Османская держава до и после конституции
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
Жанры
فإن طالب الدفء واللاجئ من زمهرير الشتاء لا يجد في نيس وما حاذاها ورومة وما وليها ملاذا آمنا من أطراف فلسطين وأرياف العراق ومدائنه وثغور طرابلس الغرب، ولا نضرب مصر مثلا؛ لأن سياح العالم أجمع عرفوا مزيتها قبل الآن، وهي قدرتهم قدرهم فاستتمت لهم المعدات، فنالت قسطها منهم ونالوا قسطهم منها، وإذا استبقوا فيها كل سنة ما يقرب من ثمانية ملايين من الجنيهات، فإنما هو كسب تحرزه رزقا طيبا ومالا حلالا.
وطالب النسيم العليل المنهزم من قيظ الهجير والجانح إلى العزلة والسكينة فرارا من ضجة المدائن أو استجماعا لقوة أنهكها توالي الإكباب على العمل لا يجدان في جبال سويسرا وأشباهها معتصما أمنع ومرتعا أبهج من الجبال المتشعبة في قلب كثير من الولايات الأوروبية والممتدة إلى كليكيا وسوريا، وحسبك منها جبال بيلان ولبنان والجبل الشرقي، قنن تتعالى بعض فوق بعض لك منها ما شئت لجميع الأمزجة من قوي وضعيف، من علو مئات من الأقدام إلى علو عشرة آلاف قدم، تنفجر منها الينابيع بالماء الزلال ولا يشوبها تقلب الهواء الفجائي الذي يعتري جبال أوروبا، وإن لك من صحة أجسام ساكنيها على شقائهم وخشونة معيشتهم دليلا على فضلها على ما وازاها من جبال أوروبا.
جرى لنا في صيف سنة 1904 حديث مع المرحوم مظفر باشا متصرف جبل لبنان، فكان يتأفف متبرما من حراجة موقفه وقصر يده عن إتيان ما يرغب من الإصلاح ونفع الجبل بما يستبقي له فيه الذكر الجميل، قال: قد كاد يبلغ اليأس مني أقصاه؛ فلا أرى وجها لإتيان أمر جديد أنفع به هذه البلاد، رغبت في إنشاء المرافئ فصدوني من الخارج، ورغبت في زيادة الضرائب لإجراء بعض الإصلاح فصدوني من الداخل. وجبلكم فقير صغير يضيق نطاقه عن معاش سكانه، يهجرونه أفواجا إلى الديار القاصية حتى خلت قرى كثيرة من السكان، ولست أرى ما سيكون من سوء المصير.
فقلنا بعد بحث طويل: وهب أنه ليس في لبنان شيء من موارد الرزق، أليس هذا موقعه على أكتاف الأراضي المقدسة، وهذا هو هواؤه وماؤه، أوليست هذه الفئة التي تقصده للاصطياف من جواره في سوريا ومن القطر المصري مورد رزق ينمو عاما فعاما. ينفق المصريون المصطافون في أوروبا زهاء خمسة ملايين من الجنيهات مع جهل كثيرين منهم طبائع الأوروبيين ولغاتهم، فلو سهلت لهم وسائل الرفاه والراحة فحسبنا منهم خمس هذا المبلغ، ولا نقول كله أو نصفه، أفلا ترى دولتكم أن كل سنة يلقون فيها بشرا وإيناسا بمرفأ بيروت تتلوها سنة أخرى يتضاعف فيها عددهم، وكل سنة يصادفون فيها عبوسا وتضييقا تتلوها سنوات لا نرى منهم فيها غير النزر القليل، فلو سعيتم لدى المراجع العالية بإكرام وفادتهم في الثغور، ثم أجهدتم النفس بإتقان الوسائل الداخلية من طرق وفنادق وأشباهها كان لكم أثر فوق كل أثر. فقال: كل هذا صحيح ولست بغافل عنه ولكن ...
ثم إن الراغب في الجمع بين النزهة والاستشفاء بانتياب ما يدعى في أوروبا بمدائن الماء، هيهات أن يلقى في شيء منها فوق ما يلقى من جودة الهواء واعتدال حرارة الماء وبهجة المناظر على ضفاف البوسفور وما قابله من جزائر الأمراء وجزر الأرخبيل وثغور البحر المتوسط.
وألحق بما تقدم ينابيع المياه المعدنية الصالحة للشرب والاستحمام، والذاهبة جميعها ضياعا ما خلا شيء من ينابيع بورصة، فما أجدرها أن تكون مجمعا للسياح يرتادونها إلى هيت، وما يليها من أراضي العراق وأطراف العمق في حلب، وغير ذلك مما هو متفرق في أطراف البلاد، وقد سبق لنا في التاريخ أن تكون بعض ينابيعنا المعدنية مجتمعا لسياح العالم الروماني كما أسلفنا عن حمامات فلسطين، ومنها تتألف المياه أنهارا تندفع إلى البحر كزرقاء معين وغيرها، فما المانع من رجوع مثل ذلك العهد على عهد الإصلاح هذا.
وإننا غير مغترين بوفرة هذه المصادر الطبيعية للثروة، ولسنا بطامعين أن تفيض ميازيبها نضارا في سنة أو سنوات قلائل، ولكنه لا بد من تنبه إخواننا العثمانيين في كل قطر من أقطارهم إلى ثروة يمكن الشروع مذ الآن في استدرارها شيئا فشيئا.
تلك خلاصة ما يقال بالإيجاز عن حالة السياحة في البلاد العثمانية، وأما المهاجرة إليها بقصد الإقامة أو الاستعمار، فعلى نوعين أحدهما مهاجرة فئة من الأجانب بمعاونة أرباب الأموال منهم، فتتوطن في بقعة من الأرض توطنها في بعض جهات فلسطين مع البقاء على جنسيتها، وليس هنا موضع البحث فيها، وخصوصا أن هذه الفئة تجد لها من نفسها من أسباب العناية بها ما يغنيها عن عناية الحكومة، والثاني مهاجرة القادمين إليها من تلقاء أنفسهم بقصد الإقامة والتجنس بالجنسية العثمانية كمهاجري بلاد الجركس وإكريت وبوسنه وهرسك وهؤلاء هم الذين يجب أن توجه الحكومة كل عنايتها إلى نفعهم والانتفاع بهم، فإن اللجنة المعروفة بقومسيون المهاجرة والمعقودة لهذا الغرض في الأستانة يحق لها جزيل الثناء لما تبذله من المساعي، ولكنها قد لا تصيب الغرض المقصود في بعض الأحوال، إذ ما الفائدة مثلا من إسكان الجماهير من هؤلاء المهاجرين، ومعظمهم من الزراع في المدن الكبيرة كأزمير أو دمشق الشام، مع وجود البقاع المخصبة التي تنعق بها غربان القفر، فإذا كانت ثمة مطالعات ماضية فقد انقضى أمرها، ثم إنه ليسوءنا أيضا أن الذين أسكنوا في الأراضي الزراعية لم ينظر الولاة بعين العناية إلى أسباب راحتهم وإمدادهم بالمعدات اللازمة وإعداد المنازل الواقية لهم من حر الصيف وبرد الشتاء؛ ولهذا فشا الموت في بعض فرقهم ممن أنزل في أعالي العراق فقلت رغبة المهاجرة بين مواطنيهم في بلادهم لما بلغهم من تلك الأخبار المؤلمة.
وإن مجال المهاجرة إلى البلاد العثمانية متسع جدا، وتناول أطراف البحث فيها مما يضيق عنه نطاق سفرنا هذا الصغير، وإنما هي نفثات عثماني محب لوطنه باح بشيء منها وادخر ما بقي منها لفرصة أخرى.
الخاتمة
Неизвестная страница