34
بن ماء السماء اللخمي، وتنوخ اسم كان قد أطلق في الزمن القديم بحسب أقوال المؤرخين على قبائل من العرب، ثم على ثلاث من العرب المتنصرة بهراء وتغلب وتنوخ، ثم خصت به قبيلة النعمان بن المنذر ملك الحيرة؛ لتقدمها على بقية القبائل في السؤدد والشرف.
وواقع الحال في ذلك، كما رواه المؤرخون، أنه لما كثر ولد معد بن عدنان ونمت القبائل التابعة لهم وأضرت بهم الحروب ضررا بليغا خرجوا يطلبون الريف في ما يليهم من اليمن ومشارف الشام، وأفلت منهم قبائل حتى نزلوا بالبحرين وبها جماعة من الأزد، وكان الذين أقبلوا من تهامة مالكا وعمرا ابني فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن قضاعة ومالك بن زهير بن عمرو بن فهم في جماعة من قومهم، والحيقاد بن الحنق بن عمير بن قبيصة بن معد بن عدنان في قبيص كلها، ولحق بهم غطفان بن عمرو بن الطمثان بن عوذ مناة بن يقدم بن أقصى بن دعمي بن إياد بن نزار بن مسعد بن عدنان وغيره من إياد، فاجتمعت هذه القبائل بالبحرين، وتحالفت على التنوخ وهو المقام، وتعاقدت على التناصر والتساعد؛ فصارت يدا واحدة مضمومة باسم واحد وهو تنوخ، والتحم بها بطون من نمارة بن لخم وجذيمة الأبرش بن مالك بن فهم بن غنم (والصواب: عمم، كما في كتاب الاشتقاق لابن دريد) بن أوس الأزدي.
وتزوج لميس أخت مالك بن زهير، فأجمعوا على المسير إلى العراق طامعين أن يغلبوا على الأعاجم في ما يلي بلاد العرب، أو يشاركوهم فيه، فطلع الحيقاد بن الحنق في جماعة من قومه وأخلاط من الناس فألفوا الأرمانيين يقتتلون مع الأردوانيين، ثم طلع مالك وعمرو ابنا فهم بن تيم الله وغيرهم من التنوخ إلى الأنبار على ملك الأرمانيين، وطلع نمارة وقبيله على ملك الأردوانيين ففازوا بالغلبة على تلك البلاد، فنزلت تنوخ من الأنبار إلى الحيرة في الأخبية، فأقروا لنفسهم الملك.
فكان أول من ملك منهم مالك بن فهم، ثم أخوه عمرو بن فهم، ثم جذيمة الأبرش الذي كان أبرص ودعته العرب أبرش لكرهها أن تدعوه أبرص، ثم ملك بعده عمرو ابن أخته رقاش التي خطبها عدي بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن مسعود بن مالك بن نمارة بن لخم إلى أخيها جذيمة الملك عندما كان متوليا مجلس شربه فسقاه عدي صرفا حتى أخذت الخمرة فيه، ثم خطبها إليه فأملكه إياها، وعمرو ذلك كان أول من اتخذ الحيرة منزلا في ملوك العرب، وقد طال ملكه فبلغ أيام أردشير بن بابك وابنه سابور، ثم سرى الملك في ولده إلى أن كان آخرهم النعمان بن المنذر إلى أيام ملوك كندة.
ففي أيام أردشير بالعراق خرج من تنوخ من كان من قضاعة إلى الشام كرها للمقام تحت نير سلطة أردشير، ودان له أهل الحيرة والأنبار، ثم إن الملك كسرى أوجس في ما يظهر خيفة من اتساع سلطة النعمان الأكبر، ونما قبائله فعمل على إذلالهم؛ فوقع بينه وبينهم خصام شديد أدى بهم إلى العصيان عليه فسير إليهم ابنه شيرازان بجيش جرار لمعاقبتهم، فطلع عليه الملك النعمان بأبطاله وحدثت بين الفريقين معركة هائلة كان الفوز فيها للنعمان، فانهزم الفرس شر هزيمة، وقتل شيرازان.
ولما نمي الخبر إلى كسرى اضطرب وخشي سوء العاقبة، ولكنه عقد النية على أن يثأر لابنه؛ فأرسل إلى النعمان سفيرا في الصلح، واستقدمه إليه لإبرام معاهدة التحالف والمصادقة، فقدم إليه بهدايا فاخرة وتحف نفيسة مخدوعا بما رأى وسمع، ولما صار بين يديه أمر به فطرح للفيل فداسه بقدميه حتى أماته، وفرح كسرى لنيل أمانيه.
ولما سمع قوم النعمان بما حل به ملكوا عليهم المنذر بن النعمان واستأنفوا القتال أخذا بثأر ملكهم فلم يفلحوا، ثم اتفقوا على ترك الديار فذهب فريق منهم إلى الموصل وما بين النهرين وأقام هناك، وسار الملك النعمان بن المنذر باثنتي عشرة قبيلة إلى نواحي حلب، وسكنوا البرية التي بين حلب ومعرة النعمان.
وبعد ذلك بنحو مائتي سنة أي عند ظهور الإسلام قدمت القبائل التي سكنت فيما بين النهرين وانضموا إلى إخوانهم بجوار حلب، وسكنوا جبلا في ظاهر المعرة يقال له: الجبل الأعلى، وهناك اشتهر منهم قبيلتا بني تنوخ وبني ربيعة اللتان نبغت منهما الأمراء التنوخيون والأمراء المعنيون الذين ملكوا لبنان زمنا طويلا.
فتوطنت تلك القبائل في ذلك الجبل، وزرعت أراضيه، وأتقنت صناعة البناء فيه، وبنت الحصون والمعاقل. ولما توفي ملكهم النعمان الأصفر شادوا له حجرة عظيمة فوق ضريحه لم تزل باقية إلى اليوم، وعلى توالي الأيام نمت تلك القبائل نموا عجيبا، وامتدت سلطتهم، ووقعت هيبتهم في قلوب مجاوريهم، وحدث أن والي حلب في تلك الأيام أرسل جابيا من ذوي قرباه إلى تلك القبائل العربية لجمع مال الجزية المرتب عليهم، ولما صار الجابي بينهم أبصر فتاة عربية بارعة الجمال، فافتتن بها وأجاب داعي الهوى فقضى منها وطرا، ولما عرف الأعراب بذلك ثارت في رءوسهم سورة الغيظ، وهم على ما هو معروف من أمرهم في شدة الذود عن الحريم، فاستل أحدهم الأمير نبا سيفه وضرب عنق الجابي فقطعه، ثم خاف الأمير نبا عاقبة الأمر فجمع عياله وأصحابه وهرب بهم إلى شمالي لبنان؛ فأحسن أهله استقباله واحتمى عندهم، وشاد هناك قرية عرفت به وسميت قصر نبا،
Неизвестная страница