44

إنها هي العواطف التي نحسها حين ننتشي برؤية الجميل وحين ننفر لرؤية القبيح، وهي هي بعينها العواطف التي نحسها إذ نثني على فضيلة أو نذم رذيلة؛ ولما كانت أمثال هذه العواطف إنما تنشأ «مباشرة» عن حالة التأمل، كان الأنسب لها أن تضم إلى العواطف المباشرة، لا إلى العواطف غير المباشرة.

تلك هي أقسام «العواطف» الأربعة في رأي هيوم، نلخص مميزاتها فيما يلي: فهي تنقسم بادئ ذي بدء إلى «أولية» و«ثانوية»، أما العواطف الأولية فهي التي تنشأ عن الفطرة الغفل، وعن الدوافع الغريزية، غير معتمدة على سابق خبرة من لذة أو ألم، وتلك هي شهوات البدن من جوع وما إليه؛ وأما العواطف الثانوية فهي التي وإن تكن ناتجة عن الدوافع الفطرية الغريزية، إلا أنها تعتمد أيضا على خبرة سابقة من لذة أو ألم.

وتعود العواطف الثانوية فتنقسم قسمين: مباشرة وغير مباشرة؛ أما المباشرة منها فهي التي لا تحتاج عند استثارتها إلا إلى الخبرة السابقة من لذة أو ألم، وأما غير المباشرة فهي التي تحتاج إلى جانب اللذة أو الألم إلى صفات أخرى، والعواطف المباشرة صنفان: عنيفة وهادئة؛ فالعنيفة هي عواطف الإقبال نحو شيء أو النفور من شيء، والفرح والحزن، والأمل والخوف، ثم الإرادة مضافة إلى كل منها، والهادئة هي التي تنشأ عن تأمل الأفعال والأشياء تأملا يستحسن منها جانبا ويستقبح آخر؛ والعواطف غير المباشرة، التي تنشأ من الخبرة السابقة بلذة أو بألم مضافا إليها صفات أخرى، أربعة: الزهو والضعة والحب والكراهية

100

وهذه هي العواطف التي سنتناولها الآن بحديث خاص. (8-2) الزهو والضعة، والحب والكراهية

الزهو والضعة - عند هيوم - هما بمثابة الانطباعات «البسيطة» ولذلك فهما لا يعرفان بشيء سواهما، بل لا بد من ممارستهما ممارسة مباشرة، وكل ما في مستطاعنا أن نقوله عنهما هو أن نصف بعض الظروف التي تحيط بهما، وتكون شرطا لحدوثهما؛ وأول هذه الظروف وأبرزها وأوضحها هو علاقة هاتين العاطفتين بالنفس أو الذات؛ لأنه حيث لا تدخل ذات الإنسان المدرك عنصرا من عناصر الموقف، فلا يكون ثمة زهو أو ضعة، «فالذات في جميع الحالات هي طرف الغاية من الزهو أو الضعة» بمعنى أن الإنسان إذ يحس شعور الزهو أو شعور الضعة، فلا بد أن يكون الموقف مرتبطا بذاته على نحو ما.

إن عاطفة الزهو في ذاتها، أو عاطفة الضعة في ذاتها، لا تحتوي بين مقوماتها نفس الإنسان صاحب هذه العاطفة أو تلك؛ إنك إذا ما حللت أيا من هاتين العاطفتين في حدود نفسها وفي داخل كيانها فلن تجد نفس الإنسان عنصرا من عناصرها؛ لكن كلا من هاتين العاطفتين إذا ما استثيرت، فلا تلبث أن تلوي أبصارنا إلى فكرة النفس أو الذات، وتركز انتباهنا على تلك الفكرة؛ وليس معنى ذلك أن عاطفة الزهو أو عاطفة الضعة تخلق فكرة الذات خلقا وتولدها توليدا، بل إن هذه الفكرة قائمة أبدا أمام عقولنا وكل ما في الأمر هو أننا بحاجة إلى ما يوجه التفاتنا إليها، ومثل هذا التوجيه هو ما تفعله هاتان العاطفتان. «واضح أن الزهو والضعة، رغم ما بينهما من تضاد، يتجهان نحو هدف واحد بعينه، وذلك الهدف هو الذات (أو النفس) أو إن شئت فقل هو ذلك التتابع الحادث بين أفكار وانطباعات يرتبط بعضها ببعض على نحو ما، وتكون موضع تذكرنا ووعينا؛ فهاتان العاطفتان إذا ما استثيرت إحداهما فينا، ركزت انتباهنا في تلك النفس»

101

ووجهت أنظارنا إليها؛ أو بعبارة أخرى، إن عاطفة الزهو عند الإنسان المزهو، أو عاطفة الضعة عند من يحس الضعة، إنما تلفت نظره إلى «نفسه»، بحيث يجوز لنا أن نقول إن «النفس» هي الهدف الذي تستهدفه هاتان العاطفتان من وجهة سيرهما، أو قل هي طرف النهاية الذي ينتهيان عنده.

وأما طرف البداية الذي تنشأ عنده كل من هاتين العاطفتين، أو إن شئت فقل «العلة» التي عنها تصدر عاطفة الزهو أو عاطفة الضعة، فهي ما يطلق عليه هيوم اسم «موضوع العاطفة»؛ وإذن فهنالك لكل من عاطفتي الزهو والضعة، موضوعها الذي تبدأ منه وهدفها الذي تنتهي إليه؛ وبديهي أنه على الرغم من التشابه بين هاتين العاطفتين من حيث إطار التكوين وطريقة السير، فمحال أن يكون ما يسبب حدوث الأولى هو نفسه ما يسبب حدوث الثانية، ومحال - بالتالي - أن تكون «النفس» هي علة حدوث هذه أو تلك، لأنها لو كانت علة، لاجتمع الضدان في علة واحدة ... نعم إن «النفس» أو «الذات» لا تكون علة للزهو ولا علة للضعة، وإن تكن الهدف الذي ينتهيان إليه معا؛ إنها لا تثير هذه العاطفة أو تلك، لكن العاطفة إذا ما استثيرت، جعلت النفس غايتها التي تتجه إليها بالتفات صاحبها؛ تثور عاطفة الزهو أو عاطفة الضعة، فينتقل الإنسان منها إلى فكرة أخرى سواهما، هي فكرة «النفس» التي هي نفسه؛ «فكأن العاطفة موضوعة بين فكرتين، إحداهما فكرة العلة التي تحدثها، والأخرى هي فكرة «النفس» التي تنتهي إليها.»

Неизвестная страница