وانصرفت وقلبي يرتجف خشية ألا أراه بعد ذلك، ولكنه عاد وقضى العام في القاهرة. وفي يوم طلبني سكرتيره، وأخبرني أن الباشا يريدني، فذهبت فإذا هو يريدني ليهدي إلي كتابه الأخير الجزء الثالث من الأيام. وليأذن لي القارئ أن أذكر صيغة الإهداء، فهي وسام آخر أضعه في القلب مني مع وسامه الأول: إلى الأستاذ فلان أوفى الأصدقاء، وأبرع القصاص.
وفي صيف عام 73 سافر الدكتور طه إلى فرنسا.
وفي أكتوبر كانت حربنا المنتصرة، وكنت في البيت، ولا أدري لماذا قفز إلى ذهني أن أسأل عن موعد مجيء الدكتور طه، وطلبت الرقم وأجاب السكرتير ، فإذا هو يقول في دهشة بالغة: «غير معقول! لا يمكن.»
قلت له: «ماذا؟» - «الدكتور في هذه اللحظة كان يقول له أن اطلب لي ثروت لأعزيه في وفاة عزيز باشا.»
تفضل الدكتور سيكلمك، وتكلم الباشا وحياني وعزاني، وسألته: «متى شرفت معاليك؟»
فإذا هو يقول: «الآن.»
وتعجبت أن أطلبه ساعة وصوله، وسألته عن صحته فقال: «أنا متعب جدا، متعب جدا. وأريد أن أراك، سأطلبك بعد يوم أو يومين لأراك.»
مات الدكتور طه، ولم يقدر لي أن أراه. فقد مات بعد يومين، وسارعت إلى منزله، ولقيني سكرتيره والدموع في عينيه وهو يقول لي: «لقد قرأ الدكتور روايتك الأخيرة «جذور في الهواء» أربع مرات، وكنت كلما قلت له إننا قرأناها، يقول: «نعم أعرف، ولكن أريد أن أقرأها مرة أخرى».»
وغامت عيناي بالدموع.
ودخلت السيدة زوجته حجرة مكتبه، حيث كنت جالسا مع بعض المعزين، وإذا بالسيدة الجليلة تحتضنني في حنان أم، وتربت كتفي وتبكي على كتفي، وهي تقول بالفرنسية: «كان يحبك جدا مسيو أباظة كان يحبك جدا.»
Неизвестная страница