قال: «كيف لا يهم، أتريد أن تكون أديبا وتلحن؟ إن القواعد مسألة بدائية يجب أن يتقنها كل متعلم، فكيف لا يتقنها الأديب الكاتب، لن يحترمك قارئ أو مستمع لك إذا أخطأت في النحو.»
وأيد توفيق الذي أصبح توفيق أفندي كلام الحاج أحمد، وأخذت الكلمتين في ضلوعي ولم أعلق وأكملنا السهرة، ومضينا في سهراتنا حتى انتهت الإجازة.
وحين بدأت الدراسة في السنة الثالثة الثانوية أرغمت نفسي أن أقرأ وحدي بصوت مرتفع كل ما أقرأ سواء كان مذاكرة أو كتبا في الأدب، أو حتى في الجغرافيا أو التاريخ أو الطبيعة، وحرصت أن أصحح لنفسي ما أقرأ، وأعرب كل كلمة قبل نطقها، وأنطقها بحركة إعرابها، وبعد شهور قليلة استقام لساني.
وكتمت الأمر عن الحاج أحمد وعن توفيق لم أقل لأحد منهما شيئا مما أفعله بنفسي، حتى إذا جاءت الإجازة الصيفية وبدأنا القراءة فوجئ كلاهما بشخص آخر مني لا يلحن مطلقا، أو يكاد لا يلحن، ودهش كلاهما وفرحا وأصبحا يستمعان إلى قراءتي للشعر في استمتاع بعد أن كان المسكينان يعانيان ما يعانيان من كثرة اللحن مني، ويتجاوزان عنه لمكانتي عندهما أو لمكانة أبي، لا أدري.
وكما يتضح الإصرار عندي في موضوع النحو يتضح في أمر آخر لي لست أنساه ما حييت. كنت طفلا في الخامسة أو السادسة لا أذكر، وكنت ألثغ في الراء فلا أنطقها إلا مثل الياء أو قريبا من الياء، وكنت ألعب الكرة في فناء منزلنا بشارع الملك الناصر بالمنيرة حين أقبل عمي الكاتب الصحفي الأشهر فكري أباظة الذي أصبح فكري أباظة باشا فيما بعد، وسارعت إليه أستقبله.
قال: «أين أبوك؟»
قلت: «هو نائم فوق .»
قال: «طيب تعال، ما حكاية الراء هذه التي لا تريد أن تنطقها؟»
وفكري أباظة ابن عم أبي، ولكن الأمر بينهما كان أكبر من هذا بكثير؛ فقد كان يحب أبي حبا عميقا، ولا أنسى يوم وفاة أبي، وقد ارتمى عمي فكري على أريكة بيتنا وراح ينشج بالبكاء. وكان يصرح دائما أنه أخذ أسلوبه الساخر من مقالات أبي التي كان يوقعها في جريدة السياسة بتوقيع الغزالي أباظة. وأنا لم أر في حياتي شخصا في نقاء عمي فكري، وهل هناك أشد نقاء من رجل في مثل مكانته وقمته الصحفية ينشر في المصور أنه كان يصعد في مصعد دار الهلال وجمع المصعد بينه وبين أحد محرري الدار وشابة جميلة، وقال المحرر للفتاة هذا أستاذنا فكري باشا أباظة، فقالت له الفتاة: «هل أنت قريب لثروت أباظة؟»
رحم الله الرجل، إنني أعتقد أنه ألف هذا الحوار ليقدم لي تحية على حساب نفسه، وقد كان عمره كله يقدم الآخرين على نفسه في كل شيء.
Неизвестная страница