الدكتور يعلم أن تطبيقات الشورى العملية عبر التاريخ كانت طينا وهبابا؛ لذلك يرى أن نأخذ الشورى من غير اعتبار للتطبيقات التي مارسها الخلفاء عبر العصور.
الدكتور لا يريد من الشورى غير اسمها منزوعا من كل ما تلبس به، بديلا للديمقراطية.
وعندما قرر الدكتور السير على الدرب واختيار الشورى استخدم لغة مخاتلة؛ لأن الفكرة المخادعة تحتاج ثوبا مخاتلا، يقول: «الإسلام وضع قواعد كلية اسمها الشورى حين أمر بالمشاورة.» وهو قول لطيف ليس أكثر، وهو بحاجة إلى بعض الإيضاح، هل يعني بذلك أن العامة - وأنا منهم - لهم نصيب في هذه المشاورة؟ إن التاريخ والدين يقولان بغير هذا، فقد كانت الشورى تتم بين الرسول وصحابته فقط، ولم يكن فيها للعوام من أمثالنا شيء. والإسلام لم يضع التفاصيل لأنه لم يكن يريدها نظاما للناس كما يوهموننا؛ لأنه لو أراد لفصل وشرح وزاد. ولأنها كانت مشورة محدودة في الصحابة دون باقي المسلمين، وكانت أيضا شكلية تطييبا لقلوبهم. ثم من بعدهم استمر ذات الشأن: إذا أراد أحد الحكام نصيحة، وعادة ما كانت النصيحة تطلب لتوحيد الصف القيادي، أو كيفية الغزو، أو النجاة وقت الضيق إذا «حزبهم أمر»، أو الحفاظ على سيادتهم ومكاسبهم كزمرة أو صحبة أو قبيلة أو أسرة حاكمة أو عصابة، دون أن يكون في ذلك أي حساب للناس أو الحريات أو الحقوق، ودون أن يتشاوروا في كيفية إصلاح حال الأمة المجهولة الهوية والشكل والتكوين. إن أهل السوء بدورهم يتشاورون قبل القيام بفعل السطو المسلح، ولا شأن للشورى هنا بديمقراطية ولا بقانون ولا بدين. إن الشورى المفترض حسبما يسوقون أنها هي رأي الرعية في شئونها، وهو الأمر الوحيد الذي لم يحدث ولا مرة واحدة بطول التاريخ الإسلامي وعرضه، فهذا المعنى لم يرد على خاطر حكام المسلمين ولا يعرفونه، كانوا فقط يسعون إلى ما أسموه إعلاء كلمة الله بين عباده، وبالضرورة إعلاء قبائل العرب (الذين حملوا كلمة الله) فوق جميع البشر. وكان الحظ الأوفر لشرور العرب من نصيب الدول المحيطة بجزيرة العرب التي أسعدها الله بالخضوع لعبودية العرب والمذلة لهم.
يقول الدكتور معروف: «لقد حاول الفكر الإسلامي الحديث أن يطور مفهوم الحاكمية، بأن يجعل السيادة لله أو للشريعة، وأن يجعل السلطان للشعب أو للأمة. كما هو حال حركة الإخوان وحزب التحرير وغيرهما، وهو ما عبر عنه أحد الكتاب الإسلاميين بقوله في معرض التمييز بين الدولة الدينية والدولة الإسلامية بقوله: إن الفارق الأساسي بين الدولة الدينية والدولة الإسلامية، هو أن الأولى تقوم على أن الله هو مصدر السلطة، بينما الثانية - الإسلامية - فإن الله هو مصدر القانون بينما الأمة هي مصدر السلطة؛ ومن ثم فلا حصانة ولا عصمة لحاكم، وإنما القانون فوق الجميع والحاكم في المقدمة منهم.» ا.ه.
تضيع منها هنا أيضا دلالات ومعاني الكلمات التي اعتادوا على ترديدها دون أن يكون لها في الواقع أي أصل تدل عليه؛ فإن كان الإسلام دينا ودولة حقا، فلا بد أنه كان كذلك منذ زمن الخلافة الراشدة. ولو كانت الدولة من صلب الدين، ومعلوما منه بالضرورة، فلا بد أن تكون ثابتة بثبوت أركان الدين ومكوناته. ولكن هذه الدولة تعرضت منذ قيامها لهزات عنيفة حتى سقطت، وتتعرض اليوم للرفض بشكل مباشر أو غير مباشر، أو بحد أدنى تتعرض للتعديل والتبديل فيها، فيأتي المحدثون ومنهم الإخوان ليقولوا ما ردده الدكتور معروف من هنيهة، فيحدثونا عن دولتين إسلاميتين؛ الأولى دولة دينية والثانية إسلامية فقط، حكمت الأولى العرب مند زمن النبي وحتى سقوط الخلافة، والثانية هي المرشحة للحكم في المستقبل الآتي، دولة الإخوان التي هي دولة إسلامية وليست دولة دينية.
فيكون ذلك طعنا في دولة الخلافة لأنها كانت هي الدولة الدينية، وها قد أصبحت الآن محل رفض من إخواننا المسلمين بطرح ذلك البديل الجديد وهو الدولة الإسلامية.
ومن عرض د. معروف نفهم أن أصحاب هذا الطرح الجديد يقصدون في النهاية تحقيق العدالة، فإذا كان هذا ما يقول به الإخوان وحزب التحرير وغيرهما، فهل نفهم من ذلك أن الدولة الدينية التي حكم بها الخلفاء الراشدون فشلت في إقامة العدالة؟ ... ما هو مبرر التخلي عن دولة الخلافة ذات الحكم الديني واستبدالها بدولة الإخوان الإسلامية فقط؟ وما دام أصحاب هذا الطرح الجديد يربطون بين الإسلام والدولة وليس بين الدين والدولة، فعليهم إبراز مبرراتهم من القرآن والسنة لتؤيد رفضهم دولة الخلافة الدينية واستحداثهم الدولة الإسلامية.
أما إذا كان دافع هؤلاء لطرح هذا الحل - أي الدولة الإسلامية بديلا للدولة الدينية - يتأسس على قناعة أن الدولة مستقلة عن الدين، حينئذ لن نطلب منهم أدلة من القرآن والسنة، طالما أن الدولة شأن والدين شأن آخر، وهنا يجوز لغيرهم ولنا أو لمجلس النواب التعديل في الدولة والتبديل والتجديد بما لم يرد في الكتاب والسنة، وبما لم يرد في فعل الخلفاء الراشدين، على أن يعلنوا ذلك على الملأ ويقروا به.
إن الهيئات والجمعيات والجماعات الإسلامية والأزهر، وكل المشتغلين علينا بالدين تقريبا، يحاولون تقديم عروض سيرك بهلوانية جديدة حول الدولة الإسلامية، وهنا لا بد أن تتوالى الأسئلة: ما هو هيكلها؟ نظامها؟ تعريفها؟ فلسفتها المنشئة لها، دستورها ... إلخ. ويرى هؤلاء أيضا أن ما يطرح من جديدهم لا يتعارض مع الدين؛ وعليه فإن هذا الحق نفسه سيكون لأصحاب العلمانية الذين يقدمون دولة تختلف عن دولة الراشدين بدورهم، كما يعطيهم الحق في رفض كل نظم الحكم التي مارسها بقية الخلفاء، وكل ما تعرض له علم الفقه بهذا الشأن قديما أو حديثا. أم تصوروا أنهم وحدهم أصحاب هذا الحق؟
نعود نرتب الأوراق: يقولون إن الدولة الدينية تقوم على فكرة أن الله هو مصدر السلطة، وهذه كانت دولة النبي
Неизвестная страница