وبعد عودتي إلى مصر بدأت التدريس من جديد في علم الكلام للسنة الثانية، والفلسفة الحديثة للسنة الثالثة، وفلسفة التاريخ والفكر العربي المعاصر للسنة الرابعة.
وكان القسم قد هدأت حرارته بالرغم من نصر أكتوبر 1973م، وعبور القناة، وتحطيم خط بارليف المنيع، لم يشجع أحدا «تطوير فكره»، الربط بين العلم والوطن كما كنت أفعل؛ فدبت روح الفلسفة من جديد في القسم بعودتي، وربما تحولت الغيرة والحسد إلى كراهية وحقد البعض، فما كان أجدرهم أن يستمروا في الكتاب المقرر دون أن يراني الطلاب ويروا إمكانية وجود اكتشاف طريق ثان؛ «هموم الفكر والوطن»!
وجاء الانقلاب على الناصرية في عام 1974م والتحول من الاشتراكية إلى الرأسمالية؛ فالرأسمالية لم تعد جريمة، ومن القطاع العام إلى القطاع الخاص، ومن التحالف مع الاتحاد السوفيتي إلى التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومن القومية العربية إلى القطرية الانعزالية، ولو أن أزمة الحرية في النظامين الناصري وما بعده ظلت قائمة.
خرج الإسلاميون من السجون والمعتقلات لإزاحة الناصريين والماركسيين بعيدا عن جهاز الدولة والحياة العامة، واشتركت في مظاهرات يناير 1977م ضد غلاء الأسعار، ثم عارضت اتفاقية كامب ديفيد في 1978م، ومعاهدة السلام مع إسرائيل في 1979م. وأصبح نشاطي العلمي مقرونا بالنشاط السياسي، ولما حان الوقت للتقدم بالترقية من أستاذ مساعد إلى أستاذ في هذا الجو المشحون، وافقت اللجنة العامة للترقية على ترقيتي وعادت الألاعيب الإدارية في معارضة الترقية من القسم ومجلس الكلية ومجلس الجامعة تبعا لتوجيهات أجهزة الأمن. ومع ذلك عندما عاد تقرير الترقية إلى اللجنة العامة المختصة بالترقيات ثم أعادته بدورها إلى الكلية من جديد، عارض القسم ومجلس الكلية للمرة الثانية الترقية لأنني من المشاغبين، وذهب التقرير إلى مجلس الجامعة اللجنة العامة للترقيات، فقررت أن ترقيني لأنى أستحق الترقية بجدارة. وكانت المجالس الإدارية ترفض لأنني من المشاغبين بجدارة؛ فاستدعاني رئيس الجامعة وأخبرني أنه لا يجب أن يخرج هذا الموضوع إلى الصحافة والإعلام وإلى الرأي العام قائلا: «ستمر الأمور بسلام، وأخشى إن ثارت زوبعة إعلامية أن يؤثر ذلك في ترقيات الأساتذة التقدميين الذين حانت ترقياتهم بعدك.» فسمعت الكلام، وطلب رئيس الجامعة من جديد التصويت على ترقيتي. فرقيت بالإجماع، فقد بدأ الأساتذة يتضجرون من تفريط النظام السياسي القائم، الذي عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل قبل أن تنسحب من الأراضي المحتلة.
وبعد أن فصلت من الجامعة بعد قرارات سبتمبر عام 1981م وعدت إلى الجامعة من جديد في أبريل عام 1982م، أردت الاستراحة قليلا من العمل في مصر، فتأتني دعوة من المغرب كي أكون أستاذا زائرا هناك بفضل صديقي حبيب الشارونية الذي كان يدرس بالجامعة أستاذا زائرا ويريد العودة إلى مصر.
فذهبت إلى المغرب مصاحبا زوجتي الحبيبة وأولادي الثلاثة، ودخلوا المدارس هناك ، وأعطيت لهم دروسا خاصة في الفرنسية. مكثت سنتين حتى أصدر الملك قرارات بمغادرتي البلاد نظرا لأنني أشرت في محاضرة إلى النظام السياسي في الإسلام وآية:
قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون .
فأرسلت أولادي الثلاثة بالطائرة إلى مصر، ورجعت أنا وزوجتي برا عبر جبل طارق وجنوب إسبانيا وجنوب فرنسا وشمال إيطاليا ويوغسلافيا حتى أثينا بسيارتي الخاصة، ثم بحرا من أثينا إلى الإسكندرية.
وقبل أن أستلم عملي بقسم الفلسفة بكلية الآداب، جاءتني دعوة لأكون أستاذا زائرا بجامعة طوكيو باليابان؛ فذهبت لأكون أستاذا زائرا، فذهبت وزوجتي وأولادي، وسكنا بمنزل الجامعة، وعملت زوجتي أستاذا بقسم اللغة العربية بالجامعة.
وكنت لأول مرة أدرس لطلبة يابانيين الذين كانوا يسمعون ولا يتكلمون، يأخذون ولا يعطون، رأسهم في الأرض، ولا ينظرون إلى الأستاذ، وكانوا يكتبون ولا يعرف الأستاذ ماذا يكتبون؟ كلامه أم نقد لكلامه؟ كنت أود أن أسمع آراءهم فيما أقول في مادة الفلسفة بين الشرق والغرب والتي كنت أدرسها لهم، ولم أسمع شيئا. وكأنني أغني وأرد على نفسي، فلما اشتكيت إلى رئيس القسم الياباني ما يحدث في قاعة الدرس ضحك، وقال: «هذه عادة اليابانيين، يأخذون منك ما يستطيعون، وإذا كانت لهم آراء أو تعليقات أو نقد أو اقتراحات فإنهم لا يبلغونها لك بل لرؤسائهم في الشركات التي يعملون بها؛ فولاؤهم لهذه الشركات التي يضعون شاراتها على صدرهم تعبيرا عن ولائهم؛ فالفائدة لهم، وليست لك.» فحزنت بأن يتحول العلم إلى تجارة، والولاء للجامعة إلى ولاء للشركة، ولم أستطع البقاء طويلا في هذا الجو التجاري، فجاءتني دعوة إلى أن أكون مشرفا على الأبحاث الإنسانية في جامعة الأمم المتحدة في طوكيو ما دمت هناك. وهي جامعة أنشأها يوتاند من بورما في آسيا لتنشيط البحث العلمي في القارات الثلاث؛ أفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، تشجيعا للبحث في العالم الثالث بدلا من أن يتركز في العالم الأول؛ أوروبا وأمريكا . فقبلت الدعوة، وقرأت أبحاث الجامعة في العلوم الإنسانية، وكان لها عدة مشروعات عن الثقافة والإبداع في أمريكا اللاتينية، يديرها د. أنور عبد الملك؛ المصري الذي ترك البلاد في 1958م خوفا من اضطهاد الشيوعيين في مصر، وكان هناك مشروع آخر «المستقبلات العربية البديلة» يديرها إسماعيل صبري عبد الله وأبو سيف يوسف في مصر، ومشروع ثالث بعنوان «التطور اللامتكافئ» يديره رمسيس نجيب من داكار عاصمة السنغال.
Неизвестная страница