فالفكرة من أفكارنا هي - إذن - صورة لانطباعاتنا الحسية أو الشعورية؛ ويستحيل أن نجد بين أفكارنا فكرة واحدة لا يمكن تعقبها إلى الانطباع أو الانطباعات التي أحسسناها أو خبرناها؛ نعم إن الفكر طليق والخبرة المباشرة مقيدة بزمان معين ومكان معين، بمعنى أنني بالفكر أستطيع أن أصور لنفسي كائنات ليست في شكلها الظاهر مما يوجد بين الكائنات الواقعة، على حين أني بالخبرة المباشرة لا أعدو ما هو كائن فعلا؛ وبالفكر أستطيع أن أجاوز حدود مكاني الذي أقيم الآن فيه، بل أجاوز الكرة الأرضية كلها وأتصور نفسي سابحا في الهواء أو سائرا على ما شئت لنفسي من كواكب، أما بجسمي الذي هو موطن الخبرة المباشرة فلا أعدو اللحظة الراهنة ولا المكان المحيط بي؛ أقول إن الفكر حر ينشئ لنفسه ما شاء من صور، على حين أن الخبرة المباشرة مقيدة بما هو واقع هنا والآن، مما قد يوهم المتعجل بأن للفكر مصادر غير الخبرة المباشرة، لكن هذا المتعجل لو أمعن في الأمر لانتهى إلى أن أفكاره كائنة ما كانت يمكن تحليلها وردها خيطا خيطا وعنصرا عنصرا إلى خبرات مباشرة مارسها بالحس أو بالشعور؛ فقد يخيل لنفسه جبلا من ذهب، ثم يقول ها هي ذي فكرة في رأسي ليس لها أصل مما قد وقع في الحس، لكنها في الحقيقة فكرة مؤلفة من عنصرين، الجبل والذهب، وكلاهما قد عرفه بالحس المباشر حين رأى جبلا وشهد ذهبا، ثم جاء الآن فألف بينهما في فكرة مركبة واحدة؛ فأرسل خيالك ما شئت وصور لنفسك العجائب، صور لنفسك حصانا يتحلى بالفضيلة مثلا، فأنت ما تزال في حدود خبراتك، رأيت الحصان وعرفت ماذا من الفعل يكون فاضلا، ثم ألفت بين الخبرتين، «وهكذا تكون كافة أفكارنا التي هي إدراكات خافتة، صورا تحاكي انطباعاتنا التي هي إدراكات ناصعة.»
7
تلك قاعدة عامة نقيم عليها البرهان بحجتين؛ فأولا إذا حللنا أفكارنا بالغة ما بلغت من التركيب أو السمو، وجدنا دائما أنها تنحل إلى مجموعة من أفكار بسيطة كل فكرة منها صورة لانطباع جاءنا في الخبرة المباشرة؛ خذ - مثلا - فكرة «الله» حين نعني بالكلمة كائنا لا نهائي العقل والحكمة والخير وغير ذلك من صفات؛ فهذه المجموعة من الصفات اللانهائية إن هي إلا امتدادات لنفس الصفات التي عرفناها في خبراتنا الإنسانية المباشرة؛ فأنا أعلم من تجاربي متى أسمي الإنسان عاقلا أو حكيما أو خيرا، لكنني أعلم كذلك من تجاربي أن الإنسان العاقل محدود في قدرته العقلية وأن الحكيم محدود الحكمة والخير محدود الخير وهكذا، فما علي بعدئذ إلا أن أمط هذه القدرات المحدودة لأبلغ بها في خيالي صفات لا تقف عند نهايات أو حدود، حتى إذا ما تم لي ذلك جمعت الصفات في كائن أسميته «الله».
8
وأما الحجة الثانية التي نقيمها على صدق ما زعمناه، وهو أن الفكرة من أفكارنا يستحيل ألا ترتد إلى أصول لها بين انطباعاتنا المباشرة، فهي أن من حرم حاسة حرم بالتالي الأفكار التي كان يمكن أن تترتب على انطباعات تلك الحاسة المفقودة، فالأعمى لا يعرف ما اللون والأصم لا يعرف ما الصوت؛ ورد للأعمى بصره وللأصم سمعه تفتح لهما طريقا جديدا تنساب إليهما منه أفكار لم يكن لهما بها عهد؛ وقل مثل ذلك أيضا إذا ما سلمت للإنسان حاسة معينة كالبصر مثلا، لكن بصره هذا لم يقع على شيء معين، فلن تكون له عندئذ فكرة عن ذلك الشيء الذي لم يقع له في خبرته البصرية، وكذلك الذوق فمن لم يذق الخمر - مثلا - لا يعرف ما طعمها؛ وليس الأمر هنا بقاصر على الحواس الظاهرة من رؤية وسمع ... إلخ، بل هو كذلك واقع بالنسبة إلى حياتنا الوجدانية؛ فمن الناس من لا يعرف كيف تكون العاطفة التي تدفع صاحبها إلى قسوة أو انتقام، ومن طبع على الأنانية لا يتصور كيف تكون عاطفة الإيثار.
9
لكن الأمانة تقتضينا أن نضرب مثلا لحالة من الحالات الشاذة التي لا ينطبق عليها المبدأ الذي نذهب إليه وندافع عنه، وأعني بها الحالات التي يكون لدينا فيها فكرة ثم لا يكون لهذه الفكرة أصل حسي في انطباعاتنا؛ والحالة التي نسوقها مثلا لذلك هي درجة معينة من درجات اللون أو من درجات الصوت، لم تقع فيما وقع للعين أو للأذن من ألوان أو أصوات، ومع ذلك قد نكون لأنفسنا فكرة عنها؛ فلا شك أن العين قد انطبعت بمختلف الألوان من أحمر وأصفر وأزرق وما إليها، بحيث أدركنا ما بين هذه الألوان من أوجه الاختلاف الذي يجعل الواحد منها متميزا من الآخر، كما أدركنا ما بينها من أوجه الشبه الذي يجعلها جميعا مما ينطوي تحت اسم واحد هو كلمة «لون»؛ وقل ذلك نفسه في درجات اللون الواحد، فقد رأت عينك - مثلا - درجات مختلفات من اللون الأزرق، بحيث أدركت ما بين هذه الدرجات من أوجه الاختلاف الذي يجعلها متباينة بعضها عن بعض، كما أدركت ما بينها من أوجه الشبه الذي يجعلها على تباينها مما يجتمع تحت اسم واحد هو كلمة «أزرق»؛ فافرض الآن أن هنالك درجة من درجات اللون الأزرق لم تقع لك أبدا في خبراتك الحسية المباشرة، لكنك رأيت ما هو أكثف منها وما هو أخف منها كثافة، ثم افرض أنك قد وضعت كافة درجات اللون الأزرق التي وقعت لك فعلا في خبراتك الماضية، تاركا في وسطها فجوة تمثل الدرجة التي لم تخبرها فيما مضى، ألا ترى أنك تستطيع أن تملأ الفجوة بخيالك، وبذلك تكون لنفسك «فكرة» عن لون معين لم يكن له انطباع حسي في خبراتك المباشرة؟
10
لكن مثل هذه الحالة نادر بحيث لا يجوز أن نسرف في أهميته إسرافا يدعونا إلى نبذ المبدأ الذي ندعو إليه.
11
Неизвестная страница