما الذي دعا إلى هذه الفاجعة الهائلة يا سيدتي بعد ما رأيناه من سكينة الأحزاب؟
فأجابت الفتاة والدموع ملء عينيها: إنني أنقل لك يا سيدي السبب الذي ذكره لي أبي أمس قبل دخولي إلى غرفة النوم، فإنه أخذ يدي بين يديه وقال لي: أتعرفين سبب كل هذه القبائح يا بنية، سببها الشراهة والأثرة والطمع، ولست أبرئ منها حزبا دون حزب، لأن التبعة واقعة على الجميع، ولا أستغرب أن تخسف بنا الأرض أو تنقض علينا صواعق السماء ما دمنا بعيدين إلى هذا الحد عن مبدأ الرفق والإخاء.
الخاتمة
ومما لا يحتاج إلى بيان أن حليما استطاع بعد ذلك تعزية فتاته بعض التعزية، وبما أنها كانت مع شقيقاتها وارثات المدن الثلاث وما يتبعها من السهول، فإنها تولت إعادة بناء هذه المدن لتقيم فيها هيئة مبنية على «الرفق والإخاء» تكفيرا عن سيئات المعيشة القديمة ، وقد اختارت حليما زوجا لها وصادقا زوجا لإحدى شقيقاتها ثم زوجت شقيقاتها الثلاث الأخريات ثلاثة شبان من أصدقاء حليم وعاشوا جميعا في تلك الأماكن مع نسلهم وعمالهم ونسل عمالهم معيشة يحسدهم عليها أهل العصر الذهبي، ولا نعلم هل نتمكن يوما من الأيام من وصف هذه المعيشة الفردوسية التي لم تر الأرض مثلها قبلها كما وصفنا معيشة المدن الثلاث القديمة؟
أما الآن فنكتفي بأن نقول بأن حبيبة حليم لم تنس أن تقيم ثلاثة آثار في ثلاثة أماكن على سبيل التذكار: المكان الأول البستان الذي شاهدت فيه حليما أول مرة عند قرية الدخول، والمكان الثاني الأكمة التي وجدته عليها يوم خراب المدن الثلاث، والمكان الثالث الدار التي قتل بها أبوها الشيخ الرئيس.
Неизвестная страница