والمرأة اليابانية صغيرة الحجم، قصيرة - على عكس المرأة الغربية - تميل إلى الصمت، لا تحب الكلام والثرثرة، لا تعرف اللغات الأجنبية بدقة، وقد يكون لها سكن خاص، حتى لو كانت متزوجة، طيبة القلب منهن هي التي تستمر في علاقتها بالأجنبي لمدة طويلة؛ فيصبح جزءا من حياتها، تضحي من أجله بكل شيء، ولو أصابها منه مكروه تعاملت معه وحلته بمفردها. وهي كريمة، وفية، مخلصة، تدمع عيناها حين الفراق. تظل تراسله ربما حن إليها وعاد، وتستمر في المراسلة لعدة سنوات حتى تقل الرسائل، فتتحول الصداقة إلى ذكريات.
الفصل الرابع
القضاء والمحاكمات
كانت أول محاكمة في الجامعة وأنا في السنة الرابعة، كنت أدرس اللغة الألمانية كلغة إضافية؛ لأنني كنت في قسم الامتياز. كنت أحضر دروس اللغة الألمانية في قسم التاريخ؛ لأنه لا يوجد قسم للغة الألمانية في الدراسات العليا في قسم الفلسفة.
وفى آخر العام وجدت ورقة الامتحان في اللغة الألمانية مع قسم الآثار فاعترضت. وقلت: «إنني أدرس اللغة الألمانية في قسم التاريخ!» وكانت نصوص الامتحان المطلوب ترجمتها غريبة تماما بألفاظها عما درست في قسم التاريخ. فقال لي المراقب يوم الامتحان وكان ضابطا من الحرس: «اكتب طلبا للعميد تشرح ما حدث فيه.» فبدأت بكتابة الطلب بجملة «أخي الفاضل عميد كلية الآداب ...» فانزعج ضابط الحرس وصرخ: «هل العميد أخوك الفاضل؟ ولماذا لا تكتب السيد العميد؟» فقلت: «لا سيد إلا الله.» وقال الرسول: «وأنا شهيد على أن العباد إخوة.» وكان الضابط قبطيا فانزعج أكثر وأكثر وقال: «أنت قليل الأدب!» فقمت محتجا وكان بيدي الريشة التي أكتب بها. ويبدو أنها احتكت بذراعه العاري حيث كنا في الصيف، فجرحت سن الريشة ذراعه، ولكن الحبر كان أكثر؛ فأخذني الضابط إلى العميد. ولما رأى العميد ذلك حولني إلى التحقيق، فشهد الضابط علي بالتهمة، وشهد رئيس قسم الدراسات اليونانية واللاتينية بأنني على حق في طلب تغيير ورقة الامتحان، بدليل أنه ساعدني في ترجمة النص الغريب لصعوبته. وحولني عميد الكلية للمحاكمة. فكونت الجامعة لجنة المحاكمة طبقا للقانون من خمسة أساتذة من كلية الحقوق الذين يعرفون القانون، وحددوا لي موعدا للجلوس في مجلس الجامعة للمحاكمة. وسألوني: هل قلت للعميد «الأخ الفاضل»؟ قلت: «نعم». وكررت حديث الرسول: «وأنا شهيد على أن العباد إخوة». فقالوا: «هل العميد أخوك؟» قلت: «نعم هو أخي، ولا فرق بين العميد والكناس إلا في أداء الواجب، فإن لم يؤد العميد واجبه وأدى الكناس واجبه، فالكناس أفضل.» فنظر الأساتذة بعضهم إلى بعض، وقالوا: «هل ستعيش طوال حياتك تنادي الناس بالإخوة بصرف النظر عن درجاتهم؟» قلت: «نعم، سأظل أفعل ذلك طيلة حياتي.» وعرفت بعد ذلك أن الرسول قد قال: «لا تسيدوني» أي لا تقولوا سيدنا محمد، ومن ثم فأنا لم أخطئ في رفضي وصف العميد ب «السيد». فأصدروا قرارا ببراءتي من تهمة قلة الأدب. وكانت هذه أول محاكمة لي في الجامعة، وكانت صدق العدالة. وكان بالإمكان حرماني من الحصول على ليسانس الآداب سنة أو سنتين.
وكان وقوفي أمام المحكمة مرة ثانية في باريس عندما أخذ صاحب المنزل حاجياتي من غرفتي التي كنت أجرتها منه فوق السطح. فتح الباب عنوة وأخذ الحاجيات، وحجز لي ليلة في غرفة بفندق، وكان ذلك بسبب طرد أخيه الموظف بشركة قناة السويس من مصر بعد تأميم الشركة. ولما ذهبت إلى الجامعة في مركز الخدمات الطلابية لأخبرهم بذلك، نصحوني بأن أقاضيه في قصر العدالة بالحي؛ فذهبت إلى هناك، ودفعت رسوم القضية وكانت أربعة فرنكات؛ كل ما أملكه حينها. فاستدعته المحكمة، ووقفت أمام القاضي أشرح له ما حدث، أما صاحب المنزل فكان خجولا، ولم يقل شيئا؛ لأنه يعلم أن ما فعله ضد القانون. وأعطاني القاضي ورقة زرقاء بها الحكم لكي أقاضي صاحب المنزل بالمحكمة العليا، ويبدو أن هذا الحكم كان ابتدائيا يتبعه آخر نهائي، وكان الحكم أن أعود إلى غرفتي فوق السطح ما دمت أدفع الإيجار بانتظام. وأخذني صاحب المنزل جانبا وقال: «سنرفع الأمر إلى المحكمة النهائية، وتأخذ حقك، وتعود إلى غرفة السطح لا شك في ذلك.» والأمر يتطلب محاميين يدافعان أمام القضاء، ويتطلب رسوما أخرى للقضية. ففكرت من أين آتي بالمال اللازم، ومصاريف القضية، وأجر المحامي المرتفع؟ وكنت قد حصلت على غرفة أخرى عن طريق مركز الخدمات الطلابية بالجامعة. كما شعرت بأن صاحب المنزل ربما يكون قد ارتكب خطأ قانونيا في حقي، ولكنه معذور نفسيا لطرد أخيه من مصر بحقيبة ملابسه، ومعذور مصري يسكن في غرفة السطح التابعة لمنزله. فهو على حق من الناحية النفسية. أما أنا فكنت على حق من الناحية القانونية؛ لأنه داهم غرفتي في غيابي، وقدرت الحالة النفسية التي هو عليها، وتعاطفت معه إنسانيا وهو واقف مطأطئ الرأس معترفا بخطئه، هل أحمله خطأ فوق خطأ؟ الخطأ القانوني والخطأ النفسي؟ يكفيني نصرة الحكم الابتدائي لصالحي، واسترداد كرامتي. وكيف أشغل نفسي بالمرحلة الثانية من القضاء، حتى وإن كانت في صفي، وأنا ليس لي مال أدفعه للمحامي، وليس عندي وقت للانشغال بشيء خارج العلم، وهي الرسالة التي أتيت من أجلها؟ فسلمت على صاحب المنزل، وشرحت له أن تأميم القناة حق لمصر، وأن الملاحين الذين يرشدون البواخر خرجوا من تلقاء أنفسهم لتعطيل الملاحة، وإثبات أن مصر غير قادرة على إدارتها، وضرورة عودة هؤلاء الأجانب حينها، وأبلغته أن المرشدين المصريين واليونانيين قادرون على تنظيم الملاحة في القناة وإرشاد السفن ذهابا وإيابا، من بورسعيد إلى السويس، ومن السويس إلى بورسعيد، ورجوت له الخير والسلام.
والمحاكمة الثالثة كانت في محكمة باب الخلق عندما رفع وزير الأوقاف قضية بمصادرة كتابي الأول «التراث والتجديد»، ومجلة «اليسار الإسلامي». فاستدعاني القاضي في يوم معلوم. ودخلت المحكمة لأول مرة وهي أمام دار الكتب المصرية ومتحف الفن الإسلامي الذي كنت دائم التردد عليهما، والذي كان يجلس في المقهى المجاور لها شعراء مصر العظام مثل «حافظ إبراهيم». وقفت أمام القاضي وهو يسألني: «لماذا كتبت هذين الكتابين؟» فشرحت له أنني أريد إعادة بناء العلوم الإسلامية القديمة طبقا لظروف العصر الحديث ومطالبه. أما «مجلة اليسار الإسلامي» فتعبر عن نفس الهم ولكن على المستوى الشعبي؛ كيف يمكن تحقيق التقدم والحرية الفردية والجماعية، وتحرير الشعوب من نير الاستعمار والاستغلال، وتحقيق الوحدة الوطنية والقومية، وإنجاز مشاريع التنمية الاقتصادية، والاعتماد على الذات، وعلى قوة الجماهير؟ ثم سأل القاضي محامي الحكومة: «وأنت ماذا تريد؟» فلم يقل شيئا، فسأله القاضي مرة أخرى: «لماذا تريد مصادرة هذين الكتابين؟» قال: «إن الحكومة كلفتني بذلك.» فأصدر القاضي حكما ببراءتي، والإفراج عن الكتابين المصادرين؛ فشكرت القاضي، وخرجت وأنا مستريح الضمير. وأدركت أن كتابا صغيرا أو مجلة قادران على إقلاق الحكومة، والتي لديها كل أساليب ومقادير السلطة؛ من شرطة، وجيش، وأنا لا أملك شيئا. وقد طبعت المجلة على نفقتي الخاصة .
وما زالت حيثيات الحكم عندي سأنشرها يوما؛ ليعرف الناس أن القضاء في مصر عادل وليس تابعا للحكومة بالضرورة.
والمحاكمة الرابعة كانت باليمن بعد أن انتشرت أفكاري وفلسفتي هناك، وحاضرت بجامعته، وتأثر بي الطلاب، وانقسموا بين يسار مجدد ويمين محافظ، دعاني أحد مشايخهم إلى منزله للحوار والنقاش فذهبت، ووجدت حلقة متسعة وفي وسطها «مداعة» وهي الشيشة عندنا، بها خرطوم طويل يلف حول الجالسين، يتبادلون الأدوار في شد الأنفاس منها، وأمام كل منهم قدر من القات يمضغونه. وسألني الشيخ الكبير: «سمعنا عنك في مصر والآن في اليمن، فماذا تقول؟» فشرحت لهم «التراث والتجديد» وكيف أنني أريد أن أعيد بناء العلوم القديمة، وأنقلها من عصر الانتصار إلى عصر الانكسار الذي نعيشه، فما المانع أن أربط الله بالأرض من أجل فلسطين؟ وفي القرآن
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ،
Неизвестная страница