دَرْجُ الدُّرر في تَفِسيِر الآيِ والسُّوَر
تَأليِف
عَبد القَاهِر بن عَبد الرّحمن الجرجَاني
المتوفى (٤٧١ هـ)
رِسَالَة أعِدَتْ لِنَيلِ دَرَجَةِ المَاجِستِير
في اللغَة العَرَبِيَّة لِسُورَتَي الفَاتِحَة وَالبَقَرة
دِرَاسَة وَتحقِيق
وَليد بِن أحمد بن صَالِح الحُسَيْن
المجلَّد الأوَّل
1 / 1
جَمِيعُ الحُقُوق مَحفُوظَةٌ
الطَّبْعَة الاولى
١٤٢٩ هـ -٢٠٠٨ م
تصدر هذه السلسلة عن مجلة الحكمة
الصادرة في بريطانيا - مانشستر
Al -Bukhary Islamic center
٢٠٦ Burton Road
Manchester M٢٠ - ٢LW
England
Tal/Fax: ٠٠٤٤ - ١٦١ - ٣٧٤ - ٦٦٤٨
على الراغبين الحصول على مجلة الحكمة
أو سلسلة إصدارات الحكمة الاتصال
على ممثل مجلتنا في الشرق الأوسط على العنوان التالي:
السعودية - المدينة المنورة - ص. ب: ٦٦٠٤
هاتف: ٨٤٧٠٠٩٦ - ٠٤ - فاكس: ٨٤٧٠٠٦٨ - ٠٤
هاتف جوال: ٣٣٢٢٤٠٨ - ٥٨١٦٠٤٣/ ٠٠٩٦٦٥٠
Email: alhikma٥٩@hotmail.com
1 / 2
شكر وتقدير
الشكر لله أولًا وآخرًا .. ظاهرًا وباطنًا .. سرًا وعلانية، على ما وفَّقني به من التفرُّغ لخدمة حستابه العزيز من خلال هذا التفسير ..
ثم أصل شكري وتقديري إلى أستاذي الفاضل عبد المنعم بشناتي المشرف على رسالتي هذه، فقد كان لي خير عون بعد الله ﷿ في توجيهاته وإشاراته اللطيفة فيما يخصُّ رسالتي ..
كما أصل شكري وتقديري إلى جامعة الجنان بدءًا بمديرة الجامعة الدكتورة مني حداد ثم لكلِّ العاملين بالجامعة من إداريين وأعضاء هيئة التدريس.
كما لا أنسى من صبرَتْ وتحمَلت عناء عملي وتفرُّغي لهذه الرسالة زوجتي العزيزة أم عبد الله التي احتسبت طوال هذه المدة ..
والله أسأل أن يجعل عملي هذا. خالصًا لوجهه الكريم .. والحمدُ لله ربِّ العالمين.
* * *
1 / 3
المقَدّمَة
الحمدُ لله الذي نَزَّلَ القرآن بلسانٍ عربيٍّ مُبِين، فكان من عربيته ما أصابَ أعراب الجاهلية بأعظمِ الاندهاشِ والذهول، وكان من بيانِهِ وفصاحته ما يبهر العقول، وتَعْجَزُ عن غوامضِهِ وأسرارِهِ الفحول.
والصلاةُ والسلامُ على من أُوتي جوامع الكَلِم، النبيِّ الأمي إمامًا، أفصح الثقلين لسانًا، وأعذبهم بيانًا، وعلى آله وأصحابه الذين جَنَّدُوا أنفسهم لحماية القرآن الكريم، فوضَّحوا غريبهُ، وبَيَّنُوا مشكلهُ، وَجَلَّوا متشابهه، وفتقوا أسراره وعجائبَهُ.
وبعد:
فإنَّ أعظم ما اشتغل به الباحثون، وأنفس ما صرفت إليه العقول والأذهان، وأعظم علم وأشرفه هو علم كتاب الله ﷿، والبحث في أغواره وأعماقه، فقد بذل علماء المسلمين في خدمة هذا الكتاب العظيم جهودًا جَبَّارة منذ الصدر الأول إلى يومنا هذا والقلم السيال لا يتوقَّف عن إخراج مكنونه في أي جانب من جوانب معارفه المختلفة، فاعتنوا بألفاظه ومفرداته، ومعانيه وتراكيبه، وناسخه ومنسوخه، وأحكامه وقراءاته، وإعرابه وفقهه، إلى غير ذلك من ألوان معارفه المختلفة، وما تركوا جانبًا من جوانب الخدمة لكتاب الله إلا وقاموا به خير قيام.
وكثيرًا ما تراودني فكرة وتتوهج في ذهني بين الفينة والأخرى أن أخرج وأنقب عن النفيس من تراثنا المكنون وأن تجتمع فيه صفتان: الصفة الأولى: أن يكون في أشرف العلوم، والصفة الثانية: أن يكون مؤلِّفه من
1 / 4
أعلام العلماء المشاهير ممن شهد له القاصي والداني بجلالته ونزاهته وسعة علمه، فوقع بصري على هذا النفيس الذي لم يخرج في حيِّز الوجود في يوم من الأيام، تتطلَّع نفوس الباحثين إليه، وينتظرون بزوغ فجره في أقرب اللحظات متمثِّلًا بسِفْرِ عظيم، ألا وهو كتاب "درج الدرر في تفسير الآي والسُّور" إنه عنوانٌ مشوِّق يجلي لنا درر الكتاب المكنون، كيف بنا إذا تبيَّن لنا أن الذي تصدَّى لهذه الدرر المضيئة في تفسيرها وبيانها وسبر أغوارها هو إمام العربية وشيخ البلاغيين عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني (ت ٤٧١ هجرية)، فاجتمعت الصفتان العظيمتان عِظَم الكتاب وعِظَم الكاتب.
° أهمية وسبب اختيار الموضوع.
° أهداف الرسالة.
° المشاكل والصعاب.
° منهجي في هذه الرسالة.
أهمية الموضوع وسبب اختياره:
إنَّ مما لا شكَّ فيه باتفاق أرباب الفنون وأصحاب التوجهات المسلمة والعلماء والباحثين والمسلمين أجمعين يجمع الجميع على أن أشرف الكتب هو كتاب الله ﷿، فهو خير الكلام كما قال ﵊ (١).
وقال الشاعر:
وخير كلام في الوجودِ كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه
_________
(١) ورد ذلك في افتتاحية خطبته ﵊ والمعروفة بـ "خطبة الحاجة"، وقد جمع العلامة الألباني ﵀ ألفاظ طرق حديثها في كتاب مستقل سماه: "خطبة الحاجة"، وقد أخرجها الإمام مسلم في صحيحه (٢/ ٥٩٢) من حديث جابر وابن عباس ﵃.
1 / 5
فإذا تعيَّن بأن يكون كتاب الله أفضل الكتب وأشرف العلوم يتعيَّن من لازم ذلك بأن تكون مباحثه وكل ما تعلق به هو أشرف العلوم مهما اختلفت مشارب الفنون وأربابها وأصحابها.
وعلماؤنا الأفاضل وسلفنا الأكارم عرفوا أهميته وشرفه فشمروا عن سواعدهم فبذلوا النفس والنفيس في خدمته لما أيقنوا من أنه يحتوي على أسرار ومكنونات يعجز أي مفسر عن الإحاطة بإخراج هذه الأسرار والمكنونات، بل لو جَمَعْتَ كل التفاسير قديمًا وحديثًا في كتاب واحد لم تتحقق تلك الشمولية في تفسيره حتى يأتي من بعدهم فيظهرون من هذه الأسرار والمكنونات والإعجاز والفوائد ما لم يظهره من قبلهم وهكذا حتى تنتهي الدنيا ليعلم الباحثون في علوم القرآن خاصة عجزهم وضعفهم عن احتواء مكنونه، فإذا تبيَّن ذلك فإنه يتعيَّن أيضًا شرف هذا العلم وأهميته. كما تكمن أهمية هذا الموضوع بما تحويه مادته الثرية بالفوائد والشرائد في علوم القرآن المختلفة، فقد أبدع الجرجاني في تبسيط هذه العلوم والفوائد بشكل مختصر ومبسط نحويًا وبلاغيًا وموضوعيًا ومعجميًا لغويًا، كما نثر فيه الكثير من الأحكام الفقهية مجليًا فيها الحلال والحرام في آيات الأحكام، ومظهرًا ميوله للمذهب الشافعي الذي ينتمي إليه، كما أنه لم يغفل ذكر الكثير من الجوانب التاريخية واستعراض الكثير من الأعلام مستشهدًا بأقوالهم باختلاف تخصصاتهم، ثم نراه يستعرض محلِّلًا ومعلِّلًا ومدلِّلًا الكثير من المسائل العقدية التي تظهر لنا ميوله الأشعري الذي ينتصر له في تلك المباحث سيما في آيات الصفات.
وبهذا تتجلى لنا أهمية الموضوع الذي شمرنا سواعدنا في إظهاره، فهو يعدُّ عملًا موسوعيًا في معارفه الشريفة، فمع أن مؤلِّفه جنح إلى أسلوب الاختصار فيه فهو لا يألو جهدًا في استعراض وبسط الكثير من المسائل التي تحتاج إلى تحرير ومناقشة ليظهر لنا نتائج تلك المباحث، ولذا نرى أن المباحث المطروقة في هذا التفسير ينشد إليها طالب العلم المتخصص كما ينشد إلى قراءتها والتلذذ في مادتها حتى العامة من الناس.
1 / 6
كما تكمن أهمية الموضوع بأهمية مباحثه التي تقدم ذكرها وبروز مؤلفه الجرجاني ﵀ سيما في الجوانب النحوية والبلاغية المنثورة في مادة الكتاب وتحليلاته الدقيقة فيها حتى وصفه كثير من العلماء كالحافظ الذهبي وغيره بأنه شيخ العربية سيما أنه عاصر الكبار واغترف من فيض علمهم حتى تميَّز بعلمه وأخذ صيته ينتشر في مشارق الأرض ومغاربها، فكتب الله له القبول بين العلماء والباحثين في كلِّ مكان، فجلالة العالم وجلالة العلم الذي كتب فيه أكسب الموضوع - بلا شك ولا ريب - أهمية وقدرًا فنحن في أمسِّ الحاجة إلى علماء مثل هؤلاء ينبرون إلى خدمة هذه العلوم الشريفة علوم الشريعة بما فيها من مباحث والذي أشرفها علم تفسير كتاب الله ﷿.
كما أن بروز الجرجاني في جانب البلاغة حتى لم تعرف البلاغة إلا به ولم يعرف إلا بها إذ هو الواضع المؤسِّس لقواعدها وأصولها، فإذا ذكرت البلاغة ذكر الجرجاني معها، وما كتبه التي ألَّفها في هذا الفن والإقبال الشديد عليها إلا أكبر دليل وشاهد على تميُّزه بها وضلوعه في مباحثها. وكتابنا هذا التفسير أودع فيه الكثير من المباحث البيانية والإشارات البلاغية حتى أكسب موضوع التفسير في هذا الكتاب مكانة رفيعة وجليلة في مادتها البلاغية.
كما تكمن أهمية موضوع الكتاب بأسلوبه المتميِّز فقد استعمل أسلوب التنوع في الاختيار، فمرة يختار ما ذهب إليه ابن جرير في تفسيره، ومرة يختار ما اختاره الفراء أو ما اختاره الزجاج في كتابيهما "معاني القرآن" أو غيرهم من أئمة السلف، فإمامنا الجرجاني يترفَّع عن الجمود في الانتماء، وهذا مما يميِّز الكتاب ويضفي عليه غطاءً علميًا متميِّزًا.
ولذا نرجع فنقول إننا نتعامل مع أشرف العلوم وأرفعها، ولذا قال العلاَّمة الأصفهاني في بيان شرف ورفعة هذا العلم فقال: "إنَّ أشرف صناعة يتعاطاها الإنسان، هو تفسير القرآن، وبيان ذلك هو أنَّ علم التفسير قد حاز الشرف من جهات ثلاث: من جهة الموضوع، ومن جهة الغرض، ومن جهة شدة الحاجة إليه.
1 / 7
أما من جهة الموضوع، فلأن موضوعه كلام الله تعالى الذي هو ينبوع كلِّ حكمة ومعدن كلِّ فضيلة، فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، لا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه.
وأما من جهة الغرض، فلأن الغرض منه هو الاعتصام بالعروة الوثقى والوصول إلى السعادة الحقيقية التي لا تفنى.
وأما من جهة شدة الحاجة إليه، فلأن كلِّ كمال ديني أو دنيوي عاجلي أو آجلي مفتقر إلى العلوم الشرعية والمعارف الدينية وهي متوقفة على العلم بكتاب الله تعالى" (١).
وهذه الجوانب الثلاثة التي ذكرها الأصفهاني تجلي لنا أهمية موضوع تفسير كلام الله ﷿ وبها يكتسب الأشرفية في مباحثه.
أما سبب اختياري لهذا الموضوع فإنه يرجع إلى عدة أسباب يمكن حصرها بما يلي:
أولًا: أنه يمثِّل أشرف العلوم وأحبَّها إلى الله ﷿، وأعظم ما يتقرب به العبد إلى الله ﷿ بحثًا وتحقيقًا ودراسة فخدمة كتاب الله هو خير وأعظم ما اشتغل به الباحثون.
ثانيًا: شموليته لكثير من الفوائد والشرائد في مختلف المعارف والفنون فهو يضفي معارف مختلفة تجعل القارئ يتنقل من فنَّ إلى فن، فتارة يطرب سمعه بقراءة النكت البلاغية وتارة يتفكه بالمسائل النحوية، وتارة أخرى يقلب ناظريه بالفوائد المعجمية اللغوية، وتارة أخرى يتذوق الأخبار التاريخية للأمم السابقة، إلى غير ذلك من ألوان المعارف المختلفة، فالقارىء يسوح ويجول في جنان هذه المعارف.
ثالثًا: دقة صناعة المؤلف في كتابه ومباحثه التي استعرضها نحويًا وبلاغيًا ولغويًا وغير ذلك فكان دقيقًا في عباراته، متثبِّتًا في نقولاته، حياديًا
_________
(١) نقله عن الأصفهاني السيوطي في الإتقان (٢/ ٤٠٦).
1 / 8
في ترجيحاته، يتَّسم بطابع الإيجاز في تفسير القرآن ودلالاته. فلا تجد حشوًا أو إطنابًا مُخِلاُّ في عباراته فهو يحاول في تفسيره أن لا يتوسع كثيرًا في إظهار معاني الآيات وما تعلَّق بها، فهو يقتصر على ما تحصل به الفائدة، ولذا نراه يترك بعض الآيات فلا يفسر منها شيئًا لوضوح معناها ودلالتها فيرى أنها لا تحتاج إلى إيضاح.
رابعًا: الإسهام في إخراج الدفين من تراث أسلافنا الأوائل. فمثل هذا الكتاب النفيس لم يخرج في حيِّز الوجود ولم يطبع من قبل - فيما أعلم - على شهرة مؤلّفه ومكانته بين العلماء والباحثين سيما أنه من قرن متقدِّم، فهو من أعيان القرن الخامس وله من الأعمال العلمية المطبوعة والمخطوطة ما يشهد للمؤلف الجرجاني ﵀ بقيمته العلمية فينضم هذا الكتاب "درج الدرر" إلى قافلة مطبوعات الجرجاني النفيسة. ومع أن الكتاب قدم كرسالة دكتوراه في جامعة مانشستر في بريطانيا للباحث عبدالله بن عبد الرحمن الخطيب عام ١٩٩٠م، وهو من الأردن وأنا لم أطلع على هذه الرسالة، وهذه المعلومة ذكرت في نشرة أخبار التراث العربي الصادرة عن جامعة الدول العربية عام ١٩٩٠ في عددها (٤٤) صفحة (٢١).
خامسًا: كما شدَّني إلى اختيار هذا الموضوع ومادة الكتاب أنه كتاب متكامل فهو يمثَّل تفسير القرآن بكامله من الفاتحة إلى الناس، والكتاب في حوزتي بكامله وإن كانت رسالتي الماجستير هذه تتضمن سورتي الفاتحة والبقرة، فإن لديَّ عزيمة في إخراج الكتاب بكامله إن شاء الله مهما كانت الظروف والصعاب.
سادسًا: أسلوب الكتاب وبساطة أسلوبه وجزالة ألفاظه وسهولة تناوله وطابع الاختصار الذي يتميز به مما يكسبه قبولًا بين القرَّاء بجميع شرائحهم فهو يأتي بمعاني الآيات ودلائلها ومبانيها بما تحصل به الفائدة ويتكشف به المعنى على وجه الاختصار.
سابعًا: الذي يميِّز هذا الكتاب تركيزه على الجوانب النحوية، فلطائفه
1 / 9
وإشاراته النحوية تطغى على مادة الكتاب بشكل واسع وكبير، فقد أكثر من هذه الإشارات واللطائف والنقولات عن أعلام النحاة كالخليل وسيبويه والفراء والزجاج والكسائي وأعلام المدرستين الكوفية والبصرية، ففي الكتاب موسوعة نحوية منثورة في ثناياه سيما أن الجرجاني يعدُّ من أعلام النحاة كما وصفه كثير من العلماء كالذهبي والقفطي والسلفي والفيروزآبادي وغيرهم، وهذا من أهم الأسباب التي دفعتني لاختيار هذا الكتاب وما يحويه من هذه الموضوعات النفيسة.
*.*.*
المشاكل والصعاب التي واجهتني في العمل:
إنَّ عملًا مثل هذا في إعداد رسالة جامعية وإخراجها وفق المواصفات العلمية الأكاديمية المعمول بها في الجامعات العريقة والتي يشرف عليها أساتذة كبار مشهود لهم، كل ذلك لا بدَّ أن يكون في عين الاعتبار بالنسبة للطالب الذي يقوم بإعداد الرسالة الجامعية ليتحاشى كلَّ ملاحظة واستدراك متوقع من قبل المشرفين والمناقشين لهذه الرسالة، فيصرف جلَّ وقته وغاية إمكانياته العلمية وعصارة أفكاره ويتنقل من مكان إلى مكان بحثًا عن المراجع والمصادر في المكتبات الخاصة والعامة، وهذه الصعاب تكاد أن تكون اعتيادية لا بدَّ منها على ما فيها من مشقة وجهد كبير جدًا.
وهذا هو حقيقة ما تذوقته من الصعاب والجهد، إلا أنني لم أواجه أي مشاكل في عملي وذلك لسهولة كل ما يحتاجه عملي من متطلبات فتوفر النسخ من المخطوطات - أربع نسخ مخطوطة - وكانت في غاية من الوضوح يكمل بعضها بعضًا، وتوفر المصادر والمراجع في كلِّ ما يحتاجه البحث وتوافر العلماء الذين استفدت من ملاحظاتهم وتوجيهاتهم من خلال إقامتي في مدينة المصطفى ﵊ التي تزخر بالعلماء، وتوافر المكتبات من حولي، وبفضل الله فإنَّ مادة البحث بكاملها لم أترك ترجمة
1 / 10
علم من الأعلام إلا وترجمتُ له إلا ما كان من بعض الأعلام الذين ذكرهم الجرجاني، وهم قرابة الخمسة عشر علمًا لم أجد تراجمهم في كتب التراجم، وأكثرهم في العصر الجاهلي ممن لم يعرفوا أصلًا. ولم أظفر بمسألة نحوية تحتاج إلى تعليق إلا وبذلتُ قصارى جهدي في التعليق عليها وتوضيحها، ولا حديث نبوي شريف إلا وقمتُ بتخريجه، إلا أن الجرجاني تعدُّ بضاعته في الحديث مزجاة مما جعلني أبذل جهدًا مضاعفًا في البحث عن الحديث، وفي مواطن ليست بالقليلة يروي الجرجاني الأحاديث بالمعنى أو أنه يذكر أحاديث موضوعة أو لا أصل لها في كتب الحديث بعد أن بذلت غاية التقصي والبحث مع وفرة المراجع والمصادر، وقد أشرتُ إليها في مواطنها.
كما لم أظفر بمسألة فقهية إلا وأوضحت ما يتعلق بها من أحكام، ولا مسألة لغوية أو معجمية إلا وفصلت القول فيها فلم أترك أي كلمة أو جملة تحتاج إلى تعليق إلا وعلقتُ عليها، ولذا فإنَّ مثل هذا العمل لم يكن جديدًا عليَّ فقد اعتدتُ بفضل الله منذ سنوات عديدة على مزاولة الأعمال العلمية تحقيقًا وتأليفًا حتى طبع لي من أعمالي ما يزيد على أحد عشر ألف صفحة، فبفضل الله فإني قد تمرَّستُ على مثل هذا العمل، ولذا لم أجد أي مشاكل أو صعوبات في عملي هذا، ولذا أرجو من الله العليِّ القدير أن أكون قد أعطيت العمل حقَّه على أحسنِ وجه.
...
أهداف الرسالة:
يمكنني أن أُلخص هذه الأهداف في النقاط التالية:
أولًا: سمو هذا العمل وشرفه ورفعته وأنه متعلِّق بكلام الله ﷿ الذي هو أشرف العلوم على الإطلاق، فخدمة دين الله ﷿ من أجلِّ الأهداف لهذا العمل.
ثانيًا: كما تهدف الرسالة إلى إضفاء مادة لغوية ونحوية وبلاغية، وهو
1 / 11
الجانب الذي أبدع فيه الجرجاني وعُرف به، فهو يضيف إلى حقل المعرفة في جانب هذا التخصص ما يثري مادة التخصص بحيث يمثِّل مرجعًا أساسيًا في ذلك.
ثالثًا: كما تهدف هذه الرسالة إلى الإسهام في إخراج الدفين من تراث أسلافنا الأوائل سيما أن الجرجاني من المتقدمين من أعيان القرن الخامس.
رابعًا: يمكن أن تسهم هذه الرسالة في تقديم مادة تفسير مبسطة ومختصرة تنتفع بها شريحة العامة من الناس وينشد إليها الباحثون وطلبة العلم، إذ في ثنايا هذا التفسير كثير من المسائل النحوية والبلاغية واللغوية التي لا يستغني عنها طلاب العلم.
...
منهجي في هذه الرسالة:
أولًا: قابلتُ النسخ المخطوطة وذكرتُ الفوارق بين النسخ، واعتمدتُ النسخة التي رمزتُ إليها برمز (ي) لقدمها وقلَّة السقط فيها، ولعلها أقرب النسخ إلى المؤلف. وليس في واحدة من هذه النسخ الأربع ما هو بخطِّ المؤلف فيما يظهر، إلا أن النسخ الأربع يكمل بعضها بعضًا.
ثانيًا: أسندتُ الآيات القرآنية إلى سورها من القرآن الكريم وفرقتُ بين الآيات المُفَسَّرة والآيات المستشهد بها. فالآيات المُفَسَّرة جعلت أرقامها في أعلى الصفحة، والآيات المستشهد بها جعلتُ أرقامها ضمن الهامش الذي في أسفل الصفحة ليحصل التفريق بين الاثنين.
ثالثًا: خَرَّجْتُ الأحاديث النبوية والآثار عن الصحابة وأحلتُها إلى مصادرها ولم أتوسَّع في تخريج الأحاديث بل خرَّجتها بشكل مختصر.
رابعًا: قمتُ بترجمة الأعلام في جميع طبقاتهم من العصر الجاهلي إلى
1 / 12
عصر المؤلف وأعددتُ ترجمة مختصرة لكلِّ علم منهم وأحلتُهم إلى بعض المصادر والمراجع، وربما صعب عليَّ العثور على ترجمة مجموعة قليلة جدًا منهم لا يزيدون على خمس عشرة ترجمة، وإذا تكرر العَلَم اكتفيتُ بالترجمة له عند ذكره الأول، ويعرف موطنه من خلال الفهرس.
خامسًا: أحلتُ أبيات الشعر إلى قائليها ودواوينها، وإذا حصل اختلاف في شيء من عبارات البيت بين ما في أصل الكتاب وأصل الديوان ذكرتُه وبيَّنته.
سادسًا: قمتُ بالتعليق على كل ما يحتاج إلى تعليق مما تدعو إليه الحاجة في بيانه وتوضيحه في أي جانب من جوانب التخصص نحويًا وبلاغيًا وفقهيًا وتاريخيًا وغير ذلك، مستشهدًا ومعلِّلًا ومدلِّلًا بما يحصل فيه البيان.
سابعًا: ركزتُ بشكل أساسي في التعليق على المسائل النحوية التي أكثر منها الجرجاني جدًا، وأخصُّ بذلك الجوانب الإعرابية، وعمدتُ إلى التوسع في مثل هذه المسائل لأن تخصص رسالتي هو النحو والصرف، ولهذا حرصتُ على إبراز هذا الجانب من التفسير.
ثامنًا: قمتُ بفهرسة الأحاديث النبوية والآثار، كما قمتُ بفهرسة الأشعار والأعلام، وجميع هذه الفهارس مرتبة على حروف المعجم ليسهل الوصول إلى المعلومة.
تاسعًا: عمدت إلى تفصيل النص ووضع علامات الترقيم وتشكيل الحركات في كثير من الكلمات المشكلة ومراعاة الجوانب الإملائية.
عاشرًا: قمتُ بشرح الألفاظ التي قد يصعب فهمها على القارئ، ورجعتُ إلى كتب اللغة ومعاجمها لإيضاح ما حصل فيها من إشكال.
حادي عشر: قمتُ بالتحقُّق من صحة نقل الجرجاني للمذاهب والأقوال
1 / 13
والآراء المختلفة وعزو ذلك إلى مكانه في كتبهم، وإن كان خطأ في النقل - على ندرته - بيَّنتُ الخطأ في ذلك.
لا شكَّ أن القارئ الكريم سوف يصول ويجول ويسبح في بساتين المعرفة التي يطالعنا بها الجرجاني في تفسيره هذا، فقد احتوى على مادة علمية رصينة قلَّما يجدها القارئ في كتاب واحد، سيما الجوانب النحوية التي كثيرًا ما يعول عليها الجرجاني في هذا التفسير.
فأحببتُ أن تكون باكورة عملي في هذا المخطوط النفيس أقدِّمها لنيل درجة الماجستير، فعقدتُ العزم على ذلك واستعنتُ بالله وسألتهُ التوفيق والسداد وحسنَ النية والقصد في هذا العمل، وأن أقدِّم دراسة وافية لهذا الكتاب، فكان عملي فيه على النحو التالي:
قسمتُ عملي في هذه الرسالة إلى مقدمة وتمهيد وقسمين:
° القسم الأول: ويشتمل على فصلين:
الفصل الأود: التعريف بالمؤلف، وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: اسمه ونسبه.
المبحث الثاني: مولده ونشأته ورحلاته العلمية.
المبحث الثالث: شيوخه وتلاميذه.
المبحث الرابع: مؤلَّفاته.
المبحث الخامس: مكانته العلمية وثناء العلماء عليه.
الفصل الثاني: التعريف بكتاب "درج الدرر في تفسير الآي والسور"، وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: توثيق اسم الكتاب وصحة نسبته للمؤلف.
المبحث الثاني: القيمة العلمية للكتاب.
المبحث الثالث: منهج المؤلف في الكتاب.
1 / 14
المبحث الرابع: مصادر المؤلف.
المبحث الخامس: الجوانب النحوية والبلاغية واللغوية في تفسيره.
المبحث السادس: عقيدة المؤلف من خلال تفسيره.
° القسم الثاني: ويشتمل على ما يلي:
أولًا: وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق.
ثانيًا: منهجي في التحقيق.
ثالثًا: صور عن مخطوطات الكتاب.
رابعًا: النص المحقق.
أخيرًا: تذييل الكتاب بالفهارس الفنية اللازمة.
هذا ما نويت وعقدتُ العزم عليه في أن يكون عملي في تحقيق هذا الكتاب، والله أسأل أن يعينني على إنجازه على أحسن وجه بما يليق بمقام الكتاب العزيز كتاب الله ﷿، وبما يوفي حق كاتبه ومؤلِّفه العالم الجليل عبد القاهر الجرجاني ﵀.
***
1 / 15
التمهيد
إن أعظم ما صرفت فيه نفائس الأيام، وأشرف ما خُصَّ بمزيد الاهتمام، وأنفس ما بُذِلَت فيه العقول والأفهام، هو الاشتغال بالعلوم الشرعية المتلقاة عن خير البريَّة، وإن أعظم وأشرف العلوم الشرعية هو علم كتاب الله وما تعلَّق به من دراسات مختلفة تنصبُّ جميعها في معرفة كلام الله ﷿ وإظهار مكنونه وأسراره.
أنزله الله على إمام المفسِّرين وقدوة الخلقِ أجمعين، نبينا محمد بن عبد الله ﷺ، قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤)﴾ (١) فوعاه قلبه ﵊ وأولع بحبِّه وخشع له قلبه واهتزَّ له جسمه، ووقع في نفسِه القلق والخوف حتى قال لزوجته في مطلع نزوله: "زمِّلوني زمِّلوني" مما يجد في نفسه من عِظَم هذا المنزل الذي قال الله عنه: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ (٢) حتى اطمأنَّت له نفسه وسكن له روعه وانشرح له صدره، فعلمَ أنَّه من عند الله وتيقَّن أنه ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢)﴾ (٣) وتعهد الله لنبيه بحفظه وصيانته فلا تمسّه أيدي المحرفين والمغرضين ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)﴾ (٤)
_________
(١) سورة الشعراء: ١٩٣، ١٩٤.
(٢) سورة الحشر: ٢١.
(٣) سورة فصلت: ٤٢.
(٤) سورة الحجر: ٩.
1 / 16
فحفظ الله لنا كتابه العزيز بكلِّ ما فيه من معاني الجمال في ألفاظه وتراكيبه ومعانيه.
ثم إن الله حَمَّلَ هذه الأمانة العظيمة نبيه محمد ﵊ وأمره ببيان هذا المنزل، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (١).
وتعهَّد الله لنبيِّه أن يكون عونًا له في هذا البيان في كلِّ ما يحتاجه المسلم لفهم هذا القرآن العظيم ليظهر الله فيه هذا البيان ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (١٩)﴾ (٢).
فقرأ النبي ﵊ هذا المُنَزَّلَ على أصحابه وأقبلوا عليه بقلوبهم الصادقة ذليلين منكسرين خاشعين دراسةً وفهمًا وتدبُّرًا وحفظًا، فبذل ﵊ كلَّ وسعه وجهده في بيانه، فكان إمام المفسِّرين وقدوتهم، وتفسيره لهذا المنزل هو في حدِّ ذاته منزل لأنه وحيٌ من عند الله فلا يفسر ﵊ من اجتهاده الخاص أو مما تمليه عليه نفسه، بل كان تفسيره معصومًا لا يقبل الخطأ بوجه من الوجوه، ويشهد لذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤)﴾ (٣) وقوله ﵊: "ألا إني أوتيتُ القرآنَ ومثله معه" (٤).
ولذا كان تفسير القرآن بالسنة النبوية هي المرتبة الثانية من مراحل التفسير بعد تفسير القرآن بالقرآن، فروَّض نفسه ﵊ وشمَّرَ عن سواعد أفكاره وتصدَّى لبيان المنزل من كتاب الله ﷿ فلم يترك صغيرة ولا كبيرة، ولا شاردة ولا واردة تحتاج إلى إيضاح وتفسير وبيان إلا بيَّنها، فتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، حتى تتلمذ على يديه ﵊ نخبة من أصحابه هم أعلام المفسِّرين
_________
(١) سورة النحل: ٤٤.
(٢) سورة القيامة: ١٩.
(٣) سورة النجم: ٣، ٤.
(٤) رواه أبو داود بسند صحيح عن المقداد بن معدي كرب مرفوعًا (٥/ ١٠/ ٤٦٠٤).
1 / 17
وإليهم المرجع في التفسير، عاصروا الوحي المنزل ونهلوا من معين مشكاة النبوة مصاحبة وملازمة لإمامهم وقدوتهم عليه أفضل الصلاة والسلام، فكان عصرهم من أزهى العصور وأفضلها، وإليهم المرجع في التفسير أمثال: ترجمان القرآن عبدالله بن عباس ﵄ الذي دعا له النبي ﷺ فقال: "اللهمَّ فقِّهه في الدين وعلِّمه التأويل" (١)، ويقول ابن مسعود ﵁: "نِعمَ ترجمان القرآن عبدالله بن عباس" (٢).
وكذلك عبدالله بن مسعود ﵁ الذي قال عنه ﵊: "من سرَّه أن يقرأ القرآن كلما أنزل، فليقرأه من ابن أمِّ عبد" (٣) يعني ابن مسعود.
ثمَّ أُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة الذين قال النبي ﵇ في حقِّهم: "خذوا القرآنَ من أربعة: من ابن أمِّ عبد، وأُبَي، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة" (٤).
فأمثال هؤلاء الجبال الأعلام الذين أسهموا إسهامًا كبيرًا في تفسير كتاب الله ﷿، ومن جاء من بعدهم إنما هم عيال عليهم يغترفون من معين فيضهم حتى تخرَّج على أيديهم جيل جديد من أعلام المفسِّرين التابعين حملوا هذا اللواء وأخلصوا غاية الإخلاص في تحمُّل هذه الأمانة وقاموا بها حقَّ القيام وبذلوا فيها جهدًا كبيرًا أمثال: مجاهد بن جبر المكي شيخ المفسِّرين والقرَّاء في تلك المرحلة، أخذ القرآن والتفسير عن ابن عباس ﵄ فأكثر وأطاب وروى عن كثير من الصحابة، ويقول عن نفسه: "عرضتُ القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة، أقفه عند كلِّ آية، أسألُه فيم نزلت وكيف نزلت" (٥). وأخبار هذا العَلَم يطول ذكرها.
_________
(١) أخرجه البخاري (١/ ٢٤٤)، ومسلم (٥/ ١٠٠)، وأحمد (١/ ٢٦٦).
(٢) أخرجه الحاكم (٥٣٧٣) وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقرَّه الذهبي.
(٣) أخرجه أحمد (١/ ٢٥)، والطبراني في الكبير (٩/ ٦٠)، وأبو نعيم في الحلية (١/ ١٢٤).
(٤) أخرجه أحمد (١/ ٣٨٩)، والنسائي (٨/ ١٣٤)، والطبراني في الكبير (٩/ ٧٠).
(٥) أخرجه أبو نعيم في الحلية (٢٧٩٣)، وابن عساكر (١٦/ ١٢٧).
1 / 18
ومنهم عطاء بن أبي رباح شيخ الإسلام مفتي الحرم، أكثر الرواية في التفسير عن ابن عباس ﵄ وعن أم المؤمنين عائشة وأم سلمة وعن أبي هريرة وعن جمع من الصحابة يصلون إلى المائتي نفس كما صرح عطاء بنفسه (١).
ومنهم أيضًا عكرمة مولى ابن عباس كان حافظًا مفسِّرًا، أكثر الرواية عن ابن عباس ﵄ حتى قال عنه: ما حدَّثكم عني عكرمة فصدِّقوه، وقال قتادة: أعلم الناس بالتفسير عكرمة، بل إن حفاظ ابن عباس منهم سعيد بن جبير وعطاء وطاووس اجتمعوا فأقعدوا عكرمة أمامهم فجعلوا يسألونه عن حديث ابن عباس، فكلما حدَّثهم حديثًا قال سعيد: هكذا. وهم يصدِّقونه في كل ما يقول.
وهكذا كان باقي أعلام المفسِّرين من التابعين الذين شهدت لهم الأمة بالقبول والذين خدموا كتاب الله ﷿ فكرسوا جهودهم وروَّضوا نفوسهم وبذلوا كلَّ ما بوسعهم في تحمُّل هذه الأمانة، فهؤلاء جميعًا وضعوا ما يسمى بـ "علم التفسير" و"علم أسباب النزول" و"علم الناسخ والمنسوخ" و"علم غريب القرآن" ونحو ذلك.
ثم إن أسلافنا ﵏ من الرعيل الأول من قبل أن يرسي التدوين أصوله وقواعده كانوا حريصين أشد الحرص على ضبط كتاب الله وحفظه ليس في القلوب فحسب، بل تدوينه في الصحف، فقد تصدَّى عثمان بن عفان ﵁ فوضع الأساس لما نسميه بـ "علم رسم القرآن" أو "علم الرسم العثماني" ثم جاء من بعده علي بن أبي طالب ﵁ فلاحظ المعجمة تحيف على اللغة العربية وسمع ما أوجس منه خيفةً على لسان بعض العرب فأمر أبا الأسود الدؤلي أن يضع بعض القواعد لحماية لغة القرآن من هذا العبث والخلل.
وبهذه الحوادث التي وقعت تمخض منها ما يمكن أن نسميه بـ "عصر
_________
(١) السير (٥/ ٧٨)، ابن سعد (٥/ ٤٦٧)، تاريخ البخاري (٦/ ٤٦٣).
1 / 19
التدوين"، فانبرى أعلام العلماء في التصدي للتأليف في أنواع علوم القرآن، فكان من أوائل من دوَّنوا في التفسير وعلومه: شعبة بن الحجاج، وسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وتفاسيرهم جامعة لكثير من أقوال الصحابة والتابعين، وهو ما يمكن أن نسميه التفسير بالمأثور، وهؤلاء يعدُّون من أعيان القرن الثاني.
ثم يتحمل هذه الحمالة من بعدهم من فحول المفسِّرين ما استطاعوا أن يجمعوا ما دوَّنه من قبلهم ممن ذكرنا ويتوسعوا بأكثر مما بسط فيه القول من قبلهم، فانبرى العلاَّمة محمد بن جرير الطبري (ت ٣١٠ هـ) فألَّف ما يمكن أن نعدَّه أجمع التفاسير على الإطلاق، فلم يؤلف مثله قبله ولا بعده ولم يترك شيئًا يحتاج طرقه إلا طرقه، فكان جامعًا يحوي التفسير بالمأثور بإسناده الذي تميَّز به، كما طرق جوانب نحوية وفقهية وأصولية مستعرضًا أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والقراءات، فكان جامعًا لشتى العلوم التي يحتاجها علم تفسير كتاب الله ﷿.
ثم أخذ العلماء من بعده يتناولون هذا القرآن العظيم كل حسب ذوقه واختصاصه وما يمكن أن يقدِّمه خدمة لكتاب الله، فظهرت التفاسير المختلفة المطول منها والمختصر، فمنهم من تناول التفسير بالمعقول، ومنهم من تناوله بالمأثور، ومنهم من اهتمَّ بآيات الأحكام، إلى غير ذلك من ألوان العلوم المختلفة المختصة بكتاب الله ﷿.
ثم أُلِّفَتْ كتب مستقلَّة في علوم القرآن كل واحد من هؤلاء الأعلام يتناول القرآن من زاوية معرفية، فالإمام علي بن المديني ألَّف كتابًا في أسباب النزول، وأبو عبيد القاسم بن سلام كتب في الناسخ والمنسوخ، وكلاهما من علماء القرن الثالث، وأبو بكر السجستاني ألَّف في غريب القرآن، وأبو بكر الفراء وأبو إسحاق الزجاج ألَّفا في معاني القرآن، وهؤلاء من أعيان القرن الرابع، وأبو القاسم السبيلي ألَّف في مبهمات القرآن، والقاسم بن سلام ألَّف في مجاز القرآن، وعلم الدين السخاوي ألَّف في القراءات.
1 / 20