15
وسنبدأ بدعوانا بأن «العقل يستحيل أن يكون أية فكرة عن كم أو كيف إلا إذا كون فكرة دقيقة عن الدرجة التي يكون عليها ذلك الكم أو ذلك الكيف» فلنا على ذلك حجج ثلاث: أولاها هي أنه مما لا شك فيه أن الأشياء إذا اختلفت أمكن التمييز بينها، وأن ما يمكن التمييز بينه يمكن كذلك فصل بعضه عن بعض بالفكر والخيال؛ والعكس صحيح أيضا، أي إنه إذا أمكننا أن نفصل بالفكر شيئا عن شيء، تحتم أن يكون الشيئان متميزين أحدهما عن الآخر، وأن يكونا بالتالي مختلفين؛ إذ كيف يمكن أن نفصل شيئا عن شيء إذا لم يكن ممكنا أن أميز أحدهما من الآخر، ثم كيف أميز بينهما عل هذا النحو إذا لم يكن بينهما اختلاف؟
فإذا أردنا أن نعرف إن كان في الإمكان أن نجرد صفة من الصفات لنقيمها وحدها منفصلة عن زميلاتها التي كانت مؤتلفة معها في فرد واحد، وجب أن أستيقن أولا من أن هذه الصفة المراد عزلها وتجريدها هي مما يمكن عزله، وقد قلنا إن ما يمكن عزله لا بد أن يكون مما يمكن تمييزه من سواه، ولا يتميز الشيء من الشيء إلا إذا كانا مختلفين؛ خذ خطا مستقيما - مثلا - وانظر هل يمكن أن تعزل الخط عن طوله؟ ذلك محال، لأنه لا تمييز في الخط الذي أمامك بين الخط وطوله، وإذا كان لا تمييز فلا اختلاف وبالتالي لا انفصال لأحدهما عن الآخر، وإذن فلا يمكن أن أجرد «الخط» عن طوله المعين، لأقول إنني سأجعل الصفة الأولى جوهرية عامة في سائر الخطوط، وسأطرح الصفة الثانية باعتبارها عرضا يكون في خط ولا يكون في آخر، وهكذا قل في شتى الصفات، محال أن تعزل الصفة وحدها مجردا إياها من الدرجة التي تكون عليها؛ وعلى ذلك فيستحيل على إنسان أن يتصور خطا مستقيما بغير طول معين، ولا عبرة بعد ذلك بأنه قد يتخذ هذا الخط ذا الطول المعين ممثلا لغيره من الخطوط ذوات الأطوال المختلفة، أم أنه سيترك هذا التمثيل لخط آخر ذي طول آخر.
16
والحجة الثانية هي أنه محال على شيء أن يطبع الحواس، وبالتالي يمثل أمام العقل، إلا إذا كان شيئا فرديا جزئيا له درجة معينة محددة من كم وكيف؛ ولما كانت الأفكار كلها صورا أو نسخا من انطباعاتنا، فما يصدق على هذه يصدق أيضا على تلك؛ إذ الأفكار لا تختلف عن الانطباعات التي هي أصول لها إلا في درجة النصوع والوضوح وقوة الأثر، واختلاف درجة الوضوح لا يعني فيما يعنيه أن يكون الانطباع ذا كم معين وكيف معين وأن تجيء الفكرة التي هي نسخة منه مجردة عن هذا التعين في الكم والكيف.
17
والحجة الثالثة هي أنه من المبادئ التي تقرها الفلسفة عامة أن كل شيء في الطبيعة فرد متميز بفرديته، فمن السخف أن تفترض وجود مثلث في الطبيعة دون أن تكون لأضلاعه وزواياه مقادير معلومة معينة بالنسبة بعضها إلى بعض، كأن يكون - مثلا - مثلثا متساوي الأضلاع أو مختلفها، متساوي الزوايا أو مختلفها، وأن أضلاعه أو زواياه إذا اختلفت فلا بد أن يكون اختلافها بنسبة معلومة متعينة فإذا كان افتراض وجود مثلث في دنيا الأشياء الواقعة لا تكون له أضلاع وزوايا ذوات مقادير معينة محددة، أقول إنه إذا كان هذا القول سخفا، فسخف بالتالي أن تقول ذلك عن «فكرة» المثلث، ما دامت «الفكرة» نسخة من الانطباع الحسي، وما دام هذا الانطباع الحسي لا يكون إلا من شيء قائم فعلا في دنيا الأشياء، شيء له جزئيته وفرديته ودرجته المعلومة المعينة من كيف وكم.
إنه لا فرق إطلاقا بين قولك عن فكرة ما بأنها مجرد فكرة في الرأس، وقولك عنها إنها فكرة تشير إلى شيء في الخارج، لأن الفكرة كائنة ما كانت - ما دامت فكرة مشروعة - فلا بد بحكم طبيعة تكوينها أن يكون لها مقابل في الخارج؛ لأنه لولا وجود الشيء الخارجي لما كان «انطباع» ثم لما كانت فكرة؛ ولما كان محالا على فكرة كائنة ما كانت أن تصور شيئا بغير كم وكيف، فإنه محال عليها كذلك ألا يكون هذا الكم فيها وهذا الكيف ذوي درجة معينة تجعل منها فكرة فردة جزئية متميزة من سواها مهما كان بعد ذلك بينها وبين سواها من أوجه الشبه.
فقل ما شئت عن الفكرة التي تتخذها ممثلة لمجموعة من الفكرات الشبيهة بها، لكنه محتوم عليك أن تسلم بأنها لا بد أن تكون في ذاتها فكرة جزئية؛ وإذن فما نقول عنها إنها فكرة عامة أو فكرة مجردة، إن هي في حقيقة أمرها إلا فرد من سائر الأفراد، وكل ما هنالك أنها اختيرت لتكون ممثلة لسائر الأفراد؛ فهذا التعميم في تطبيقها واستخدامها لا يدخل في طبيعتها شيئا جديدا يغير من كيانها.
18
Неизвестная страница