في عام 1951م وعندما كنت أبدأ بالقراءة للمودودي وجدته يتكلم بالطريقة التي أريدها وأنا ما زلت خاوي الوفاض، ورأيت علال الفاسي، وسمعت محاضراته باللهجة المغربية.
وبدأت أقرأ سيد قطب نفسه في «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، و«التصوير الفني في القرآن»، و«مشاهد القيامة في القرآن»، و«الصراع بين الرأسمالية والإسلام»، و«خصائص التصور الإسلامي ومقدماته»، و«المستقبل لهذا الدين». ولم يكن «معالم في الطريق» قد ظهر بعد. تأثرت بمواقفه الاشتراكية والأدبية، وبحثت عن باقي كتبه، فقرأت «النقد الأدبي، أصوله ومناهجه». ووجدت رسالة صغيرة له كتبت في الثلاثينيات بتقديم مهدي علام عميد آداب الإسكندرية، بعنوان «الإسلام حركة إبداعية في الخير والحياة» أثرت في هذه الرسالة كثيرا ومنها الفكر والإبداع الفني وأنا كنت أتجه نحو الفلسفة والموسيقى، وشعرت أن سيد قطب هو الأديب والمفكر الاشتراكي، وأن مكانه ليس في هذه الجماعة، بحثوا عن أمير جديد للجماعة فلم يجدوا أحدا حتى عثروا على سيد قطب أخيرا عام 1951م. وكانت كتاباته الإسلامية والأدبية معروفة، فقبل أعضاء الجماعة على مضض، وعندما قامت الثورة المصرية في 1952م كانوا يبحثون أيضا عن أمين للدعوة والفكر في هيئة التحرير، واقترح جمال عبد الناصر اسم سيد قطب لكتابه عن الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، فرفض لأنه كان قد قبل منصب أمير الدعوة والفكر بالجماعة.
وفي صيف 1952م قامت الثورة المصرية، وفي نفس الوقت أو قبلها بقليل انضممت إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكنت أزورهم في شعبة باب الشعرية، وكنت أذهب إلى ميدان الحلمية حيث المركز الرئيسي للجماعة، وأسمع المحاضرات، وأشتري الكتيبات، وهناك قابلت سيد قطب لأول مرة، وأخبرته أنني أريد القيام بتأليف منهاج إسلامي عام يحقق للمسلمين نهضتهم، فسألني: «هل قرأت المودودي؟» قلت: «لا.» قال: «اقرأ المودودي أولا.» وكانت كتيباته مترجمة في سوريا، ومعروضة للبيع بجوار المركز العام للإخوان المسلمين فاشتريتها وقرأتها بحماس.
وبعد أن قامت ثورة 23 يوليو 1952م وفرحنا بها، وبقانون الإصلاح الزراعي، أردنا زيارة الريف وأن نرى بأنفسنا فرح الفلاح بهذا القانون. قررت أنا وثلاثة من الأصدقاء أن نذهب في زيارة من القاهرة إلى الإسكندرية نمر بالريف سيرا على الأقدام ، والحديث مع الفلاحين، والاطلاع على دور هيئة التحرير والذي كان أول تنظيم سياسي بعد قيام الثورة.
قضينا أول ليلة وصلنا فيها إلى بنها، والثانية في طنطا، والثالثة في كفر الزيات، والرابعة كنا قد وصلنا الإسكندرية، كنا نضع حقيبة ملابسنا فوق ظهورنا كما يفعل الرحالة، وفي كل مدينة كنا نصل إليها كنا نجد مبنى هيئة التحرير مغلقا، ولم يكن هناك ما يدل عليه سواء يافطة معلقة فوق أحد البنايات أو على بابها، ووجدنا نفس الشيء في طنطا، مجرد يافطات معلقة بطابق أول من مبنى مغلق النوافذ، ولا أحد هناك، فزاد استعجابنا، ولما وصلنا إلى كفر الزيات كنا قد تعبنا، وسألنا عن هيئة التحرير فأرشدونا إلى صاحب مصنع زيت، فأخبرناه أننا من قادة هيئة التحرير ونريد زيارة مقر الهيئات لنطمئن على أنشطتها، فأسرع صاحب المصنع بالترحيب بنا، وطلب إحضار غداء لنا، وكانت أطباق مشويات من الكفتة والكباب حتى نكتب عنه تقريرا جيدا لمركز الهيئة بالقاهرة وبأن فرع مكتب الهيئة بكفر الزيات نشط وأن الأعضاء يذهبون ويأتون ويترددون عليه، وأنهم متأثرون بعمل الهيئة، وموالون للثورة. وأدركنا مدى الكذب والنفاق الذي تعيشه الهيئة ورؤساء فروعها، ووصلنا الإسكندرية. ووجدنا أن رئيس الفرع هو شوقي عبد الناصر شقيق الرئيس، وغضب منا؛ لأننا لم نخبره من قبل بزيارتنا حتى يستعد لها.
وقضينا الليلة في شرفة البورصة والتي علقت عليها لافتة بعنوان: «هيئة التحرير»، والتي تمت فيها فيما بعد محاولة لاغتيال عبد الناصر في عام 1954م. وعدنا بالقطار إلى القاهرة وقد عرفنا أن شيئا لم يحدث ولم يتغير، ولا وجود ولا عمل لهيئة التحرير، ولا تأثير للثورة وقوانينها على الريف المصري.
وفي حرم الجامعة كانت المظاهرات لجماعة الإخوان هي الأقوى تنادي برئاسة محمد نجيب للجمهورية، وكان محمد نجيب قد أتى، وألقى خطبة بالقاعة الكبرى بجامعة القاهرة، وبجواره ضابط واضعا ذراعه فوق الأخرى. كان صامتا لا يتكلم، خالعا القبعة العسكرية، وبعد أن تكلم نجيب عن الديمقراطية والثورة وأنه لا تعارض بينهما؛ فالديمقراطية بلا ثورة تشتت في وقت تحتاج الأمة فيه إلى حسم، والثورة بلا ديمقراطية طغيان واستبداد.
وكان قد أعلن أن الثورة المصرية ما هي إلا البداية لتكوين ثورات بالأمة الإسلامية جميعها، والتي يجب أن تتوحد في جامعة إسلامية واحدة. فضجت القاعة بتصفيق حاد، والضابط بجواره صامت ولا يتكلم.
وكانت الجماعة تسيطر على الحرم الجامعي، ولأول مرة أسمع قادتها يخطبون، مثل حسن دوح، وكنا نجلس في حلقات طلابية في وسط حرم الجامعة للاستذكار، ويمر علينا قادة الجماعة، ويلقون السلام.
وفي يوم ما جاء نواب صفوي من إيران بعد ثورة «مصدق». ودخل بعربته إلى حرم الجامعة، فتابعه الحرس الجامعي، وقلب عربته، فاشتعلت بالنيران، فقد بدأت الجماعة تأخذ موقف المعارضة من الثورة، وقد دخل نواب صفوي إلى حرم الجامعة دعما للجماعة.
Неизвестная страница