الازدواجية بين القول والفعل، بين اللسان والقلب، صداقة باللسان، وعداوة بالقلب والفعل، إظهار غير ما يبطن؛ باللسان صداقة وحب وتقدير وعرفان بالجميل، وبالقلب كراهية دفينة، وبالفعل إيذاء وانتقام. يقضي حياته في إيذاء الآخرين، يشعر بضعف الشخصية والعلم النسبي، ويتخفى وراء الآخرين، ويعمل تحت أجنحتهم، لا يستطيع أن يعمل بمفرده أو يقوم بواجباته إلا من وراء آخر، في تربيطات ومحاور. هو «تافه» في رأي أحد من يحتمي وراءه، لم يسمع حديث الرسول: «لا تأتوني بأنسابكم، وأتوني بأعمالكم.» ولم يسمع عن آية:
وكلهم آتيه يوم القيامة فردا . يترك العلم مع أنه قادر عليه لو أخلص له، لم ينل إلا أصغر التقديرات وهو التقدير الذي يناله أصغر الباحثين تشجيعا له. ويتشكل هذا النموذج بطريقة أخرى معاكسة، ظل وقتا حتى أصبح نجما من نجوم الفلسفة العربية، له نشاطه وتعبيراته واتصالاته ومؤتمراته، ولكنه أصبح «أجوف» الفلسفة. ولما بدأ ينتشر في الوطن العربي، كنت قد أردت أن أشركه في عملية الانتقال من جيل زقزوق وجيلي إلى جيل آخر، مع أنه لم يصبح عضوا في الجمعية الفلسفية لأنه لم يدفع اشتراكاته على مدى ثلاثين عاما، ولم يشارك تقريبا في أي ندوة شهرية. وكنت قد استبعدته جانبا منذ ذلك الوقت عندما لاحظت أنه بدأ يغلب مصالحه الخاصة على العامة، يعمل لصالحه الخاص وليس للصالح العام. وقد حاول هذا النموذج الاستيلاء على النشاط بعضوية جديدة لعشرات المعيدين والمعيدات في الجامعات الإقليمية وبعض الأساتذة في القسم، وتم التصويت لصالحهم، وكانت انتخابات باطلة لأن العضوية الجديدة في هذا النشاط الفلسفي، ولم يمر عليها ستة أشهر. وعاد النشاط إلى إدارته القديمة، ثم قدمت شكوى إلى وزارة الشئون الاجتماعية بأن الانتخابات باطلة، وأتى المفتشون ووجدوا أنها صحيحة، وعاد من جديد عندما وجد أنه ليس رئيسا ولا نائبا ولا حتى سكرتيرا للجمعية، اشتكى بأنها ستنهار، وهدد موظفات الجمعية أنه يمكن هدمها بخطاب صغير بثلاثة تعريفة؛ أي يشكونا كما فعل من قبل إلى وزارة الشئون الاجتماعية التي تشرف على الجمعيات العلمية الخاصة، وأخذها عدوا له. واتهمني في مجلس القسم أنني من الإخوان. ويشترط في عقد المؤتمر السنوي بالاشتراك مع القسم ألا تشترك أي منظمة أخرى، ويعني المعهد السويدي بالإسكندرية التي تعقد فيه أيامها الثلاثة الأخيرة بعد عقد الأيام الثلاثة الأولى في جامعة القاهرة، ويصرح بأن العميد هو الذي طلب ذلك، وكأنه يمثل العميد لدى القسم ولا يمثل القسم لدى العميد. مع أني أعتبر هذا النموذج تلميذي، وأعتمد عليه في تحريك النشاط الفلسفي في القسم، هو نموذج صامت لا يتكلم، لا يسمع له صوت. وقد حامت حوله بعض الشبهات وأحيل إلى التحقيق، وكنت أدافع عنه في اللجنة العلمية للترقيات، ساعدته ماليا عندما تراكمت عليه ديون المطبعة. ولم يأت المؤتمر السنوي لهذا العام، بل إنه سوأ سمعتي لدى بعض الزملاء وجعلني مسئولا عن عدم اشتراكهم في المؤتمر، عرفت أن الطبع غلاب. ومع ذلك أحضر كتبه ومجلته ووضعها على منضدة يبيعها بنفسه دون تكليف أحد الفراشين ودون فصل بين كتبه وكتب الجمعية، بالرغم من التنبيه عليه من موظفات الجمعية ألا يرتكب الأستاذ أخطاء البيع والشراء والحسابات. هذا ليس نيلا من أحد ولكن وصف لما يحدث كل عام مع التقدير الكامل لجهده في إصدار الكتب والمجلة، ولم ينل أي جائزة تقدير ولم يستدع في أي إعارة. (4)
اللعب على الحبلين حتى يكسب الجميع ولا تعادي أحدا، إيثارا للسلامة؛ فمنه من عين في منصب ثقافي كبير ثم طرد منه، له صديقة بالقسم، وتلميذة له، يقول ما لا يبطن، ويبطن ما لا يقول حتى لو كان عالما، وكما استبعد هو من أمانة المجلس الأعلى للثقافة، استبعدت من أمانة لجنة الفلسفة فيه، وعين بدلا مني زميل مريض لم يحضر، فأصبح أقدم من في اللجنة أمينا ثم توفي، ثم أصبح زميلا عائدا من الخارج بعد عشرين عاما، وإقالته من جامعته تأسيا ببعض أساتذة القسم. (5)
الابتعاد وإقصاء النفس عن الاختيار طبقا للمثل الشعبي «اللي يجيلك منه الريح سده واستريح» وهو نموذج الابتعاد والعزلة وتجنب المشرف بعد الحصول على الدرجتين العلميتين؛ فقد تحقق الهدف بعد أخذ درجة الماجستير، وكان لا يعرف كيفية الكتابة، وأرسلته إلى الكلية العلمية ببرلين
Kolleg Wissenschaftliche
لمدة عام ليتعلم الألمانية، ويدرس اليهوديات وتجميع نصوصها خاصة الفلسفة اليهودية العربية المكتوبة بالعربية ولكن بحروف عبرية، ولم يفعل شيئا في الدراسات اليهودية، وهو المشروع الذي بدأته أنا وأحمد هويدي من قسم اللغات الشرقية. وكان يريد العودة بعد شهر لولا منعته كما منعه نصر حامد أبو زيد الذي كان هناك يقضي أيضا عاما في سيمينار علوم القرآن، فاتفقنا مع أساتذة اللغات السامية أن يشتركوا معي في ذلك، فوافقوا. وأصدر أحمد هويدي وأنا جزأين لم أرهما، وبعد أن كان يقول أستاذي اختفى، ولا أدري عن المشروع شيئا. ولما رأيتهما أعجبت بالنشر في مركز اللغات والترجمة ولكني صعقت أنني رأيت علم إسرائيل على غلاف الجزء الثاني! فعاتبته أن هذا الشعار ضد المشروع الذي يقوم على نشر التراث العربي اليهودي، ونقله من الحروف العبرية إلى الحروف العربية. وكان يجب أن يراجع أغلفة الكتب . ويسير المشروع الآن ببطء للغاية نظرا لكثرة المعروض على المركز القومي للترجمة، وقلة الإمكانيات. وقد نشر هذا التراث من قبل في إسرائيل بحروفه العبرية كما هو تحت عنوان «التراث اليهودي»، وفي أوروبا وأمريكا إلى اللغات الأوروبية تحت عنوان «التراث اليهودي في العصور الوسطى». وهو خطأ تاريخي لأنه لا ينتمي إلى العصور الوسطى المسيحية الأوروبية، بل إلى الحضارة الإسلامية في عصر ازدهارها الأول في الأندلس. وإذا كانت الماجستير في علم الكلام اليهودي، فقد كانت الدكتوراه في زوهار
Zohar ، في التصوف اليهودي. ولما لم يكن قد تعلم شيئا وهو في برلين بل تعرف على مجرد صديقات، لم يفهم النص الإنجليزي الذي صوره من عندي، ولم يعرف ما المقصود من الرسالة، وما التصوف اليهودي مقارنة بالديانات الأخرى، خاصة التصوف الإسلامي. كتب رسالة لا تقرأ، فأعدت له لصياغتها حتى حصل على درجة الدكتوراه، وبعد ذلك اختفى، لم يكتب مقالا واحدا! ولم يشارك في بحث واحد إلا نادرا تحت ضغط مني، ولم يكن له مشروع لدراسة الفلسفة اليهودية العربية في إسبانيا. وقد قارب على المعاش، وما زال مدرسا، وهو فرح بطبع كتابه عن الفلسفة اليهودية دون أن يشير إلى أنها رسالة الماجستير، وأن طبعاتها متعددة لأنها مقرر في مادة الفلسفة اليهودية في القسم وفي التعليم المفتوح، ثم طبع رسالته الثانية عن «زوهار» وهو كتاب «الضياء»، ولم يشر إلى أنها رسالته للدكتوراه، ولا إلى المشرف على رسالتيه، ولا حتى إلى أن الاسم مشتق من الفعل العربي «ظهر»، ولم يساهم في تنمية هذا الفرع في الفلسفة وهو الفلسفة العربية اليهودية. ويبدو أن الأستاذ يضع كثيرا من الآمال في طلبته، وأعتذر له إن كنت قد أخطأت في حقه
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا .
ونوع آخر من هذا النموذج الخامس البداية بالعلم الجاد يقرأ ويكتب بمهنية عالية، وبمجرد الحصول على الدرجتين العلميتين لم يكتب مقالا أو أثار قضية، وما أكثر القضايا الفلسفية قبل اليونان مثلا! وماذا عن حديث «اطلبوا العلم ولو في الصين.» لو كان صحيحا؟ في كل مؤتمر أدفعه هو وزملاءه للاشتراك، تأخر في الترقية، وما زال مدرسا، وسمعت أخيرا أنه تمت ترقيته. رفعت صوتي عليه لأنه لا يحضر ندوات الجمعية الفلسفية المصرية، الأحد الثاني من كل شهر، فزعل. كان يستعملني أحيانا كمساعد باحث، أبحث له في مكتبتي عن مراجع في التخصص، وأكلف أحد مساعدي بالقيام بذلك، يقرأ له الفهارس وسرعان ما يحكم لا، لا، فعجبت! ومكتبتي مفتوحة للجميع، والتصوير مجانا. ربما لم يستقر أسريا ولا عاطفيا فأثر ذلك على الناحية العلمية. وكان فيه العيب الرئيسي لهذا النموذج، لسانه معي وقلبه وسلوكه مع غيري طبقا للمصلحة، ليس لديه الشجاعة الكافية لمواجهة الظلم حتى لو أتى من رئيس القسم خوفا على مصالحه. وأستاذه كان يواجه الظلم بمفرده حتى لو ازداد الظلم ظلما؛ فالعدل في النهاية هو الذي ينتصر؛ لذلك اختصر المعتزلة أصولهم الخمسة في اثنين: التوحيد، والعدل. سمعته مرة في مجلس القسم وهو يجلس بجواري يدافع عن الكتاب المقرر. ومرة كنت أحاول المصالحة بين رئيس القسم وأحد الأساتذة الذي أحيل إلى التحقيق، وطلبت التصويت على إرجاعه للقسم، والقيام بالتدريس، فلم يصوت مع الاقتراح إلا اثنان. وقام هو وزميله التابع له بمغادرة حجرة القسم حتى لا يصوتا بنعم أو لا خوفا أو جبنا. والفريق الثالث قال إن ذلك يترك للجامعة وليس في يد القسم. وعجبت! وأرجو معذرتي إذا كنت أخطأت في شيء، إذا كنت لم أقدر الظروف الأسرية التي يعيش فيها الزميل. كان علي أن أختار إما الصمت تماما عن تجربتي الحية وأنا أكتب ذكرياتي أو أن أكون منافقا أعبر عما لا أعتقد، وهو ضرر بالتاريخ، أو أن أكون صادقا مهما أسأت في التأويل أو في التقدير، والثالث أفضل.
ومن هذه النماذج من فضل الابتعاد بعد تحقيق غرض وهو نيل الدرجتين العلميتين. لقد تعب من العمل الجاد، ولا يريد الاستمرار فيه، وغير قادر على النموذج السابق وهو الازدواجية إلا عن بعد لأنه يعتبره سلوكا لا أخلاقيا فيؤثر الابتعاد الكلي أو النسبي تحت حجج كثيرة مثل الخلافات في القسم. ومنه من يظهر بين الحين والآخر ليبرر انقطاعه عن الأستاذ ويغرقه بالكلام الذي لا يفهم منه شيء، وبينه وبين نفسه هو غير قادر على كتابة شيء غير رسالتيه العلميتين. ومنه من يتخفى كلية لأنه يخجل من نفسه لأنه لم يكن قادرا على كتابة رسالته الثانية خارج الترجمة، فكتبها له الأستاذ بأسلوب عربي سليم ومفهوم، وأفكار متسلسلة. لم يعرف كيفية التعبير باللغة العربية، بالجملة الاسمية أو الفعلية، لها بداية ونهاية، نقل وترجم صفحات دون التعبير عن أفكار. لا يشارك في ندوة أو في مؤتمر أو يلقي محاضرة عامة أو يكتب مقالا في جريدة. هو فيلسوف من منازلهم، لا يشارك في حياة عامة أو خاصة. ويتكرر هذا النموذج كثيرا بحجة الخلاف مع القسم أو بعد المكان أو الإعارات المتتالية أو عدم الاهتمام بالعمل العام. وهو أقرب إلى المرأة منه إلى الرجل، حقيقة أم تمثيلا، هادئ الطبع. تعلم الألمانية، ولكنه لم يستطع السفر إلى الخارج لأنه لا يعرف الكومبيوتر والإنترنت، وهي وسائل الاتصال الحديثة لطالب البعثات. غالى في استعمال منهج تحليل المضمون، فاكتفى بمجرد الإحصاء دون البحث عن الدلالة. اعتمد على «قال ... يقول» نقلا عن الدارسين للموضوع. ومن يوم المناقشة حتى الآن لم يتصل بي، وقاطعني إما خوفا أو خجلا أو حرجا، وادعى أن هناك خلافات في القسم وهو بعيد عنها. ولم أر له حتى الآن كتابا عن الهيجليين الشبان ولا حتى طبع رسالتيه، ولا أدري ماذا يفعل في محاضراته؟ وكيف يواجه الطلاب؟ وقد قيل إن أحد الزملاء الشبان ضبط وهو يراسل زوجته على الإنترنت، وأنه محال للتحقيق، لا يحضر مجالس الأقسام، ولا يشارك في المؤتمرات، ولم يكتب ولو مقالا واحدا، ولا يعتني بالشئون العامة. كان أقرب إلى مدرس الابتدائي، حاولت عدة مرات أن أخرجه من هذا الطابع، ولكنه احتج بخلافات القسم! وأي قسم خال من الاختلافات؟ ولماذا لم يأت ويدافع عن الحق؟ وأعتذر إن كنت قد أخطأت في الوصف والتقدير. قد يكون هو غير ذلك، ولكن ما الدليل؟
Неизвестная страница