الذي كنا نؤدي فيه صلاة الجمعة. وفي الغرفة المجاورة جمعية اللواطيين يغنون ويرقصون. ولا تعارض بين المجموعتين في عرف الجامعة طبقا لحرية الرأي، واستقلال الجامعات، والنشاط الطلابي الحر. وكان حريصا على إسلام الآسيويين والأفارقة والعرب والأمريكيين، وهو إسلام تقليدي عقائدي شعائري، على عكس إسلامي أنا الاجتماعي السياسي الثوري، وهو التقابل التقليدي بين اليمين واليسار. كان حريصا على تقوية إيمانهم، والحرص على شعائرهم، وكنت حريصا على تقوية عقولهم، وثورتهم على الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وفي مقدمتها الفقر والظلم. نعيد الصراع بين الأشاعرة والمعتزلة. وكانت هناك محاضرات عامة، نشاط حر للجامعة أشارك فيه ويحضره جميع الناس خدمة للمجتمع، وكنت أخشى من ضعف إنجليزيتي ولكني كنت مفهوما. وكان بيته مفتوحا للطلبة والزملاء وهو ما لم يتعوده الأمريكيون، زوجته أمريكية مسلمة (بيضاء) مثله في العقيدة والسلوك. وكنا نذهب إلى مساجد المسلمين في الشارع الثالث عشر لنخطب فيهم الجمعة ونصلي، ونعطي درس العربية. كان من الأساتذة من يتعاطفون مع إسرائيل مثل فرانك ليتل
Frank Little ، يكرهون العرب، لله في الله، وهكذا يفسرون المسيحية. وكان منهم العلماء الذين يفسرون الدين نفسيا واجتماعيا ولغويا وتاريخيا. فتعلمت منهم ما هي المداخل المختلفة لدراسة الدين، ليس فقط وحيا من عند الله إلى الرسول بواسطة جبريل، وأن التاريخ عامل حاسم في تكوين التوراة والإنجيل. وهو ما نتحرج منه حتى الآن؛ فكل شيء يأتي من السماء ولا شيء يصنع في الأرض.
وبعد أن غادرت بعشرة أعوام تقريبا بعد خصام طويل معه من اتجاه المسلمين نحوي، وأنني طالب مكانة عندهم، وأبحث عن عمل دائم في أمريكا، اغتاله هو وزوجته أحد المسلمين السود المتعصبين لأنه لا يعلم الإسلام كما يجب. ورواية أخرى تقول إنه تدبير صهيوني لخشية إسرائيل من أفكاره ووقوف المسلمين ضدها. وهو فلسطيني الأصل من حيفا، من مهاجري 1948م، واعتدوا على ابنه صخر لما علموا في الجيش أنه من المسلمين البيض، واختفت البنتان في الدواليب ليلة العدوان، فنجتا، وإلا كانت الأسرة كلها قد قضي عليها. وقد علمت بعدها أن القاتل كان جيمس جون أحد المسلمين السود المتعصبين، وحكم عليه وأعدم. وقابلته آخر مرة في دولة الإمارات العربية المتحدة في جامعة العين، كنت أستاذا لفصل دراسي، وكان هو مدعوا من أحد أصدقائه كمحاضر عام، نظر كل منا إلى الآخر دون حديث طويل. حاول أحد الطلبة السودانيين الاعتداء علي، وقذفني بالكرسي أثناء الصلاة، يبدو أنه اعتقد أنني من الكافرين، ولا يجوز الصلاة معه أو خلفه ولا حتى الحديث معه أو الاستماع إليه. لم نسمع عن أحد من طلبته كان له شأن كبير في العلم، إما وصل إلى الإدارة أو إلى الإعارة الطويلة أو إلى بناء فندق على الساحل ليعيش منه. مكثت أربع سنوات بالجامعة، وأرادوا تجديد عقدي ثلاث سنوات أخرى، فرفضت لأنني لا أستطيع البعد عن مصر؛ فطلابي أولى بي، ووطني أحق علي من الغربة. ولما أرادت زوجتي إكمال دراساتها في الأدب المقارن، ويستحيل ذلك لوجود طفل، قررنا إرساله إلى مصر مع والدتها وخالته. وكانت لحظة فراق وهو يبكي في المطار تاركا أباه، ووجوده بين يدي مضيفة غريبة عنه. واستقبلوه في مطار القاهرة وهو يبكي حتى نسي الأصل، وارتبط بالفرع. وكان عمره يومئذ ستة أشهر يكاد يمشي، ويستقبلني بفرح من وراء النافذة وأنا عائد من الجامعة، ويأخذ كتبي ويفرق أوراقها تقليبا كما أفعل، فنقلناه من السعادة إلى الشقاء، وهو لا ينسى لنا تلك القسوة، ونحن لا ننسى جرم ما فعلناه. وبعد عام ذهبنا إلى زيارته في الإجازة الصيفية، لم يتعرف علينا، وكان يهرب منا إلى أولاد خالته الأطفال الكبار. وأخذناه إلى الإسكندرية فلم ينم طيلة الليل وهو ينادي: «ماما سعاد.» وهي حماتي. ثم تكررت المأساة عندما تركناه مرة ثانية وغادرنا، وربما تساءل: من هؤلاء الناس الذين عشت معهم أولا، وناس آخرون ثانيا، ثم ظهر الأولون وغادروا؟ فإلى أي جماعة أنا أنتسب؟ ولما كنت أدخل الحمام وأغلق الباب كان يدخل يداه تحت عقب الباب لعلي أفتحه أو أرى يده، ونتكلم سويا من وراء الجدران حتى يطمئن إلى وجودي ثم خروجي له.
وكان الحدث الأكبر هو اكتشاف أمريكا، قوتها وضعفها. وكان هناك خدمة تؤديها الجامعة للطلبة تسمى خدمة النشاط الطلابي
Student Activity Service
لركوب الجراي هاوند
Gray Hound
لمدة شهر ب 99 دولارا وإعطائهم خطة السير، ويعرفونك على أسر في كل محطة تتعرف عليهم، ويتعرفون هم عليك كنوع من التعارف الثقافي والحضاري بين الشعوب، فاستخدمنا هذا النظام، زوجتي وأنا، ثلاث سنوات متتالية عبرنا بها أمريكا من الشرق إلى الغرب، من فيلادلفيا إلى سان فرنسيسكو، ومرة ثانية من الشرق إلى الشمال الغربي هانكوفر عبر كندا وشلالات نياجرا، ومرة ثالثة من الشرق إلى الجنوب عبر أورلاند ثم إلى المكسيك ذهابا وإيابا. وتعرفنا على عديد من الأسر الأمريكية شبابا وشيوخا، وتناقشنا في أسلوب الحياة الأمريكية، واكتشفنا الشعب الطيب الكريم المرحب بالأجانب غير صورة الحكومة، العدوان والاستعمار للآخرين. وما زلنا نحتفظ بأجمل الذكريات للأسرة الأمريكية: زوجة خرجت بطفلها قبل أن يكتمل أسبوعا ونحن لا نخرج قبل أربعين يوما. وأسرة كبار السن تبحث عن الزوج، فرد علينا من فوق شجرة تسلقها وهو حوالي السبعين عاما، ولا أحد يخشى عليه من الوقوع فتنكسر رقبته. أدركنا مدى التنوع في الجغرافيا الأمريكية بين الساحل والصحراء، الجبل والسهل. عرفنا مدينة القمار رينو لجلب السكان وتعميرها في نيفادا. رأينا ترام سان فرانسيسكو، ورأينا فخامة لوس أنجلس وبناياتها، ورأينا المنخفضات والمرتفعات، كما رأينا مستوطنات الهنود الحمر، السكان الأصليين. وقررت أن أكتب عن أمريكا، الوجه الآخر الذي لا يعرفه الناس. وجهزت مكتبتي إلى هذا الغرض للكتابة عن أمريكا، الأسطورة والحقيقة، عن الفقر وليس الغني، العنصرية وليس التسامح. وما زالت النية موجودة لولا التراث والتجديد استغرق كل حياتي، ولا أدري إذا كان في العمر بقية أو إذا كنت قادرا على النزول على السلم الخشبي الذي يربط بين السكن والمكتب وأفحص دولاب المراجع عن أمريكا. وأحيانا أقول: ربما تغيرت أمريكا بعد أربعين عاما، وقدمت مراجعي، وأصبح كتابي المزمع تأليفه «أمريكا، الأسطورة والحقيقة» في مهب الريح إذا كان جوهرها أو بنيتها ما زالت مستمرة.
ومرة رابعة من الشرق إلى الغرب عبر كندا، من تورنتو وشلالات نياجرا إلى أوتاوا العاصمة. قابلنا تحسين بشير سفيرنا في كندا، وحاولت التعرف على قضية كيبك
Quebeque
Неизвестная страница