وكلهم، كلهم يرنو إليها في إكبار ذاهل، أما مسعود، مسعود، فإنه يتطلع إليها أملا بعيد المنال، ولكن الأمر يقف به عند هذا التطلع لا يزيد، منذ هما طفلان ونظرته لا تتغير، وها هو هذا يسعى في حياته سعيا حثيثا موفقا وينال شهادته، ثم يلقي إلى الحياة آماله فتستجيب له الحياة استجابتها الباسمة، ويصبح مسعود ذا شأن، ولكنه مع ذلك يخشى أن يتقدم لخطبة ابنة عمه؛ فجمالها أعظم من أن يرضى به زوجا، ولا يحس مسعود بهذا الموقف الضنك الذي هيأه جمالها لها. والأب يرى زيارات ابن أخيه ويرى نظراته الوالهة المحبة، ثم يرى إحجامه وصمته، ويمسك به كبر الأب أن يشجعه، والأم ترى ما يراه الأب ويمسك بها خوفها من زوجها أن تصطنع ما تصطنعه الأمهات من تشجيع الخطيب أن يخطب بناتهن، ولكن الأيام تمر والابنة تكبر، والسنون إذا مرت بالبنات الناهدات فهي قلق وذعر، والأوقات كالحة والتفكير هلع، حتى المرآة لم تعد تستطيع أن تمنح هبة ما كانت تمنحه لها من فرح وطمأنينة، بل إن خوفها يزداد كلما شاهدت جمالها. وهي ترى مسعودا وقد كانت تراه منذ هما طفلان ولم يكن يزيد عندها عن فتى مثل كل الفتيان الذين يقفون حول سياج جمالها وقفة العباد أمام الوثن. ولو لم تمر بها السنون القلقة لكان مسعود هذا أبعد ما يكون عن تفكيرها وآمالها؛ فقد كان لها من أصدقاء إخوتها ومن أقاربها من لا يقارن بمسعود في لباقته وذكائه أو قوة شخصيته. أما مسعود، فما هو إلا تلميذ يحسن أن يذاكر دروسه، ويحسن أن ينجح في الامتحان، ثم هو لا يحسن بعد هذا من الحياة شيئا. وحين أفلح مسعود في الحياة لم يكن الأمر عندها يعدو أن فتى من أقاربها أطاع رئيسه فأحسن رئيسه إليه بأن رقاه، وأصبح الأقارب يتحادثون عن ذكائه وعن تقدمه ولم تستطع يوما أن تتصور أن مسعودا يستطيع أن يؤدي عملا يتسم ببعض ذكاء أو ببعض لماحية أو بعض فهم، إنما هو مرءوس يحسن إطاعة الرؤساء، أو رئيس يحسن تنفيذ ما رسمه له رؤساء آخرون، وهكذا لم تستطع أن تجاري أقاربها في إعجابهم بمسعود، ولكنها مع ذلك لا تمنع نفسها أن تفرح بهذه النظرة الذاهلة الدالة على الإعجاب الشديد، والإكبار المأخوذ الذاهل التي تعلقت بأهداب مسعود منذ هما طفلان حتى سعت بهما الأيام هذا السعي الحثيث؛ فجعلت منها فتاة تكاد تصبح عانسا، وجعلت منه فتى ناجحا يلهج بنجاحه الأقارب والأصدقاء.
وتمر الأيام ويوشك الأب أن يتنازل عن كبريائه، وتجد الأم أن خوفها على مستقبل ابنتها أعظم من خوفها غضب زوجها، فما إن يأتي مسعود لزيارتها حتى تعمل على أن تختلي به وتلقي الحديث وكأنها لا تقصد ما يرمي إليه: ماذا جرى يا مسعود يا ابني؟ - ماذا يا أبلتي؟ - ألا تلاحظ أنك كبرت؟ - نعم، أعرف. - وماذا تنتظر.
وفهم مسعود ما تقصد إليه أو كاد، ولكنه قال في تظاهر شديد بالغباء ماذا أنتظر في ماذا؟ وأطلقت الست أم هبة تنهيدة عاجبة طويلة ثم قالت بعد أن مصت شفتيها: ألا تعرف؟
وكأنما ألصقت هذه الحركات ابتسامة على شفتي مسعود؛ فهو يبتسم في تخابث ساذج وتقول: يا بني الشيء لا يخجل من أوانه، لا بد أن تتزوج يا مسعود. وظل مسعود رانيا إلى أبلته في دهشة وقد اضطرمت في نفسه آمال عريضة كانت تراود نفسه في يأس باهت متخاذل، ويكاد الآن يراها حقيقة يخشى أن يصدقها، ثم تعود إلى خذلانه فيصبح يومه شرا من أمسه وغده أشد قتاما من ماضيه؛ فإن الآمال مهما تكن واهنة بعيدة التحقيق أحلى مذاقا من مرارة اليأس، ويوشك أن يقول فيخذله لسانه أن يقول وتعينه زوجة عمه: ألف يتمنى كلمة منك يا مسعود، وافق أنت ولا شأن لك.
ويقول مسعود ذاهلا: ألف يتمنى أن يزوجني؟! - أنت لا تعرف حقيقة مكانتك يا مسعود. - إذن فأنا أتمنى ...
وعاده الخوف فأرتج عليه وعادت زوجة عمه إلى إسعافه. - قل، قل ماذا تتمنى ولا شأن لك، اترك الباقي لي أنا، واستجمع وقال في سرعة من يخشى ألا يكمل جملته: أتمنى أن أتزوج ...
وأشرقت الابتسامة في وجه أم هبة وهي تطلق: هه.
وقال مسعود: هبة.
وسارعت الأم تقول: فهي لك.
وألجمت مسعود الفرحة فصمت حينا ثم قال: لا.
Неизвестная страница