فما أضاع القسم وجعله مفككا، لا هدف له يسعى إلى تحقيقه ولا قضية يدافع عنها هو الانفعالات البشرية، وليس العواطف؛ فالانفعالات سلب والعواطف إيجاب.
1
وكانت الغيرة أقوى الانفعالات، مع أنها كان يمكن أن تتحول إلى منافسة علمية وجادة. الغيرة تدمر، والمنافسة تبني. تكون جريمة بأفعال مرئية أو تكون باطنة مكتومة. وثاني الانفعالات هي المصلحة الخاصة وتغليبها على المصلحة العامة. ويتغير السلوك طبقا لتغير المصالح. وهنا أدركت أهمية ما كتبه هابرماس عن «المعرفة والمصلحة»
Knowledge and interest . وثالثها الجبن عندما تعرف الحقيقة ولا يتم الدفاع عنها حفاظا على المصلحة أو لضعف الشخصية، ويتم العمل العدائي من وراء ستار وتحت جناح القوي القادر على الفعل، ويتغير الحامي ولا يتغير المحمي، فتضعف شخصيته حتى لو كان ذا علم؛ فالانفعالات مترابطة، كل منها يجر الآخر. ورابعها النفاق عندما يتكلم اللسان بما ليس في القلب، ويكتم القلب ما لا يقوله اللسان. وخامسها الخوف من الرئيس مع أنه لا ينفع ولا يضر، وموافقته على ما يقول وما يقرر، والتنازل عن حق المراجعة، وشجاعة الرأي، وهو ما يسمى في التراث «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، والخوف هو وهم مما لا وجود له، الخوف من المخيف للأطفال. وسادسها السلبية أو الانزواء والانطواء على النفس عملا بالمثل الشعبي «الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح»، وبذلك يخلق الأستاذ عالمه الخاص الذي يعيش فيه، ولا شأن له بالقضايا العامة.
وقد حاولنا أن نعيد الترابط للقسم بين أعضائه بدعوتهم إلى اللقاء مرة شهريا عند أحدهم. وحضروا عندي مرة، وكان ناجحا للغاية؛ إذ إنهم نسوا الخلافات بينهم والمصالح المتعارضة. ولما حاولوا تكرارها عند أحد الأعضاء وحدد موعدا ثم أجله إلى موعد آخر ثم أجله إلى موعد وحدد موعدا ثالثا، ثم أجله إلى أجل غير مسمى، فعرفت أن ما خرج عن الطبيعة لا تعيده الصنعة، ثم جمع رئيس القسم فريقا مختارا من أنصاره إلى منزله احتفالا بحصول أحد أنصاره على درجة علمية، فقسم القسم فريقين: الأنصار، والأعداء.
وعندما جاء الفيلسوف اليوناني موتسوبولوس إلى القاهرة، وهو الذي أشرف على رسائل أستاذة الفلسفة اليونانية بالقسم، دعوته إلى منزلي مع أعضاء القسم جميعا للعشاء كما تقضي بذلك التقاليد في الجامعات الأوروبية والأمريكية خاصة، لم يحضر أحد إلا تلميذة الأستاذ، هدى الخولي رئيس القسم الحالي، ولم يقدموا حتى الاعتذار، وهو أهم فيلسوف يوناني. كان مدير جامعة أثينا، يجمع بين الفلسفة وعلم الجمال، بين الفكر والموسيقى. خجلت، ولا أدري إذا كان الآخرون قد خجلوا مثلي. ولما طلب مني أحد رؤساء الأقسام أنه يريد أن يدعو سيدة فرنسية لديها تسجيل مع جان بول سارتر كي ترينا إياه وأن الجامعة ليس لديها ميزانية لذلك أعطيته ما يكفي لشراء بطاقة سفرها باريس-القاهرة، ذهابا وإيابا، وعندما أتت لم تقل جديدا عما نعرفه عن الفيلسوف، مع أنها أتت وكأنها تحمل أسرار الدنيا والآخرة. صحيح أن رئيس القسم دعاني على العشاء معها في نادي العاصمة ولكن الفائدة منها كانت قليلة، فعزمتها على طبق من الكشري في مدينة أعضاء هيئة التدريس، ولم أكن محرجا، وقبلت هي عن طيب خاطر الأكلة الشعبية. وأثناء إقامته مؤتمر القسم عن التأويل حاملا العبء بمفرده طلب مني مبلغا من المال يكفي لدعوة الضيوف على عشاء في باخرة نيلية ففعلت. ولما طلبت منه هذه الأيام تحكيم بحث في علم الجمال للنشر أم لا في مجلة الجمعية الفلسفية رفض أن يأخذ أجرا.
وإذا أحس بعض الزملاء أن ما قلته على القسم تعريض بهم، فالرد أمامهم مفتوح. وأعد أن ما سيكتبونه ردا سأنشره في الطبعة الثانية، تلك شيمة العلماء، الردود والاعتراضات. ويا ليتهم يكتبون انطباعاتهم عني وذكراي في نفوسهم كما حاولت أن أفعل. لا يعني ذلك أني غاضب عليهم أو أنني لا أتعاون معهم في أي نشاط علمي بالقسم بل إني أكن لهم كل تقدير واحترام. ويا ليتني أقرأ صورتي عندهم في ذهنهم كما قال عمر بن الخطاب : «رحم الله من أسدى إلي عيوبي.»
وأتى زوار آخرون أعرفهم ويعرفونني؛ فقد كنت عضوا بلجنة حوار الأديان التي أسسها هانزكونج
Hans Küng
برياسة هلموت شميت رئيس ألمانيا السابق. وأصدرنا البيان الدولي لحوار الأديان ونشر وترجم إلى كل اللغات. وجاءت اللجنة في مصر لرؤية رئيسها وإطلاعه على مهامها. ولما رأت الخارجية المصرية اسمي ضمن قائمة اللجنة رفضت؛ فما لهذا المصري بشأن اللجنة؟ واستعجبت وانتهى العجب لأنه لا يكرم نبي في وطنه، ورن في ذهني بيت الشاعر:
Неизвестная страница