هذا كان مجرد عذر لإخراج الجمعية ووقف نشاطها؛ لأن جميع الجمعيات الأخرى كان لها نشاط داخل أسوار الجامعة مثل: جامعات فيينا، وأكسفورد، وكمبريدج، وفرايبورج. وكان السبب الحقيقي لطلب العميد هو نشاطي السياسي في مناهضة الانقلاب على الناصرية ومعارضة اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع إسرائيل.
فأخذت أبحث عن مقر قريب من الجامعة حتى وجدت شقة في مساكن هيئة التدريس وراء الجامعة، كان يعرضها صاحبها للبيع، وكان أستاذا بكلية الهندسة، كان ثمنها تسعين ألف جنيه. وكان كل ما لدينا في صندوق البريد حوالي مائة جنيه، طلبنا من صاحب الشقة أن يقسط لنا المبلغ على ثلاثة أشهر كل شهر ثلاثين ألفا؛ فقبل الأستاذ، وكان رئيس الجمعية في ذلك الوقت الدكتور زقزوق قد أصبح وزيرا للأوقاف؛ فعرض الأمر على وزير الثقافة، فطمأنه بأنه مستعد أن يعطي الجمعية ثلاثين ألفا سنويا؛ فاعترض أمين صندوق الجمعية على أن نصرف التسعين ألفا في شراء شقة ونترك الصندوق شبه فارغ. فقلنا: وما العمل؟ وليس لدينا مقر، وإن لم نحصل سريعا عليه تعرضنا لإلغاء الجمعية من قبل وزارة الشئون الاجتماعية ، وأن قانون الجمعيات يشترط أن يكون لكل جمعية مقر؛ فأصر أمين الصندوق على رأيه، وقلنا له إننا لا نستطيع أن نكون في الشارع بلا مقر، فقدم استقالته لأنه لا يتحمل وزر صرف كل ميزانية الجمعية في بند واحد هو شراء شقة لكي تكون مقرا للجمعية.
كانت الشقة مكونة من ثلاث غرف بمنافعها؛ المطبخ والحمام. ففتحنا غرفتين بهدم الحائط بينهما؛ فأصبحت قاعة كبيرة للمحاضرات، وجعلنا الغرفة الثالثة لإدارة الجمعية التي بها الآلات الحاسبة، والدفاتر، والملفات والرسائل الإلكترونية، وغير ذلك من أوراق الجمعية.
صممت لها دواليب للكتب برفوف وأبواب زجاجية من أعلى وأخرى صغيرة من الخشب من أسفل، وضعنا فيها الكتب الخاصة بالجمعية والتي كانت تصلنا كهبة من الأساتذة، وصممت لها منضدة واسعة وكراسي عربية، ومنصة يجلس عليها المحاضرون لإلقاء المحاضرات، وكذلك ابتعت جهاز تكبير للصوت بسماعات ضخمة، ركبنا مرواح للسقف، وزدنا عدد المصابيح الكهربائية، ثم ركبنا لافتة كبيرة علقناها على مدخل المبنى، ذات إضاءة قوية، تسقط عليها مكتوب: «الجمعية الفلسفية المصرية، اتحاد الجمعيات الفلسفية العربية».
وبعد عشر سنوات تقريبا من الاستقرار فكرت في جمع جميع الجمعيات الفلسفية العربية بكل الأقطار العربية في اتحاد واحد يكون نشاطه على الأقل مؤتمرا سنويا في الجمعية الفلسفية المصرية، وكانت هناك جمعيات فلسفية في المغرب، وموريتانيا، وتونس، والأردن، ولبنان، واليمن والسودان. ثم تكونت الجمعية الفلسفية الجزائرية فيما بعد، بعد حضور عدد كبير من أساتذة الفلسفة الجزائريين المؤتمر السنوي في مصر. ورجوت عمرو موسى أمين الجامعة العربية وقتها أن يعطينا عشر بطاقات للسفر لرؤساء الجمعيات لحضور المؤتمر بمصر؛ ففعل. واجتمعنا لأول مرة في مصر، وكما هي العادة اختلفنا على من هو الرئيس؟ ومن هو نائب الرئيس؟ ومن هو السكرتير العام؟ ومن هو أمين الصندوق؟ ومن هم مجلس الإدارة؟ اختلفنا على الشكليات دون المضمون.
وفى السنة التالية انتقل عمرو موسى إلى مكان آخر، ولم نستطع إرسال بطاقات السفر لرؤساء الجمعيات الفلسفية العربية ولم يأت أحد، ثم نام الاتحاد، ونشطت الجمعية الفلسفية المصرية، وكان يحضر أعضاء من الجمعيات الفلسفية من الدول العربية التي ذكرتها سابقا، وكان الأكثر حضورا أعضاء الجمعية الفلسفية الجزائرية، وكان جميع العرب يلتقون في مصر. ولعلنا نستطيع في القريب العاجل أن ننشط اتحاد الجمعيات الفلسفية العربية من جديد، حتى يجتمع العرب على شيء بدلا من الاقتتال بين بعضهم والبعض في معظم الأقطار العربية الآن مثل سوريا، والعراق، واليمن، وليبيا.
وأصبح للجمعية الفلسفية المصرية مجلة تصدر كل عام، ومجلد يحوي أعمال المؤتمر السنوي في ديسمبر من كل عام، كما تم إقرار الجلسات نصف السنوية لمناقشة أهم الكتب التي صدرت أثناء العام، وما زالت الجمعية تقيم ندوات شهرية كل ثاني أحد من كل شهر، ولقد تبرعت لها بجزء من عائد الجوائز التي حصلت عليها؛ جائزة الدولة التقديرية، وجائزة النيل الكبرى. حتى بلغت ودائع الجمعية ربع مليون جنيه. نعيش على عائدها الشهري، وندفع مرتبات موظفيها، وتكاليف خدماتها والاتصالات. وفي المؤتمر السنوي نعتمد على عائد الوديعة التي وضعتها باسم النشاط العلمي لكلية الآداب بمبلغ مليون جنيه.
وكان لي صديق مستشار ثقافي في وزارة الخارجية السويدية، متخصص في الفكر العربي المعاصر، عرفني من خلال مؤلفاتي قبل أن يعرفني شخصيا، ولما علم أنني أدير الجمعية الفلسفية المصرية بالقاهرة كمركز للتفلسف في مصر والوطن العربي، دعاني لإكمال النقاش الفلسفي لمدة يومين بالمعهد السويدي بالإسكندرية، وكان لقاء ناجحا للغاية، خاصة بالنسبة للمدعوين العرب والذين كان يضايقهم بعد رحلات طويلة قضاء ثلاثة أيام فقط في القاهرة.
ولما انتهت مدة عمل الصديق السويدي غادر إلى السويد، وأتى غيره وكانت امرأة سويدية متزوجة من عراقي وتعرف بعض العربية، واستمرت اللقاءات الفلسفية بالمعهد لمدة ثلاث سنوات هي مدة إقامتها بمصر، ثم جاء ثالث مع كلبه، يهمه قضاء آخر سنتين له بالخارجية السويدية قبل أن يحال إلى المعاش، وكان لا شأن له بالثقافة، وهمه إدخال السعادة على قلب الكلب وسياحته في مصر، قضي سنتين مديرا للمعهد دون أن يفعل شيئا إلا رعاية صحة الكلب كما عرض في فيلم «غزل البنات» والموظف الخاص لرعاية كلب الباشا حين ظنه نجيب الريحاني أنه الباشا. وبدأ اهتمام السويد بمعهدها يقل لعدم اهتمام مديري المركز بعملهم. فقررت إغلاقه واقتصاد تكاليفه ومرتبات موظفيه المصريين، فقررت مصر وضعه الصوري والفعلي تحت سلطة مكتبة الإسكندرية والتي اعتذرت عن استضافة الجمعية الفلسفية المصرية؛ نظرا لارتفاع تكاليف إقامة الأعضاء؛ حيث كانوا أكثر من ثلاثين عضوا، في حين كانت المكتبة تستضيف المئات من الشباب والمثقفين في موضوعات تقررها السلطة السياسية في مصر، فقد فقدت مكتبة الإسكندرية استقلالها الفكري في عهد إدارتها الجديدة بعد الإدارة القديمة.
وبعد أن كبرت في السن وضعفت صحتي وأصبحت شبه ضرير أرجو للجمعية أن تستمر من بعدي بمجلس إدارة جديد ورئيسها المتعافي في خدمتها. كانت معظم المؤتمرات الثانوية تقام في مبنى جامعة القاهرة، والقليل منها بجامعات الإسكندرية وبني سويف وقناة السويس والمنيا؛ من أجل تنشيط أقسام الفلسفة في هذه الجامعات. وتظل المؤتمرات السنوية تقام في جامعة القاهرة؛ نظرا لأن ودائع الجمعية في كلية الآداب والتي لا تصرف إلا في النشاط العلمي الخاص بها.
Неизвестная страница