شكر وتقدير
مقدمة
1 - الضمير المسيحي
2 - علمانية الضمير
3 - ثلاثة نقاد للضمير: دوستويفسكي ونيتشه وفرويد
4 - هل الضمير حق مدني؟
5 - صوت الضمير: هل ما زال مسموعا؟
المراجع
قراءات إضافية
شكر وتقدير
مقدمة
1 - الضمير المسيحي
2 - علمانية الضمير
3 - ثلاثة نقاد للضمير: دوستويفسكي ونيتشه وفرويد
4 - هل الضمير حق مدني؟
5 - صوت الضمير: هل ما زال مسموعا؟
المراجع
قراءات إضافية
الضمير
الضمير
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
بول ستروم
ترجمة
سهى الشامي
مراجعة
هبة عبد العزيز غانم
شكر وتقدير
أود أن أتوجه بالشكر إلى كل من روبرت ألتر وأكيل بيلجرامي وكريستوفر برادلي وأندرو كول وكاثرين كوبر ومونيكا كورتون وهولي كروكر وأنتوني دي كيرتس وكارولين دينشو وميكالينا إيفروز وجيس فين وكلير هارمان وبروس كوجوت وليديا ليو ومورا نولان ولورا بيريل وآسيا رو وكاتي بوبكين وميري روبن وجيمس سيمبسون وأبراهام ستول وجون بي ستروم وأرفيند توماس وديفيد والاس على تقديمهم للنصيحة والنقد.
مقدمة
ظلت ظاهرة الضمير - المتغيرة والراسخة في آن واحد - حاضرة على امتداد عصور وإمبراطوريات ومعتقدات وعقائد، وأثرت في السلوك البشري منذ ألفي عام وأكثر. وقد عرفها الرومان (وأطلقوا عليها اسم «كونشينتيا»)، ثم استأثر بها المسيحيون الأوائل. وتساوى الإصلاحيون البروتستانت والكاثوليك المخلصون في اعتمادهم على نصائح الضمير وتحذيراته. وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، أعاد الضمير اجتياز الحد الفاصل بين التدين والعلمانية، مبدلا موضع الاهتمام من الكمال الديني إلى التحسين الأخلاقي والاجتماعي. واليوم يؤمن به المتدينون وغير المتدينين على حد سواء. فهو يحظى بمكانة متميزة في علم اللاهوت والعبادات، ولا تقل مكانته عن ذلك في الفلسفة والفنون. ويدعي السياسيون التصرف وفق تعاليمه، وهم يفعلون أحيانا. ومن اللافت للنظر بالقدر ذاته اتساع نطاق الاحتكام إليه بين كل أطياف الناس وفئاتهم؛ فهو مبحث أكاديمي عظيم القيمة يستخدمه أيضا عوام الناس، ويستشهد به الناس في كل مناحي الحياة بثقة بوصفه أساسا لأفعالهم.
قد يبدو أن هذا الرسوخ المذهل الذي يتمتع به الضمير يشير إلى أنه كيان ثابت ووجهة نظر أحادية لا تتغير بمرور الزمن. والحق أن الضمير يحيا في الزمن، ومن أشد خصائصه جاذبية قدرته على التعديل الذاتي والتكيف مع الظروف الجديدة على نحو ثابت، وكذلك إدراكه اللامتناهي لشروط الملاءمة الجديدة والملحة. وفي هذه «المقدمة القصيرة جدا»، لن أعتبر الضمير ثابتا لا يتغير، بل سأعده منقبة من صنع البشر تحمل تاريخا مميزا وزاخرا بالأحداث.
يرفض الضمير أي محتوى ثابت أو غير متغير؛ فبإمكانه أن يبرر التضحية الكريمة بالذات وفي الوقت نفسه يبرر حب الذات الذي ينطوي على أنانية، وبوسعه أن يحض على عمل للخير أو على عمل إرهابي. وقد تكون إملاءات الضمير مسيحية أو وثنية، تستند إلى الدين أو شديدة العلمانية، قومية أنانية أو دولية سخية. بل إن جنس الضمير يظل مجهولا: فقد يكون مذكرا أو مؤنثا، وقد يكون صوتا روحانيا بلا جسد أو صوتا أبويا، بل إنه قد يتحدث بصوت جمعي كالرأي العام. ولما كان الضمير متغيرا بالقدر نفسه فيما يتعلق بمصدره وموضعه، فإنه قد يصغى إليه بوصفه صوتا محفزا من الداخل أو صوتا آمرا من الخارج، وغالبا ما يكون كليهما في آن واحد: كائن خارق للطبيعة يعلم عنا كل شيء لكنه يدين بولاء خارجي؛ سواء لإله أو للصالح العام. فقد فعلت أشياء رائعة وأخرى نكراء باسمه، كالإصلاح الاجتماعي الخاضع للعقل والاستثنائية الجنونية العارضة.
قد يكون الضمير بطبيعته مزعجا، فعادة ما يشعر المرء الذي يحضره الضمير - على الأقل في البداية - بأنه كان أفضل حالا دونه. وبالإضافة إلى ذلك، إذا كان الضمير متغيرا من حيث موضعه أو مضمونه، تظل بعض العناصر مما يمكن أن يوصف بأنه «شخصيته» ثابتة على نحو مؤسف. وأينما ووقتما قابلناه، نجد أن عادته المميزة هي النخز والوخز والتملق والاستنكار والمضايقة عوضا عن التهدئة أو الطمأنة. ورغم شيوعه فإنه يظل أقل الظواهر المعروفة بعثا للسرور في النفس. والسؤال هنا إذن: لماذا نحتاج في حياتنا إلى ذلك المفهوم المتقلب والقاسي وشديد الصرامة؟ والإجابة التي أقدمها أن أحوالنا في وجود الضمير أفضل كثيرا منها في غيابه.
لكنني توصلت إلى تلك الإجابة بعد مزيد من التفكير المتواصل في مصدر الضمير، وفيمن سانده، وفيما عناه بالنسبة للأجيال المتعاقبة. فالضمير له جذور تاريخية عميقة، وهو يتجدد ويكمل نفسه من تلك الجذور، وتكمن أقصى آماله للاستمرار في المستقبل في تقدير قيمة هذه «المنظومة الجذرية» - التي تتكون من كل الأشياء التي عناها الضمير ومثلها من قبل - كأساس لقابلية تطبيقه المستمرة والملحة على العالم اليوم.
الجغرافيا الثقافية للضمير
أثر الضمير في أشخاص عظيمي الشأن في جميع أنحاء العالم، بداية من مؤسسي الجمهورية الأمريكية ومرورا بغاندي ومانديلا وآخرين، لكن أصوله أوروبية أو مستمدة من الأوروبيين (كما أنهم لا يزالون حتى الآن رعاته، إلى حد ما).
لا يحتكر الغرب الرقابة الذاتية الأخلاقية أو الرفض الداخلي المستند إلى المبادئ للسلوك المستهجن أخلاقيا. وبالطبع فإن اللغات والمجتمعات كافة تملك مفاهيمها الخاصة والمميزة للواجب أو المسئولية أو الخجل من الإخفاق في الوفاء بمعايير المجتمع أو الذات. وعلى الرغم من أن العبرية القديمة لم يكن بها كلمة مرادفة تماما للضمير، فإن علم اللاهوت العبري قد تعامل جيدا مع مفاهيم الإرادة والنية والواجب الأخلاقي والمسئولية أمام إله يغرس الوصايا والتعاليم في قلب المؤمن (سفر التثنية 30 : 14، إرميا 31 : 33). وعلى الرغم من أن المفاهيم العبرية لها أصول منفصلة عن أصول الضمير، فإن تلك المفاهيم مثل الوصية الإلهية بالرقابة الذاتية الأخلاقية وتوطين قوة أخلاقية في الجسد كانت جزءا لا يتجزأ من تشكيل الضمير المسيحي، فضلا عن أنها خدمت هذا الضمير كتأثير محسن وقضية غائبة. (ومما يضيف مزيدا من الثراء لذلك التبادل، أن اللغة العبرية المعاصرة تضم في الوقت الحالي كلمة
matzpun
التي تقترب من كلمة «الضمير» من خلال علاقتها الاشتقاقية بالكلمة الإنجليزية التي تعني «داخلية» وأيضا بالكلمة العبرية التي تعني «بوصلة».) وللكلمة اليونانية
syneidesis «سينيديسيس» التي تعني «سمة داخلية وأصيلة من سمات البصيرة الأخلاقية» خصائص مشتركة مع الضمير المسيحي، ويمكنها بالفعل أن تتشارك مع الضمير في معنى انعكاسي يتمثل في معرفة الذات، أو معرفة الذات عن طريق الذات. أما المرادفات البوذية والهندوسية فتقترب مما تطلق عليه اللغة الإنجليزية المعاصرة «الوعي» أكثر مما تقترب من «الضمير»، لكن المفهومين كانا غير منفصلين في اللغة الإنجليزية حتى القرن السابع عشر وأحيانا بعد ذلك. وتعني كلمة الضمير في اللغة الروسية
sovest «سوفيست»، وهي كلمة مقتبسة من اللغة اليونانية عبر «اللغة السلافية الكنسية القديمة»، وتشترك مع «الضمير» في معنى المعرفة المشتركة، وكلاهما يرمز للوعي ذاتي الانعكاس بالمعرفة، ومن الناحية الاشتقاقية، يمكننا المقارنة بين
con (مشترك) +
scientia (معرفة) و
so- (مع) +
vest (معرفة). والمفهومان الكونفوشيوسيان «ليانجشن» (وتعني المشاعر الودية للقلب/للعقل) و«ليانج شي» (وتعني الفكر الأخلاقي السليم أو حسن التمييز) يتشابهان تشابها مثيرا للاهتمام مع الضمير في تأكيدهما على وضع ضوابط ذاتية، وقد أثريا المناقشات الدائرة حول الضمير في القرن العشرين. وتضم اللغة العربية مفهوم «الزاجر» أو «المقيد» الذي يعرف كالتالي: «واعظ الله في قلب المؤمن، النور الملقى فيه والذي يعيده إلى الحق»، وهو تعريف مشابه للضمير في تأكيده على تحريم ارتكاب الآثام.
يقول المثل الذي يعود للقرون الوسطى «كل الطرق تؤدي إلى كومبوستيلا»، وتذكرنا تلك النظم الأخلاقية المتنوعة بأن هدف الرقابة الذاتية الأخلاقية يوجد خارج تقليد الضمير كما يوجد داخله. وعلى الرغم من أن تلك النظم البديلة تعمل على نحو مشابه للضمير، فإنها ليست مطابقة له، فكل منها يحتوي على فروق دقيقة وتقليدية تجعل دراسة كل منها على حدة دراسة مجزية. وقد افترضت الليبرالية الغربية في بواكيرها أن النظم الأخلاقية العالمية من الممكن أن تنطبق على الضمير بسهولة تامة، وأنه لا توجد بينهما فروق مهمة يجب الاعتراف بها. لكن اتضح أن هذا الأمر ليس دقيقا، وخاصة في سياق الإعلانات المقترحة للضمير الدولي أو المبادرات المقترحة بين الثقافات والمفترض تنفيذها باسم الضمير. فالاحترام المتبادل بين الثقافات لا يستفيد من التأكيدات العادية للتشابه مثلما يستفيد من الاهتمام التقديري بالخصائص المميزة لكل نظام.
ومما لا شك فيه أن مبدأ المقارنة الدولية يقع خارج نطاق هذه الدراسة وخارج حدود معرفة المؤلف. وسوف تركز هذه الدراسة على تعاليم الضمير الخاصة أثناء تطورها على مدى ألفي عام في الغرب. إن الضمير - في أفضل أحواله وأفضل أحوالنا - يستحق السمعة التي اكتسبها بوصفه أحد الإسهامات الغربية الباعثة على الفخر في مجال الكرامة الإنسانية. فهو، كما علق عالم اللاهوت هنري تشادويك ذات مرة، يقف حصنا «في مواجهة انتقاص قدر الإنسان». وطبقا لما تتضمنه وثائق مثل «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» الذي أعلنته الأمم المتحدة وتقوم به بعض المنظمات مثل «منظمة العفو الدولية» ومنظمة «رصد حقوق الإنسان»، فإن الضمير لديه الكثير كي يقدمه للمناقشات الدائرة حول حقوق الإنسان في أنحاء العالم. لكن في حالة التفكير في نشره للغات والثقافات الأخرى، فإن إدراك تطوره التاريخي - بما في ذلك حالات إساءة استخدامه والموضوعات التي يعمى عنها وما به من تناقضات - سوف يشجع على الوصول لدرجة التواضع المناسبة التي يمكننا بها تقديم هذا المفهوم للآخرين.
الفصل الأول
الضمير المسيحي
الميراث الوثني
لما كانت الكنيسة في الماضي قد احتضنت الضمير سريعا وبلا عناء يذكر، فإنه غالبا ما يظن أن مفهوم الضمير مسيحي في أصوله. لكن الكلمة اللاتينية كونشينتيا (الضمير) كانت بالفعل مفهوما مزدهرا في فن الخطابة الإقناعي والمرافعات القانونية لدى الرومان قبل مولد المسيح بفترة طويلة. وقد منح مفهوم الضمير عند الرومان الأفكار المسيحية المبكرة عن الضمير قواما وثراء في الخيال، وسيلقي الكثير من خصائصه الضوء على التصورات الكاثوليكية والبروتستانتية عن الضمير. ولما كان هذا المفهوم قد انتقل عبر هذه التصورات، فقد ظل مؤثرا على رؤيتنا للضمير في العصر الحاضر.
كان أساس الضمير الكلاسيكي هو الرأي العام أو ما اتفق عليه المجتمع؛ ومن ثم فإن الناس الذين كانوا على خلاف مع الرأي العام أو الاتفاق الجمعي يجدون أنفسهم عرضة لتأنيب الضمير واتهاماته. وكان شيشرون في خطاباته الجماهيرية يستغل الآراء ويطوعها عن طريق إدخال الضمير في سجالاته نيابة عن الموكلين وفي إداناته للمذنبين والمتكبرين. وفي خطابه الذي يحمل عنوان «دفاعا عن مايلو»، يقول شيشرون إن الضمير هو المسرح الرئيس للفضيلة، وفي ذلك المسرح يؤدي المرء دوره في كل الأحوال. وهو يقول إن موكله مايلو قد سلم نفسه باختياره لأن قوة الضمير دعمته، كما أنها في الوقت نفسه طاردته كما تطارد المذنبين بتصورات عن العقاب. ويرى شيشرون أن الضمير السليم قد يكون أساسا للحصول على البراءة القانونية. أما الضمير الفاسد فهو ينضم إلى العقوبة القانونية كي يعاقب من أخلوا بالمعايير العامة. وهو يقول في خطابه الذي يحمل عنوان «دفاعا عن سيكستو روشو»: دعك من الغضب الشديد؛ فالمذنبون يعذبون أنفسهم بالتفكير في أفعالهم الآثمة، وكل منهم يشعر بالتنغيص ويكاد يجن لمعرفته بالجرم الذي ارتكبه وتروعه أفكاره وضميره الآثم. وقد حاول الخطيب الجدلي كوينتيليان أن يثبت أن من يحد عن طريق الفضيلة يعاني معاناة مضاعفة، سواء من العقوبة القانونية أو من الضمير المذنب. وفي كتابه الذي يحمل عنوان «الحروب الأهلية» والذي يرجع تاريخه للقرن الأول قبل الميلاد، يخبرنا يوليوس قيصر عن الضباط الفاسدين الذين يتحملون المهانة من رفاقهم وذويهم بالإضافة إلى العذاب الداخلي للعقل أو الروح من الضمير. ومرة أخرى يخبرنا شيشرون عن قيصر في خطبته التي تحمل عنوان «عن الواجبات» متسائلا: «ما الآثام التي تعتقد أن ضميره مثقل بها؟ وما الجراح التي تحملها روحه؟» وتعد خصائص الضمير مألوفة حتى إن أحد كتب البلاغة المعاصرة والذي يحمل عنوان «البلاغة لهيرينيو» ينصح المدعي بأن يقول إن خصمه قد أبدى علامات الضمير اليقظ، أي إنه شوهد ووجهه يحمر خجلا أو يصبح شاحبا أو يتلعثم أو يتفوه بكلام غير مترابط أو يبدي علامات الريبة أو يفضح نفسه.
وتلك اللغة التي يستخدمها الضمير - بما في ذلك قدرته على الخداع والجرح والوسم أو الوصم - لها طابع مألوف، فالضمير ما زال بالفعل في محاولات مستمرة منذ ألفي عام لمضايقة الأشرار ودعم الأخيار، وإصابة من يتجاهلون انتقاداته اللاذعة بالألم والرعب وشحوب الوجه والرجفة. كانت تلك اللغة وذلك التصوير مناسبين للدين المسيحي الناشئ الذي واجهته مهام متعددة تتمثل في هداية المترددين وتهذيب المؤمنين الجدد، بالإضافة إلى تشجيع المعرفة الذاتية والإصلاح الشخصي في نظامه. ولما كان الضمير قد أثبت بالفعل كونه محفزا على العمل ودافعا لتغيير الحياة، فقد كان قابلا للتكيف بسهولة مع التطلعات والاحتياجات المسيحية، ولا عجب أن الناس قد تمسكت به واستفاضت في الحديث عنه بحماس شديد حتى إنه أصبح أحد المكونات الأولى والرئيسة للرؤية المسيحية للعالم.
المذهب الكاثوليكي والضمير
كانت النتيجة الرئيسة لاستيلاء المسيحية على الضمير هو اختيار جيروم لكلمة «كونشينتيا» اللاتينية في ترجمته للعهد الجديد من الإغريقية إلى اللاتينية في أواخر القرن الرابع. ففي النسخة الإغريقية من العهد الجديد، تعتمد رسائل بولس على مصطلح
syneidesis «سينيديسيس»، وهو مصطلح عام شامل يسبق «كونشينتيا» في الإيحاء بمعنى المعرفة المشتركة أو المعرفة بواسطة الذات «التي تعرف بذاتها». وعن طريق ترجمة الاسم «سينيديسيس» إلى «كونشينتيا»، قدم جيروم هذا المصطلح الأخير في خطوة واحدة بوصفه نوعا شديد الأهمية من معرفة الذات في الديانة المسيحية. وبالطبع فإن المصطلحين ليسا مترادفين تماما، فباختياره مصطلح «كونشينتيا» لم يستطع جيروم تجنب بعض مدلولاته التي تكونت سابقا، فأولا كان تاريخ كلمة «كونشينتيا» يربطها حتما بالتوقعات العامة والمجال العام. وبينما تعد «سينيديسيس» صفة داخلية متأصلة في الفرد، تعد «كونشينتيا» مصطلحا ذا وجه مزدوج ينظر في اتجاهين: داخليا بلا ريب، لكن أيضا خارجيا إلى الرأي العام والقيم المشتركة كما هو الحال في الفهم الشيشروني والقانوني الكلاسيكي. وهكذا فقد أصبحت شخصية الضمير الإنجيلي والمسيحي شخصية مختلطة في بداية نشأتها؛ حيث مزجت بين مبادئ الوعي الأخلاقي الخاص والتوقعات العامة. وكان هذا المزج - أو ربما التشوش المحتمل - بين الجانبين الداخلي والخارجي يعني أن الضمير المسيحي ربما سيظل يخدم سيدين للأبد: صاحبه أو الخاضع له من ناحية، والآراء المذهبية أو اللاهوتية لراعيه الكنائسي من ناحية أخرى.
سوف تظل تصورات الضمير التي وردت في رسائل القديس بولس - كما نقلتها ترجمة جيروم اللاتينية إلى الغرب - مقاييس ثابتة وأيضا أسبابا للجدال عبر التاريخ المسيحي اللاحق. وتظهر أكثر هذه التصورات تأثيرا في رسالة القديس بولس إلى أهل رومية في الإصحاح الثاني الآيات 14-16، التي يوضح فيها القديس بولس أن اليهود تحكمهم قوانينهم، أما غير اليهود أو المسيحيين فهم يحكمون أنفسهم بالنواميس النابعة من أنفسهم، ويظهر أثر الناموس محفورا في قلوبهم، حيث إن ضمائرهم تشهد عليهم. وهكذا يعد الضمير لدى القديس بولس جزءا أساسيا من صاحبه؛ وهدية مباشرة وشخصية من الله إلى المؤمن؛ وهو رأي سوف يزداد أهمية مع ظهور العديد من المذاهب البروتستانتية الحديثة الأولى. لكن الضمير لديه يؤدي أيضا دورا قضائيا أعم، فهو يقضي بين الأفكار المختلفة، وأخيرا فهو يشهد أمام الله يوم القيامة.
تظهر بعض العناصر شديدة الأهمية من الضمير المسيحي الحديث بالفعل في رواية القديس أوغسطين من هيبو ريجيوس في أواخر القرن الرابع عن تحوله إلى الدين المسيحي. فقد ولد أوغسطين وثنيا، وثقف نفسه في الأدب الكلاسيكي والفلسفة، وقضى بعض الوقت متنقلا بين العقائد الإيمانية المختلفة قبل أن يتحول للمسيحية ويتبوأ مكانته كأحد مؤسسي الكنيسة الرومانية. وهو يصف في صفحتي 397-398 من كتابه «الاعترافات» طريقه إلى التحول للمسيحية، وهو طريق يتضمن الكثير من اللهو والتباطؤ. فحتى بعد أن تحول عدد من أصدقائه إلى المسيحية، ظل مترددا ينتظر اليقين بشأن خياره. ويخاطبه ضميره وهو في تلك الحال، وهو ضمير يقظ بالفعل بشأن تأخيره الذي لا داعي له:
لقد أتى اليوم الذي يجب أن أتجرد فيه أمام نفسي ويتمتم ضميري بداخلي قائلا: «أين لساني؟ صحيح أنك قد ظللت تؤكد أنك لن تطرح عبء الكبر لأجل حقيقة غير مؤكدة. لكن انظر، فالأمور الآن مؤكدة، ومع ذلك ما زلت مهموما بنفس العبء، بينما الآخرون الذين لم يرهقوا أنفسهم هكذا في البحث عن الحقيقة ولم يقضوا عشرة أعوام وأكثر يفكرون في الأمر قد تخلصوا بالفعل من أعبائهم.» وهكذا فقد أصبت بالضيق الداخلي وشعرت بالحيرة العنيفة والخزي الشديد.
إن الضمير يتحدث من موقع مشترك مع النفس، لكنه يضم بعض العناصر ووجهات النظر الخارجية على النفس. ويكمن أحد المفاتيح الرئيسة للتناقض بين موقع الضمير وسلوكه في أصل الكلمة اللاتينية نفسها: «كون» + «شينتيا»؛ فكلمة «شينتيا» تعني المعرفة، لكنها معرفة مشتركة، أو «كون». والضمير هو معرفة الذات، لكنه يشير أيضا إلى المعرفة المشتركة مع شخص آخر أو أشخاص آخرين، أو انعكاسيا معرفة الذات عن طريق الذات. وهكذا يبدو أن الضمير يتحدث إلينا من الداخل كمعرفة داخلية - معرفة يشعر بها المرء في داخله - لكنه يدل أيضا على معرفة خارجية أكثر شمولا بشئون العالم، فهو ينتبه على سبيل المثال لما يفعله «الآخرون» وما فعلوه، أو لحقيقة أن العديد من رفاق أوغسطين قد تحولوا إلى المسيحية بالفعل.
كانت «شخصية» الضمير - التي يميزها نفاد الصبر وأيضا قدر من سرعة الغضب - مشكلة بالفعل على نحو كامل وسليم. وعلى الرغم من أنه جزء جوهري من أوغسطين، فإنه نادرا ما يعد محرضا له على الخطأ، وهو صوت «المعارضة المخلصة»، وهي مخلصة لكنها في الوقت ذاته عنيفة. استخدم أوغسطين هنا كلمة
increpare
بمعنى يتمتم، لكن من المعاني الأخرى للكلمة التوبيخ والتقريع، وهو ما يفعله ضمير أوغسطين بكثرة، حيث كان يهاجم أوغسطين لمراوغته الروحية مستعرضا قدرته على «إزعاجه» وإثارة شعوره بالخزي، وهي خصائص الضمير التي ما زالت تلازمه حتى اليوم. ولا تضم ترسانة أسلحته من الحيل المميزة الإلحاح المستمر فحسب، بل أيضا المحاكاة القاسية لنوبات التردد لدى أوغسطين وتبريراته. وأفضل ما يمكننا قوله عن الضمير أن قوته الدافعة إيجابية وحريصة على التحسين الذاتي، وصوته يسعى إلى اتخاذ إجراءات، وهو لن يصمت حتى يحقق أهدافه.
لماذا يحتمل أوغسطين ذلك الوجود المشترك العنيد صعب الإرضاء؟ من ناحية لأن الضمير موجود بالفعل داخل أسوار الذات، ويجب على أية حال أن يؤخذ في الاعتبار، ومن ناحية أخرى لأنه يمتلك معرفة وسلطة خاصتين من نوع أكثر شمولا؛ فهي معرفة أكثر أهمية يجب أخذها في الاعتبار. وبوسعنا أن نصوغ ذلك بطريقة مختلفة قائلين: إن الضمير يعلم كل ما يعلمه أوغسطين (كل شيء عن أعوامه العشرة من المراوغة والتأخير) بالإضافة إلى المزيد (كل شيء عن الطبيعة السامية للمعرفة المسيحية واستغلال أصدقاء أوغسطين لوقتهم على نحو أفضل). ولما كان الضمير يستغل هذا الموقع الاستراتيجي الأسمى - على الحدود بين الذات والآخر - استغلالا كاملا، فإنه ملائم تماما كي يدعو أوغسطين نحو مرحلة جديدة من الوعي بذاته وبالخيارات التي كان يتخذها في العالم.
وعلى تلك الحال المتقلبة سلم الضمير المسيحي البدائي إلى الأجيال اللاحقة في الفترة التي نطلق عليها الآن العصور الوسطى عندما ازدهر ووضحت بعض تناقضاته الغزيرة تحت رعاية الكنيسة. وبوصفه صوتا يتأرجح ما بين الداخل والخارج، فهو يتناوب بين دوري الصديق والعدو؛ حيث يقوم أحيانا بدور المشجع المؤيد وأحيانا أخرى يقوم بدور إصلاحي قاس. وهو يعلم أسوأ نقاط ضعف المرء، لكنه يخاطبها في نطاق معايير شاملة وعقلانية، وهو في آن واحد يؤسس شعورا قويا بالفردية من ناحية، وانقساما دائما لتلك الذات بين الميل الخاص والإجماع العام من ناحية أخرى. ولما كان الضمير المسيحي متنوعا بالفعل منذ بداية نشأته - وبذلك المعنى فهو حيوي ومتقلب في الوقت ذاته - فقد ضمن تاريخا طويلا لاحقا من التأثير الضخم والخلاف العقائدي الدائم.
لكن من ناحية واحدة كان لاتحاد الكنيسة والضمير في العصور الوسطى تأثير باعث على الاستقرار؛ فلأول مرة أصبح الضمير - بدلا من التحول حسب تقلبات الموقف والرأي العام - مزودا بمحتوى راسخ في صورة اللاهوت المسيحي والأمثلة الواردة من الإنجيل والممارسات المؤسسية. واحتفظ الضمير في العصور الوسطى بقدرته على الحديث الداخلي ومخاطبة باطن المرء، لكن لا حاجة له في معظم الأحيان للتساؤل عما يقول بالضبط.
وقد صورت تلك الحال التي «ينشأ» فيها الضمير ولديه معلومات بالفعل عن السلوك القويم والإيمان الصحيح في إحدى دراسات القرون الوسطى الأكثر تفصيلا لذلك الموضوع، وهي دراسة الراهب البنيدكتي بيتر من سيل التي تحمل عنوان «عن الضمير»، حيث يجري إعداد قاعة احتفال رائعة لكن الضيف الرئيس لم يصل بعد:
تخيل مائدة عامرة بأصناف مختلفة من الطعام ... وهب أن كل شيء مهيأ بنظام تام بحيث لا تعوزه الأناقة، ولا يكون زائدا عن الحاجة أو باعثا على الضجر. لكن في الوقت الحالي هب أن أجمل الأماكن وأكثرها اتساعا - ذلك المخصص للملكة وربة البيت - خاليا ... وأخيرا تصل المرأة التي يتوارى كل من الشمس والقمر رهبة أمام جمالها، وبينما تجلس تغلق الأبواب ويكتمل ضيوف وليمة الزفاف. ويعلن اسمها للبلاط الملكي: هذه السيدة تدعى «الضمير».
ولما كان الضمير مرسلا من الله إلى الروح المسيحية المتقبلة، فإنه لا يأتي خاوي الوفاض، بل حاملا خزائن اللفائف التي لا تضم أوراق هويته ووصيته فحسب، بل أيضا محتويات غرفته الممتلئة. وتتكون تلك المحتويات - هنا وفي أماكن أخرى - من آراء معروفة على نطاق واسع يعتنقها كثير من الناس: كالشهادة الجماعية من القديسين وكهنة الاعتراف والمجالس والمجامع الكنسية المخول لها تفسير نسخة الكتاب المقدس المكتوبة باللغة اللاتينية.
بوسعنا تكوين ملاحظات مشابهة من الأعمال الكلاسيكية الإنجليزية التي ترجع للقرون الوسطى والتي تتناول موضوع الضمير. ويوحي العنوان المثير «الإزعاج المتكرر للضمير» بنوع من الإحساس بالذنب ينبع من الذات، لكن متن النص يتكون من سرد للملامح الخارجية والمتفق عليها للتوبة والتي يمكن لجميع المسيحيين أن يعتمدوا عليها في تنظيم حياتهم، وهي: وصايا الله والخطايا السبع المميتة وما يتفرع منها وقوانين الحياة التقية والصلاة الربانية والفضائل الأساسية وممارسة الاعتراف. وينشأ الضمير عرضا بوصفه نتيجة ثانوية لممارسة الاعتراف على نحو سليم، وعندئذ يقيم النادم تجربته طبقا للمعتقدات العامة للكنيسة؛ ومن ثم يشعر بالأسف الشديد و«غالبا ما يبلل وسادته بدموعه». وعلى الرغم من ذلك العنوان الذي يتضمن حسا صحفيا، فإن قصيدة «وخز الضمير» التي كتبت في القرن الرابع عشر أو الخامس عشر لا تعد تحليلا للضمير الفردي أو الشخصي قدر ما هي بحث في العقيدة المعروفة بالإجماع (الخوف من الموت والجحيم والمطهر وعلامات يوم القيامة والحساب ومكافآت السماء). ولم يذكر الضمير سوى عرضا في القصيدة، مرة بوصفه أحد المتهمين الخمسة عشر (إلى جانب الشياطين والملائكة والشهداء وما إلى ذلك) الذين يحضرون للشهادة ضد الأشرار يوم الحساب، ومرة أخرى بوصفه أحد أنواع الآلام الأربعة عشر في الجحيم (بالإضافة إلى البرد والجوع وما إلى ذلك). وكالعادة سوف يسبب الضمير مضايقة خاصة فريدة من نوعها - مثل «الإزعاج» و«العض كالحيوانات الضارة» - لكن مضمونه مشترك على مستوى العالم وليس خاصا بالفرد النادم وحده.
لا أرغب بالطبع في إطلاق أحكام عامة غير ذات جدوى عن العصور الوسطى بوصفها حقبة من العقيدة التوحيدية؛ وذلك لأن الضمير في العصور الوسطى كان مفهوما متحركا شديد المرونة، وحتى إذا كان الشكل الذي تتخذه نصائحه قابلا للتنبؤ به عموما، فما زالت هناك كل الموضوعات المألوفة والمتعارضة الخاصة بالتطبيق العملي. ويمكننا إيضاح عمق التفكير في مسألة الضمير في العصور الوسطى وتنوعه عن طريق أحد أهم القصائد التي ترجع للقرن الرابع عشر والتي كتبها ويليام لانجلاند بعنوان «الفلاح بيرس»، وهي قصيدة رمزية، تدعى الشخصية المحورية فيها باسم ويل، وهو شخص تواجهه صعوبات وتحديات خاصة بالتمييز والاختيار. وتمثل العديد من شخصيات القصيدة بما فيها الضمير (وهو الشخصية الوحيدة التي تظهر خلال معظم أجزاء القصيدة) صفات تقع داخل عقل ويل وخارجه. ويتفاعل الضمير - الذي أصبح الآن مذكرا، فهو في حالة تغيير دائم للنوع - مع ويل بعدة طرق بعضها أكثر تعقيدا من أن يعرض بالتفصيل هنا. وتعد مسئوليته الأساسية إلقاء المواعظ والمحاضرات على ويل حول أمور العقيدة التي يجب أن يعلمها وينفذها في سلوكه الشخصي. ومن ثم فإن نصيحته تتكون في الأساس من أمور معروفة: أمور يجب على كل مسيحي أن يعلمها، وعلى ويل أن يضبط حياته وسلوكه طبقا لها. ويصور الضمير في القصيدة بطرق متنوعة، فهو تارة حارس وتارة أخرى مستشار ودليل، أما رفيقه الدائم: «العقل» فهو يشجعه ويسهل له مهمته.
لكننا لا نستطيع اعتبار الضمير في القصيدة شخصية ثنائية الأبعاد، حيث يكمن جزء من أهميته في موقفه داخل عقل ويل وخارجه، فهو صوت في رأس ويل وفي الوقت ذاته شخصية مؤثرة في العالم. والطبيعة الرسمية والعامة لواجباته تؤكدها قدراته وألقابه المختلفة: فهو مستشار ودليل ويشغل منصب مسئول أمن قلعة الوحدة. وقد قادته تلك المشاركات الدنيوية إلى صعوبات متكررة. ولما كان مجبرا على اتخاذ قرارات في عالم معرض للفضح، فإنه يكشف الأخطاء التي كانت في ظروف أخرى لتمر دون أن يلاحظها أحد. وفي القصيدة، يعد الضمير قائمة مريبة بالمدعوين لحفل عشاء تضم حامل دكتوراه في اللاهوت يتسم بالغرور، وفي نهاية الأمر يحتاج إلى ترتيب أفكاره والاسترخاء فينصرف عن ضيوفه؛ ونراه في نهاية القصيدة محاصرا بأعداء خارجيين، وعلى الرغم من التحذيرات فإنه يرتكب الخطأ الكارثي المتمثل في السماح للرهبان بدخول قلعة الوحدة. وتوحي نهاية القصيدة بأنه قد يكون أفضل حالا إذا رفض بعض المهام الموكلة إليه وشق طريقه في الحياة بطريقة أقل جمودا كأنه عابر سبيل ورحالة في العالم. لكن في القصيدة كما هي بين أيدينا، فالضمير لا خيار لديه سوى الصراع مع بدائل معيبة بينما يقوم بمسئولياته العليا بوصفه حكما للإجماع المسيحي.
وهكذا فإن الضمير في قصيدة لانجلاند يثير قضايا ثابتة تتعلق بالتفسير والتطبيق، لكن على الرغم من أن الضمير قد يهزم مؤقتا أو يخطئ في أمور تتعلق بخيار محدد، فإنه لا يرتكب خطأ عقائديا صريحا أبدا ولا يدافع عن الآراء المنحرفة أو الشاذة التي تتشكل خارج الكنيسة. ويقر القديس توما الأكويني وبعض المحللين الآخرين بإمكانية وجود ضمير مهرطق أو مذنب، لكن في معظم التطبيقات اليومية يظل الضمير في القرون الوسطى أورثوذكسيا وحسن النية.
لكن الفكرة الحديثة المألوفة القائلة إن الضمير يمكنه مواجهة كل سلطة معروفة وحده لم تتبلور بعد. ويلزم لهذا التحول تصور وجود ضمير خاص داخلي يستطيع أن يضع نفسه في منافسة مع الضمير العام أو الرسمي. وغالبا ما يقترن هذا التحول باسم مارتن لوثر وصعود نجم البروتستانتية، لكن علاماته الأولى تظهر في أواخر العصور الوسطى، بل أيضا في النسخ الأحدث من قصيدة لانجلاند. وقد كتبت قصيدة «الفلاح بيرس» على مراحل منذ الستينيات وحتى الثمانينيات من القرن الرابع عشر، وتتضمن نسختها الأخيرة المعروفة باسم النص «ج» جزءا إضافيا يخصص فيه لشخصية ويل (الذي يرتبط الآن أكثر من ذي قبل بالمؤلف ويليام لانجلاند) ضمير شخصي بالإضافة إلى الضمير العام. والأكثر إثارة للاهتمام من ذلك أن ضميره الشخصي والآخر المجازي يدخلان في مجادلة، وفي ذلك المقطع يوجه كل من العقل والضمير الاتهام لويل بأنه يحيا حياة منغمسة في الملذات لا طائل منها. ويحدث هذا في مقطع أضيف إلى بداية القسم الخامس من القصيدة، حيث يعترض كل من العقل والضمير على الطرق المتكاسلة التي يتبعها ويل، ويرد ويل (على الضمير) قائلا: ... أنت تعلم ما كان المسيح [يتمنى] أن تكتبه في ضميري
صلوات رجل مثالي وتوبة متواصلة
هي العمل [الأعلى قيمة] الذي يرضي الله.
لا يتأثر الضمير بتفسير ويل القائل إن ضميره الشخصي يوافق على ممارساته المعتادة من التضرع للقديسين الأثرياء والتوبة من حين إلى آخر. وفي ذلك المقطع يفرض الضمير (بوصفه كيانا مشتركا أو جماعيا) نفوذه على ضمير ويل (أو إدراكه الشخصي للصواب والخطأ)، لكن حقيقة أن الضمير المؤسسي والضمير الشخصي قد يدخلان في مجادلة تعد تنبؤية على نحو ذي دلالة؛ فضمير ويل «الخاص» ليس لديه أي شيء مبتكر بشدة كي يدلي به؛ بل إن الضمير الجماعي في حقيقة الأمر يجد ملاحظاته (ملاحظات الضمير الخاص) عادية وسطحية وينحيها جانبا وهو غاضب، وبالطبع ينتصر الضمير الجماعي في نهاية الأمر. ومع ذلك فإن هذا الخلاف بين الضمير الخاص والعام ينذر بظهور وضع سوف يتكرر كثيرا في القرن الخامس عشر، ثم يصبح منتشرا في القرن السادس عشر عندما ينشأ فرق بين الضمير الفردي ورؤية الضمير بشكل أكثر شمولا وقبولا لدى العامة. وقد ينظر لهذا الفرق في قصيدة «الفلاح بيرس» التي كتبت في أواخر القرن الرابع عشر بوصفه مساحة تخيلية أو محتملة، أو ثغرة لم يملأها بعد ضمير شخصي أو إصلاحي بالفعل، لكن قد يتكون وينمو داخلها ضمير شخصي.
يظهر لجوء ويل للضمير الشخصي في موقف ينطوي على إكراه؛ إذ يجد ويل نفسه فيه تحت ضغط شديد من العقل والضمير الجماعي. وهو أمر مفهوم، فالشخصية التي تقع تحت ضغط من سلطة عليا - خاصة إذا كانت سلطة روحية أو دينية - تحتاج إلى ملجأ أو بديل، واللجوء إلى ضمير شخصي يفتح على الأقل مساحة صغيرة لحجة مضادة تتسم بالحكمة. وقد شهد القرن الرابع عشر والخامس عشر في إنجلترا وفي القارة بأكملها مضاعفة للتحديات الشخصية والعقائدية التي تواجه الكنيسة المؤسسية (وبعضها، كتلك التي واجهت لانجلاند، سعت إلى تعديل بسيط لممارساتها، والبعض الآخر قد ينظر إليه بوصفه نذيرا للسخط البروتستانتي في القرن السادس عشر). ويجد الأشخاص العالقون في هذه التحديات عزاء متزايدا في فكرة الضمير الشخصي عوضا عن الضمير الذي تراقبه المؤسسات.
وعلى الرغم من أن بعض الكتاب التقليديين في القرن الرابع عشر - مثل عالم اللاهوت الشهير والتر هيلتون والسياسي الحزبي توماس أوسك - يحتكمون إلى مفاهيم الضمير الشخصي، فإن المصدر الأقوى لذلك الاحتكام يوجد في كتابات عالم اللاهوت جون وايكليف وأتباعه اللولارديين (نسبة إلى لولارد أحد أتباع وايكليف). وقد أثار هؤلاء المنشقون دينيا في القرن الرابع عشر والخامس عشر عدة موضوعات سوف تصبح بارزة في الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر. ولما كان وايكليف تحت ضغط على كل الجبهات من السلطة الكنائسية بشأن موضوعات سوف تؤدي في نهاية الأمر إلى إدانته رسميا (وإلى نبش قبره وحرق جثته)، فقد نادى في الخطبة التاسعة والأربعين بأنه يحسن بالفرد المسيحي أن يحكم على الفضيلة بضميره الخاص بدلا من الاعتماد على آراء الآخرين، واستمر مؤكدا أن: المنبر الأخير للفضيلة «يكمن في ضميري الخاص». وكان نص هذه الخطبة - على نحو ذي دلالة - وفي ضوء التاريخ اللاحق على نحو تنبئي من رسالة الغلاطيين 6 : 5: «ليحمل كل فرد العبء الخاص به.»
لكن العقود الأولى من القرن السادس عشر كانت الفترة التي برزت فيها رؤية فردية جديدة للضمير في إنجلترا، وربما نجد الخطوة الأولى في هذا التحول في سلوك خصمين متكافئين على نحو غريب.
هنري الثامن والمستشار مور
يعد القول بظهور رؤية جديدة تماما للضمير في القرن السادس عشر تقليلا من شأن الدقة والتنوع اللذين اتسم بهما التفكير فيما يزيد عن ألف عام سابق، وبخسا لقدر التباين الذي تحدث به تلك التغيرات. ومع ذلك فقد صعدت تيارات جديدة بارزة في القرن السادس عشر، وبدأ الكثير من الناس، مدفوعين بعلم اللاهوت البروتستانتي الذي يؤكد على التواصل المباشر مع الله وأهمية الإلهام الشخصي، يرون الضمير ملاذا للرأي الفردي، بل حتى الرأي الشاذ، أكثر مما هو مسألة تتعلق بالإجماع الكنائسي الجدير بالثقة. وتماشيا مع هذا الطابع الشخصي الجديد، فقد قل اعتبار الضمير مجموعة من المفاهيم الكنسية الوافدة من «الخارج للداخل»، وازداد اعتباره مجموعة من المعتقدات الراسخة التي تتحدث من «الداخل للخارج». وبدلا من اعتباره نصيرا للوحدة وتوحيد الآراء، فقد أصبح الضمير سلطة ربما تثير الشقاق وحافزا داخليا عميقا ملحا قد يضع المرء في صراع مع المؤسسات وأنماط المعتقدات المعترف بها، وهو ما قد يدفع بصاحب الضمير إلى مواقف شديدة الخطورة والمجازفة، لكنه على الرغم من ذلك يجب أن يتبع خشية أن يغامر المرء باستقامة روحه وخلاصها النهائي.
تتضح الخطوط العريضة لما يطلق عليه «الضمير الإصلاحي» في القارة الأوروبية في مطلع العشرينيات من القرن السادس عشر وفي إنجلترا بعيد ذلك. وتعد التيارات البروتستانتية التي بلغت ذروتها في تلك الحركات المعروفة باسم «حركات الإصلاح» أكثر تعقيدا من أن توصف وصفا بسيطا، لكن بعض خصائصها بالإضافة إلى بعض عناصر رد الفعل الكاثوليكي يمكن ملاحظتها في التصادم الشهير الذي وقع بين هنري الثامن والسير توماس مور (الذي عرف لاحقا بالقديس توماس). لطالما اعتبر مور خصم هنري النصير الأول للضمير؛ إذ رفض من حيث المبدأ قبول تأدية «قسم السيادة» للملك هنري ورفض قطع العلاقات مع كنيسة روما، لكن هنري ذاته كان النصير الدائم على نحو مدهش لصورة جديدة أكثر تطرفا من الضمير الشخصي.
شكل 1-1: الملك هنري الثامن: رجل حي الضمير؟ بورتريه لهانز هولباين الأصغر، عام 1537 تقريبا.
1
في ربيع وصيف عام 1527، بدأ هنري علاقته الغرامية بآن بولين وعقد النية على الحصول على الطلاق من الملكة كاثرين التي كان قد تزوجها منذ زمن طويل. وكانت «دوافعه» أن يتبع منهج الشرعية القانونية المستند إلى الكتاب المقدس، حيث اعتمد على عدم شرعية زواجه بكاثرين أرملة شقيقه، لكن «حجته» تضمنت عذابات حيرة الضمير، وهو ضمير ليس مستندا إلى موافقة بابوية أو سلطة كنسية أو آراء العامة ككل.
لا شك أن المناقشات السابقة حول الضمير قد بدأت في جلسات مغلقة، لكن طبقا للسجلات المكتوبة فإنه في ديسمبر من عام 1527 أوضح وولسي لأحد رسل الملك قائلا:
إن الملك باجتهاده في الدراسة والعلم من ناحية، وتشاوره مع علماء اللاهوت من ناحية أخرى، وجد أن ضميره مثقل إلى حد ما بزواجه الحالي، وسعيا إلى طمأنينة روحه ثم إلى تأمين خلافته ... اعتبر إصراره على هذا الزواج إهانة لله وللإنسان، وهو يشعر بتأنيب ضمير شديد؛ ذلك لأنه يحيا منذ زمن طويل مرتكبا إساءة بحق الذات الإلهية.
لم ينحرف هنري عن هذا العذر، فعندما اقترب هذا الأمر من نهايته يقول تشابويس، مبعوث الإمبراطور، في خطاب أرسله بتاريخ السادس عشر من أبريل عام 1533 يصف فيه مقابلة اتضح من خلالها أن هنري شديد العناد، وأذاع فيها أنه قد تزوج آن بولين سرا، وقال تشابويس إنه توسل إلى هنري أن يوقر الله على الأقل حتى إذا كان لا يوقر غيره من الرجال قائلا: «لقد أخبرني بأنه فعل ذلك، وأن الله وضميره على علاقة طيبة.»
من يمكنه أن يؤكد ما إذا كان هنري مثقل الضمير «بالفعل» أو أن المشكلة كانت تكمن في جزء آخر من جسده (وهو الاحتمال الأكبر)؟ وتكمن النقطة الأساسية في نشوء مناخ فكري جديد، كان هنري يتفهمه ويدركه تماما، وقد أتاح هذا المناخ لمؤيدي أي موقف ملتبس أو غير شائع بأن يظلوا على تأييدهم لهذا الموقف أو التوجه إذا أمكنهم أن يتوصلوا إلى حجة مقنعة للإلحاح المستمر للضمير الشخصي. وحتى إذا كان حديث الضمير الخاص بهنري بأكمله مجرد ذريعة، فقد نجح نجاحا باهرا في استخدام نفوذه بوصفه ملكا ومهاراته الجدالية في اجتذاب الناس إلى المناقشة بشروط منحته حق التذرع بالضمير. وحصل هنري على تنازلات جزئية - على الأقل في بداية الأمر - حتى من أشخاص ثابتين على موقفهم مثل الكاردينال جون فيشر، ففي عام 1528 أو نحو ذلك كتب فيشر (منفعلا لكن في الوقت ذاته مفعما بالأمل) قائلا: «إنني مقتنع بأن الرغبة الملكية لا تتمثل في رفض القوانين الإلهية، وأنه إذا كان الملك قد استجاب لحيرة الضمير بناء على المحرمات اللاوية فسوف ينحيه جانبا حقا.» وقد أشيع عن البابا نفسه أنه يفكر في مخطط قصير الأجل يمكن هنري من الزواج بامرأتين بهدف أن يرتاح ضمير هنري. وهكذا أيضا نجد مور خلال فترة توليه منصب المستشار منذ عام 1529 وحتى عام 1532 يميل نحو التسوية الجزئية، حيث كان موقفه المتلون إلى حد ما خلال فترة توليه منصبه يتمثل في مساعدة الملك في الأمور التي لا يرفضها ضميره الخاص، لكن آخرين هم من قد يتطوعون لملاحقة قضية الطلاق الكبرى وهم يضمون «فقط هؤلاء الذين لاحظ فيهم نيافته وجود الضمير (وهم عدد كاف) وأقنعهم تماما بأداء هذا الدور». وكان مور يأمل في بداية الأمر (وهو الموقف الذي سيتراجع عنه نادما خلال أحداث 1532-1534) أن يجد هنري طريقة «كي لا يسبب لأي إنسان إزعاج الضمير أو اضطرابه أبدا» في تلك المسألة، وأن الضمير الخاص بكل مشارك في هذا الأمر لن يمس. وهكذا نجد حتى كبار المتشككين مثل فيشر ومور مستعدين للميل على الأقل جزئيا نحو الخطاب الناشئ حول قدسية الضمير الفردي.
كان التحول الذي مر به هنري من الضمير العام إلى الضمير الفردي مصحوبا بحملة أيديولوجية طموحة. ففي مرحلة مبكرة جند مجموعة من علماء اللاهوت المشتركين في الجريمة وأعطاهم تعليمات بأن يؤلفوا «سينشورا»، وهو منشور ظهر في عام 1531 عن القرارات المؤيدة لطلاقه، وقد دعمت حججهم نظرية تتعلق بالضمير الخاص، وهي تعيد بعث المفاهيم السابقة الخاصة بقدسية القانون الخاص الذي كتب في صدور الناس وتعمل على نشرها على نطاق واسع.
وفيما يلي استشهاد بترجمة إنجليزية كتبت في الفترة نفسها تقريبا عن الأصل اللاتيني:
إن القانون العام هو ما أكدته كتابات البابوات، أما القانون الخاص فهو ما كتب في صدور الناس عن طريق الوحي من الروح القدس كما قصد المصلحون الأخلاقيون الذين يحملون القوانين الإلهية منقوشة في صدورهم بالضبط.
وبالنسبة لمفهوم القانون الخاص الذي كتب في صدور الناس، يمكننا العودة لتلك الفقرة من رسالة الرومان في الآية 14 من الإصحاح الثاني، وهي فقرة لا تنسى بالطبع، لكنها تكتسب اهتماما ملحوظا من جديد عن طريق مجموعة من المصلحين البروتستانتيين والمناهضين للمؤسسات. فعندما يعلن المرء أنه قد تأثر بالتواصل المباشر الشخصي مع الروح القدس وأنه صاحب قانون نقش في صدره على نحو فريد، فإن الاختبارات الخارجية في القانون العام أو كتابات الكهنة أو أي عنصر آخر من تعاليم الكنيسة الكاثوليكية ينسحب معترفا بالهزيمة:
إذا تتبعنا حركة الروح القدس وحركة ضمائرنا فلن نصبح خاضعين للقانون العام الذي يجب دائما أن يفسح المجال للقانون الخاص، فبالنسبة للأمور التي يحرمها القانون الإلهي علينا أن نطيع ضمائرنا، وفي الأمور الأخرى علينا أن نطيع الكنيسة.
من الواضح أن النظرة الأكثر تقليدية للضمير بوصفه أداة للتأنيب لكن ليس للتمرد كان لديها المزيد لتقدمه للكنيسة الرومانية التي كانت متورطة في صراعات في القرن السادس عشر أكثر مما كان لدى الضمير الخاص الذاتي المنفلت - الذي فضله هنري ومستشاروه. فقد شارك الكاردينال فيشر في الهجوم على الضمير الخاص في دفاعه الذي كتبه عام 1531-1532، أما مور الذي دعم جزئيا من قبل موقف هنري في توقعه بأن الأفراد قد يسمح لهم باختيار برنامجه أو الانسحاب منه، فقد دفعه كل من «قسم السيادة» و«مرسوم الخلافة» إلى اتخاذ موقف تقليدي أكثر حسما. وفي خطاباته الأخيرة التي يرجع تاريخها إلى أعوام 1532-1534، اتخذ موقفا ضد الضمير الفردي الجانح الذي أساء توجيهه شخص غريب الأطوار أو مهرطق بما يعارض شئون العقيدة المتفق عليها. وقد كتب إلى ابنته مارجريت متحدثا عن ذلك الأمر في حالة رجل «اتخذ موقفا معارضا من حقيقة واضحة تتجلى عن طريق العقيدة المسيحية المتفق عليها بالاعتماد على عقله وحده، أو بالإضافة إلى القليل لكن ليس الكثير من الأشياء الأخرى»، حيث توصل إلى أن «هذا الضمير ملعون بشدة». وخلال التقلبات اللاحقة التي مر بها مور، أكد تأكيدا متزايدا على فكرة الاتفاق الخارجي على الاعتقاد الصحيح. فهو يوصي في «حوار المواساة» على سبيل المثال بأن يخضع حكم الضمير للتصحيح الخارجي، حتى وإن كان ذلك في شكل نصيحة من شخص آخر صالح فحسب. وفي الشهور الأخيرة التي قضاها في السجن والتي كان فيها أشد عزلة وبعدا عن نصائح الرجال الصالحين، ضغطت الظروف على مور ضغطا أكبر من المعتاد كي يعتمد على إيعازات ضميره الخاص فقط، لكنه وجد طريقة كي يستحدث درعا واقيا من السلطة الخارجية؛ وهي أن يخلق صوته الداخلي أو الحكيم الخاص به وجمهوره أو مجتمعه الخاص. وهذا المجتمع غير موجود، فهو لا يتكون من أشخاص كان يتمكن من الاشتراك في أحاديثهم، لكن يتكون مما يعتبر هيئة «متحركة» من المجامع الكنسية والقديسين والمصلحين الأخلاقيين الذين سعى إلى الحصول على موافقتهم، أو حتى تصويبهم، إذا اقتضت الضرورة ذلك. وهو يصوغ تلك النقطة ببلاغة في خطبة ما بعد الإدانة كما هو مثبت في مذكرات تشاستلمان:
قاطعه المستشار قائلا: «ماذا هناك يا مور؟ هل ترغب في أن تعتبر أكثر حكمة وذا ضمير أكثر يقظة من كل الأساقفة ونبلاء المملكة؟» وأجاب مور قائلا: «سيدي، في مقابل أسقف واحد في رأيك لدي مائة قديس؛ وفي مقابل برلمان واحد من عندك - والله أعلم بنوعه - لدي كل المجالس العامة لمدة ألف عام؛ وفي مقابل مملكة واحدة لدي فرنسا وكل الممالك المسيحية.»
شكل 1-2: «السير توماس مور متأملا»، بريشة ويليام هيكمان سميث أوبري، عام 1890 تقريبا.
2
ضمير «إصلاحي»؟
في حالتي هنري ومور نجد معاصرين لهما يشتركون في الإيمان بكلمة «الضمير» لكنهم يعنون بها أمورا مختلفة. وقد أكد كل من هنري وكرومويل - خليفة مور - وإنجيليو منتصف القرن المحيطين بإدوارد السادس - ابن هنري - تأكيدا غير مسبوق على الطبيعة الداخلية المتفردة والمتشددة لمتطلبات الضمير الشخصي. كان لدى هنري أسبابه كي يفضل نزعات ضميره الخاص، لكن معاصريه وخلفاءه الأكثر تعصبا طوروا الاعتماد على الضمير الخاص إلى هوية عامة جديدة مولعة بالمظاهر نوعا ما. هل تعبر تلك الهوية عن ضمير «بروتستانتي» أو «إصلاحي» مميز؟ ربما كان الأمر كذلك، بل أكثر من ذلك لأن هذا الضمير يدعمه ويضيف إليه المثال الأوروبي.
يمكن تلخيص التيار القوي من الاهتمام البروتستانتي بالضمير والذي يتدفق في اتجاه إنجلترا، في كتابات مارتن لوثر الذي يؤكد تأكيدا قاطعا على الضمير الشخصي، وقد ركز على هذا التأكيد في إعلانه الشهير عام 1521 في مدينة فورمس الذي أعلن فيه أن ضميره لا يخضع سوى لكلام الله مضيفا: «لا أستطيع أن أتراجع عن أي شيء مما قلته ولن أفعل، فمعارضة الضمير ليست أمرا آمنا ولا فاضلا .» وجدير بالذكر أن فكرة أن يكون الإنسان استنتاجا شخصيا خاصا بالضمير بناء على كلام الله الموجود في الكتاب المقدس فحسب؛ ومن ثم يتخطي سلطة الكنيسة تماما - من الصعب أن تمر دون ملاحظة. وفي حقيقة الأمر، ففور أن تحدث مارتن لوثر هتف يوهان إيك أمين الاجتماع، طبقا لروايته عن هذا الموضوع قائلا: «فلتنح ضميرك جانبا يا مارتن! عليك أن تنحيه جانبا لأنه مخطئ.» لم يكن خلاف إيك بالطبع مع الضمير بمفهومه التقليدي، لكن مع مفهوم جديد ضار للضمير بوصفه مرشدا شخصيا شديد الخصوصية للسلوك. ولما كان لوثر واثقا في صحة موقفه طبقا للكتاب المقدس، فلم يكن لديه النية لتنحية ضميره جانبا.
لم يكن الخلاف مع قراءة الإنجيل ذاتها، لكن مع إصرار لوثر على حقه في تكوين استنتاجاته الخاصة حول توصياته. وتجنب لوثر منهج الإيمان بالذات عن طريق قبول نص الكتاب المقدس بوصفه «أداة تحكم» خارجية، لكنه أصر على حقه في تفسير نص الكتاب المقدس. وكان ما أصاب ممثلي البابا بالضيق هو رفضه منح السلطات الوسيطة - مثل استنتاجات المجالس والمجامع الكنسية - أي دور تحكيمي في العلاقات بين الله والإنسان. كان لوثر يعلن مولد فهم جديد للضمير، تحول من الضمير الملتزم تجاه المؤسسات في الكاثوليكية إلى ما يمكن أن يطلق عليه الضمير «الإصلاحي» الذي لا يلتزم بأي شيء سوى بتواصله المباشر مع الله فحسب كما هو موضح في الكتاب المقدس. ويعني هذا الإصرار على التفسير الشخصي بدلا من التفسير المؤسسي أو الجمعي للكتاب المقدس أنه لن يكون ملتزما على الإطلاق من وجهة نظر ممثلي الكنيسة الرومانية ذوي التفكير المؤسسي. وهكذا ففي كتابه الذي يحمل عنوان «حول عبودية الإرادة» الذي صدر عام 1525 وكان جزءا من سجاله ضد أحد رواد الحركة الإنسانية الكاثوليكي إراسموس، يصر لوثر على أن «الضمائر لا يقيدها سوى أمر من الله، وهكذا يصبح استبداد البابوات وتدخلهم ... لا مكان له بيننا». وكان الأمر الحاسم بالنسبة للوثر يتمثل في أن النفحات المباشرة للروح القدس قائمة على الاختيار الحر وليست آمرة، بينما احترام إراسموس للمؤسسات - سواء أكانت كنائسية أم سياسية - لا يفهم منه سوى التقييد: «فالقوانين البشرية لا يمكن اتباعها مع أوامر الله؛ لأن الأولى تقيد الضمائر، أما الثانية فهي تحررها.»
شكل 1-3: مارتن لوثر في فورمس.
3
ولم تنتقص الادعاءات البروتستانتية بشأن الضمير بالطبع من ولاء الكاثوليكيين لفهمهم الخاص لنفس المفهوم. لكن الآراء التي يطلق عليها «كاثوليكية» و«بروتستانتية» بدأت تتباعد؛ حيث ادعى كل من إراسموس الكاثوليكي ولوثر البروتستانتي أن «الضمير» هو ما فوضهما لتفسير الكتاب المقدس، ومن ثم فهو البوصلة التي يسترشدان بها في الحياة. إلا أن لوثر يرسخ الادعاء الإنجيلي المعتاد بأن الضمير الشخصي هو أساس تفسيره للإنجيل، بينما يزعم إراسموس، على نحو لا يخلو من المعقولية، أن ممارساته التفسيرية تعتمد على الضمير وعلى القدرة على التمييز على حد سواء. ويرى إراسموس (بالإضافة إلى توما الأكويني وعظماء آخرين في اللاهوت الكاثوليكي) الضمير مرتبطا بالحفاظ على القانون الأخلاقي، وهي ملكة فطرية تتعلق بالاختيار العقلاني من بين الخيارات المتنافسة. لكن لوثر لا يعتقد ذلك، فالضمير لديه كشرارة البرق، أي إنه رسالة استثنائية حارقة من الروح القدس تغير حياة المرء، وهي رسالة بالكاد يتحملها الإنسان (ويتضح ذلك بشدة لدى كالفن). ويؤكد لوثر - على النقيض من إراسموس - أن «الروح القدس ليس متشككا، وهو لم يضع في قلوبنا الشكوك أو الأفكار فحسب، لكنه وضع تأكيدات أكثر يقينا من الحياة ذاتها ومن كل التجارب التي مررنا بها».
شكوك حديثة
لكن الضمير الإصلاحي اصطدم بشكوك ومصاعب في نفس لحظة انتصاره الواضح. فقد كان تحرير الضمير البروتستانتي من قيود المسلمات والعقيدة الجمعية بالطبع ذا دلالات توحي بالنصر (وتتضح الدلالات الموحية بالنصر في اللوحات المعاصرة للوثر وهو يقود الضمير المحرر حديثا بعيدا عن أنقاض الكنيسة الكاثوليكية). وما إن رسخت فكرة الضمير المستقل المستوطن - وربما المعصوم من الخطأ - حتى سقطت فريسة لمجموعة ضخمة من الشكوك وأوجه القصور الواضحة؛ حيث بدا فجأة للعديد من أقوى مؤيدي هذا الضمير الداخلي الشخصي أنه قد لا يكون معصوما من الخطأ أو كفئا لتحمل المسئوليات المبالغ فيها التي وقعت على كاهله. ويدور أحد التحديات - وهو تحد إنساني أكثر منه ديني - حول وقوع الضمير في شرك الجسد وحيدا. أما الضمير الإصلاحي الذي يتريث أكثر ويكمن على عمق أكبر، والذي يظل بطبيعته يقظا منعزلا في انتظار بيانات وتعليمات جديدة من الروح القدس، فكان غالبا ما يجد نفسه في موضع الجاسوس المنعزل الذي هبط بالمظلة في أرض العدو حاملا جهاز استقبال يلتقط الموجات القصيرة، وبطارية أوشكت على النفاد وظل ينتظر رسالة قد لا تأتي أبدا. وبصرف النظر عما قد يقال أيضا عن الضمير المؤسسي الخاص بالكنيسة الكاثوليكية، فهو لم يكن منعزلا قط ولا يفتقر إلى أدوات الدعم والتأييد الخارجية، سواء أكانت تاريخية أم مؤسسية أم داخلية. وفور أن تحرر الضمير نفسه من القيود اللاهوتية والكنسية وأصبح شخصيا تماما في عمله، تعرض لمجموعة متنوعة من الاختيارات والإغراءات. ولما كان الضمير الشخصي قد أضحى مرتبطا بفكرة الفرد غير المعصوم من الخطأ، فقد أصبح مشكوكا في أحكامه على أنها خداع الذات ونقص في العزيمة وشيء مشابه للفساد المادي.
لا تغيب هذه الشكوك الحديثة حول الضمير عن ملاحظة شكسبير القوية؛ فقد توصف «هاملت» عمليا بأنها مسرحية تدور حول كيفية عمل الضمير، وهو ليس وصفا مشجعا على الإطلاق. حيث يعاني كلوديوس من «سياط» الضمير لكنه لا يستطيع أن يتصرف طبقا له، ويصاب هاملت في النهاية بالعجز بسببه بدلا من أن يستمد منه القوة. وفي مناجاته الأشهر التي يوازن فيها بين العمل وفناء الذات، يتردد هاملت لخشيته مما بعد الموت:
ذلك العالم المجهول، الذي لا يرجع من تخومه أحد
فتملكنا الحيرة، وتؤثر احتمال الشرور التي نعرفها
على الوثوب نحو أخرى نجهلها كل الجهل،
وهكذا أمكن لضمائرنا أن تجعلنا جميعا جبناء. (3.1.78-82)
لا شك أن هذا الضمير المسبب للعجز يتكون بالتساوي من أول معنيين حديثين للكلمة: الوعي (بمعنى المعرفة المزعجة) والضمير (الذي يسبب القلق للعقل بأفكار عن القصاص في الآخرة بسبب الأفعال الآثمة). لكن سواء أكان هذا أم ذاك أم كلاهما، فإن الضمير يقدم هنا بوصفه مشكلة شديدة التعقيد وعائقا بدلا من أن يكون حافزا للعمل.
وتتضح هذه النظرة للضمير المشتبه به في مسرحية «الملك هنري الثامن» لكل من فليتشر وشكسبير، والتي تستخدم فيها كلمة «الضمير» 24 مرة، وهو ضعف العدد الذي استخدمت فيه في أي من مؤلفات شكسبير الأخرى. وأصبح هذا الضمير الخاص بهنري كما لو كان جزءا من جسمه مشبعا باشتهاء آن بولين. فضمير هنري «قضيب حساس»، فهو يفكر في الموقف الذي «تبدت فيه حساسيته لأول مرة وتعرض للإثارة والوخز»، وهي ليست تورية جنسية فحسب، بل هي إعادة صياغة لفهم القرون الوسطى الذي يقوم فيه الضمير «بوخز» صاحبه المذنب، بينما يعد الضمير الآن عضوا قابلا للإثارة ومعرضا لنفس النوع المنحرف من التجسيد. أما ضمير آن بولين فهو بدوره يشبه بأعضائها التناسلية، فهو «ضمير رقيق ناعم» مصنوع من الجلد اللين قابل «للتمدد» بحيث يتسع لما يقدمه هنري.
كان علم اللاهوت في ذلك الوقت مفعما بالحياة بالقدر ذاته في وصفه لهذا الضمير المجسد حديثا، فقد ارتكب لوثر (في فقرة يستشهد بها إدوارد أندرو) خطأ تصويريا عندما قارن الضمير برحم المرأة والعهدين بالخصيتين. وفيما يمكن أن يطلق عليه مركز جنيف الإصلاحي، كان كالفن يواجه مشاكله الخاصة مع الضمير وتجسيده؛ فبينما أوكل دورا مهما للضمير، لم يعد ينظر إليه بوصفه موضعا للتقييم الذاتي الهادئ والتقدير المنصف قدر ما هو أرض ملوثة دمرتها الإثارة وخدرها الذعر. وفي سياق كتابه الذي يحمل عنوان «المؤسسات»، يشير كالفن إلى عدة نقاط مألوفة حول الضمير (في ترجمة توماس نورث القديمة) مثل أنه «مطبوع بواسطة الله في عقل الإنسان»، وأن ضميره يؤدي واجبا مألوفا في فضح الآثام أمام منصة الحكم الإلهي. لكننا أيضا نقابل أمورا جديدة تدعو للقلق حول ما إذا كان هذا الضمير المقيم أهلا للمهام الموكلة إليه أم لا، فهو أولا ضمير داخلي تماما لا يعتمد على الدعم الخارجي أو المؤسسي، ويواجه كل أخطار التجسيد؛ من التحيز المفرط لصاحبه غير المعصوم من الخطأ، بل والأسوأ من ذلك، «التأقلم» مع موطنه داخل الجسد. ويتخيل كالفن ضميرا ملموسا ، ضميرا تبدو عليه «الجراح»، وبدلا من أن يستحث صاحبه على التحسن الذاتي فإن هذا الضمير ذاته بحاجة إلى مساعدة، فهو يحتاج إلى الله بوصفه طبيبا كي «يشفي آلامه». ولما كان هذا الضمير بالكاد منتصرا، فهو ضمير في محنة متزعزع في دخيلة نفسه ويرتجف هلعا من غضب الله: «عندما لا يبصر ضميرنا سوى السخط والانتقام، فكيف يمكنه ألا يرتجف ويرتعد خوفا؟» وهو ضمير قد فقد ثقته بنفسه، بدلا من أن يكتسبها، وفقد قدرته على القيام بواجباته التحذيرية. ولا يتطلب تلك المساعدة سوى «ضمير فاسد»، وفساده ذو علاقة وثيقة بالظروف التي نشأت عن مكوثه في الجسد. ولم يعد الضمير لدى كالفن يمثل شرارة العقل أو الصديق المخلص أو حتى كاتب الحسابات المحايد التابع لله، بل كان يجبن أمام الشكوك الإلهية التي في محلها.
ولدى كالفن وأتباعه يظل دائما الاحتمال النهائي وجود ضمير نقي، ليس بفضل جهوده الخاصة لكن بفضل الله وحده. وتتمثل مشكلة الضمير الذي ترك وحيدا كي يتعامل مع خطايا العالم، أو لم يدعمه سوى ما اعتبره كالفن آليات التوبة غير الكافية على الإطلاق في أن جهوده قاصرة على نحو حتمي في مواجهة قوة الخطيئة اللامتناهية. وفي الجزء الثالث والأخير من كتابه «المؤسسات»، يعرض كالفن حالة «الحرية المسيحية»، والتي يحل فيها تجلي رحمة المسيح محل قيود القانون التي لا تجلب سوى الخوف الشديد للمسيحي الذي يحدد عقوبته الملائمة أمام المنصة الإلهية. وفي حالة الرحمة تلك، يتجدد الضمير وينقى عن طريق رحمة المسيح؛ حيث يتحرر من عوائق الإيمان الكاثوليكي بالأسرار المقدسة ويصبح أهلا لمواجهة المشكلات كافة، لكن تلك الحالة من اليقين عرضة لأن تظل بعيدة عن إدراك عامة المسيحيين الذين ما زالوا يقاومون المشكلات الإيمانية في العالم.
ومن أبرز ممثلي الضمير الكالفيني في إنجلترا في القرن السادس عشر آن فون لوك، التي ترجمت خطب كالفن وكتبت مجموعة قصائدها الأولى باللغة الإنجليزية. وفي قصيدتها التي تحمل عنوان «تأملات مذنب تائب، حول المزمور الحادي والخمسين»، تصف ضميرا واهنا عاجزا، لكنه في الوقت ذاته قادر على النقد والجرح، وهو من ناحية مجروح مرتبك:
الرعب الذي يسببه ذنبي ينمو كل يوم
ويزيد من ضعف أملي في العفو الإلهي
وأنا أشعر وأعاني في روحي المستعبدة
من الندم الخفي وتآكل فؤادي.
لكن من ناحية أخرى، فإن ضميرها يحتفظ بالقدرة على المبالغة في رد الفعل والانتقام العنيف:
ضميري القاسي يشق قلبي الممزق
بسكين حاد ويطرح خارجا
الأسرار الكريهة لحياتي القذرة.
لا يزال هذا الضمير النادم محاصرا في مكان ما بعيدا عن بشرى الحرية المسيحية، ويتقلب بالتبادل بين اتهام الذات المذعور ورد الفعل المبالغ فيه.
ويبدي كل من لوثر وكالفن قلقا بشأن كفاءة الضمير وقدرته على أن يكون وعاء للتوقعات المرجوة منه، لكن معاصريهما الذين تلقوا تشجيعا من قبل أفكار غير مؤكدة حول الضمير كضمان لثورة جذرية كان من الصعب توقع أن يدركوا تلك الفروق الدقيقة أو أن يستوقفهم تحذير لوثر بأن الضمير يجب أن يتلقى دعما من الكتاب المقدس في كل مرحلة، أو تحذير كالفن بأنه ينتظر الخلاص على يد رحمة المسيح وفضل الله. ويمكن لي آراء كل من لوثر وكالفن على يد المتعصبين البروتستانتيين مما يؤدي إلى نتائج مخيفة. وقد حذر إراسموس الذي كتب إلى لوثر قبل اندلاع حرب الفلاحين التي وقعت عام 1525 بعام واحد من الاضطرابات القادمة قائلا: «إنني أرى أواصر الصداقات تتمزق وأخشى أن تحدث اضطرابات دموية.» ورد لوثر باحتقار قائلا إنه من المفترض أن تتسبب كلمة الله في حدوث فتنة، مستشهدا بإنجيل متى 10 :34: «ما جئت لألقي سلاما بل سيفا.» وعندما واجه لوثر الاضطربات الفعلية عام 1525، كان حاسما في تنصله منها وتوقعه لقمعها بواسطة السلطة المدنية. ومع ذلك - وكما هو الحال مع الأنواع الأخرى من الأقوال المتطرفة - لم يكن لوثر يتمتع بسلطة نهائية على كيفية فهم كلماته، وكان ثمة راديكاليون اجتماعيون حقيقيون بالإضافة إلى المتطرفين الدينيين. وعلى الرغم من ملاحظات لوثر النقدية القائلة بالعكس، فقد يعتبر توماس منتسر - منكر العماد المتمرد وأحد قادة حرب الفلاحين عام 1525 والذي كان يعتقد أن المؤمنين الحقيقيين تحركهم روح الله التي تختلج في قلب الإنسان - بمثابة ابن لوثر. وكما قال شتيفن أوزمنت: «عند تطبيق علم اللاهوت القلبي على المجتمع، فإنه يصبح عقيدة ثورية حقا.» ومن تمرد أتباع جون هس في جمهورية التشيك في القرن الخامس عشر وحروب الفلاحين في وسط أوروبا في القرن السادس عشر مرورا بالحرب الأهلية الإنجليزية في القرن السابع عشر، نجد الضمير والآراء المتعارضة بشأن إملاءاته في قلب الاضطراب الاجتماعي.
لا عجب أن بعض البروتستانتيين القلقين - مثل الإنجيلي ريتشارد هوكر في كتابه «قوانين الدولة الكنسية» (1594) - قد سعوا إلى إعادة ترسيخ الضمير أو «تحليله» عن طريق إعادة احتوائه في القيود المؤسسية. وينصب اهتمام هوكر على البيوريتانيين ومنكري العماد وأعضاء الطوائف المتعلقة بهم الذين يفضلون ثمار «التنوير الخاص»، كما يتضح في الاعتماد على «ضمائرهم الخاصة» في مواجهة أحكام المجالس والمجامع الكنسية والهيئات ذات الخبرة التي توفر أساسا ملائما للاعتقاد. وهو يشير إلى الدور التقليدي للمجالس في الكنيسة، وهو الموازنة بين الأمور موضع الخلاف والوصول إلى قرارات رسمية؛ مما يوفر «أساسا كافيا لضمير أي شخص عاقل كي يبني عليه واجب الطاعة». ويمنح هوكر الناس الحق في مقاومة القوانين التي يؤمنون في قرارة أنفسهم بأنها تعارض القانون الإلهي، لكنه يؤمن بأن تلك المعارضة يجب التخلي عنها عند مواجهة خلاف «عندما يطرح على أي شخص ويتفهمه فلا يمكن للعقل سوى أن يوافق عليه في قرارة نفسه». وهو يؤمن بأن تلك الحجج كافية لإبراء ذمة أكثر الضمائر تشككا، «فالاستحسان العام الذي تبديه هيئة الكنيسة لتلك الأمور الثابتة يجعل جودتها أمرا مرجحا». وليست تلك الحجة من السلطة الجمعية جديدة، فقد كانت حجر الزاوية للسلطة في الكنيسة الرومانية، وتم التأكيد عليها بشدة في إنجلترا أثناء مقاضاة وايكليف وأتباعه في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وهي حجة يعود لها هوكر الإنجيلي استجابة لمفاهيم الضمير التي تخفي الرأي فيما يطلق عليه «غشاوة من العاطفة العميقة»، وهو هنا يستبق ويعارض ما يصفه فيلسوف القرن العشرين الكاثوليكي ماكس شيلر بأنه «مبدأ الفوضى الأخلاقية» الذي ينشأ عندما «يمكن لأي شخص ... الاحتكام إلى «ضميره» ومطالبة الآخرين بالاعتراف المطلق بما يقوله».
بعض وجهات النظر المسيحية المستمرة
للضمير أبعاد روحية وأخلاقية، وقد استمر بوصفه مبدأ علمانيا أخلاقيا بلا دعم من الاعتقاد الديني، لكن النظريات الروحية عن الضمير تظل قوة فاعلة في العالم اليوم، فالدين غالبا حاضر ضمنيا حتى في العديد من نظم الاعتقاد التي تبدو علمانية. وتواجه المفاهيم الروحية للضمير اليوم مشكلة مألوفة تتعلق بالتعريف، وهي الموازنة بين مطالبات الوحي الشخصي الداخلي والسلطة العامة المؤسسية.
في كتابه الذي يحمل عنوان «النزعة الشكلية في الأخلاق» (1913-1916)، يبحث ماكس شيلر عن نقطة وسط بين الضمير الشخصي إلى حد كبير من ناحية ومذهب الخلاص من ناحية أخرى. وهو يجادل بحدة أن الضمير بالفعل لديه موجز صحيح لما «يصلح لك، ولك وحدك»، لكن مطالب الضمير الفردي يجب أيضا أن تقدم في إطار التزام أكثر شمولا بالبصيرة الأخلاقية:
فقط التعاون بين الضمير ومبادئ السلطة ومضمون التعاليم بالتصحيح المتبادل ... لمصادر شخصية للمعرفة يضمن [تلك البصيرة].
وتتمثل وجهة نظره في أن الضمير المنعزل أو الادعاء بوجود ضمير مستنير على نحو مميز يفضي إلى الفوضى الأخلاقية ما لم تمنح السلطة والتعاليم دورا ملطفا.
كان شيلر عالم لاهوت كاثوليكي، ومعروفا بذلك، إلا أن آراءه لم تكن تحظى بتأييد واسع في الكنيسة الكاثوليكية المعاصرة. وثمة منهج كاثوليكي سلطوي أكثر تشددا يتضح في كتابات الكاردينال راتسينجر، الذي أصبح يعرف باسم البابا بينديكت السادس عشر، والذي يستكشف التنويعات المحتملة للنسبية الأخلاقية ويهاجم السلطة المؤسسية بشدة ليس بوصفها أحد عناصر النظرة المتوازنة فحسب، بل أيضا بوصفها أمرا متعلقا بالقرار النهائي. وفي كتابه الذي يحمل عنوان «الضمير والحقيقة» (1991) يقلص راتسينجر من دور الضمير في نواح عديدة، وهو يحاول أن يبرهن بعقلانية على أن الضمير الشخصي المجرد قد يخطئ، لكنه يعود فيقترح على نحو أقل إقناعا أن الشعور بالذنب الذي بني على الضمير صورة خادعة وغير ضرورية من صور الإدراك بحاجة إلى التعامل معها خارج نطاق الاختيار الأخلاقي الشخصي. وفي رأيه، يملك الناس كافة حبا غريزيا للحقيقة والخير، لكنهم أحيانا ينسون تلك الميزة، ولا يمكن أن نتوقع من البشر أن يستعيدوها بلا مساعدة. ويتمثل دور السلطة الكاثوليكية في مساعدة الإنسان الضال كثير النسيان على إعادة اكتشاف هذه الميزة الخفية. وباختصار فإن الضمير بحاجة للسلطة كي يصغي لنفسه أو يميز أهدافه الصحيحة. وبهذا المعنى فإن الضمير ظاهرة ثانوية، والشعور بالذنب من جراء الآثام التي يقترفها المرء عاطفة خيالية ثانوية. ويتمثل دور السلطة الكنسية في إعادة تعريف الضمير بالحقيقة السابقة، حتى وإن كان الشعور بالذنب يمكن استئصاله بمزيد من الدقة عن طريق كفارة المسيح.
وعودة إلى ثالوث شيلر المكون من الضمير والسلطة والتعاليم، أعتقد أن راتسينجر يبالغ في تقدير السلطة ويقلل من شأن الضمير؛ مما يقلل من وصاية المسئولية الفردية في الاختيار الأخلاقي. (وفي مصادفة غريبة، فهو يطابق هنا جزئيا حجة كالفن السابقة القائلة إن الضمير الذي لا يتلقى مساعدة، وآلام الشعور بالذنب الناتج عن الضمير، غير قادرين على أداء مهامهما ما لم يخلصهما العفو الإلهي.) ويمكن الدفع بالحجة المضادة القائلة إن عمل الضمير المسيحي السليم بالتزامن مع بعض الشعور الشخصي بالذنب شرط كي يعمل بفاعلية. وفي أحد المقالات في كتاب «الأخلاقيات وما وراءها»، يظل عالم اللاهوت البروتستانتي الليبرالي بول تيليك مخلصا للتعاليم الإصلاحية المبكرة عن طريق محاولة إثبات أن الشعور الشخصي بالذنب هو في حقيقة الأمر الحالة المفترضة للضمير. وهو يحاول أن يبرهن (بأسلوب مستوحى من نيتشه لكن مع التوصل لاستنتاج مختلف) أن «الضمير المضطرب المنتقد الذي يوجه أصابع الاتهام هو الظاهرة الأصلية، وأن الضمير السليم ما هو إلا غياب للضمير الفاسد ...»، وهو يؤكد أيضا أن «الذات-الأنا والضمير ينموان بالاعتماد أحدهما على الآخر، وأن ... الذات تكتشف نفسها في تجربة الانفصام بين ما هي عليه وما يجب أن تكون عليه»، وأن الذنب هو العرض الرئيس لهذا الانفصام. لكن تيليك يعد مفكرا متفائلا، فبدلا من أن يستسلم لمخاوفه الخاصة فإن ضميره المذنب يخضع للعمل البناء بوصفه حافزا إيجابيا للإصلاح الذاتي.
لا وجود لبابا بروتستانتي كي أستشهد به في تلك الموضوعات، لكن سيطرة كل من عالمي اللاهوت الليبراليين بول تيليك وراينهولد نيبور في منتصف القرن العشرين تقترب بأقصى درجة ممكنة من اللحظة التي يمكننا فيها أن نلمح إجماع البروتستانتيين المتعلمين حول الذات واستخدامات الضمير. وبعد مراجعة «منهج» شيلر في اتجاه «الإجماع الاجتماعي المستنير»، يعرض هذان العالمان الشخصية الاجتماعية للوجود والمطالبة الشرعية بالرفاهية الاجتماعية العامة للحد من الإفراط الفردي في القيم الإيجابية التي قد ينجذب نحوها الضمير المضطرب. ويصر تيليك على أن الموضوعات المتعلقة بالضمير «نوع من الحكم الذاتي والإرشاد الذاتي الذي لا يمكنه أن يهدأ حتى يشير إلى وجود آخر جامع ومجتمع جامع»، وهو يصر أيضا على أن وجود الله يمكن إدراكه وتمييزه - ولو على نحو ضعيف - في الطموح الجامع.
ويحتمل أن يعتبر الإنجيليون المعاصرون تلك المواقف المجتمعية مطاطة ونسبية، وهم يرتابون في حركة الإنجيل الاجتماعي المجتمعية والإيمان بالنية الحسنة المجتمعية الخاصة بالبروتستانتية الليبرالية. وفي حقيقة الأمر فإن نيبور نفسه كان لديه قلق مماثل عبر عنه في صورة اهتمام الإنسان العصري بالإرضاء المستمر «لضميره السليم». وفي كتابه الذي يحمل عنوان «طبيعة الإنسان ومصيره» (1941)، يتأمل نيبور نفسه ملاحظا «عالمية الضمير المطمئن لدى المعاصرين» ويتعجب من أن:
التاريخ المعاصر مليء بمظاهر نوبات الهستيريا والغضب لدى الإنسان وبأدلة على قدرته وميله الشيطانيين لكسر إيقاع الطبيعة المتناغم وتحدي المبادئ الحكيمة لضبط النفس العقلاني، لكن لا يبدو أن ثمة ذروة للدليل العكسي تغير من رأي الإنسان المعاصر الإيجابي في نفسه.
لا شك أن فظائع الهولوكوست والمصائب الأخلاقية الأخرى التي حدثت منذ أن كتب نيبور هذا الكلام في عام 1941 قد أضعفت من الرضى الذي يتحدث عنه، لكن اللاهوت البروتستانتي الليبرالي يقع عرضة للاتهامات بالإذعان المبالغ فيه والتكيف الاجتماعي. وتشير الدراسات إلى أن المادة التي تتكون منها معظم المواعظ في الكنائس البروتستانتية التقليدية اليوم تتعلق بالتوافق الاجتماعي ومساعدة الذات وليس بالموضوعات الروحية المتعلقة بارتكاب الخطايا والخلاص، ومن وجهة نظر الأب بتلر في القرن الثامن عشر وصولا إلى الطوائف المعترف بها اليوم قد يتهم الضمير ببعض «التخفيف»، وذلك بشأن مسئوليته عن قيادة المذنب الخاطئ نحو التوبة والخلاص.
ما زالت فكرة الضمير الشخصي العنيد مهيمنة على المناطق الإنجيلية المعاصرة، دون أن تخضع لمراقبة السلطة أو التعاليم. وفي أواخر القرن السابع عشر عندما استنكر جون لوك الحماس غير المنظم، كان المؤمن الإنجيلي الحقيقي يستجيب لضوء في عقله الخاص ظنا منه بأنه من عند الله حتى وإن كان «مجرد قوة اقتناعه الخاص». وتحتفظ الضمائر حامية الوطيس والأقل سلطة بقدرتها على إثارة الأفعال غير المتوقعة في العالم، ويعظم الاقتناع الشخصي المستمر بالتفويض الإلهي من تأثيرها مهما كانت الظروف.
قد يعتبر الضمير المسيحي منذ نشأته - وبالطبع الآن - ظاهرة تعددية إلى حد كبير وليس ظاهرة فردية، لكن إنجازاته الكاثوليكية والبروتستانتية المتنوعة ما زالت تحتفظ بقوة كبيرة في العالم اليوم، وإن لم تعد مقتصرة عليهما.
هوامش
الفصل الثاني
علمانية الضمير
عادة ما ينظر إلى تحرر الضمير من قيود الدين المؤسسي كنتيجة للعلمانية التي سادت في عصر التنوير، لكنه قد يعتبر أيضا - على نحو أكثر تناقضا - نتيجة غير مقصودة للحماس الإنجيلي الشديد في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وكانت هجمات كالفن على الضمير شديدة القسوة؛ حيث صوره من ناحية ناقدا قاسيا على يقين من أن الجنس البشري لا يستحق الخلاص، ومن ناحية أخرى ملكة تعاني من العقاب والخوف وتعجز عن أداء المهام الموكلة إليها وترتجف هلعا أمام الله. ولم يقتصر تأثير نظرية كالفن اللاهوتية على تجنب نظم الاعتراف والتوبة الخاصة بالكنيسة المؤسسية، بل أيضا على تجنب الضمير بوصفه أداة فعالة للخلاص، مفضلا أن يوكل تحديد أمر الخلاص إلى مدى إيمان الفرد بالمسيح. وهكذا فقد نزعت صفة المؤسسية تماما عن الضمير في البروتستانتية الإنجيلية، ولم يعد حافزا مؤيدا من الكنيسة لإصلاح الذات وأعمال الخير. لقد ترك الضمير وحيدا كأنه شخص يائس يعمل مستقلا، أو ممثل ارتجالي يتناوب استعطاف الله والشعور بخشيته، فأحيانا ما يشن هجوما على صاحبه وأحيانا أخرى يعترف صاغرا بعجزه.
لكن العلاقة الخاصة بين الضمير والمعتقد الديني المؤسسي لم تنته تماما بالطبع، فالضمير لا يحظى بدعم كبير في الطوائف المسيحية المنظمة حتى الآن فحسب، بل إن الله يظل كيانا ضمنيا غامضا بوصفه راعيا أو كفيلا في العديد من نظم الإيمان المعاصر التي تبدو علمانية. وحتى في وقتنا الحالي ما زالت العديد من المواقف المتعلقة بالضمير التي لا يناشد فيها الله مباشرة تعتمد على التفويض الإلهي بوصفه قضية غائبة أو عقوبة نهائية. ومع ذلك، فعلى الرغم من أن الإله قد يوجد في مكان ما في جنبات المسرح المعاصر للضمير، فإن المشاركة الإلهية تتزايد النظرة إليها بوصفها «مرحلة أخيرة» أو إقرارا رسميا لا نصل إليه أبدا، مثله في ذلك مثل الأنواع الأخرى من المراحل المنطقية الأخيرة.
وقد أدى تفكك الروابط بين الشعائر الدينية والضمير الفردي إلى إيجاد وضع ملائم لظهور ضمير أكثر «دنيوية»، أو لعلنا نستطيع أن نقول «إعادة ظهوره»، فرغم كل شيء كان الضمير لدى الرومان اجتماعيا أكثر منه دينيا في بدايته، وهكذا فإن رؤية الضمير على أنه كيان مستقل جزئيا أو حتى كليا عن الوازع الديني كانت دائما مطروحة وموجودة. ومنذ أواخر القرن السابع عشر، بدأ الضمير العلماني في التنافس بشكل عملي مع الضمير المسيحي على التأثير على تنظيم شئون البشر.
لكن إذا كان الضمير سيعمل دون مساعدة الكنيسة المؤسسية وتحكيمها، ودون أن يحظى بمركز مضمون كمبعوث من الله، فإنه سيتعرض لخطورة التقليل من شأنه واعتباره شخصا فضوليا متطفلا أو واشيا أو متعسفا سليط اللسان. ويلزم للحفاظ على الضمير العلماني للأبد إعادة تأسيس المفاهيم وإعادة منحه سلطات واسعة كي يتمكن من التأثير في العالم. وقد تطورت مهمة إعادة منح السلطات على مستويات ثقافية متعددة وبدرجات مختلفة من الشدة، لكن قدرا كبيرا من العمل الشاق التوضيحي ألقي على عاتق مجموعة متعاقبة من فلاسفة التنوير وكتاب المقالات ورجال الدين البارزين.
فصل الضمير عن الكنيسة
تلقى تحرير الضمير من إشراف أي طائفة دينية زخما منذ وقت مبكر من مناقشات القرن السابع عشر حول التسامح الديني المتسع مع مجموعة من المعتقدات الدينية. وكانت تلك المناقشات عادة توحيدية إلى حد بعيد، مثل «بحث عن السلطة المدنية في القضايا الكنسية» لجون ميلتون، لكن تلك المناقشات من أجل حرية الاختيار الديني والاعتقاد الديني أوجدت خلفية مناسبة للحرية الفكرية الموسعة من كل الأنواع، بما في ذلك الحرية المتزايدة للضمير.
ويظهر اتساع كبير للمناقشة في اتجاه الحرية العقلية في كتابات جون لوك بدءا من رسالته التي تحمل عنوان «خطاب حول التسامح الديني» (1689). ونظرا لأن حجته في هذه الرسالة تنشأ عن القلق بشأن التعصب بين الطوائف المختلفة للدين المسيحي، فإنها من الصعب أن تعتبر نصا ضد الدين أو غير ديني. ومع ذلك فهي تقدم منظورا واسعا عن طريق تأسيس دفاعها عن حرية الضمير الديني على مفهوم الحقوق الطبيعية. ويتمثل اقتراح لوك في أن الصراع الطائفي الذي عانت منه إنجلترا مؤخرا كثيرا وكان ذا نتائج كارثية، لن يهدأ ما لم «تجبر الكنائس على جعل التسامح الديني أساسا لتحررها وتعليم الناس أن حرية الضمير حق طبيعي لكل فرد منهم أو من المنشقين على حد سواء». وعلى الرغم من أن الصراع الديني هو موضوع لوك، فإنه لا يقصر ما خلص إليه من نتائج على هذا المجال، بل إنه يرى أن النتائج المتعددة للضمير يجب أن تعتبر طبيعية وألا تمس سواء عن طريق السلطة المدنية أو السلطة الدينية لكنيسة معترف بها أو مسيطرة. وتظل الممارسة الدينية مجالا خاصا من مجالات الضمير، لكن القانون المدني تتاح له ممارسة حقوقه ومسئولياته في هذا الشأن. وتعد الحدود بين الممارسة الدينية وإشراف الدولة ضبابية، حيث يظل الفرد المسيحي الذي يدفعه الاعتقاد الديني إلى انتهاك القانون المدني معرضا للعقوبة المدنية وعليه أن يتقبل تلك العقوبة بوصفها نتيجة لاختياره أو لأفعاله. وما زال الإله حاضرا في مكان ما في هذا الخليط، لكن القانون المدني بدأ يستأثر بالسلطة عن جدارة، ممليا قواعد التسامح الديني والسلوك القويم. وكما تصور رسالة «خطاب حول التسامح الديني»، فإن هذا الضمير المختلط لا يمكن وصفه بأنه يعمل بطريقة «علمانية» تماما. وعلى الرغم من ذلك فإن لوك يضع نظاما للاستخدام السليم للضمير في مجتمع يحكمه القانون المدني، وهو نظام يأخذ في الاعتبار رؤية الضمير بوصفه محفزا من قبل الله، لكنه لا يصر على مثل هذا التحفيز كي يعترف به ضميرا.
وفي مقاله بعنوان «مقال عن الفهم البشري» (1690) يعود لوك إلى موضوعات مشابهة في إطار أكثر علمانية وإثارة للجدل، ويفترض صورة مختلفة من القواعد للضمير، وهي أن يحكمه سمو العقل البشري واستخدامه. وهو يرفض الادعاءات غير المدروسة بأن الضمير ينبع من الإيمان الفطري (الذي يولد به الإنسان) أو أنه هدية مرسلة من الوحي الإلهي (أي إن الله هو من أرسله)، بل يذهب إلى أن العقل هو الحكم الذي يفصل في شرعيته، وعليه أن يفصل في ذلك الأمر بدلا من ادعاء الوحي الإلهي. وهو لا ينكر إمكانية التنوير الإلهي المباشر، لكنه يؤكد أنه إذا أخفق ذلك التنوير في اجتياز اختبار العقل، فإن الادعاء بوجوده يصبح موضع ارتياب. وعلى أية حال، فالوحي الإلهي ليس المصدر الرئيس للقيم الأخلاقية، لكنه يؤكد قائلا:
بنفس الطريقة التي يعلم بها كثير من الناس عن أمور أخرى، فهم يوافقون على العديد من القيم الأخلاقية ويقتنعون بالالتزامات التي تمليها عليهم. وقد يتفق معهم في الرأي آخرون من نفس التعليم والجماعة وعادات البلاد والذين تساهم معتقداتهم - أيا كانت الطريقة التي توصلوا بها إليها - في حث الضمير على العمل، وما هي إلا آراؤنا أو أحكامنا الخاصة عن الاستقامة الأخلاقية لأفعالنا أو فسادها.
وعلى الرغم من اختلافه مع توماس هوبز في معظم النقاط، فقد كان لوك يوافق على أن الضمير قائم على «الرأي»؛ ومن ثم فإنه لا يمكن أن يكون موحدا أو متسلطا بالضرورة في إملاءاته. ويبدو أن مسألة كون أحكام الضمير اليقظ غير كاملة ومرتبطة بالثقافة - وليست تامة أو فطرية - كانت واضحة له من خلال الملاحظة. وهو يستشهد بأمثلة مكررة معظمها بأسلوب ميشيل دي مونتين، والتي يترك الناس فيها أطفالهم الرضع في العراء لقتلهم أو يربونهم لأكل لحومهم وما إلى ذلك، ويستنتج من تلك الأمثلة أنه «إذا كان الضمير برهانا على المبادئ الفطرية، فقد تكون مخالفة المبادئ المتفق عليها من المبادئ الفطرية، حيث إن بعض الناس يرتكبون من الأفعال ما يتجنبه آخرون بنفس الوازع من الضمير». وهو يؤكد مرارا وتكرارا على أننا نواجه «جرائم منكرة ترتكب بلا ندم»؛ مما يوحي بأن الضمير ليس شيئا واحدا بالنسبة لجميع الأطراف ولا يمكن أن يصبح كذلك.
ولذلك فهو لا يثق «بالمتعصبين» الذين يسعون إلى فرض الاستنتاجات الخاصة بمعتقداتهم المتطرفة أو غير المتسامحة على الآخرين، ومهما كان المتعصب مقتنعا بأن آراءه نتاج التنوير الإلهي، فمن المحتمل أن يجد الآخرين من ذوي المعتقدات المشابهة رغم اختلافها قليلا يعارضونه:
إذا كان الضوء الذي يظن كل شخص أنه يحمله في عقله - وما هو في تلك الحالة إلا قوة اقتناعه - دليلا على كونه من عند الله، فإن الآراء المعارضة لها نفس الحق في أن تعتبر وحيا، ولن يكون الله أبا الأنوار فحسب، بل أيضا أبا الحقائق المتعارضة والمتناقضة.
وهو يستنتج من ذلك أن أي وحي مزعوم يجب تقييمه بناء على أسس معينة غير الاقتناع العاطفي، ويجب أيضا باختصار أن «يحكم عليه بالعقل». وغالبا قد نجد عند البحث أن آراء أكثر الناس اقتناعا «لم تبن على العقل أو الوحي الإلهي، لكنها تنشأ عن أوهام عقل متحمس أو متعجرف ...». والعقل - وهو صورة من التجلي الطبيعي - هو الترياق الصحيح لتلك الأوهام شديدة التطرف، ويجب أن نفضل النتائج التي يتوصل إليها.
شهد لوك شخصيا الصراعات البيوريتانية-الأنجليكانية والصراعات البرلمانية- الملكية في إنجلترا في القرن السابع عشر، وهي سلسلة من الصراعات ادعت فيها أطراف شديدة التطرف ذات قناعات راسخة على حد سواء أن الضمير هو دليلها. ولما كان لوك يحتقر ادعاءات التنوير غير المدروسة وقدسية القناعات المطلقة، فقد شكل رؤية للضمير لا تعتمد فيها ممارسته أو تقييمه النهائي على العقاب الإلهي بأي حال من الأحوال، رغم تقبلها لإمكانية أن يقدم العقاب الإلهي دليلا مؤيدا للضمير. وبعد لوك، قد تدعي أي رؤية للضمير امتلاكها للتفويض الإلهي أو لا تدعي ذلك، لكن الأكيد أنها ليست مضطرة لبناء دعواها للاهتمام الأخلاقي على أي من تلك الادعاءات. ولأول مرة منذ عصر الرومان يعود الضمير للعالم، وتعد دعائمه الأساسية العادات والإجماع واستخدام العقل.
ثمة مكسب وخسارة هنا، حيث تتمثل الخسارة في أن فصل الضمير عن الوحي الإلهي وتحويله إلى ضمير متحيز يعتمد على الظروف ويخضع لاختبار العقل يجعل لوك ينتقص من سلطته المؤكدة، أما المكسب فيتمثل في ترسيخ الضمير بوصفه نظاما محدودا لكنه مؤثر لصنع المعاني في النطاق الأوسع من الشئون الإنسانية. إنه ضمير واضح لا مركزي؛ ضمير مجرد من غلافه من العصمة الزائفة من الخطأ، لكنه أيضا ضمير مستعد للدخول في منافسة قوية في حلبة السلوك الدنيوي.
تبع لوك في بعض الجوانب أنتوني أشلي كوبر، الإيرل الثالث لشافتسبيري، الذي كان يؤمن بأن الناس يملكون «حاسة أخلاقية» فطرية، حتى وهو يرى أن تلك الحاسة قابلة للحكم عليها وتصحيحها عن طريق العقل. وفي كتابه الذي يحمل عنوان «خصائص البشر والأشياء والآراء والعصور» (1711-1714)، وضح مفهوم «العاطفة الطبيعية» الذي يدعمه الاستبطان الذاتي بوصفه أساسيا للسلوك البشري. ويلقي شافتسبيري مسئولية ذلك الاستبطان على عاتق الضمير، وهو ملكة تحدد السلوك الذي يستحق العقاب، ويجب تمييزها عن حساب المرء البسيط لمصالحه الشخصية. والضمير بهذا التعريف شيء مشترك بين الجميع؛ فحتى مرتكبو الشر في رأيه يدركون أنهم يستحقون الشر في مقابل ذلك. وهو يعلق بموضوعية إلى حد ما قائلا إن الضمير قد يفهم على نحو أخلاقي أو ديني، لكنه يجد أن الضمير الديني يعتمد على الضمير الأخلاقي أو الفطري، وهكذا فهما لازمان له كي يعمل. ولأننا لدينا ما يجعلنا نخشى العقاب الإلهي عندما نعلم بالفعل أننا قد ارتكبنا فعلا يستحق اللوم، فإن تقديرنا لأفعالنا له الأولوية على أية مخاوف قد نشعر بها حول الغضب الإلهي، أي إن تحديد السلوك الذي يستحق اللوم أمر شخصي خاص بنا يرتكز على معايير التقييم الفطري. ويصور الإله مشاهدا لعملية التقييم الذاتي التي نقوم بها؛ أو «كيانا مفترضا» يستحق التوقير بالفطرة، لكنه ليس طرفا فاعلا ذا شأن في العملية نفسها:
ومع ذلك، فإن [للضمير] قوته التي يستمدها من الانحراف الأخلاقي للأفعال وبشاعتها مع الاحترام الكامل للحضرة الإلهية والتوقير الفطري المستحق لهذا الكيان المفترض. ففي مثل هذا الخيار يجب أن يكون للخزي الناتج عن الشر أو الرذيلة قوته المستقلة عن الخوف الزائد من مثل هذا الكيان وتوزيعه للثواب والعقاب في المستقبل.
وعلى الرغم من أن شافتسبيري يتحدث بقدر كبير من الاحترام الظاهر عن هذا الكيان، فإنه أيضا يبذل جهدا كبيرا كي يبعده عن أي دور مهم، فهو يرى أننا نتخذ قرارنا النهائي بشأن أفعالنا «باستقلالية» عن قدرات الله المسيطرة الخاصة بالثواب أو العقاب. وفي حقيقة الأمر فإن الدين قد يكون له تأثير مشوه في نظام شافتسبيري، مثلما يحدث عندما نرتكب فعلا يستحق العقاب نتيجة «لأية أوامر مزعومة من السلطات العليا». وبالإضافة إلى ذلك، فهو يؤكد أن تلك السلطات غير ضرورية سواء للحث على أداء فعل ما أو تقييمه، بل إنه يقول أيضا: «إذا ما استبعدنا كل الأفكار والشكوك في أي سلطات عليا للأبد»، فإن المذنبين سيظلون يعاقبون من وجهة نظرهم، حتى ولو كان ذلك بالمعنى الثانوي أو غير المباشر المتمثل في تعريض مصلحتهم أو سعادتهم للخطر. وعلى الرغم من أن ضمير شافتسبيري يصنف مع مفردات التوحيد المخففة إلى حد ما، فإنه ضمير دنيوي وعلماني تماما - يقيم من خلال التفاعل الاجتماعي ويعتمد على مفهوم الخزي الشخصي.
وقد كان لشافتسبيري بدوره تأثير كبير على جوزيف بتلر؛ وهو رجل دين تناول المسائل المتعلقة بالضمير في مؤلفه «خمس عشرة موعظة ألقيت في كنيسة رولز» (عام 1726). وعلى الرغم من أن سمعته قد تراجعت، إلا أنه قد يعتبر أكثر الخطباء شعبية في موضوع الضمير في إنجلترا في القرن الثامن عشر، وبالطبع أثرت آراؤه في الآراء السائدة عن الضمير والتي استمرت في القرن التاسع عشر وما زالت موجودة حتى اليوم. وهو يعترف بخشوع أن الضمير هبة من الله أو ملكة «غرسها بداخلنا حاكمنا الفعلي» و«خصصها لنا خالق طبيعتنا»، لكن يبدو أن تلك الهبة ما إن تمنح حتى تتوقف عن الاعتماد على الله في استمرار أدائها لعملها. والضمير لدى بتلر هو صورة من «التفكير ... واستحسان بعض المبادئ أو الأفعال واستنكار البعض الآخر». ويكمن هذا الضمير في طبيعتنا، ويجب أن يتيح عمله الصحيح غير المشوه لأي شخص تفضيل «الإنسانية على القسوة» باعتبار ذلك أمرا طبيعيا.
وفي تحول ذي مغزى عن النظريات اللاهوتية الإنجيلية السابقة التي كانت تعتبر الضمير هو ناموس الله المكتوب في قلب الإنسان، يرى بتلر أن هناك العديد من النزعات مكتوبة في قلوبنا - بعضها إلى الخير والبعض الآخر إلى الشر - ويضع الضمير في موضع الملكة التي تقوم بوظيفة «الشاهد» على نزعاتنا وتتيح لنا التمييز بينها. وفي رأيه أن الأحكام التي تصدرها ضمائرنا جديرة بأن «تدعم وتؤيد» من الله، لكنه يعطي الله دورا تقنيا أو تمهيديا فحسب، بالإضافة إلى التأثير الإضافي الذي تثيره رغبتنا الطبيعية في استحقاق رأي الله الإيجابي فينا (مثلما يرى شافتسبيري). وفي مزيد من التقييد للسبل التي يؤثر بها الله على قراراتنا الأخلاقية، يعارض بتلر أي «استبداد» للمؤسسات الدينية على الضمير. وعلى الرغم من أنه يؤمن بأن المؤسسة الدينية ضرورية لإنشاء الحكومة المدنية، فإنه يحاكي لوك في التماس التسامح الديني وعدم التدخل في شئون الضمير:
أي مؤسسة دينية بلا تسامح ديني تعتقد أنها لا يمكنها في قرارة نفسها الالتزام به هي في حد ذاتها دكتاتورية عامة؛ لأنها تزعم امتلاك سلطة مطلقة على الضمير، وسرعان ما تتسبب في أصناف أخرى من الاستبداد من نوع أسوأ.
قد يبدو أن بتلر يكرر قول كالفن فيما يتعلق بسوء الظن في سيطرة المؤسسات الدينية على الخيار الفردي، لكن بنغمة من الواضح أنها مختلفة. إلا أنه لا ينتقد القوة الجبرية للكنيسة فحسب، بل إنه أيضا يتقدم إلى موقع كان ليفزع البروتستانتيين الإنجيليين السابقين عن طريق تقييد الاتصال بين الله وقلب الفرد المسيحي؛ ومن ثم تأسيس الاختيار على العقل وليس الوحي. ويعتقد بتلر أننا نعبر عن توقيرنا لله من خلال ممارسة سلطاتنا في الاختيار العقلاني، وهو موقف يدل على الإيمان بالله بالفعل ما كان أي من الإنجيليين ليعتبره دينيا على الإطلاق.
الضمير والإجماع الاجتماعي
أكد أهم فلاسفة القرن الثامن عشر تأكيدا متزايدا على مفاهيم العقل والعاطفة، وأخيرا الإحساس، في الأمور المتعلقة بالاختيار الأخلاقي. إلا أن أي اختيار أخلاقي يتم بالكامل داخل عقل صاحبه يظل عرضة للدوران في حلقة مفرغة وعرضة للسفسطة. والعقل وحده - أو حتى بعد تطبيقه على الدليل التجريبي - غير كاف لمراقبة عمل الضمير، وخاصة عند تطبيقه بواسطة الفرد المستقل، فهو يظل عرضة للخطأ أو للتأثر بالمصلحة الشخصية عندما يستخدم في غياب سلطة خارجية أو قيد. وإذا كان ذلك القيد لن يوفره إله متدخل بقوة، أو توفره أوامر الدين - ويعتقد كل من لوك وشافتسبيري أنه يجب ألا يحدث ذلك - فإن الميل نحو القواعد الاجتماعية والإجماع يوفر أساسا بديلا لنظرية السلوك الأخلاقي.
وقد تناول إيمانويل كانت هذه الفكرة باختصار مقتصد في كتابه الذي يحمل عنوان «ميتافيزيقا الأخلاق» (1797). ومن وجهة نظره، فالضمير يدير «محكمة داخلية في الإنسان»، مخاطبا إياه بصوت لا يملك حتى الفاسد إلا أن يستمع إليه، وهذا الصوت يعبر عن نزوع الإنسان لإصدار الأحكام، وهو مندمج في كيان الإنسان نفسه، لكن المشكلة في ذلك الصوت وفي المحكمة الداخلية بالكامل أن المرء لا يمكنه الحكم على نفسه بموضوعية، ولا يمكنه أداء أدوار المدعي وهيئة المحلفين والقاضي الحاسم دون أن يحدث تضارب في المصالح. ونظرا لصعوبة تقييم المرء لسلوكه، عليه أن يضمن وضعا مميزا خارج نطاق الاختيار الشخصي يمكن تقييم هذا الخيار منه. والحل الذي يقترحه كانت هو القول بأنه على الرغم من أن مسألة الضمير تخص المرء وحده، فإن نتائجها يجب أن تعتبر كما لو كانت خاصة بشخص آخر:
نظرا لأن المهمة التي تقع على عاتق ضمير المرء هي أن يفكر في شخص آخر بخلاف ذاته ... بوصفه حكما لأفعاله حتى لا يتعارض الضمير مع نفسه.
وهذا «الشخص الآخر» في النهج الذي يسير عليه كانت قد يكون حقيقيا أو مجرد شخص خيالي ينسجه العقل من وحي خياله، ويعد أعظم تجسيد له هو الله، لكن بوصفه مبدأ شخصيا وليس كيانا مستقلا بذاته:
يجب أن يعمل ذلك الشخص الخيالي (الحكم المعتمد للضمير) على تحري القلوب، فالمحكمة قد نصبت «داخل» الإنسان، لكنه أيضا عليه أن «يفرض كل الالتزامات»، أي أن يكون - أو يعتبر - شخصا تنسب إليه كل الواجبات أيا كانت باعتبارها أوامره ... ولما كان ذلك الكيان الافتراضي كلي القدرة هو الله، يجب أن يعتبر الضمير هو المبدأ الشخصي المسئول أمام الله عن كل أفعال المرء.
وعلى الرغم من ذلك فهو يؤكد أن هذا مبدؤنا، ونحن ننشئه بأنفسنا: «في حقيقة الأمر فإن المفهوم الأخير متضمن دائما ... في الوعي الذاتي الأخلاقي الخاص بالضمير.» وعلى الرغم من أننا نجتهد داخليا كي ننشئه، فإن هذا المفهوم النقدي يعتمد على مواد خارجية عن أنفسنا؛ ومن ثم فإنه وسيلة يتدفق بها الإجماع الاجتماعي والقيم الجماعية المشتركة عائدين إلى تقييم الاختيار أو الفعل الشخصي. «محكمة» الضمير
في محكمة إنجلترا العليا التي يطلق عليها أيضا محكمة الضمير، يمكن دراسة كل وقائع القضية بقدر أقل من الإجراءات القانونية الشكلية. وهذا الارتباط بين المحكمة والضمير له إيحاءات عديدة. وأيا كانت نقائصه (اقرأ «المنزل الكئيب»!) فإن نظام العدالة في أفضل حالاته - مثله مثل الضمير في أفضل حالاته - يسعى إلى تحقيق التوازن بين الصرامة والرحمة. وقد كثرت التشبيهات القضائية على مدى تاريخ الضمير، حيث وظف الضمير مفاهيم الدفاع والمقاضاة وحكم المحلفين والحكم النهائي لتوضيح إجراءاته.
كان الضمير لدى الرومان وثيق الارتباط بالمحاكمات القضائية، ففي أحد مرات ظهوره الأولى في المسيحية يبدي الضمير استعداده «للشهادة» على صفاتنا الداخلية (رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس، الآية 12 من الإصحاح الأول). ويتخيل كالفن والبروتستانتيون الأوائل الضمير شاهدا ملكا لا يعرف الصفح يلقي القبض على المذنبين و«يسحبهم بوصفهم متهمين إلى قفص المحاكمة أمام الله.» وينقل السير توماس براون الدعوى القضائية إلى الداخل، متخيلا «محكمة قائمة داخلنا تقوم بالاستجواب وتصدر أحكام البراءة والإدانة في محكمة الذات». ويضيف جوناثان سويفت إلى الاستعارة قائلا إن الضمير «يمكن أن يطلق عليه بدقة مدعيا وقاضيا في الوقت ذاته»، وفي حقيقة الأمر هو ليس مجرد مدع، لكنه مدع مخيف، «فعندما يتهمنا ضميرنا نكون بالطبع مذنبين». ويرى إيمانويل كانت الضمير أيضا قاضيا، لكن مخاوفه تكمن في الاتجاه المضاد، فهو يخشى أن تشجع المصلحة الشخصية على التساهل الزائد: «فإذا اعتبرنا أن ثمة إنسانا يتهمه ضميره وهو في الوقت ذاته القاضي، فتلك طريقة عبثية لتمثيل المحكمة، فبهذه الطريقة سوف يخسر المدعي طوال الوقت.» ويتمثل الحل لديه في إعادة تسوية الملعب عن طريق دعوة صاحب الضمير إلى أن يفكر في «شخص آخر غير نفسه كي يكون حكما على أفعاله».
إن الضمير مثل السلطة القضائية المستقلة؛ فلا نستطيع أن نتأكد من حكمه أبدا، لكنه يمثل غاية آمالنا لجلسة استماع عادلة والحصول على البراءة في نهاية الأمر.
كان الشخص الذي وضع كل ذلك على أساس اجتماعي بطريقة لطيفة، وهو أساس لا يحتاج إلى إنكار مشاركة الله في الشئون المتعلقة بالضمير لكنه لا يتطلب إطلاقا حضور الله - هو الفيلسوف الاسكتلندي آدم سميث. كان سميث معاصرا لكانت وأصغر منه قليلا، ويمكننا أن نجد نموذجا سابقا لنظرة كانت للضمير بوصفه مشاهدا موضوعيا في كتاب سميث الذي يحمل عنوان «نظرية المشاعر الأخلاقية» (1759)، وهو عمل كان كانت قد اطلع عليه بالطبع. ويعتبر سميث زعيم التغيير الجريء في أي تاريخ ناشئ للضمير؛ حيث وسع من مجاله عن طريق إعادة تأسيسه بناء على الحكم الأخلاقي والتعبير عن نظام للضمير مستقل تماما عن العقوبة الدينية. ولا يستبعد سميث الإله تماما من نظامه، لكنه يقدمه في صورة ضعيفة لا تتيح له السيطرة مستقلا فيما يتعلق بأحكام السلوك البشري، وهو يقر بأن حتى المشاهد الموضوعي - أو «نصف الإله الذي يكمن داخل النفس» - أحيانا ما يخجل من الاستنكار العام لأفعال المرء.
وفي تلك الحالات، يكمن العزاء الفعلي الوحيد للإنسان الذليل المعذب في الاستئناف أمام محكمة أعلى، أمام قاضي العالم البصير بكل شيء الذي لا يمكن خداعه أبدا.
لكن الأساس الذي يرتكز إليه إيماننا بذلك الإله يتطلب المزيد من البحث، حيث يقول سميث إن فكرة وجود عالم مستقبلي تصدر فيه الأحكام على نحو صائب بواسطة إله معصوم «تتملق عظمة الطبيعة البشرية» إلى حد لا يمكننا فيه أن نستغني عنها، أي إنه لا يصرح بالضبط لكنه يلمح إلى أن تلك النظرة الباعثة على العزاء لإله معصوم اختراع بشري. وهي في الحقيقة مسألة تتعلق بالأولويات، حيث تتقدم أفكار الإنسان عن المساءلة البشرية على أفكاره عن الإله وترشدها:
يجب عليه [الإنسان] أن يعتبر نفسه عرضة للمساءلة أمام رفاقه من البشر قبل أن يكون فكرة عن الإله أو عن القوانين التي يستخدمها ذلك الرب في الحكم على سلوكه.
وقد سبق سميث كانت في القول بأننا «نحاول مراقبة سلوكنا كما نتخيل أن أي مشاهد آخر عادل موضوعي قد يراقبه». وهذا الفحص الذاتي التأملي لم يخرج ببساطة من عقل الإنسان، لكنه بدوره اجتماعي: «فالإنسان وحده» كما يؤكد سميث «لا يمكنه التفكر في سلوكه»؛ وبناء على ذلك فليس الله أو العقل الفطري هو ما يقدم معيارا للتقييم، لكنه المجتمع ووضع المرء فيه: «أدخله في المجتمع، وسوف يزود في الحال بالمرآة التي طلبها من قبل.» ويعد كيان المرء الأخلاقي مزدوج التكوين، حيث يتكون من الفرد وبالقدر ذاته من الآخر. وهو يقول بشأن الحكم على السلوك الشخصي:
إنني أقسم نفسي - إذا جاز التعبير - إلى شخصين ... فأنا الباحث والقاضي أمثل شخصية مختلفة عن تلك الأنا الأخرى؛ أو الشخص الذي يخضع سلوكه للفحص والحكم. والأول هو المشاهد الذي أحاول مشاركته رأيه فيما يتعلق بسلوكي عن طريق وضع نفسي في موقفه وتخيل كيف كان الموقف سيبدو بالنسبة لي ... وأما الثاني فهو الفاعل أو الشخص الذي أطلق عليه نفسي حقا والذي أحاول تكوين رأي ما في سلوكه وأنا في ثوب شخصية المشاهد.
أعيد تعريف الموضوعية حسب فهم سميث بأن ذاته الثانية تتحدث من منبر اجتماعي أكثر اتساعا، يمثل المنظور الواسع ل «رجل الإنسانية في أوروبا» الذي يمتلك في حوزته إجابات نموذجية موحدة. وهنا تقابلنا مشكلة، وهي أننا اليوم نشك في وجود مثل هذا الشخص، أو أنه حتى لو وجد مثل هذا الشخص ذي الحس الإنساني المثالي، فإننا نشك في أن تعليمه ونوعه والمعايير الغربية التي يرجع إليها تؤهله بالضرورة كي يكون حكما نهائيا على كل المواقف الأخلاقية التي تنشأ في عالم متغاير. ويبدو اقتراح سميث بأن «نفحص سلوكنا بالطريقة التي نظن أن أي مشاهد آخر عادل موضوعي قد يفحصه بها» جذابا في تعهده بالرقابة الذاتية، لكن ذلك «المشاهد الموضوعي» يبدو عند الفحص إلى حد بعيد امتدادا لقيم سميث الخاصة ويقل اعتباره وجهة نظر جديدة موضوعية لا غبار عليها. واستكمالا لتلك السلسلة المهمة، تعد افتراضاته المطمئنة حول سهولة الوصول للموضوعية الكاملة غير مقنعة من وجهة نظر علم النفس الحديث أو علم الأخلاق الحديث.
وعلى الرغم من تلك الاعتراضات، فإن محاولته البحث عن معيار معتدل داخل الذات وخارجها، بالإضافة إلى تهذيب الميل الفردي بما يتفق مع حكم الإجماع الاجتماعي، تظل جديرة بالثناء. ولا تعد وجهة نظره مبالغة أو عاطفية على نحو مفرط، فما زال بإمكان ضميره الخدش والعض وقيادة الفرد نحو الإصلاح الذاتي كما فعلت ربات الانتقام بعد أن استيقظن في مسرحية أورستيا. وهكذا، فحتى من يرتكب جريمة في السر سوف يصدر على نفسه حكما معارضا لوجهة نظر المشاهد الموضوعي: «فتلك الآلام الطبيعية للضمير الخائف هي الشياطين، أو ربات الانتقام، التي تطارد المذنبين في الحياة الدنيا.» وعلى الرغم من إدراك سميث للضمير بوصفه أمرا متعلقا بالشعور المرهف، فإنه يقدم وصفا رائعا لضمير يطمح إلى تأديب الذات، ضمير قوي يميل إلى التدخل ويشغل نفسه بالعواقب.
مشكلة المبادئ الأخلاقية العامة
يرفض فلاسفة التنوير المفهوم الضيق للضمير ويفتحون مجال البحث فيه لآفاق الإجماع الاجتماعي الأكثر اتساعا، وهذا المنظور الواسع ضروري لتكوين تصور سليم عن الضمير، على الرغم من أنه يمثل صعوبة جديدة. فعن طريق قطع الصلة بين الدين والضمير تماما وإعادة ترسيخ الضمير في الإجماع الاجتماعي، يخاطر سميث وآخرون يشاركونه نفس الرأي بترك الفرد حي الضمير تحت رحمة تحيز الجمهور غير الخاضع للمساءلة. ومع ملء المبادئ الأخلاقية العلمانية للفراغ الذي خلقه الدور المتناقص لله وللدين في رعاية الضمير، ينشأ احتمال أن ينجرف الخيار الأخلاقي بتيار من الآراء الخارجية غير المفندة. وكان أساس الاحترام الأحدث للضمير وجوده نصيرا للفرد المنعزل خلافا للآراء الثابتة الإلزامية، وهكذا فمن الصعب أن يقنع المرء برؤية الضمير بوصفه مجرد تفسير لما «يعتقده الجميع». وقد تولى كل من لوثر وأبطال الإصلاح البروتستانتي الآخرين الدفاع عن حقوق الضمير الفردي أو حتى المنحرف (فيما يتعلق بالآراء السائدة) في مواجهة أشكال العبادة الثابتة ومؤسساتها على نحو رائع وفعال، لكن ما زال الخلاف التالي دفاعا عن حقوق الضمير الفردي في مواجهة الآراء الراسخة في مجتمع علماني لم يحسم بعد.
بدأ ذلك المأزق يظهر في القرن التاسع عشر عندما انتشرت آراء في الضمير - بعضها متزمت والبعض الآخر عاطفي وشائع - في المجتمع المدني. وتبدو الرواية في القرن التاسع عشر أحيانا مسرحا رائجا للضمير يستخدم فيه هذا المفهوم بكفاءة بوصفه آلية للحكم على الخيارات والأفعال في المجتمع الإنساني. وبوصفها قالبا اجتماعيا، فإن الرواية مناسبة تماما لتناول مشكلة الضمير في المجتمع وميله لأن يتخذ دائما دور المؤيد للمبادئ الأخلاقية المتعارف عليها.
عندما كان بيب الصغير في رواية «آمال عظيمة» على وشك أن يسرق طعاما ومبردا من أجل ماجويتش الهارب كان لديه ضمير كهذا، ضمير يسبب له الكثير من المتاعب لكنه أداة أكثر تبلدا وتقليدية من أن تكون ذات نفع له في تحليل ورطته. فبعد أن أخفى شريحة من الخبز في جيب سرواله كي ينجز المهمة التي كلف بها، تعرض للهجوم بعنف:
يعد الضمير شيئا رهيبا عندما يتهم رجلا أو طفلا، لكن في حالة الطفل فعندما يتعاون هذا العبء الخفي مع عبء خفي آخر مخبأ في جيب سرواله، يعد ذلك عقابا كبيرا (ويمكنني أن أشهد بذلك).
وفي طريقه لتأدية مهمته، يجد نفسه متهما من كل ما في الطبيعة ويغرق في الهلاوس:
اعترض طريقي ثور أسود يرتدي ربطة عنق بيضاء - وكان له بالنسبة لضميري المستيقظ سيماء كهنوتية - ورمقني بثبات بعينين متصلبتين ... حتى إنني انتحبت قائلا: «لم يكن بوسعي فعل شيء يا سيدي، فلم آخذه لنفسي!»
وبالتأكيد كان بيب سيغدو أفضل حالا بلا ضمير متمسك بالعرف كهذا على الإطلاق، فهو متشبع تماما بمبادئ أخلاقية عامة غير ناقدة وطائشة، حتى إنها تعوق قدرته على تحليل الموقف الغامض الذي وضع فيه بدلا من أن تحسن منها.
شكل 2-1: شخصية جيميني كريكيت تلهو بشارة الضمير («الضمير الرسمي»).
1
ولاحقا في نفس القرن يمثل هاكلبري فين - الشخصية التي رسمها مارك توين - ضحية أخرى للمبادئ الأخلاقية العامة والضمير التقليدي، حيث يبدو أن اشتراك هاك في فرار جيم من العبودية يعطيه أسبابا لاتهام الذات أقل من بيب الذي قد يكون مذنبا لسرقة طعام العائلة من أجل شخص يبدو أنه مجرم، لكن هاك يوجه الاتهام لنفسه بخليط من التفسيرات الأخلاقية التقليدية حول السرقة وحقوق الملكية والسلوك القويم والتدين الظاهري. وهنا يوبخ هاك نفسه على السماح للظروف وتعلقه الشخصي بجيم بأن يطغى على الأخلاقيات العامة في مساعدة جيم على الفرار:
من يلام على ذلك؟ يا للعار! أنا! لم أتمكن من انتزاع ذلك الأمر من ضميري بأية طريقة أو كيفية، وأصبح مثيرا للضيق حتى عجزت عن الراحة، وعجزت عن البقاء ساكنا في مكان واحد ... وحاولت أن أوضح لنفسي أنني لا لوم علي، فلم أساعد جيم على الفرار من مالكه الشرعي، لكن ذلك لم يجد نفعا، حيث يستيقظ ضميري كل مرة قائلا: «لكنك كنت تعلم أنه يفر من أجل الحصول على حريته» ... وهنا كان ضميري يؤنبني ويسألني: «ماذا فعلت لك الآنسة واتسون المسكينة حتى ترى عبدها الزنجي يرحل أمام عينيك ولا تتفوه بكلمة؟»
صرصور الليل المتكلم
لم تنجح شخصية «صرصور الليل المتكلم»، وهي إحدى الشخصيات في رواية «بينوكيو» لكولودي التي كتبت في القرن التاسع عشر، حيث أعطى بينوكيو العديد من النصائح المفيدة قبل أن تسحقه الدمية سريعة الغضب في الحائط بمطرقة خشبية. لكنه يعود في ثوب «جيميني كريكيت» في نسخة عام 1940 التي أنتجتها شركة ديزني، ويرتقي على يد الجنية الزرقاء إلى دور ضمير بينوكيو، وهي تذكره قائلة: «هو السيد المحافظ على معرفة الصواب والخطأ، والمستشار في لحظات الإغواء الشديد ، والمرشد في الطريق المستقيم الضيق.» ويبدأ جيميني العمل للمرة الأولى عندما تخبر الجنية الزرقاء بينوكيو بأن عليه أن يتعلم الاختيار ما بين الصواب والخطأ، ويتساءل بينوكيو كيف له أن يعرف الفرق بينهما، فتجيبه بأن ضميره سوف يخبره، فيتساءل: «وما الضمير؟» مشيرا إلى أن تلك الملكة عليها أن تفعل أولا، وهنا يظهر جيميني قائلا: «ما الضمير؟ دعني أخبرك، الضمير هو ذلك الصوت الضعيف الخافت الذي لا يستمع الناس إليه.» ويعد جيميني متواضعا على نحو ملائم فيما يتعلق بقدراته، فهو يتحمل الهزائم المتتالية والتقريع المتواصل (حيث يتوجه لامبويك لبينوكيو متسائلا: «أتعني أنك تتلقى الأوامر من الجراد النطاط؟») لكنه يثابر ويحصل على شارة الضمير الذهبية تقديرا لجهوده.
وقد يكون جزء من مثابرته متوارثا؛ حيث إننا نقابل هذا الصوت لأول مرة في نسخة الملك جيمس من الإنجيل حيث يعتقل إيليا من أجل حماسه الزائد: «وبعد الحريق صدر صوت ضعيف خافت، وكان هكذا عندما سمعه إيليا، حتى إنه غطى وجهه بعباءة.» (الآية 12 و13 من الإصحاح التاسع عشر من سفر الملوك الأول). وفي المعتقدات البروتستانتية التفسيرية، فهذا هو صوت الله يتحدث في قناع الضمير. وترفع تلك الخلفية المحترمة من منزلة جيميني، مثلما يفعل نزوع غاندي إلى القول بأنه «لا يمكن للصوت البشري أن يصل إلى المسافة التي يغطيها صوت الضمير الضعيف الخافت».
يقرر هاك أن يبلغ عن جيم، وبينما كان يكتب رسالة يكشف فيها عن مكان جيم ينتابه شعور «طيب كما لو كان قد اغتسل من الخطيئة». لكنه عندما فكر مليا في الأمر قرر تمزيق الورقة متقبلا اللعنة التي لا بد وأن تصاحب مسلكه الضال، واختتم كلامه قائلا: «حسنا، سوف أذهب إلى الجحيم.» ثم مزقها. ويستخدم هاك المفردات الأخلاقية الدينية، لكن بمعنى خاطئ طوال الوقت، وتعتبر حالته نموذجا مثاليا للنقطة التي أثارها شافتسبيري حول إساءة استخدام الدين في الأمور المتعلقة بالضمير:
فخشية الله لأي سبب غير ارتكاب فعل يستحق اللوم هي في حقيقة الأمر خشية للطبيعة الشيطانية وليست الإلهية، ولا تعني خشية الجحيم أو الأهوال الإلهية الألف وجود الضمير أيضا.
وهنا تقدم صورة مشوشة للعقاب الإلهي بوصفه القوة التي تنفذ الأعراف الاجتماعية المضللة، وفي حقيقة الأمر فمن سخافة الرأي العام المتخفي في صورة الدين أن البطلين غير مزودين بضمائرهما الواهنة كي يقاوما. وتتطلب حالتا بيب وهاك أن نسعى للوصول إلى وجهة نظر تساعد الفرد المستعد لتحدي القيم السائدة اليوم، حتى عندما تتخذ تلك القيم هيئة الضمير ذاته. وفي كل من هاتين الحالتين، وتحديدا في حالة هاك، يوجه ضمير أكثر صدقا (حتى وإن كان مجهولا) وأكثر عمقا خياراتهما الفعلية متحديا حتى الآراء الاجتماعية المتعارف عليها أو المتفق عليها. وقد يوصف هذا التحدي بأنه «أخلاقي» وصادر عن أخلاقيات الاختيار الشخصي وليس «معنويا» مستمدا من الافتراضات المجتمعية غير المدروسة.
ويذكرنا وضع فرد محاط بالمشكلات على خلاف مع ضمير خائف واهن بأن الإجماع السائد لا يعد بالضرورة أساسا كافيا للضمير، وأن الضمير الواقع تحت ضغط ليس حرا على الإطلاق، وأن الضمير كي يؤدي المهمة التي نحترمه من أجلها عليه أن يعمل مستقلا عن التحيزات ضيقة الأفق للآراء السائدة. ويحاول الفيلسوف النفعي جون ستيوارت ميل أن يبرهن على تلك المعتقدات على نحو مقنع، وربما يعد ميل أكثر واضعي النظريات حول الضمير مسئولية عن إدراكنا المعاصر لمهمته في حماية الأقلية من الأغلبية، وهو موقف غير شعبي لكنه مخلص صادر من قوة الأغلبية المعادية أو الرأي السائد. وهو يطلب التسامح، لكنه يتجاوز الخلافات السابقة التي وقعت باسمه جيدا. ويبدو التسامح الديني المجرد في الأشكال التي دافع عنها لوك غير كاف بالنسبة له، فمن وجهة نظره يجب أن يمتد التسامح إلى كل أنواع الآراء السياسية والاجتماعية، وهو يعارض على حد سواء استبداد السلطة الدينية والسياسات الحكومية، معلنا أن «كل ما يقمع الشخصية الفردية يعد طغيانا أيا كان الاسم الذي يطلق عليه، وسواء أكان يعترف بتطبيق إرادة الله أم أوامر الإنسان». ويتناول مقاله الذي يحمل عنوان «مقال عن الحرية» (1859) صراحة «طبيعة السلطة التي يمكن للمجتمع ممارستها على الفرد بطريقة شرعية وحدودها»، فالاستقلال الفردي والمبادرة الفردية قد يقيدهما التحكم الخارجي عندما تتعارض المصلحة الفردية مع مصلحة الآخرين فحسب. وهو يؤكد أن الحرية الفردية: ... تشمل أولا النطاق الداخلي للوعي، و«حرية الضمير» الملحة في أشمل معانيها، وحرية الفكر والإحساس، وحرية الرأي والشعور المطلقة في كل الموضوعات العملية أو النظرية أو العلمية أو الأخلاقية أو الدينية. وقد يبدو أن حرية التعبير عن الآراء ونشرها تقع ضمن مبدأ آخر، حيث إنها تنتمي لذلك الجزء من السلوك الفردي الذي يخص الآخرين، لكن لما كانت بنفس الأهمية تقريبا التي تتمتع بها حرية الفكر ذاته وتعتمد إلى حد كبير على نفس الأسباب، فهي عمليا لا تنفصل عنها. وثانيا، يتطلب المبدأ حرية التجربة والممارسة، وحرية وضع خطة لحياة المرء تناسب شخصيته، وحرية القيام بما نحب أن نفعله شريطة الخضوع للعواقب التالية دون أن يعوقنا الآخرون طالما ما نفعله لا يؤذيهم حتى وإن رأوا سلوكنا أحمق أو ضالا أو خاطئا.
تحديد جنس الضمير
يقيم الأبطال المصورون في هذا الكتاب في مكان يشبه نادي الضمير الخاص بالسادة النبلاء، وهو مكان يغلب عليه الطابع الذكوري. ولم يتفاجأ السير توماس مور الذي سجن من أجل خلجات ضميره عندما رفض التوقيع على قسم الخلافة عندما أخبرته ابنته مارجريت أنها قد وقعت عليه بالفعل، وهو عندما يقارنها بطريقة لطيفة - وفي الوقت ذاته صادمة - بحواء الفاتنة المغوية فإنه يفترض اعتبارات للضمير غير ذات صلة بحالتها.
لكن القرون الأخيرة شهدت تحريرا للضمير الأنثوي، حيث تقبلت النساء مزاياه وأعباءه، مثل رواية برونتي «جين إير» التي يستجيب فيها كل من روتشستر وجين على نحو فردي لمتطلبات الضمير. ويمتلك روتشستر قوة تقليدية يمكن أن يطلق عليها «ذكورية» نظرا لاكتفائها بالعقل وقربها الوثيق منه، ففي مقابلته الأولى الطويلة مع جين يهنئ نفسه على فصه الجبهي البارز قائلا «إنني أملك ضميرا» وهو يشير إلى «الأجزاء البارزة في رأسه التي يقال إنها تدل على وجود تلك الملكة». وهو يقر بامتلاك جين لضمير أيضا، لكنه يعتبره ضعيفا بالنسبة لموهبته. وعندما كان متنكرا في صورة عرافة، قرأ خطوط جبينها مؤكدا أنها تدل على إصرارها على اتباع إرشادات «ذلك الصوت الضعيف الخافت ...»، لكن ضمير جين له وجود مؤكد خاص به، فهي تقول بعد أن قررت أن تهجر روتشستر رغم رغبتها في البقاء «تحول الضمير إلى طاغية يخنق العاطفة». وهذا الضمير واضح تماما، وصوته ليس خافتا ولا ضعيفا، وهو يقول لها «عليك أن تنطلقي سريعا، فلن يساعدك أحد، وعليك أن تقتلعي عينك اليمنى وتبتري ذراعك اليمنى بنفسك». ثم يظهر ضميرها على هيئة امرأة متألقة في حلة أنيقة في ضوء القمر وتخاطبها بمزيد من الحدة قائلة: «فري من الإغواء يا بنيتي!» وتجيب جين قائلة «سوف أفعل يا أماه.» ويبدو جليا أن جين تمتلك ضميرا مميزا نشطا، وهو يتجسد على هيئة أنثى.
والضمير كما يتخيله ميل هو أحد جوانب «الوعي»، وبالطبع فهو يقصد هنا وجهة نظر حرة طليقة وليس مجرد شعور مزعج بالواجب أو أيا من صفات الضمير الأخرى التي تنطوي على عقاب ذاتي. وهو يتناول مباشرة المأزق الذي مر به كل من هاك وبيب ومجموعة من الشركاء الآخرين في المجتمع الفيكتوري، معلنا معارضته لأشكال متعددة من الطغيان التي لا تتضح في الدين والدولة فحسب، بل أيضا في الاستبداد الأكثر انتشارا للرأي الجمعي وتسلط العادات. وفي الحقيقة فإن ميل يحاول أن يبرهن على أن مضمون الضمير الحر لا توفره الكنيسة أو الدولة أو الرأي الجمعي، فالضمير مسألة تخص الفرد وحده، وتتضمن الموضوعات التي يتناولها ميل بحماس شديد دعم المنشقين عن الآراء التي يشترك فيها معظم الناس مثل ضرورة الإيمان بإله أو بالآخرة.
شكل 2-2: جون ستيوارت ميل.
2
وقد أضاف أتباعه إلى تلك الآراء في القرن التالي أمورا مثل الاعتراض وفقا لما يمليه الضمير وحق المرء في عدم اتباع بلده في الحرب. وباختصار، يعتبر ميل مبادرا مهما بالرأي السائد الآن القائل إن الضمير يرتبط ارتباطا وثيقا بالفردية والاستثناء، بينما حقوق الضمير ترتبط ارتباطا وثيقا بحماية آراء المهمشين والأقليات. وبالإضافة لاهتمامه بالضمير المعارض، يعمل ميل على مد الحماية من الاعتقاد إلى مجال الاختيار والفعل - إلى «فعل ما نحب» - طالما لا يؤذي أحدا. (وهو هنا يبدأ مناقشة مستمرة سوف نتناول المزيد منها لاحقا في
الفصل الرابع .)
يعد المنهج الذي يمتد من لوك مرورا بميل - والذي عمل على توسيع رقعة الحقوق والحماية للضمير الفردي في الشئون العلمانية والدينية على حد سواء - أحد الإنجازات العقلية والأخلاقية الرائعة للجنس البشري. لكن على الرغم من بلاغة هؤلاء المدافعين وقوتهم الإقناعية، فقد كان للضمير أيضا منتقدوه ومن ينتقصون من قدره. وفي تلك الفترة من منتصف القرن التاسع عشر التي أشارت فيها كتابات ميل إلى تمكين الضمير بوصفه حصنا للحرية والاستقلال الفردي، خضع الضمير لهجوم مستمر مركب مؤثر على يد بعض الكتاب والمفكرين المسئولين عن تشكيل فكر القرن العشرين.
هوامش
الفصل الثالث
ثلاثة نقاد للضمير: دوستويفسكي ونيتشه وفرويد
خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، دعا عدد من المفكرين، في مجال الدين مثل باتلر وفي مجال الفلسفة مثل سميث، إلى نظرة متفائلة تدور حول ضمير يسهل اكتسابه ويسعى إلى تحقيق الخير الاجتماعي. وقد تجلت تلك الآراء المتباينة في أعمال عديدة ذات شعبية في الأوساط الفكتورية، مثل اللحظة الشاعرية التي جسدها الفنان هولمان هانت في لوحته المسماة «يقظة الضمير». ففي هذه اللوحة، صور هانت لحظة تنوير استمدت إلهامها من الضمير عندما ضاعت آمال أحد الماجنين في غواية امرأة شابة عند ظهور طيف أخلاقي لها. وفي لوحة هانت - بالإضافة إلى العديد من الروايات والأعمال الفنية الخيالية المشهورة - يوجد خلط بين الضمير وما يسمى بالأخلاقيات العامة؛ فبدلا من الموافقة على الخروج الوقح عن التوقعات العادية، يمثل الضمير الوتد الذي تفرض من خلاله القيود والموانع المجتمعية نفسها على السلوك الشخصي للأفراد، لكن المحرك القوي للضمير يعمل عملا لا يتناسب مع قدراته الهائلة إن اقتصر دوره على ضبط السلوك الشخصي طبقا لقيم المجتمع، تلك القيم التي نربطها في الوقت الحاضر بكتب المساعدة الذاتية التي تباع للمسافرين المشغولين في أكشاك الجرائد الموجودة بالمطارات. ولا تستطيع الآراء المتفائلة المشوشة حول الضمير - باعتباره يمثل مصدرا يعول عليه للرقي الأخلاقي - سوى إزعاج المزيد من المعلقين المتشككين في هذه الآراء.
شكل 3-1: لوحة «يقظة الضمير» للفنان ويليام هولمان هانت، عام 1853.
1
ينتمي النقاد الثلاثة الذين كتبوا عن الضمير - والذين يتناولهم هذا الفصل - بالكاد إلى فريق واحد أو إطار فكري واحد (على الرغم من أن بعض خطوط التأثير يمكنها التوحيد بينهم)، لكنهم يشتركون في احتقار فكرة الضمير بوصفه مسئولا عن التحسين الذاتي غير مثير للمشاكل أو مدافعا كريما عن المبادئ الأخلاقية العامة. ويعرض النقاد الثلاثة مجموعة مترابطة من المشكلات: ماذا لو كان الضمير يمثل عبئا زائفا وغير ضروري بدلا من أن يمثل صوت الله الآمر أو الإجماع الاجتماعي المستنير؟ وماذا لو كان الضمير يمثل عبئا اخترعناه ونفرضه على أنفسنا بلا داع؟ بل أسوأ من ذلك، ماذا إن قبلنا ما تمليه علينا التأثيرات الخارجية المستبدة أو الزائفة وأضفينا عليها صفة ذاتية، مما يؤدي إلى ضمير يتشكل من التحيز الجاهل والمنع غير المدروس؟
الهجوم على الضمير
في رواية «الجريمة والعقاب» (1866) لدوستويفسكي، ينشغل بطل الرواية (أو على الأحرى بطلها الذي لا يحمل الصفات المتوقعة من البطل) راسكولنيكوف مبكرا بفكرة أن الضمير - أو في هذه الحالة صاحبه الملازم «الخوف الفطري» - قد يمثل بالفعل قيدا غير ضروري على اختيارات الإنسان وأفعاله، فهو يتصور أن «الإنسان إن لم يكن يتصف بالنذالة في الحقيقة ... لا يتبقى له سوى التحيز والخوف الفطري، ولا وجود للحواجز». ويكرس المؤلف بقية أحداث الرواية لإظهار خطأ راسكولنيكوف وإثبات وجود الحواجز، لكنه لا يترك هذه الحواجز دون تحديات؛ حيث تبحث الرواية في دراسة الشرعية المختلطة والمنقوصة غالبا لهذه القيود التي نفرضها على أنفسنا. ويعترف بالضمير - وغيره من الأنواع الأخرى من القلق المصحوب بالشك - بوصفه أحد هذه الحواجز، وتتعرض دوافع سلطته بشكل دائم إلى اختبار شديد التشكك.
يؤكد راسكولنيكوف موقفه من الضمير في مقال جدلي يزعم فيه أن «الإنسان «المتميز» له الحق - وهو ليس حقا رسميا بل حقه الخاص - في السماح لضميره بتخطي عقبات معينة». ويقدم صديقه رازوميخين اعتراضا أخلاقيا شديدا قائلا: «إنك في نهاية المطاف تسمح بإراقة الدماء دون أن تشعر بالذنب ... ومن وجهة نظري، فإن هذا السماح بإراقة الدماء دون الشعور بالذنب أو وجع الضمير أكثر فظاعة مما إذا كانت إراقة الدماء مسموحا بها رسميا وقانونيا.» لكن النقد الأكثر حدة يظهر في النهاية على لسان بورفيري قاضي التحقيق مع راسكولنيكوف، والذي يناقشه في ادعاءاته الساذجة بالتميز، ثم يخلص إلى الملاحظة نافذة البصيرة بأن بعض هؤلاء الأشخاص الذين يتسمون ظاهريا بالتميز قد يحققون أهدافهم، لكنهم (على لسان راسكولنيكوف) «يبدءون في إنزال العقاب بأنفسهم». وقد تمكن راسكولنيكوف مؤقتا من كبت هذا المبدأ التشريعي في عقله، والذي كان يمكنه منعه من اقتراف جريمته، لكن كل شيء له ثمن «لقد قتلت نفسي وليس العجوز الشمطاء»، بالإضافة إلى أن هروبه من قسوة ضميره كان هروبا مؤقتا وليس دائما. ومن خلال قياس عجز راسكولنيكوف عن الهروب من قسوة ضميره، يقدم لنا دوستويفسكي شخصية سفيدريجيلوف غير الأخلاقية والذي يتناوب بشكل عشوائي القيام بأعمال شائنة من الناحية الأخلاقية وأعمال أخرى تتسم بالكرم المطلق، والذي يصف ضميره بأنه «في حالة خمول تام». ولا يستطيع راسكولنيكوف تبني هذا الموقف على الرغم من تهديداته ب «تخطي» الحد الفاصل الأخلاقي، وعلى الرغم من جميع تخيلاته النابوليونية.
سوف يتعرض راسكولنيكوف بالفعل للبعث من جديد في سيبيريا عند نهاية الرواية، لكن هذا البعث لن ينشأ عن «تأنيب الضمير» الذي تتخيله دونيا المخلصة (لكنها ضعيفة الخيال). وحتى وهو يندفع مهاجما نفسه لعجزه عن اتخاذ «الخطوة الأولى»، فإنه ما زال يعاني من كبريائه الجريحة والانتقاد التأديبي لعجزه عن الهرب من أوجه قصوره أكثر مما يعاني من الضمير نفسه، وتظل علاقته بالضمير متأرجحة ومتضاربة. وحتى وهو يحاول التغلب عليه بوصفه قوة مؤثرة في حياته ويرفضه بثبات في نهاية الأمر، فهو يمثل مجموعة من «النتائج» خلال الرواية، ويمكننا تفسيره بوصفه عبئا ضمنيا في انجذابه المبكر اللانهائي للاعتراف، وفي إفراطه في النقد الذاتي إلى حد مرضي، وفي إقصائه النهائي لذاته الجريحة وكبريائه المفرطة لصالح حب مذل مهين.
تمثل رواية «الجريمة والعقاب» دراسة للضمير وليس تبريرا له بالمعنى الدقيق ، واستمرت تلك الدراسة في كتابات دوستويفسكي الأخرى، وخاصة في روايته التي تؤكد نفس النقطة «الإخوة كارامازوف» (1881). ويمكن القول إن الرواية بأكملها يمكن تفسيرها باعتبارها دراسة «لمبادئ» الضمير، وهي تبدأ بتعريف «الضمير الكارامازوفي» التقليدي بوصفه اختزالا لإدراك أخلاقي سطحي وغير مكتمل، ثم تطرح تساؤلات بلا إجابة شافية عن كيف وأين يمكننا أن نجد رؤية أكثر استدامة للضمير. وانطلاقا من افتراضات الدين المؤسسي، يقدم رئيس الكنيسة رؤية تقليدية لكنها إنسانية يحمي الضمير بموجبها المجتمع، ويمتلك القدرة على التغيير الفردي بمقتضى «قانون المسيح فحسب الذي يتجلى في اعتراف المرء بضميره». وهذا النوع من الضمير تديره الكنيسة، وهو يتيح الفرصة للإصلاح الداخلي الذي يمتلك القدرة على «تخفيف» الشعور بالذنب. لكن هذا التداول للمسئولية بين الكنيسة المؤسسية والفرد الذي ينتقد ذاته ليس صارما بالقدر الكافي من وجهة نظر رئيس محكمة التفتيش المدافع عن مؤسسة تعلم احتياجات الأفراد أفضل مما يعلمونها هم أنفسهم. وتوحي وجهة نظر شيخ الكنيسة له بالتحرر الذاتي، وهي في مرونتها «الغامضة غير العادية وغير المحدودة» لا تقدم أساسا مستقرا لتهدئة ضمير لا يقنع ولا يشبع بطبيعته، ويقدم رئيس محكمة التفتيش ضميرا محدودا واضحا في مطالبه تدعمه السلطة الكنسية في كل المواضع.
ومن جانبه فإن إيفان العاقل (لكن المهزوز) يتحالف مع الشيطان أكثر مما يتحالف مع رئيس محكمة التفتيش، وتعد حوارات إيفان مع الشيطان بالطبع معبرة عن الشكوك والاحتمالات التي تنشأ داخل عقله. وفيما يتعلق بالضمير، يمكن فهم هذا البديل الشيطاني باللغة الفرويدية على أنه يقدم أكثر البدائل إغراء وإرباكا، متذرعا بصيغة النفي التي يصوغ بها هذه البدائل؛ أي إن إيفان يسمح لنفسه بأن يقول ما يفكر فيه أو يخشاه بالفعل مدعيا أنه يمثل إغواء شيطانيا. وفيما يتعلق بالضمير، يستأنف الشيطان العمل من حيث توقف راسكولنيكوف مقتنعا بأن مهمة الإنسان المتميز تتمثل في تحرير نفسه من قيود الضمير. ويصيح إيفان في أليوشا قائلا:
لقد سخر مني! وذلك ببراعة، ببراعة شديدة قائلا: «الضمير! ما الضمير؟ إنني أختلقه بنفسي، فلم أعاني إذن؟ بحكم العادة، بحكم العادة الإنسانية البشرية على مدار سبعة آلاف عام. دعنا إذن نتخلص من العادة، وسوف نصبح آلهة!» لقد قال ذلك، لقد قال ذلك!
لكن إيفان، على غرار راسكولنيكوف، يغوي نفسه ويعذبها بأفكار لا يستطيع في نهاية الأمر تحملها، وفي أكثر أفكاره جرأة فهو يدعي للقاتل الحقيقي سميردياكوف أنه لولا الله «لكان كل شيء ... مباحا، مهما جرى في العالم، ومن الآن فصاعدا يجب ألا يصبح هناك أي شيء ممنوع». وهو لا يستطيع أن يحتمل مواصلة التظاهر بالشجاعة، فهو على الرغم من كل شيء على شفا اعتراف مدفوع بالذنب مخادع لذاته جزئيا باشتراكه في قتل والده، وتمتدحه الشخصيات الأخرى لما يطلق عليه أليوشا «ضميره العميق»، وسوف تعلن كاتيا في المحكمة أنه ضحية «ضمير عميق، عميق بشدة» يعذب نفسه، وتحييه في النهاية وهو يرقد مصابا بالحمى الدماغية بوصفه «بطلا للشرف والضمير». لكن تلك المحاولات لامتداحه بوصفه نموذجا مجسدا للضمير تسعى إلى فرض وجهة نظر تقليدية متخلفة على موقف لم يعد يدعمها. وفور أن وضحت فكرة الضمير بوصفه اختراعا أو نظرية وعبئا غير ضروري مفروضا ذاتيا، حتى وإن كان ذلك عن طريق متحدث رسمي سيئ السمعة كالشيطان ذاته، أو حتى بوصفه خيارا سيئا في أفكار إيفان المحمومة، فسوف تظل مصدر إزعاج إضافي لمفهوم يلاقي الكثير من التحديات بالفعل.
عند اكتشاف ترجمة فرنسية لرواية «رسائل من أعماق الأرض» عام 1887، كتب نيتشه إلى صديقه أوفربيك قائلا إن «غريزة القرابة (أم ماذا أطلق عليها؟) قد أعلنت عن نفسها بوضوح في الحال». ويعتبر القول الذي وجهه إيفان إلى سميردياكوف «كل شيء مباح» أحد التعبيرات النموذجية لنيتشه، وتشير حقيقة أن نيتشه قد كرر تلك الكلمات (حتى وإن كان ذلك مصادفة، أو خاصة إن كان ذلك مصادفة) في كتابه «أصل الأخلاق وفصلها» إلى الخلفية المشتركة التي يحملها هذان المفكران. وقد احتفى نيتشه بتأملات رجل الأعماق المروعة، وشاركه وجهة نظره القائلة إن أقسى ألم داخلي مبرح موجه للذات كما هو مجسد في المبدأ الرئيس في كتاب «أصل الأخلاق وفصلها» القائل إن «أنت وحدك الملام على شئونك الخاصة». ويعتمد على هذا المبدأ اتجاه الاستياء كما يفهمه نيتشه، وهو انحراف عن الاتهام الموجه من الظروف الخارجية المتمردة نحو اتهام للذات لا مبرر له لكنه ملح. ويمثل أبطال دوستويفسكي - الذين يتهمون ذواتهم ويعاقبونها - أفضل كوكبة يمكن تخيلها من الأبطال على طراز نيتشه الذين يتهمون ذواتهم أيضا.
ومن وجهة نظر نيتشه، فإن الضمير يحرض على هذا الاتهام الذاتي، وهكذا فهو يصبح جزءا من المشكلة وليس الحل بالنسبة للجنس البشري. وفي كتابه «أصل الأخلاق وفصلها»، يحاول أن يبرهن أنه بسبب هجمات القيود الدينية والاجتماعية فإن العدوانية الطبيعية التي يتصف بها الجنس البشري والتلذذ بالانتقام قد أعيقا وأجبرا على التوجه للداخل؛ ومن ثم أصبح الإنسان يعادي ذاته وترجم ذلك إلى ممارسات تعذيب الذات بنفس القسوة التي كان يمارسها أسلافنا المتعطشون للدماء. والضمير هو متعهد هذا العقاب الذاتي المغروس لا شعوريا في الذهن، وهو يقول: «إنني أنظر للضمير النادم بوصفه المرض الخطير الذي يصاب به الإنسان لا محالة تحت ضغط أكثر التغييرات التي مر بها جذرية، وهو ذلك التغيير الذي حدث عندما وجد نفسه في نهاية الأمر محاصرا داخل جدران المجتمع والسلام.» ولما كانت الإنسانية مقيدة إلى هذا الحد وتعمل على توجيه إحباطاتها من جراء هذا التقييد للداخل، فقد ينظر إليها كما لو كانت «حيوانا يحك جسمه بقضبان قفصه حتى يلحق بنفسه الأذى». ولما كان الجنس البشري غارقا في شعور بالدين الذي لا يرد والندم غير المحدود، فقد «اخترع الضمير الفاسد كي يؤذي نفسه بعد أن سد المتنفس الطبيعي لرغبته».
وبالطبع فإن أسطورة الأصل الخاصة بنيتشه خاطئة تماما وغير مقنعة على الإطلاق فيما يتعلق بالتاريخ الحقيقي لهذا المفهوم، فهو يتخيل الضمير النادم كما لو كان تطورا حديثا نتج عن حظر القسوة وحظر الاحتفالات بالعقاب التي كانت تلازم نقض العهود وخرق العقود سابقا وتذيل النظام القضائي بأكمله، بينما في حقيقة الأمر فإن الضمير النادم الذي يؤلم صاحبه ويزعجه ويجرحه ويهدده كان موجودا منذ البداية (كما أوضحت سابقا) في القانون وفي القضاء الروماني، ومنذ تبني المسيحية له منذ القدم. ولا يمكن أن تكون تخيلات نيتشه لعصر فردوسي كان فيه البشر يتقبلون عنفهم وقسوتهم ويحتفون بهما وكانت كل الضمائر سليمة تخيلات حقيقية؛ وذلك لأنه منذ ظهور الضمير لأول مرة وهو يستنكر السلوك السيئ ويطالب بالتحول إلى وضع أفضل. وكما أكد تيليك وآخرون، فإن الحالة الشعورية غير المستقرة (ومن ثم شديدة «الندم») هي الوضع الافتراضي للضمير، والضمير «السليم» الذي يشعر بالرضى عن أفعال صاحبه علامة أكيدة على وجود مشكلة أخلاقية.
الضمير: هل هو مثير للمتاعب أم ذات أخرى؟
كانت هوية الضمير بوصفه «ذاتا أخرى» خارقة للطبيعة قد استقرت بالفعل عندما تهجم ضمير أوغسطين عليه لفظيا في نهاية القرن الرابع، وكان ضمير أوغسطين يمثل جزءا منفصلا عنه أو قسما منه أو موضع مراقبة يمكن للمرء منه أن يراقب تصرفاته. وقد علق عالم اللاهوت ويليام بيركنز في كتابه الذي يحمل عنوان «خطاب الضمير» (1596)، بدهاء على ما أطلق عليه تصرفي الفهم قائلا: «يفكر العقل في فكرة، ويتخطى الضمير العقل ويعلم ما يفكر فيه ... وعن طريق هذا التصرف الثاني قد يشهد الضمير حتى على أفكاره.» ويتعرض نظيره الأدبي شبه المعاصر، ريتشارد الثالث - من تأليف شكسبير - لعملية تقسيم لجزأين متناقضين على نحو مشابه، حيث يعترف قائلا «إنني ... أكره نفسي؛ نظرا للأفعال البغيضة التي ارتكبتها نفسي.» وفي القرن الثامن عشر أضفى آدم سميث وإيمانويل كانت شكلا محددا على هذا الانعكاس، وذلك عن طريق نظرياتهما القائلة بوجود متفرج موضوعي يعلم عنا كل شيء ويراقب أفعالنا.
ولما كانت هي النفس والآخر في الوقت ذاته، فإن تلك الذات الأخرى تمزج بين موضوعية الغريب والألفة الشديدة مع أفكارنا، وتقدم لنا تلك «الذات الأخرى» مصدرا قيما للتعقيد الأخلاقي لمعنى منقوص للذات بوصفها كاملة و«صحيحة»، لكن على حساب الانقسام الداخلي. وقد وضع فرويد تلك القدرة في سلسلة تمثل مصدر إزعاج، معلقا في مقاله الذي يحمل عنوان «عن النرجسية» أن الضمير «يمكننا من فهم ما يطلق عليه «أوهام الملاحظة» ... التي تعتبر أعراضا بارزة لأمراض جنون العظمة ». ولا داعي لأن يوصم صاحب الضمير بجنون العظمة، حيث توفر تلك الذات الأخرى مصدرا محتملا للتوازن، لكن الفرد المبتلى بالضمير يعلم بعض الشيء عن تجربة المصاب بجنون العظمة في الانقسام الداخلي.
وعلى الرغم من ذلك فقد توصل نيتشه بالطبع إلى اكتشاف مهم، ويشبه هذا الكشف ما وسوس به الشيطان لإيفان كارامازوف قائلا إن الدخول في حكم الضمير - حتى وإن لم يكن طوعا تماما - فهو على الأقل أمر يجب أن نقوم به بأنفسنا. وسواء أكان موجودا منذ البداية أم، كما يدعي، مفروضا متأخرا، فإن الضمير الباعث على الندم أمر يجب أن نصيب به أنفسنا، أو على الأقل نسمح لأنفسنا بأن تصاب به.
اقترح كل من دوستويفسكي ونيتشه موضوعا أن الإنسان منقسم على ذاته، وأنه في مواجهة مع صوت معاد أو عقابي قد اخترق بالفعل كل المجالات الدفاعية واستقر به المقام في العقل. ويسمع إيفان كارامازوف هذا الصوت كما لو كان صوت الشيطان، على الرغم من أننا ندرك أنه شكل مختلف عنيد لصوته هو. ويؤكد نيتشه أن مثل تلك الأفكار المؤذية للنفس يعبر عنها صوتنا الخاص كما لو كانت أفكارنا نحن، فنحن - كما يقول في مقدمة كتابه «أصل الأخلاق وفصلها» - «غرباء عن أنفسنا»، أي إننا نعزل أنفسنا عن أنفسنا عندما نقدم أفكارا عقابية أو أفكارا تجلد الذات كما لو كانت أقوالا شخصية أو خاصة. وهو يتفهم جيدا - كما سيتفهم فرويد - أن هذا الصوت العقابي قد يقدم نفسه متخفيا في المظهر اللطيف للإصلاح أو التأديب من أجل تحسين حالنا، لكنه في الوقت ذاته مصدر للعذاب اللانهائي.
ويعلق نيتشه على الضمير قائلا: «تغلب عليه!» لكنه لا يتوقع أن نتغلب عليه في وقت قريب، وسواء أكانت الظروف مواتية أم لا (وبالطبع سوف يقول نيتشه إن الظروف غير مواتية)، فمن غير المحتمل أن ننجح في إبعاد هذا الصوت عن رءوسنا أو آذاننا. أما كيفية تسلل هذا الصوت إلينا فهو موضوع تعلم عنه فرويد الكثير من كل من دوستويفسكي ونيتشه، وهو يبني عمله على افتراضاتهما في نظريته الخاصة بالضمير بوصفه صوت الأب المعاقب.
يعتبر إيفان كارامازوف حالة فرويدية نموذجية قبل ظهور فرويد، فعلى الرغم من أنه لم يقتل والده، فإنه يعترف بالاشتراك في الجريمة لأنه تمنى موته، حيث تساءل أثناء محاكمته: «ومن منا لا يتمنى وفاة والده ...؟» هذا إذن هو مولد الضمير، حيث يقوده شعوره بالذنب إلى تخيل نفسه شريكا في جريمة لم يرتكبها. ولا عجب أن فرويد - الذي اعتبر «الإخوة كارامازوف» أروع الروايات التي كتبت على الإطلاق - قد انصب اهتمامه عليها في مقاله الذي يحمل عنوان «دوستويفسكي وجريمة قتل الأب»، حيث وجد في دوستويفسكي نموذجا مرضيا لمن يحمل صوت والده الناهي في الأنا الخاصة به، لكنه لا يتحمل قيود هذا الصوت ومن ثم يصبح مشهورا بقتل والده. وهو يقول عن الرواية: «لا يهم من ارتكب الجريمة حقا، فعلم النفس لا يهتم سوى بمعرفة من رغب شعوريا في وقوعها ومن رحب بوقوعها عندما تمت.» وهو في تلك الحالة ليس الأخ غير الشقيق القاتل سميردياكوف فحسب، بل أيضا ديميتري وإيفان.
ومن المفاهيم الفرويدية الأساسية أن الشعور بالذنب - والضمير بوصفه محرضا له - أكثر حرية في الحركة مما نتخيل، وأن علاقتهما بالفعل الإجرامي تختلف عما يفترضه الناس غالبا. فبدلا من كونه نتيجة للفعل الإجرامي، فإن الشعور بالذنب المتولد عن الضمير يمكن فهمه في النظام الفرويدي بوصفه حافزا للفعل الإجرامي؛ ومن ثم فإن الفاعل الذي يشعر بالذنب نتيجة للعداء المكبوت أو أي نوع آخر من الاستياء يرتكب (أو يتوهم أنه قد ارتكب) جريمة من أجل تقديم معادل موضوعي للشعور بالذنب. وهو ما يلقي الضوء على موضوع معرفة فرويد الوثيقة بكتابات نيتشه وإعجابه به، حتى إنه ينسب إليه (في كتابه «أنواع الشخصيات في التحليل النفسي») مفهوم «سبق الذنب للجريمة». وفي هذا الاتهام، يقل اعتبار الضمير (وربيبه الشعور بالذنب) قادرا على السيطرة على الجريمة أو مبرئا منها، بل يرى بوصفه أمرا متأصلا في الجريمة نفسها أو شعورا لا يهدأ بالاستياء من المرجح أن يؤدي إلى ارتكاب جرائم أكثر مما يؤدي إلى السيطرة عليها أو التكفير عنها.
ويتطلب الأمر مقالا منفصلا لتتبع أوجه الشبه بين أفكار كل من فرويد ونيتشه عن الكبت وبعض المفاهيم الأساسية الأخرى، لكنني أود الإشارة بوجه خاص إلى اعتماد فرويد الضمني - وفي الوقت ذاته شديد العمق - على نظريات نيتشه عن الضمير المعاقب للذات في صياغته لأفكاره الخاصة عن الأنا العليا أو الأنا المثالية وعدائها الفطري العقابي للأنا وبالتالي للذات. ويمكن إيضاح هذا التشابه الشديد في اقتباس صغير من كتابات كل منهما:
ليس الضمير ... كما قد تعتقد، هو «صوت الله داخل الإنسان»، لكنه غريزة الوحشية التي تتجه للداخل ما إن تعجز عن تفريغ شحنتها بالخارج. (نيتشه، «ما الذي يجعلني أكتب تلك
الكتب الممتازة»، «هو ذا الإنسان»)
كلما تحكم الإنسان في عدوانيته، اشتدت الميول العدوانية للأنا المثالية (الأنا العليا) لديه ضد الأنا. (فرويد، «الأنا والهو»)
وفي كل حالة، يؤدي انسداد مخرج المشاعر العدائية (عدم قدرة الوحشية على تفريغ شحنتها أو تقييد العدوانية) إلى ارتدادها للداخل (توجيه الوحشية للذات أو العدوانية ضد الأنا).
وتعمل الأنا المثالية لدى فرويد - ولاحقا في أعماله الأنا العليا - في حيز الضمير، وتؤدي مهام التوبيخ والتقريع التي عادة ما توكل إلى الضمير. وكما يقول في كتابه الذي يحمل عنوان «الأنا والهو»:
لا يمثل تفسير الشعور الطبيعي الواعي بالذنب (الضمير) أية مشكلة، فهو نتيجة للصراع بين الأنا والأنا المثالية، وهو أيضا تعبير عن إدانة صريحة للأنا تعلنها وظيفتها النقدية.
وتعد الوظيفة النقدية مرادفا لعمل الضمير، خاصة فيما يتعلق بعمله تحت غطاء من تحسين الذات المزعوم، حتى وهو يثبت كونه عنيدا غير قابل للترضية في متطلباته.
وتتكون الأنا المثالية - من وجهة نظر فرويد - من المجتمع، حيث تتشكل «من تأثيرات البيئة والمتطلبات التي تفرضها البيئة على الأنا والتي لا تتمكن الأنا دائما من الوفاء بها» («علم النفس الجماعي»). ومن وجهة نظره، تمثل تلك المتطلبات عادة - أو ربما دائما - استبطانا لوجهات نظر الأم أو الأب، لكنها تزداد عن طريق الأصوات الأخرى المقيدة والتنظيمية في المجتمع ككل كما هو موضح في «الأنا والهو »:
بينما يكبر الطفل، يتولى المعلمون وآخرون في موقع السلطة القيام بدور الأب، وتظل قوة أوامرهم ونواهيهم راسخة في الأنا المثالية، وتستمر في ممارسة الرقابة على الأخلاق في صورة الضمير.
وتصطف في مواجهة الأنا القوة التراكمية لكل أشكال التحريم والاستهجان التي تعرض لها الطفل خلال حياته؛ وهي بعبارة أخرى حالة حادة من عدم التكافؤ. ويستمر فرويد قائلا: «يعاني المرء من الصراع بين متطلبات الضمير ومتطلبات الأنا الفعلية في صورة الشعور بالذنب.» بمعنى آخر، فإن الأنا تشكل ذاتها أثناء عمليات التفاعل الاجتماعي، لكنها عرضة للهزيمة على يد الثقل والتنوع الذي تتميز به القيود والاتهامات التي يجب على الأنا أن تكافحها. ويمكن للمرء أن يفر إلى هذا الجزء من نفسه الذي يراقب الأنا ويحكم عليها ويجد العزاء فيه، لكن كل شيء له ثمن، وهذا الثمن يتمثل على الأقل في الانقسام الذاتي.
وتكمن إحدى طرق إعادة الاندماج المحتملة - وسوف أبتعد هنا عن استنتاجات فرويد الخاصة كي أفكر مليا في المواد التي عرضها على الناس - في الحقيقة القائلة إن قدرة الضمير على مراقبة الذات أو الأنا المثالية تتميز بالحديث بضمير الغائب «عن النرجسية». وهو أمر طبيعي إلى حد مقبول، فهو صوت مركب من كلمات ووجهات نظر خارج الموضوع، سواء أكانت تعتمد على صوت المنع الأبوي أو أصوات سلطوية أخرى سمعناها في حياتنا. (ويؤكد ميل في سيرته الذاتية أن الضمير كان يخاطبه بصوت والده، وليس ميل وحده من مر بهذه التجربة.) ولما كان صوت السلطة مترددا بين الذات والآخر كما فعل الضمير في حالة أوغسطين، فهو يخاطب صاحب الضمير بصيغة المخاطب أحيانا («يجب عليك» ...) ويتحدث بصيغة المتكلم («يجب علي» ...) أحيانا أخرى. ألا تلمح أثرا للاطمئنان والتبشير بالنجاح في اتخاذ الضمير صيغة المتكلم؟ قد يعتبر اتخاذ الضمير صيغة المتكلم تقدما في اتجاه نضج صاحب الضمير الذي أصبح مستعدا الآن لتضييق الفجوة بين الأنا والمتطلبات المفرطة للأنا المثالية أو القضاء عليها، بالإضافة إلى تحمل المسئولية الشخصية عن اختيارات المرء وأفعاله.
ولو نحينا تلك الأفكار جانبا، فإن فرويد يترك الأنا في مأزق خطر، حيث تبدو أنها غير قادرة على تحرير ذاتها من سيطرة الأنا المثالية التي «تستشيط غضبا من الأنا بقسوة شديدة» («الأنا والهو»)؛ مما يتسبب في شعور حتمي بالذنب. وينضم فرويد إلى دوستويفسكي ونيتشه في إظهار عمليات الضمير في علاقته بالذات بوصفها ورطة لا مفر منها أكثر مما هي مورد بشري حيوي.
بقاء الضمير
أثناء الهجوم على الضمير، نظرا لميله للانتقاد والشكوى واستيائه المتواصل من السلوك الذي يعلق عليه وموقفه غير القابل للترضية، لا يتورط هؤلاء النقاد للضمير في أي تفسير زائف له، فتلك هي خصائص الضمير الملحوظة منذ نشأته عند القصاص من المجرمين الرومان. ويأخذ نقاد الضمير إحدى نزعاته المميزة ويضعون لها تقييما مختلفا، حيث يقل اعتبارهم لها قوة لمعالجة الذات ويزيد اعتبارها نوعا من العقاب الذاتي غير الضروري. لكن حتى هؤلاء النقاد الصارمون يجدون أنه من الصعب إلغاء الضمير أو إقصاؤه، ففي نهاية الأمر يبدو أن كلا منهم يناقض نفسه جزئيا ويمنح الضمير احتراما على مضض.
وقد يكون أكثر التعليقات إثارة للدهشة تعليق فرويد بعد كل ما قاله كي يشوه سمعة الضمير (بالإضافة إلى مترادفاته المتمثلة في الأنا المثالية والأنا العليا) «علينا أن نعده - بالإضافة إلى الرقابة على الوعي واختبار الحقيقة - من ضمن المؤسسات العظيمة للأنا» («الحداد والسوداوية»). لكن كيف تتجلى تلك العظمة؟ وما وجه العظمة فيه؟ بلا ريب فإن فرويد يقترح أنه من بعض النواحي قد تصبح الأنا العليا ملاذا وملجأ من الأنا المهزومة المستعبدة حقا: «فعندما لا يقتنع المرء بذاته، يمكنه على الرغم من ذلك أن يجد الرضى في الأنا المثالية التي تختلف عن الأنا» («علم النفس الجماعي»). ويمكن للأنا العليا/الأنا المثالية/الضمير في ظل الظروف المناسبة أن تشكل قوة للتنظيم الذاتي وتقدير الذات المطلوبين، لكن توفير «منزل آمن» مؤقت للأنا المرهقة لا يكاد يبدي صفات العظمة، خاصة عندما يمكن اعتبار الأنا العليا المفرطة في الانتقاد أحد الأعداء الرئيسين لتقدير الأنا. ويمكننا العثور على تفسير أكثر إقناعا لعظمة الأنا العليا في كتاب فرويد الذي كتبه في أواخر حياته بعنوان «قلق في الحضارة» (1930)، والذي ينضم فيه الضمير للتسامي بوصفه إحدى الآليات النفسية التي يمكن للمرء من خلالها تقييد الرغبات الغريزية (أو الأنانية على نحو فطري) بطريقة تعزز مصلحة المجتمع بشكل عام، سواء أكان ذلك متعمدا أم لا. ولا يعني ذلك أن كبت الرغبة بواسطة الضمير لم يعد أمرا شاقا على الفرد، لكنه ينطوي على فائدة عارضة - أو لعلها أكثر من مجرد فائدة عارضة - للمجتمع. ويذهب فرويد بعيدا عند الإشارة إلى أن تطور الأنا العليا - مع كون الضمير حليفا لها والشعور بالذنب عقابا لتجاهل انتقاداتها - يمكن أن يكون مسعى للمجتمع بأكمله، وأن المجتمع بوسعه تطوير أنا عليا جماعية واستخدامها لتحقيق أهدافه الثقافية:
قد يمتد التشابه بين عملية التحضر ومسار التطور الفردي في ناحية مهمة، حيث يمكن التأكيد على أن المجتمع أيضا يطور الأنا العليا الخاصة به والتي يستمر التطور الثقافي تحت تأثيرها.
ويكتشف نيتشه - الذي تبدو سخريته من الضمير بوصفه عقابا مفروضا ذاتيا لا نهاية له، كما لو كانت لا تعرف حدودا أو تسويات - احتمالات إيجابية للضمير في بعض المواقف المدهشة في أعماله، فهو يذكر في مقالته ضد المسيحيين التي تحمل عنوان «المسيح الدجال» التعليقات المسيئة التي يتوقعها قارئه عن «تأنيب الضمير» بوصفه جزءا من «لغة الإشارة الخيالية للخصوصية الدينية الأخلاقية». لكنه يسمح لنفسه بتخيل ضمير طاهر مثالي ليس لديه نزعة للعقاب الذاتي الجبان، لكن للتهذيب والعقلانية والقيم المستنيرة (العلمية). ويدخل هذا الخطاب الفرعي في مقالته كما لو كان أمنية تبدو مهملة بأن يمتلك كانت «ضميرا عقلانيا» وافيا بدلا من إرباك العقل بتفسيرات أخلاقية قبلية. لكن مع تطور المقال، فإنه يقدم الضمير بوصفه أداة حيوية في إماطة اللثام عن أشكال النفاق الديني:
إننا نعلم - كما يعلم ضميرنا اليوم - قيمة تلك البدع الخارقة للطبيعة التي يخترعها القساوسة والكنيسة، وما الأهداف التي تخدمها في اختزال الجنس البشري إلى حالة من انتهاك الذات قد يثير منظرها الغثيان.
ودفاعا عن أولوية العلم على الدين، فهو يتوق إلى سيطرة «انضباط الروح والنقاء والصرامة في الأمور الروحية المتعلقة بالضمير وهدوء الروح النبيل وحريتها». وفي ذلك التصور، يصبح الضمير الحر العلماني حكما ومقررا حاسما مهما وأداة يلتمس من خلالها الوضوح الأخلاقي:
في النهاية، ما الذي تعنيه الاستقامة في شئون الروح؟ أن يقسو المرء على قلبه، وأن يحتقر المرء «المشاعر الجميلة»، وأن «يحول المرء كل نعم ولا إلى أمر متعلق بالضمير».
ويجب أن تدهشنا تلك الفكرة عن الضمير المحرر بوصفه حارسا للاستقامة، مع الوضع في الاعتبار كل ما قاله نيتشه في المواضع الأخرى، لكن قوة الضمير طالما اعتمدت على قدرته المدهشة على الحركة وقدرته على إعادة الصياغة وعلى إعادة الانخراط في أشكال وقضايا جديدة، وهكذا فربما لا يكون ثمة داع لدهشتنا من تغير موقف نيتشه المفاجئ على الإطلاق.
وينطبق نفس الأمر أيضا - وربما على نحو أقل إثارة للدهشة - على دوستويفسكي الذي يتلاعب بفكرة أن الضمير قد يكون أمرا ملفقا ومفروضا ذاتيا بلا داع، لكنه يعود فينظم تخيلاته مع مجموعة متنوعة من الشخصيات التي يحركها الضمير أكثر من قدرتها على التعبير وتبدي معرفتها بالضمير تحت دوافع مختلفة لا تحمل حتى اسم الضمير. ويشترك كل من راسكولنيكوف وإيفان في نفس النموذج، وهو إدانة الضمير والتلاعب بالخطط من أجل تجنب انتقاداته، حتى ولو كانا يقدمان أنفسهما بوصفهما شخصين يحركهما الضمير. فبعد أن ارتكب راسكولنيكوف جريمته، شعر في الحال برغبة في الاعتراف للسلطات وإبراز دليل ارتكابه للجريمة:
كان يشعر كأن مسمارا قد دق في قمة جمجمته. وراودته فكرة غريبة على حين غرة: أن ينهض فورا فيقترب من نيكوديم فوميتش [وهو موظف حكومي بسيط] ويقص عليه ما حدث في الليلة البارحة، كل ما حدث، حتى أدق التفاصيل، ويقوده بعد ذلك إلى غرفته، فيريه الأشياء هناك، عند الركن، في الفتحة. وبلغت رغبته في ذلك من القوة أنه نهض لينفذ ما فكر فيه.
وقد يبدو ذلك ببساطة ما أطلق عليه بو «شيطان الفساد»، وهو إلحاح للضمير في أشد حالاته تدميرا للذات، فيما عدا أن راسكولنيكوف يقضي معظم الرواية في الاعتراف بشيء أو بآخر، وتبدو رغبته النهائية في «معانقة الألم» - على الأقل ضمنيا إن لم تكن بوضوح - كما لو كانت يحركها الضمير. وبالطبع فإن الآخرين لا يترددون في تصوير مأساته كما لو كانت متعلقة بالضمير، على سبيل المثال عندما تؤكد دونيا قدرته على الشعور «بتأنيب الضمير» في النهاية. وينطبق نفس الأمر على إيفان كارامازوف، فعلى الرغم من كل محاولاته الشخصية لتجنب مطالبات الضمير ورفضه المتردد له، فإن الآخرين يرونه أحد أبطال الضمير، وقد يكون كذلك بالفعل. وبالطبع فهو بطل للبحث النفسي الشخصي إلى حد ما، وبصيرته بموافقته المضمرة أو رغبته الضمنية في وفاة والده تعد سببا مشروعا للشعور بالذنب، وهي ليست فكرا فرويديا قبل ظهور فرويد فحسب، بل إنها أيضا تبين استعدادا أخلاقيا راقيا لتحمل عبء العذاب الشخصي على نحو يناقض نقده الرافض للضمير.
وهكذا، فحتى النقاد المتزمتون للضمير يميلون ضمنيا ومن خلال العديد من الأبواب الجانبية والخلفية إلى الاعتراف بمركزيته ويبدون عدم استعدادهم كلية لتنحية نفس المبدأ الذي يهاجمونه جانبا. ولا داعي لأن تدهشنا على الإطلاق تلك النزعة التصحيحية التي تعيد ذلك الضمير مشوه السمعة بالكامل فجأة إلى مكانته السابقة من الاحترام. فقد ذكرت سابقا حالة كالفن الذي عاب بكل وسيلة ممكنة على أوجه قصور الضمير وعجزه عن الوفاء بالمهام الموكلة إليه، لكنه غير اتجاهه لاحقا إلى رؤية جديدة للحرية المسيحية يتحرر فيها الضمير من مهمة تطبيق الناموس ويتطهر بواسطة رحمة المسيح. وحتى أشد نقاد الضمير قسوة لا يبدو أنهم يسعون إلى إبعاده تماما، لكن اهتمامهم الأساسي ينصب على حالات متخيلة لإعادة تأهيله وعودته.
هوامش
الفصل الرابع
هل الضمير حق مدني؟
يبدو أن بعض الناس يمضون في طريقهم دون أن يمتلكوا ضميرا على الإطلاق، قادرين طوال الوقت على ارتكاب ما وصفه لوك ب «الأعمال الشائنة التي تمارس بلا ندم». وفي مسرحية «العاصفة»، يقدم لنا شكسبير شخصية أنطونيو الوضيع المغتصب وهو يفكر في ارتكاب جريمة القتل، وعندما سئل عن ضميره أجاب قائلا:
نعم سيدي، أين يكمن هذا الضمير؟ لو تورمت قدماي ، لشعرت بذلك
لكني لا أشعر بوجود هذا الكيان المقدس داخل صدري
ولو قام عشرون ضميرا بيني وبين حكم ميلان
لذابت جميعها كما يذوب السكر في الماء!
يفتضح أمر أنطونيو ويعاقب عقوبة خفيفة بالطرد من الإمارة التي استولى عليها، لكننا لا نملك دليلا على انصلاح حاله. وبالطبع تعد فكرة أن يمتلك كل إنسان ضميرا فكرة نبيلة تنتج عن أمنية (بأن يمتلك كل إنسان ضميرا) يعبر عنها في صورة استنتاج (بأن كل إنسان لديه ضمير بالفعل). وبالطبع فإننا نتصرف بافتراض أن معظم الناس يمتلكون ضميرا، ومجرد الشك بأن أحد المجرمين يفتقر إلى الضمير يمكنه أن يزيد من قسوة الحكم عليه، بينما قد يؤدي أي دليل (مهما كان سطحيا) على وجود ضمير حي إلى الحث على التسامح.
لكننا عندما نفترض أن كل إنسان يمتلك ضميرا ونبني الأفعال والخيارات على أساس نصائحه، تظهر مشكلة أخرى. فإذا كان الضمير أمرا حسنا، وإذا كان الناس يلاقون التشجيع للعمل استجابة لتلقينه، فإلى أي مدى يجب أن نكن الاحترام لمسألة ما لأنها بنيت على أساس الضمير؟ وبوجه خاص، إلى أي مدى يجب أن نكن الاحترام لمسألة يؤيدها الضمير ويتصادف أننا نختلف معها؟
سوف يتنازل معظمنا بعض الشيء في القضايا التي يؤيدها الضمير، وأحد الاختبارات الكاشفة لقدرة المجتمع على هذا التسامح يقدمه رفض أداء الخدمة العسكرية بناء على أسباب متعلقة بالضمير. فقد اعتبر هذا الرفض، بلا ريب، جريمة أحيانا، لكن أيضا في كثير من الأحيان - حتى وسط آلام الحروب - ابتكرت الدول صورا للإعفاء أو الخدمة البديلة لمن يبدون اعتراضا فلسفيا أو دينيا دائما على إزهاق الأرواح البشرية.
ويمكن تتبع آثار الاعتراض على الحرب في الفكر المسيحي القديم (على الرغم من أنه سرعان ما تراجع أمام نظريات «الحرب العادلة» والحملات الصليبية الشرعية)، وأعيد إحياء القضية على يد القائلين بتجديد العماد والمينونايت والكويكريين في القرن السابع عشر. وقد خدم بعض الكويكريين القدامى في جيوش الكومنولث، لكن الصلة بين السلمية ومتطلبات الضمير قد ترسخت بالطبع عندما نظم الكويكريون أنفسهم منشئين جمعية الأصدقاء وأضفوا صفة رسمية على رفض الخدمة العسكرية بوصفها أحد معتقداتهم الأساسية. وقد ترك لنا أحد الكويكريين المعترضين الذي ضم إجباريا لسلاح البحرية في ستينيات القرن السابع عشر رواية عن ربان متعاطف معه تولى الدفاع عنه قائلا:
هذا الرجل أحد أفراد جماعة الكويكريين، ولأجل الضمير فهو يرفض العمل، ولذلك فأنا ... أتعهد أمام الله بألا أضرب أو أتسبب في ضرب أي من أفراد الكويكريين أو أي فرد آخر يرفض إطاعة الملك لأجل الضمير.
وثمة تأثيرات للكويكريين أيضا في أمريكا الشمالية، وخاصة في مناطق مثل بنسلفانيا ورود آيلاند حيث صدر قرار قصير الأجل لكنه معبر عام 1673 بإعفاء الرجال «المقتنعين في ضمائرهم بأنه لا يجوز لهم القتال بهدف إزهاق الأرواح» من أداء الخدمة العسكرية. وكانت المعارضة طبقا لإملاءات الضمير شائعة في حرب الاستقلال الأمريكية، حيث انقسمت الحركة إلى معسكرين سوف يستمران عبر القرون التالية: من قبلوا بالخدمة البديلة ومن أصروا على المقاومة غير المشروطة (ومعظمهم من الكويكريين). وبرزت المعارضة طبقا لإملاءات الضمير من جانب الكويكريين والمينونايت والإخوة والمجموعات الدينية الأخرى المتمردة أيضا في الحرب الأهلية الأمريكية. وقد اتبعت ولايات الاتحاد - ولاحقا الولايات الكونفيدرالية - شروط الانسحاب الخاصة بالاعتراض طبقا لما يمليه الضمير، ومن جانب الاتحاد وضعت شروط للخدمة البديلة في التمريض والرعاية الطبية في المستشفيات.
وبعيدا عن الإجبار على الخدمة في سلاح البحرية، كانت الخدمة العسكرية تطوعية تماما في إنجلترا فيما بين الحروب الأهلية حتى عام 1916، عندما اشتد الجدال بشأن هذا الأمر مرة أخرى. وفي الحقيقة، فكما أشار جون راي ظهر موضوع «الاعتراض طبقا لما يمليه الضمير» لأول مرة بهذا الاسم في إنجلترا عام 1914 في سياق لا علاقة له بالخدمة العسكرية على الإطلاق، بل في وصف المعارضة المنظمة والعنيفة للتلقيح الإجباري. وتضمن مشروع قانون الخدمة العسكرية لعام 1916 مبدأ «الاعتراض طبقا لما يمليه الضمير»، لكن دون تفصيل دقيق عن أي مجموعة منظمة من المعتقدات أو مدرسة للفكر الشخصي ينتمي إليها المعترض. وقد منحت مجموعات متعددة - بما فيها الاشتراكيون وجماعة «بلومزبيري» وآخرون - مهلة لتسجيل مطالبات الضمير غير المرتبطة بالشعائر الدينية الرسمية. ويتضح تعقيد المعايير التي تستخدم في التعرف على الاعتراض الحقيقي «طبقا لما يمليه الضمير» في الأداء المختلط للمحاكم التي أنشئت للفصل في قضايا محددة، مثل محكمة الإنصاف (والتي يطلق عليها أيضا «محكمة الضمير») في القرن السادس عشر، وقد واجهت تلك الهيئات مشاكل الفصل فيما إذا كانت القرارات ناتجة بالفعل عن الميول الداخلية أم لا. ويستشهد راي بوصف الكويكريين لمظاهر الحيرة والارتباك أثناء الشهادة أمام تلك الهيئات، وهي الشهادة التي يجب أن يتصف فيها مقدم الطلب بما يلي:
الحماس والمثالية وأحيانا المبالغة في وصف قضيته، وأحيانا أخرى التقليل من شأنها، وأحيانا يبدو خياليا ومرتبكا أمام الدوافع المختلفة - الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية - حيث يرغب في الإخلاص لأكثر المفاهيم سموا، لكنه متورط باستمرار في مناقشات غير ذات جدوى حول أشد المفاهيم وضاعة، ومحاط دائما بصعوبات هائلة متعلقة بتفسير صحيح وعقلاني لقناعاته الخاصة.
شكل 4-1: بطاقة بريدية تعبر عن «سجن المعترض على أداء الخدمة العسكرية لأسباب تتعلق بالضمير» بريشة جي بي ميكلرايت، 1917.
1
ويتضح إخفاق هذا النظام في الأداء المتقلب للمحاكم المختلفة، حيث وجد حوالي ستة آلاف من المعترضين طبقا لما يمليه الضمير أنفسهم في الخدمة العسكرية إما لأنهم لم يحظوا بجلسة استماع أو لأن جلسة الاستماع قد رفضت؛ مما عرضهم فيما بعد للمحاكمة العسكرية، على نحو متكرر في الغالب، والإرسال للسجون الحربية. لكن من بعض النواحي لاقى هذا النظام نجاحا مدهشا، حيث استمعت المحاكم إلى حوالي 16500 دعوى، وحصل 80٪ منها على نوع من الإعفاء المشروط الذي عادة ما يتضمن الخدمة البديلة، ثم أدخل المزيد من التحسينات على هذا النظام في قانون التدريب العسكري الصادر عام 1939 الذي سمح بالإعفاء من الخدمة (بدلا من الحبس) للأشخاص الذين كانوا يرفضون أداء الخدمة أو يرتكبون مخالفة لأسباب تتعلق بالضمير فور تجنيدهم في الجيش. ويمكننا تتبع نفس المسار العام في الولايات المتحدة التي سمحت أثناء الحرب العالمية الأولى بالخدمة البديلة لمن كانوا يبدون توجها دينيا وعقيدة مسالمة رافضة للعنف (لكن دون اقتصار محدد على أعضاء «كنائس السلام » التاريخية )، ثم تحولت في عام 1948 إلى التأجيل الفوري للمعترضين طبقا لما يمليه الضمير، ثم عادت إلى سياسة الخدمة البديلة أثناء الحرب الكورية.
وحتى مع اتساع الفهم العام للضمير كي يشمل الدوافع العلمانية والأخلاقية بالإضافة إلى الدوافع الدينية والأدبية، فقد تحولت أيضا دوافع الاعتراض طبقا لما يمليه الضمير كي تشمل القناعات التي تكونت خارج حدود الدين المؤسسي؛ فعلى سبيل المثال تفضل محكمة عليا أمريكية الاعتماد على حدة الشعور مقياسا بلغة استخدمت في مناقشات الضمير عبر تاريخه، حيث تقبل مبدأ الإعفاء «لكل من يشعرون بوخز الضمير بسبب معتقدات أدبية أو أخلاقية أو دينية، فلا تستريح ضمائرهم إذا سمحوا لأنفسهم بأن يصبحوا جزءا من آلة للحرب» (398 الولايات المتحدة 33ف). ويجب وضع مجموعة من المعتقدات - بعضها علماني - في الاعتبار أثناء اتخاذ القرار، طالما أنها «تقوم بدور الدين في حياة المجند».
وعلى الرغم من ذلك، فإن حدود الإعفاء من الخدمة العسكرية (أو بعض الواجبات المحددة في حالة المجندين بالفعل) ما زالت محل تفاوض مستمر، وهنا تنشأ حالات الأشخاص الذين لا يعترضون على الحروب كلها، لكنهم يملكون اعتراضا محددا أو وسواسا للضمير فيما يتعلق بحرب معينة أو نوع محدد من الخدمة، وبالطبع فكلما أصبح الاعتراض أكثر تفصيلا زاد احتمال أن يصبح الأمر موضع خلاف. ويتمثل نموذج معاصر «للاعتراض المستهدف» في حالة الجنود الإسرائيليين الذين كلفوا بالدفاع عن بلادهم في مواجهة الأعداء المعتادين، لكن مع قصر خدمتهم على حدود 1967 ورفض أداء المهام في الأراضي المحتلة. ولاحقا ظهرت دعاوى مضادة من جانب المحافظين الدينيين الذين رفضوا المشاركة في إغلاق المستوطنات المحظورة في الضفة الغربية أو حتى أداء الخدمة العسكرية على الإطلاق وضعا في الاعتبار المخاطرة التي تفرضها تلك المهمات. وما زالت تلك الأمور محل جدال محتدم في إسرائيل وأينما يمارس التجنيد الإجباري، وعلى الرغم من ذلك فإذا تناولنا التاريخ الذي يبلغ خمسمائة عام من الاعتراض طبقا لما يمليه الضمير ككل، فسنجد أنه يوحي باستعداد كبير لدى الأفراد في المجتمعات الغربية للتكيف مع المعتقدات غير المألوفة وصعبة التوثيق التي يدرك الجميع أنها ذات أساس في الضمير الشخصي.
ويمكننا قول نفس الشيء عن المناقشات الدائرة حاليا في الولايات المتحدة حول «بنود الضمير» التي تؤكد حقوق مقدمي الرعاية الصحية في منع بعض الخدمات وخاصة الإجهاض والخدمات المتعلقة به، لكن مع المزيد من التوسع مؤخرا بحيث يشمل كل الأمور المتعلقة بمنع الحمل. سعى البعض إلى إيجاد العديد من التوازنات بين الاقتناع الشخصي والضرورة العامة، ومعظمها تحمي حقوق مقدمي الرعاية في الرفض طبقا لما يمليه الضمير مع الإصرار على أن مصلحة المرضى تتطلب قدرة سريعة على الوصول للخدمات البديلة (دون أن يقوموا بجولات طويلة مضنية في المستشفيات الأخرى) وحماية المرضى من التعرض للمخاطر. وبالطبع فإن ثمة مشاعر قوية متبادلة من الطرفين، وخاصة بين الكاثوليكيين والإنجيليين المعارضين للإجهاض من ناحية والعلمانيين وأصحاب المعتقدات الأخرى الذين يصرون على الحريات الإنجابية من ناحية أخرى. وغالبا ما يتفاقم ذلك الأمر إلى أزمة عند تناول موضوعات محددة خاصة بالطوارئ الشخصية، مثل تحديد النسل وتوفير حبوب «صبيحة الجماع» لضحايا زنا المحارم والاغتصاب.
وقد أثير موضوع مقدمي الرعاية الصحية الذين يرفضون تقديم الخدمات المتعلقة بالإجهاض مؤخرا في ولاية ماساتشوستس التي تمتلك قانونا «متوازنا نسبيا» يضمن تلبية «الاحتياجات الدينية» لموظفي الرعاية الصحية بصورة معقولة، لكنه في الوقت ذاته يصر على تقديم الخدمات عندما تتعرض صحة المريض أو سلامته للخطر عند رفض العلاج. وأصبح هذا الأمر «موضوعا ساخنا»، حيث أخذ المرشحون السياسيون يقدمون تفسيرات مختلفة للقانون، واكتسح هذا الجدال مجال فضاء المدونات مجتذبا العديد من التعليقات من الجانبين. ومن نماذج مواقف مؤيدي الإجهاض ما يلي: «إذا لم تتمكن من أداء كل مهام وظيفتك بضمير مستريح، فلا تعمل بتلك المهنة.» بالإضافة إلى: «لقد سئمت من قيام حكومة بلادي بإنشاء مجموعات محددة من الناس تمتلك حقوقا لا يشترك فيها الجميع بصورة متساوية.» أما الموقف المضاد فيتمثل فيما يلي: «يجب عليك رفض القوانين والأوامر غير الأخلاقية.» وقد أذيعت بالطبع العديد من التصريحات المتطرفة، لكن حتى في وسط الفضاء الإلكتروني مجهول المصدر المشتعل سعى عدد لافت للنظر من المشتركين إلى إيجاد نوع من التوازن والتوصل إلى حل وسط، حيث قال أحد الساعين إلى التوصل لحل وسط: «يكفي بالنسبة لي التأكد من وجود أحدهم في المستشفى على استعداد لإجراء العملية.» وقال آخر: «رجاء الحوار.» وقال ثالث يبدو كما لو كان ديفيد هيوم: «نحن بحاجة إلى حل نتفق عليه جميعا ولا يسبب سوى أخف الأضرار.»
وقد تناول مقال في جريدة «أوبزرفر» البريطانية بتاريخ 5 سبتمبر 2010 موضوعات مشابهة فيما يتعلق بآراء معالج جنسي رفض تقديم خدمات للمثليين بناء على أسباب تتعلق بالضمير، وتناول واحد ممن أجري معهم التحقيق مسألة السماح للمسيحيين بالتملص من واجباتهم المهنية مدفوعة الأجر لأسباب تتعلق بالضمير الديني بالطريقة التالية:
عندما تذهب للتسوق في المتجر قد تجد العاملين من الفئات التالية: مسلم لا يبيع الكحوليات، وهندوسي لا يبيع اللحم البقري، ويهودي لا يبيع لحم الخنزير، وكاثوليكي لا يبيع وسائل منع الحمل، ومسيحي لا يبيع أي شيء أيام الآحاد، وأحد أفراد كنيسة اسكتلندا الحرة لا يبيع أسطوانات الموسيقى التي تنطوي على محرمات، ونباتي لا يبيع أية منتجات حيوانية، ومعالج بالإيمان لا يبيع أية أدوية.
وتساءل أحد المشتركين الآخرين في التحقيق بلهجة محبطة قائلا: «عندما يسمح بالإعفاءات على أساس «الضمير»، فإلى أين يمكن أن يقودنا ذلك؟» لكن حتى بعد تلك التعبيرات التي تدل على السخط، فإن معظم الناس - وحتى كتاب تلك الخطابات أنفسهم - قد أبدوا على الأقل بعض الاستعداد لقبول بعض المتاعب احتراما لوساوس الضمير من جانب مقدمي الخدمات، حتى عندما لا يؤيدون الآراء المطروحة.
ويؤكد الباحثون عن الحلول الوسط في الحقيقة أن بعض الاحترام واجب لأصحاب الوساوس الدينية أو الأخلاقية طالما هذا الاحترام لا يضر بحقوق المرضى في العلاج الآمن والفوري، أو حقوق العملاء في الحصول على خدمات بديلة في الوقت المناسب؛ أي إن أعدادا ضخمة من الناس على استعداد للإذعان لمواقف لا يتفقون معها - أو حتى قد يختلفون معها بشدة - عندما تتدخل «حقوق» الضمير الفردي في الأمر، وذلك على الأقل إلى درجة معقولة ومحددة. وفي تلك الدرجة من الإذعان يتجلى التقدير الحالي للضمير، بل إنه يتجلى بصورة أوضح لأنه كما في الاعتراض طبقا لما يمليه الضمير على الخدمة العسكرية، تمتد حقوق الرفض المبني على الضمير لأبعد من نطاق الاعتقاد الداخلي فحسب كي تشمل السلوك الفعلي.
والسؤال الآخر الذي يجب مواجهته هو ما إذا كانت القرارات الخاصة بحدود الاعتقاد المبني على الضمير - وخاصة فيما يتعلق بالسلوك - يجب أن تتخذ على أساس مرتجل أم منفصل لكل حالة في منبر الرأي العام، أو سواء ما إذا كان ثمة أساس للتفكير في أن تلك الأشكال من الحماية تستحق أن تمتد كي تصبح حقا قابلا للتطبيق بواسطة القانون المدني أو الجماعي (كما في الاتحاد الأوروبي) أو حتى القانون الدولي (فيما يتعلق بالأمم المتحدة).
الضمير ومشكلة «الحقوق»
يمكن تلخيص المشكلات التي نتجت عن محاولات ترقية حرية الضمير إلى حق واجب النفاذ في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة (والذي أقر عام 1948). ويتضمن هذا الإعلان بندا قويا متعلقا بالضمير، حيث أوضح أن «تجاهل حقوق الإنسان واحتقارها قد أدى إلى ارتكاب أفعال همجية وحشية ازدرت الضمير الإنساني»، وأكد أيضا أن «لكل شخص الحق في حرية الفكر والضمير والدين». وهي بالطبع وثيقة جديرة بالثناء، وعند تطبيقها في منظمات مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش (منظمة رصد حقوق الإنسان) فإنها تمثل قوة كبرى للتحسن في ظروف ضحايا التمييز السياسي والديني، لكنها مع ذلك تترك بعض القضايا الخاصة بالتفسير والتطبيق عالقة.
وتتعلق إحدى تلك المشكلات بقابلية تطبيق مبدأ الضمير ذي الأصول الغربية على نطاق واسع من الظروف الثقافية المختلفة. وتتضح مدى صعوبة هذه المشكلة من خلال مشكلة اللغة نفسها، والخلافات التفسيرية التي تنشأ عندما تترجم تلك الوثيقة إلى 375 لغة مختلفة. وبالطبع فإن كل لغة بشرية بها مصطلحات خاصة بالتقييم الأخلاقي والسلوك القويم، لكن القليل من اللغات غير الأوروبية بها مرادفات دقيقة لكلمة «الضمير» كما تستخدم في الغرب المعاصر. ومن الأمثلة البارزة التي نقلتها لي الأستاذة ليديا ليو أستاذ اللغات والثقافة الشرق آسيوية مثال يخص وضع مسودة الإعلان نفسه:
عندما اجتمعت السيدة روزفلت واللجنة التي شكلتها لوضع مسودة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للأمم المتحدة في أربعينيات القرن العشرين، جرت العديد من المناقشات حول «الضمير». وقد تمكن أحد أعضاء اللجنة المهمين د. بي سي تشانج، وهو كاتب مسرحي ودبلوماسي صيني، من إقناع اللجنة بتبني الفكرة الكونفوشيوسية ليانجزين (النزعة الأخلاقية الفطرية) التي طرحها الفيلسوف منسيوس، ومن ثم فإن المصطلح الإنجليزي
conscience «الضمير» كان في حقيقة الأمر ترجمة لمفهوم ليانجزين الصيني في المادة الأولى من الإعلان وليس العكس!
وتضيف الأستاذة ليو أن إصرار تشانج على التوصل لفهم موحد لليانجزين والضمير كان محاولة لصياغة ما أطلقت عليه «علامة رئيسة» رمزية ومتحررة من مدلولاتها المسيحية الخاصة. ومن الواضح أن أحد الأعضاء الغربيين باللجنة قد جادل جدلا عنيفا ضد اقتراح تشانج سعيا إلى التوصل لفهم للضمير أقرب للفكر الأوروبي والمسيحي. وتشير تلك المناقشة تحديدا التي وقعت أثناء وضع الإعلان إلى التحديات التي ينطوي عليها تطبيق الإعلان، والتي أوجدها استخدام 375 لغة في الوثيقة، والتي تتفرع فيها تفسيرات محلية وتقليدية مختلفة للالتزامات الأخلاقية في طرق ثقافية مختلفة عن النموذج الأوروبي.
شكل 4-2: د. بي سي تشانج من الصين، نائب رئيس اللجنة، يحيي السيدة إلينور روزفلت من أمريكا، رئيسة لجنة حقوق الإنسان، وذلك في الجلسة الأولى للجنة الصياغة الخاصة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ليك ساكسس، نيويورك، 9 يونيو 1947.
2
وإذا وضعنا في الاعتبار تنوع ثقافات العالم واللغات التي تعبر عنها، فإن مطمح التوصل إلى تعريف ومقياس معترف به عالميا للضمير لن يتحقق أبدا، حيث تعتمد مزاعم لعالميته على الإيمان العاطفي الوهمي بالطبيعة البشرية المطلقة المتماثلة في كل العصور والمجتمعات. واستجابة لتلك الافتراضات المطلقة، وخاصة تلك التي صيغت وانتشرت أولا في الغرب، أثار أشخاص من ثقافات مختلفة مجموعة من الاعتراضات، بعضها لغوي كما في الفجوة البسيطة بين الضمير والليانجزين، لكنها ليست لغوية فحسب؛ فاللغة تحدد الثقافة وتتحدد عن طريقها، والبعض الآخر يعود إلى التاريخ السحيق للضمير مستنكرا ارتباطه التقليدي بالقيم المسيحية. أما الاعتراضات الأخرى المنتبهة إلى الميراث الأقرب الخاص بالعقلانية في عصر التنوير فهي تنتقد النزعة إلى الأفكار الغربية المتعلقة بذكر «الحقوق» بصورة عامة ومطالبات الضمير بصورة خاصة نيابة عن الفرد المستقل. وينشأ ذلك القلق خوفا من أن يؤدي فقد التوازن بين الحقوق والحريات الفردية إلى الاستخفاف بحقوق المجتمع ككل - وخاصة تلك الحقوق الجمعية التي تقوم على ممارسات ثقافية أو دينية تقليدية - لكنه يصبح أكثر حدة عندما تسعى البلدان الغربية إلى تصدير أفكارها حول الحريات الفردية وحقوق الضمير إلى البلدان الأخرى. وكما لاحظ آر بانيكار فإن تشريعات حقوق الإنسان غالبا ما ينظر إليها أفراد المجتمعات غير الأوروبية بوصفها تثار «من أجل تبرير انتهاك حرية شخص آخر».
لو افترضنا أننا نعترف بحقيقة مخجلة: وهي أن أي تأكيد لحقوق الضمير يعتمد على الأرجح على مبادئ نسبية تحددها الثقافة وليس على مبادئ مطلقة عالمية مهما بدت مقبولة. لا تختفي تلك المشكلة عندما يضيق مجال النشاط المستند إلى الضمير من الدول والثقافات المتنافسة إلى موضوعات متعلقة بالخيارات الفردية في مجتمع محدد متجانس نسبيا، وأود التأكيد على «التجانس النسبي»؛ وذلك لأن كل دولة أو كيان سياسي أو حتى حي سكني يضم أفكارا ثقافية متفاوتة ومتنافسة تشتق منها مفاهيم مختلفة للسلوك المبني على الضمير. وإذا كانت الدول والثقافات تمتلك وجهات نظر مختلفة في الاختيار طبقا لما يمليه الضمير، فنفس الأمر ينطبق على اللاأدري الغربي والمسلم السني، أو على الكويكري المؤيد للسلام وأحد حاملي السلاح من الجمعية الوطنية الأمريكية للبنادق المناصرة لحقوق حاملي السلاح، حتى عندما يتعايشون جنبا إلى جنب.
وإذا نحينا جانبا مسألة الاختلاف الثقافي، علينا الاعتراف بوجود عقبة أخرى أمام القبول بزعم عالمية الضمير؛ فمهما كان الضمير حسن النية فإنه يخطئ أحيانا، وهو ما فكر فيه القديس توما الأكويني: فهبة الله المتمثلة في التمييز العقلي لا تخطئ، لكن الضمير الذي يجب عليه أن يتخذ قرارات عملية صعبة في العالم يخطئ طوال الوقت، بل إنه يساعد أحيانا على الهرطقة بطريق الخطأ. وفي قصيدة «الفلاح بيرس» التي تعود للعصور الوسطى، يرتكب الضمير الخطأ الكارثي المتمثل في السماح للرهبان بدخول قلعة الوحدة، وينتهي به الأمر مضطرا إلى خوض الطريق باحثا عن الحقيقة وحده. ويتعثر الضمير المعاصر المثقل بالعاطفة والمفسد بالتفسيرات الأخلاقية البرجوازية في المنطق المخطئ والتسويات الأخلاقية. وقد رأينا بالفعل وصف مارك توين المميز لهاكلبيري فين وهو يوبخ نفسه شاعرا بتأنيب الضمير - وإن كان شعورا خاطئا - نظرا لقيامه بمساعدة العبد الهارب جيم. وهناك بالطبع أيضا تلك الأحداث التي لا يقبل فيها الضمير بتسوية مذلة فحسب، بل إنه أيضا يحرض على ارتكاب جريمة ويخطئ الهدف تماما. وقد يجيب المرء قائلا إن تلك الحالات للضمير الخاطئ لا تمثل الضمير على الإطلاق، لكنها مجرد صورة مزيفة خيالية منه، لكن الحقيقة القاسية تتمثل في أن أحكام الضمير ليست صحيحة أو صالحة طوال الوقت، فمن أشهر الأمثلة الصارخة التي لا تحتاج إلى ذكرها والتي خرج فيها الضمير عن السيطرة كما أوضحت هانا آرندت أن النازيين لم يكونوا يعانون من أية مشاكل مع الضمير على الإطلاق، بل إنهم كانوا يعتبرون أنفسهم ذوي ضمير «سليم» أو حي، وهو الضمير الذي - على الأقل من وجهة نظر البعض - وافق على أفظع انتهاكاتهم.
وكثيرا ما تختلط أحكام الضمير مع الخيارات والأفعال الدنيوية التي تستند إلى الضمير، ومن الخطأ الفادح أن نصر على أن كل خلاف يمكن حله ب «ورقة الضمير». وليس هذا انتقاصا من قيمته الأخلاقية، أو الحافز الإيجابي للجدية الأخلاقية الذي تقدمه مطالب الضمير. لكن يفضل أن يعتبر الإصرار على «حق» التصرف طبقا للضمير نقطة بداية للتفاوض وليس محطته النهائية.
تعزيز مطالب الضمير
بناء على مجال المطلب وطبيعته، يحتمل أن تحقق بعض التأكيدات على حقوق الضمير أهدافها أكثر من البعض الآخر. ويعتبر الاعتراف المتعقل بالعجز الذاتي أحد الطرق التي تضمن الالتزام الأمثل بمطالب الضمير، فعندما يؤكد الإعلان أن «لكل شخص الحق في حرية الفكر والضمير والدين»، فهو يشير إلى أمور تتعلق بالاعتقاد الداخلي وليس إلى الإجراءات المتخذة في العالم. ولم يعد هناك من يعترض على حق الفرد في تلك الحرية الداخلية، فعندما أكد جون لوك أن «حرية الضمير حق طبيعي لكل إنسان»، كان يشير إلى حرية الفكر والاعتقاد الداخلي (وليس الفعل)، ويبدو أن هذا التأكيد لا يمكن دحضه اليوم.
لكن حتى تلك المعركة البدائية نسبيا ما زالت في انتظار الحسم. وفي حقيقة الأمر، فعلى الرغم من أن دفاع لوك عن الضمير كان مقتصرا على المعتقدات وليس الأفعال، فإنه قد سمح ببعض القيود الجادة، فهو لم يضع - على سبيل المثال - أية بنود خاصة بالحقوق الطبيعية للمرأة، وأكد على إنكاره لمزايا التسامح الديني الممنوحة للمسلمين والملحدين على حد سواء. وعلى الرغم من أن معتقدات المرء «الداخلية» قد تبدو لأول وهلة أمرا شديد الخصوصية، فإن الدول التي اتبعت سياسة الإكراه قد أثبتت مرارا وتكرارا مهارتها في صياغة أقسام الولاء والطقوس المطلوبة من أجل إبراز تلك المعتقدات والضغط عليها. ويعد المثال الخاص بسلطة الدولة الرومانية التي كانت تطلب من المسيحيين الأوائل تقديم القرابين للآلهة التقليدية حتى تكتشف ميولهم الداخلية مثالا شهيرا على هذا الانتهاك. وفي روايته التي تحمل عنوان «ظلام في الظهيرة»، ألح المؤلف المناهض لستالين آرثر كوستلر في الكتابة عن «المحاكمات الصورية» السوفييتية ونجاح تقنيات الاستجواب السابقة على المحاكمة في تبديد الثقة بالنفس عن طريق مهاجمة أسس الاعتقاد المستقل. وما زال الاعتراف والإنكار تحت الإجبار منتشرا في المجتمعات المعاصرة، وهو يمارس حاليا في إيران وكوريا الشمالية ودول أخرى معادية للمعتقدات الخارجة عن المألوف. ونتيجة لذلك، ما زالت حتى أبسط الحقوق الخاصة بالاعتقاد الشخصي موضع خلاف بصورة أخطر مما يتصوره البعض، وما زال الدفاع عنها يتطلب حذرا مستمرا.
لكن الاختبار الحقيقي لمبادئ الإعلان يكمن في الخطوة التالية: عندما تجلب حقوق الضمير إلى نطاق السلوك العام (في مقابل السلوك الخاص المحض). وعلى الرغم من أن القليل يعترضون على الحق المطلق للفرد أو الجماعة في الاعتقاد طبقا لما يمليه الضمير، فإن الأفعال المرتكبة طبقا لما يمليه الضمير تثير مشكلات أكثر تعقيدا؛ فالأفعال تؤثر على الآخرين؛ وبناء على هذا التأثير قد لا يمكن اعتبار الفعل حقا قابلا للتطبيق.
وفور قيامنا بتوسيع مفهوم الحقوق التي تعتمد على الضمير كي تشمل السلوك، علينا أن نواجه المشكلات التي تنشأ عندما تتعارض أفعال المرء التي يقوم بها طبقا لما يمليه ضميره مع حريات الآخرين وحقوقهم. وقد كان هذا الموضوع دائما حاضرا بدرجة أو بأخرى في المناقشات حول الضمير. وقد تم التركيز عليه في وقت مبكر في كتاب ويليام تينديل الذي يحمل عنوان «طاعة رجل مسيحي» (1528) الذي يدافع فيه عن استسلام المسيحي لسلطة العامة مضطرا «بدافع من ضميره أولا ... [و] ثانيا بدافع من ضمير جاره»، موضحا أن الضميرين متبادلان، وأن الأعمال التي ترتكب (أو تهمل) فيما يتعلق بأوامر الضمير لها تأثير حتمي على ضمائر الآخرين. وبالطبع فإن حقوق أي فرد لا يمكن أن تمتد إلى ما لا نهاية دون أن تتصادم مع حقوق الآخرين من ذوي الميول المعارضة، مما يؤدي إلى خلق صراع في المجتمع ككل. وإذا كانت مبادئ الضمير ستمتد من نطاق الاعتقاد الخاص إلى نطاق السلوك العام، تتمثل المهمة في اكتشاف مبادئ تحظى بالإجماع عن طريق الموازنة بين الحد الأدنى من احتياجات الحرية الفردية مع احترام مسئولية كل مجتمع (بما في ذلك المجتمعات الأخرى بخلاف مجتمعنا) تجاه حماية الصالح الجماعي لأفراده.
عرف هنري شو - الباحث في حقوق الإنسان والقانون الدولي - حقوق الإنسان تعريفا مفيدا فقال إنها «الحد الأدنى من المتطلبات المعقولة المفترض على البشرية تقديمها لكل فرد». ويؤكد هذا التعبير المتوازن توازنا ذكيا على حقوق الفرد، لكن مع وجود شرطين أساسيين؛ أولا: أن تكون المتطلبات «معقولة»؛ بمعنى أن تجتاز اختبار «المنطق» مما يحد من التزامنا بالإذعان للمطالب المتعصبة أو غير العقلانية التي بنيت على المصلحة الأنانية أو الوحي الإلهي المتخيل، من النوع الذي وصفه لوك بأنه «ينتج عن غرور عقل مزهو بنفسه». وثانيا: إذا كانت عملية الإصرار على المتطلبات سوف يترتب عليها القيام بعمل يؤثر على العالم (ولن تقتصر على حرية الفكر الشخصي)، إذن يجب ألا تقتطع تلك المتطلبات من حقوق الآخرين - يجب ألا تسبب ضررا، كما يقول ميل.
شكل 4-3: صعوبة فهم الضمير: رسم كاريكاتوري بعنوان «حسنا ، جيميني الليبرالي !» لمارتن روسون، بصحيفة الجارديان، 10 مايو 2010.
3
أما عن مسألة المعقولية، فلا ريب أن مطالب الضمير تحقق نجاحا هائلا عندما تتصل بصورة واضحة بأمور تتعلق بالاعتقاد المشترك. فنحن نتعرض لأصعب الاختبارات لإيماننا بالضمير - كإيماننا بكل الأمور المتعلقة بالحقوق والحريات المدنية - عندما نجد أنفسنا مطالبين باحترام مطلب شديد الغرابة. لكن الأصل الاشتقاقي لكلمة الضمير
con + scientia (أو المعرفة المشتركة) طالما أشار إلى أن أهم نقاط قوته تكمن في علاقته بالميول المشتركة للمجتمع الأكبر، وهي نفس وجهة النظر التي طرحها توماس هوبز في كتابه «اللوياثان» (1651) المتمثلة في أن الضمير يجب أن يكون جمعيا تماشيا مع أصله الاشتقاقي وليس مجرد مجموعة من الأفكار الفردية السرية. وسعيا للتوصل إلى أساس جمعي للضمير، استقر هوبز على المبدأ القائل إن «القانون هو الضمير العام الذي تعهدت [الحكومة] بالفعل أن تسترشد به». وعلى النقيض من هوبز، يقدم لنا التاريخ المعاصر أمثلة (في الهند والجنوب الأمريكي وجنوب أفريقيا وميدان السلام السماوي) كان فيها العصيان المدني في مواجهة قانون فاسد يبدو عملا فاضلا، وفي تلك الحالات كان الضمير اليقظ مفيدا في تحدي القانون الفاسد. وهكذا فقد عدل لوك وآخرون على نحو مفيد من موقف هوبز عن طريق تذكيرنا بأن القوانين التي تتعارض مع الضمير الشخصي يمكن عصيانها من قبل الأشخاص المستعدين لتقبل عقوبة مدنية ثمنا للعصيان القائم على مبادئ، واضعين بذلك أحد الأركان الأساسية المهمة في ممارسات العصيان المدني. ومع ذلك فإن اقتراح هوبز بأن يشكل القانون «ضميرا عاما» يعد اقتراحا مهما من حيث إشارته إلى أن الضمير الشخصي يعمل بأفضل صورة عندما يجد نقطة اعتقاد مشتركة.
ولما كانت سلطة الضمير تدعمها مؤشرات الدعم العام كالقانون أو الدين الرسمي أو حتى الرأي العام أو «المنطق السليم» المحض، فسوف يظل الضمير مستحقا موقعه المركزي في مناقشاتنا الأخلاقية. أي إنه ما دام الضمير يستمد حيويته من المبدأ الإيثاري ويكرس نفسه لصالح الجميع، فسوف يستحق موقعه المركزي في حياتنا. لكن استخدام التعبير الشرطي «ما دام» هو الخدعة هنا، فالقول إن الضمير سوف يزدهر إذا تلقى دعما من العقل أو القانون أو المنطق السليم يعني كل شيء ولا شيء في الوقت ذاته. ومهما كان الضمير جديرا بالثناء، فهو في هذه الصيغة ما زال يقوم بدور الحجر في حساء الأحجار: فالحجر مضافا إليه بعض الجزر والبطاطس والبصل سوف يكون مرقا لذيذا، تماما كما ينتصر الضمير مضافة إليه المبادئ المتفق عليها والفكر الجلي. فإذا كان الضمير لا يملك مضمونا خاصا به ويعتمد على المنطق السليم والمعرفة الجمعية لتكملته أو حتى لإعطائه هويته نفسها، ألن يتلاشى ببساطة إذن وجوده كقوة مستقلة في العالم؟ وما الذي يتبقى ثابتا ومهما بشأن الضمير نفسه؟ وما الدور الذي يتبقى له كي يقوم به؟
سوف أعود إلى الدور الأساسي للضمير للحصول على إجابة، وتحديدا إلى الصلة الوثيقة بين الضمير والإقناع. وقد بدأ هذا الفصل بأمثلة يعد احترام الضمير فيها مهما في إقناع الأشخاص غير الملتزمين بشيء غير الضمير بمنح إجازة في «قضايا الضمير» التي تتضمن الخدمة العسكرية والمهن الطبية. ومع ذلك، يعد الضمير أيضا فعالا بشدة في صورة أخرى من الإقناع، وهي إقناع الذات ألا تؤمن بالمعتقدات فحسب، بل أيضا أن تعمل طبقا لها.
ما فائدة الضمير؟
في أفضل حالات الضمير وأنجحها، فإنه لا يحض على محاولة تهذيب الاعتقاد أو يفعلها فحسب، بل إنه أيضا يترجم الاعتقاد إلى فعل والتزام. ويعد الضمير فعالا في جبهتين على نفس القدر من الأهمية: حث الفرد على تحديد معتقداته بشأن السلوك القويم، ثم على نحو شديد الأهمية تطبيق تلك المعتقدات على المواقف الطارئة. وقد وصف القديس توما الأكويني هذا الجانب العملي من الضمير بذكاء في كتابه «الخلاصة اللاهوتية» الذي يرجع تاريخه للقرن الثالث عشر.
يميز توما الأكويني بين فهم القانون الأخلاقي والضمير، ملاحظا أنهما كثيرا ما يخلط بينهما. وهو يصف فهم القانون الأخلاقي بأنه ملكة غريزية أو عادة فطرية تقنعنا بالخير وتقصينا عن الشر، وهو يتجسد في الأشياء «المعروفة بطبيعة الحال دون أي بحث من جانب العقل كما لو كانت مشتقة من مبدأ راسخ». والضمير لا يعلم الأمور أو يدركها فحسب، لكنه يتعلق بالتطبيق، وتحديدا تطبيق المعرفة على حالة محددة. ويستمر توما الأكويني، واصفا الضمير بصفات مألوفة مثل كونه قوة محفزة، وموضحا أنه يشرع في العمل في تقييم الخيارات والأفعال الشخصية: «يقال إن الضمير يشهد على صاحبه أو يلزمه أو يحثه، وهو أيضا يتهمه أو يعذبه أو يوبخه، وكل ذلك يتبع تطبيق المعرفة على ما نقوم به.» ولست مهتما الآن برأي توما الأكويني الخلافي القائل إن فهم القانون الأخلاقي أمر فطري (وهو ما أشك فيه شخصيا)، لكنني أكثر اهتماما بوصفه للضمير بأنه يتعلق بتطبيق المبادئ المعروفة على المواقف الواقعية. فمن وجهة نظره يرتبط الضمير ارتباطا وثيقا بالأفعال التي يقوم بها المرء، بل إنه قد يوصف بأنه نائم حتى يطلب منه تقييم الخيارات أو الأفعال التي يعتزم المرء القيام بها أو التي قام بها بالفعل. وهكذا يستدعى الضمير في المواقف الفعلية عند وجوب اتخاذ القرارات، ويخصص له دور شديد الأهمية في جوهر الخيار المستنير بالمبادئ الأخلاقية.
وهكذا فإن الضمير يقوم بدور جسر مهم بين الاعتقاد والفعل. افترض أن أحدنا لديه رأي صائب، وربما تظن أنت أن رأيك وحي إلهي، بينما أنا كونت رأيي على الأرجح من مقاطع «دونزبيري» الهزلية أو من الإذاعة العامة الوطنية أو من مجلة «لندن ريفيو أوف بوكس». لكن مسألة أصل الرأي تلك أقل أهمية من الفعل، ومما إذا كنت أنت أو أنا سنحول رأينا إلى فعل، وتلك هي مهمة الضمير: الإقناع والتأثير على الرأي والتهديد إذا لزم الأمر، لكن في كل الأحوال التأكد من القيام بالفعل الصحيح. فالنوايا الحسنة، إذا ما احتفظ بها بسلبية في العقل، فلن تفضي إلى استجابة نابعة تماما - أو كما ينبغي - من الضمير.
ويتناول مؤلف كتاب صدر حديثا حول موضوع «الحقوق» مجموعة من الانتقادات القوية، منها نسبية الضمير الثقافية المزعومة ومحاباته المهيمنة للغرب وصعوبة إصدار الأحكام النابعة من التعارض في الادعاءات المبنية على الحقوق. لكنه (بنبرة متحيرة قليلا) يعترف «بأن لديه اعتقادا بأننا بحاجة إلى القليل من حقوق الإنسان الآن ». ونفس الشيء ينطبق على الضمير، فهو مفهوم مطاطي، وهو لا يتمتع بمجموعة فريدة من المبادئ أو بمحتوى ثابت خاص به وحده. فمطالبات الضمير الخاصة بمن نختلف معهم قد تكون بالنسبة لنا ضارة أو حتى هدامة. ومع ذلك، فنحن جميعا في حاجة إلى بعضها. ولا أعلم أي شخص يرغب في الحصول على قدر أقل منها سواء لنفسه أو لغيره. وبالطبع فإن الشخص الذي يصيبه جنون مؤقت قد يرتكب عملا وحشيا باسم الضمير، وتلك الانحرافات لا يمكن تجنبها تماما. لكن إذا اعتبرنا الضمير هو مبدأ الاستياء الذي يحث على العمل بناء على أساس من الاعتقاد، والذي لن يسمح لنا بالراحة حتى تتم مهمته، فعلينا أن نسلم بضرورة وجود المزيد منه في العالم.
أقوال توما الأكويني حول الضمير بوصفه «معرفة تطبيقية»
يدل الضمير طبقا لطبيعة الكلمة ذاتها على علاقة المعرفة بشيء ما: نظرا لأن كلمة ضمير أو
conscience
بالإنجليزية يمكن تحليلها إلى
cum alio scientia ؛ أو تطبيق المعرفة على حالة فردية ...
ويتضح نفس الشيء من الأمور التي تنسب للضمير، حيث يقال إن الضمير يشهد على صاحبه أو يلزمه أو يحثه، وهو أيضا يتهمه أو يعذبه أو يوبخه. وكل ذلك يتبع تطبيق المعرفة أو العلم على ما نقوم به، وهو التطبيق الذي يتم بثلاث طرق: أحدها بقدر ما ندرك أننا قد قمنا بشيء أو لم نقم به؛ «ضميرك يعلم أنك كثيرا ما تحدثت بالسوء عن الآخرين.» (سفر الجامعة، الإصحاح السابع، الآية 23)، وطبقا لذلك يقال إن الضمير يشهد. وبطريقة أخرى، بقدر ما نحكم من خلال الضمير أن أمرا ما يجب أن يتم أو يجب ألا يتم، هكذا يقال إن الضمير يحث الإنسان أو يلزمه بأن يفعل شيئا ما. أما الطريقة الثالثة، فبقدر ما نحكم من خلال الضمير أن أمرا ما قد أنجز جيدا أو على نحو سيئ، هكذا يقال إن الضمير يبرر لصاحبه أو يتهمه أو يعذبه. والآن يتضح أن كل تلك الأمور تتبع التطبيق الفعلي للمعرفة على أفعالنا. («الخلاصة اللاهوتية»، الجزء الأول، المسألة 79، المادة 13)
هوامش
الفصل الخامس
صوت الضمير: هل ما زال مسموعا؟
من الصعب تصديق أن أسوأ الرجال قد يرتكبون أسوأ الأفعال دون أي إحساس أو ندم داخلي، وهو صوت ضمائرهم؛ لكن من السهل الاعتقاد بأنهم يخمدون هذا الصوت ويتخلصون منه، وأنهم باعتياد ارتكاب الإثم قد يصيبهم الصمم بحيث لا يتمكنون من سماع هذا الصوت الضعيف. (إدوارد، إيرل كلاريندون، «عن الضمير»، 1670)
صوت الضمير
نشأ الضمير في التراث الشفهي للقضاء والمرافعات في المحاكم الرومانية، واحتفظ بصفة المداخلة الشفهية. ففي مقابلة أوغسطين الأولى مع ضميره والتي تمثل سابقة، كانت مسألة استماعه إلى صوته لها تأثير كبير عليه. دعنا نعد للحظة إلى تلك الفقرة شديدة الأهمية:
لقد أتى اليوم الذي يجب أن أتجرد فيه أمام نفسي ويتمتم ضميري بداخلي قائلا: «أين لساني؟ صحيح أنك قد ظللت تؤكد أنك لن تلقي عبء الكبر لأجل حقيقة غير مؤكدة. لكن انظر، فالأمور الآن مؤكدة، ومع ذلك ما زلت مهموما بنفس العبء ...»
لا تقدم لنا هذه الفقرة الضمير بوصفه صوتا فحسب، بل إنها أيضا تصف الضمير وهو يحث نفسه، أي إنه حرفيا يكتشف صوته. وقد استخدم أوغسطين في عبارته كلمة
increpare
اللاتينية التي من معانيها «الحفيف»، وفي هذا السياق تعني «يهمهم» أو «يتمتم». وليس هذا الحراك الأول للضمير حديثا منمقا متطورا قدر ما هو حديث متلعثم أو نوع من التمتمة التي تسبق الحديث، ثم تأتي جملة «أين لساني؟» حيث يطالب الضمير بالحق في التعبير عن نفسه. وتبرز أهمية الحديث بالنسبة لاكتشاف الضمير لذاته في النزاع على ما إذا كان أوغسطين يملك لسانا أم لا. وقد قام أحد المترجمين بترجمة هذه الجملة من اللاتينية إلى «أين لسانك؟» بدلا من «أين لساني؟» والالتباس هنا مفهوم بالطبع. وإذا جاز التعبير، إذا أراد الضمير أن يجعل تأثيره ملموسا فإن عليه أن يضمن حصوله على حق الحديث وأدواته من مكان ما خارج نطاق خبرة أوغسطين المباشرة.
يؤكد الضمير بقوة على حقه في الحديث، وأنه لن يحرم منه، ومع ذلك فهو يتحدث بوصفه صديقا ومستشارا وليس مغتصبا أو متنمرا، وهو يعبر عن كلماته داخليا ويظهر تأثير هذه الكلمات أيضا داخليا. وتبدو صلته الحميمة بصاحبه واضحة في اختياره مخاطبة أوغسطين بضمير المخاطب المألوف باللاتينية
tu
بدلا من الضمير الرسمي الجاف
vos . وعلى الرغم من كل تلك الحميمية فإن الضمير لا يتنازل عن أدوات البلاغة وتقنيات الإقناع الشفهي، فهو يستفيد من بعض التقنيات كالتهكم والمحاكاة الساخرة - أو كليهما في آن واحد - عن طريق إعادة التلفظ بعبارات أوغسطين المميزة بنبرة ساخرة؛ حيث يضع الفعل «سوف تقول» في الزمن الذي يشير إلى تكرار الأفعال في اللغة اللاتينية ليعني بها «أنت تقول دائما»، ثم يكرر أحد مراوغات أوغسطين العبثية حول انتظار اليقين قبل اعتناق الدين الجديد بنبرة صوته الخاصة.
تحتاج شخصية ضمير أوغسطين الناضجة إلى صوت ناطق كي ينقل انفعاله الغاضب ونفاد صبره وحميميته وإلحاح رغباته الإصلاحية، وهكذا فقد استفاد الضمير مرارا وتكرارا من صوته وتعبيره على مدار مسيرته الطويلة المقنعة المؤثرة.
وفي ثقافة أخرى ولاحقة، ومدفوعا بسلطة دينية مختلفة (الآن بروتستانتية)، نجد الضمير يخاطب شخصية روبنسون كروزو التي ابتكرها الكاتب دانييل ديفو. فعندما سيطرت عليه الحمى واليأس، اعترض كروزو على المعاملة التي يتلقاها من الله وتلقى إجابة حاسمة:
أنبني ضميري الآن ... وظننت أن صوته يخاطبني قائلا: «أيها التعس! أتسأل عما فعلت؟ انظر للوراء إلى تلك الحياة البغيضة التي ضيعتها واسأل نفسك عما لم تفعله.»
ويصدم هذا الصوت كروزو ملقيا به في حالة نفسية جديدة، وسوف يتمالك نفسه في نهاية الأمر عن طريق علاج وصفه لنفسه يتكون من تناول التبغ وقراءة الإنجيل. وإذا نحينا الاختلافات الثقافية جانبا، فما زال هذا الضمير يشترك في خصائص عديدة مع ضمير أوغسطين، فضمير كروزو على نفس القدر من التوبيخ والإلحاح، وهو يخبره بما يعلمه بالفعل لكنه ظل يتجاهله حتى أصبح واجبا أن يصدم بمعرفته. ويدفع هذا الضمير كروزو في اتجاه بحث روحاني كان قد بدأه بالفعل، ومن تلك الناحية يبدو أنه امتداد لأفكاره الخاصة أو لملكة عقلية كائنة فيه. وفي الوقت ذاته فهو يعلم أشياء لا يعلمها صاحبه ويتحدث بقوة ما كان كروزو وحده ليتمكن من استجماعها. ومن تلك الناحية فالضمير يحتل نفس موقع القوة الذي كان يحتله مع أوغسطين؛ حيث يمزج بين وعي دائم بالموقف وفهم مستمد من الخارج لما يجب فعله حياله.
ويتضح هذا الغموض في إجابة كروزو: «أصابتني تلك الأفكار بالخرس كالمشدوه، ولم أستطع أن أتفوه بكلمة، كلا، ليس من أجل التبرير لنفسي، بل نهضت حزينا مستغرقا في التفكير ...» ولدينا هنا موقف مشابه للصراع بين أوغسطين وضميره على ما إذا كان يملك لسانا، وهو موقف حواري تطلب فيه «نفسي» إجابة من «نفسي»، حيث يتحدث أحد الطرفين في حقيقة الأمر باسم كروزو القديم أو المعتاد ويتحدث الآخر باسم بزوغ الوعي الجديد (والذي يحتمل على الأقل أن يكون كثير المطالب). ويؤدي الضمير دور الذات الثانية التي تشبه كروزو لكنها ذات التزامات مختلفة أكثر تأكيدا وتتحدث بصوته الخاص، لكنه صوت غيرته مسئوليات التبشير والهيمنة.
وفي مثال أحدث من ذلك تقدم قصة روبرت لويس ستيفنسون القصيرة التي تحمل عنوان «ماركهايم» ضميرا وضعه أكثر غموضا، فهو لم يعد مفوضا مباشرة من الله، بل إنه قد يكون قادرا على ارتكاب القليل من الأذى الشيطاني، لكنه ما زال ضميرا ذا خصائص سوف نتعرف عليها. ويقبل ستيفنسون بافتراض الضمير ذاتا ثانية أو بديلة، لكنه يطور تلك الفكرة قليلا عن طريق منح هذه الذات ليس فقط صوتا، بل أيضا مظهرا خاصا بها حتى وإن كان مؤقتا. وبطل القصة قاتل يقابل بعد أن ارتكب جريمته طيفا غريبا يشبهه ولا يشبهه في الوقت ذاته:
وقف ماركهايم وحدق فيه بعينين مفتوحتين. ربما كانت هناك غشاوة على بصره، لكن هيكل القادم الجديد بدا كما لو كان يتغير ويرتعش مثلما تفعل هياكل التماثيل في ضوء الشموع المتراقص في المتجر. أحيانا كان يظن أنه يعرفه، وأحيانا أخرى كان يظن أنه يشبهه، ودائما كان يكمن في صدره ككتلة من الرعب الحي اعتقاده بأن هذا الكائن ليس من الأرض وليس من الله. ومع ذلك، كان هذا الكائن يبدو مألوفا بشكل غريب وهو يقف ناظرا لماركهايم وقد ارتسمت البسمة على شفتيه.
ومثلما في حالة ضمير كل من أوغسطين وديفو، يرتبط هذا الطيف بعلاقة حميمية مع ماركهايم، فهو بمثابة ماركهايم آخر، لكنه منفصل عنه أيضا على نحو ما. وبينما يصارع أوغسطين للحصول على ملكية لسانه، ويجد كروزو نفسه في جدال مع نفسه، يتوهم ماركهايم وجود طيف مشابه يرغب في الحوار معه، طيف خارق للطبيعة «شبيه» به يخاطبه بصوت يشبه صوته على نحو مخيف. لم يكن ستيفنسون أول من ابتكر ضميرا متحركا متحدثا، فالضمير شخصية بارزة في بعض القصائد التي ترجع للقرون الوسطى مثل قصيدة ويليام لانجلاند التي تحمل عنوان «الفلاح بيرس»، وهو يظهر على خشبة المسرح باسمه في المسرحيات الأخلاقية التي كانت تعرض في القرن الخامس عشر والسادس عشر. وفي كل تلك الأمثلة، يمتلك الضمير موهبة الخطاب الإقناعي.
يحاول ماركهايم في بداية الأمر أن يمنع زائره المزعج من الاقتراب، وهو رد فعل معتاد، فالضمير غير مرحب به تماما عند ظهوره، فهو لا يجلب وعيا ذاتيا ومعرفة جديدة فحسب، بل إنه يجلب معه أيضا مسئوليات شاقة.
صاح ماركهايم قائلا: «أنت تساعدني؟ كلا، أبدا، ليس أنت! أنت لا تعرفني بعد، حمدا لله أنت لا تعرفني!» وأجاب الزائر قائلا بنوع من الحدة أو الحزم الممتزج بالحنان: «بل أعرفك، وأعرف دخيلتك جيدا.»
يرتكب ماركهايم الخطأ المتمثل في الدخول في حوار مع شبيهه، وينتج عن ذلك أنه يقتنع بالاعتراف، وهو اعتراف قد يكون في مصلحته أو لا. وعند اعتراف ماركهايم تنتهي مهمة الشبيه، فيختفي ويتلاشى تماما، ويترك القارئ كي يتساءل عن نواياه الأصلية نيابة عن البطل:
بدأت ملامح الزائر تخضع لتغير رائع جميل: فقد أشرقت وزادت نعومة وغمرتها فرحة النصر الممزوجة بالحنان، وفي اللحظة نفسها التي أشرقت فيها بهتت وتلاشت.
يعد ستيفنسون أقل تأكدا أو ثقة من أوغسطين أو ديفو في تقديره للضمير والولاء المنقسم أو المهمة المزدوجة التي يلتزم بها الضمير، فحديث ضمير ماركهايم حديث مغر لا يحاول إقناعه بالخلاص قدر ما يعد نوعا من العقاب الذاتي، لكنه يقوم بذلك بالكلمات وبالحديث الإقناعي.
وعلى الرغم من أن تلك الأمثلة الثلاثة تختلف كثيرا في فحواها، إلا أن كلا منها يتضمن شخصا في موقف خطير مستعد لاتخاذ قرار حاسم جديد، سواء الاهتداء في الحالتين الأوليين أو الاعتراف في الحالة الثالثة. وهكذا يمكننا أن نتحدث عن «زيارة» الضمير التي يقوم فيها الضمير بدور شخص آخر يملك معرفة خاصة أو «مطلعة» على المأزق الذي يمر به البطل. فمنذ بضعة عقود كتب برونو سنيل كتابه العبقري «اكتشاف العقل» الذي أبدى فيه ملاحظة ثاقبة بأنه عندما كان الإغريق القدماء يحتاجون إلى تفسير أحد التغيرات الكبرى في وجهة النظر أو تبني قرار جديد، كانوا يميلون إلى الاستعانة بزيارة خارجية من إله أو أي وسيط خارجي آخر - وسيط مطلع على الموضوع الحالي، لكنه أيضا لديه معلومات جديدة أو بصيرة نافذة أو مجموعة من المطالب المعدلة - وكانت نتائج تلك الزيارة إما حوارا يغير الرأي أو فرصة لإقناع الشخص المتردد أو الحائر بتغيير وجهة نظره. فقد تزور ربة الشعر على سبيل المثال أحد الشعراء كي تخبره بمادة جديدة أو مصدر جديد للإلهام، أو قد تقنع إحدى الآلهة تيليماخوس بالبحث عن والده. لدينا الآن العديد من اللغات الجديدة للعمليات النفسية التي لم تكن متاحة لدى الإغريق القدماء، بما فيها الصراع بين الروح والجسد في القرون الوسطى المسيحية أو الصراع الداخلي، والتحليل الذاتي والانعكاس لحركة الإصلاح الديني، والوعي الفرويدي بالدوافع غير المعترف بها. لكن الوصف الأقدم للعمليات العقلية يظل متاحا أيضا، وتتمتع خطابات الضمير بشبه واضح مع أكثر نماذج التفسير النفسي احتراما، والتي يتلقى فيها الشخص الذي يواجه مأزقا لا حل له زيارة من محاور مميز.
وما زال السؤال عالقا: لماذا يعبر عن زيارات الضمير في صورة أحاديث مباشرة؟ فكل من تلك الأمثلة الثلاثة يقدم الضمير بوصفه كيانا «حديا»، أي إنه يعمل في الداخل والخارج في آن واحد ويمتلك درجة مدهشة من المعرفة الداخلية والخارجية. وهكذا فإن الضمير يعمل مراقبا-مشاركا؛ حيث يتوسط بين النفس والعالم. والحديث هو الأداة المناسبة للقيام بدور الوساطة هذا ، فالوساطة بين النفس والآخر بالطبع هي المهمة الأساسية للحديث ذاته. وعندما نتحدث فإننا نقوي أنفسنا، حتى ونحن نستخدم اللغة لعرض تلك النفس على العالم. ويعد الفعل اللغوي نفسه ملكية عامة، يعبر الفجوة بين الداخل والخارج أو بين المتحدث والمخاطب. وكما قال الفيلسوف الألماني هيجل في مؤلفه الذي يحمل عنوان «علم ظواهر الروح» (1807):
الحديث هو الوعي بالذات الذي يبقى لدى الآخرين ... إنه الذات - وقد قسمت نفسها إلى قسمين - التي تصبح موضوعية حيال نفسها ... محافظا على نفسه كتلك الذات بقدر ما يندمج في الحال مع الآخرين ويصبح وعيهم بذواتهم.
يمكننا تطبيق وصف هيجل للحديث بأنه «الوعي بالذات الذي يبقى لدى الآخرين» بنفس الدقة على الضمير وكل ما لاحظناه عنه حتى الآن. فالضمير - كالحديث نفسه - يربط بين الذات الخاصة والعامة. لذلك، فإن الحديث هو الوسط الطبيعي للتعبير عنه.
وتكمن العديد من التعقيدات التي تحيط بالضمير في اعتماده على الحديث واللغة، فاللغة ملكية خاصة وملك للآخرين في الوقت ذاته. وإذا دخلنا عالم اللغة فنحن ندخل وسطا ذا تاريخ وبيئة ذات ميول متوارثة لا نستطيع التحكم فيها تماما. فالكلمات على سبيل المثال يسبق وجودها وجود الاستخدامات المحددة التي نضعها لها، وهي غالبا ما تملك معاني متضمنة لا تتأثر بأغراضنا. ويمكن مقارنة المعنى الذي تخدم به اللغة استخداماتنا - وإن كان ذلك مؤقتا وبشكل غير كامل نظرا لأنه يخدم سادة آخرين في الوقت ذاته - بموقف الضمير الذي يخاطب الاحتياجات والرغبات لكن باستقلال مزعج. وفي إدراكه الخاص لتلك القناة التواصلية بين الداخل والخارج - أي التقدير الخاص والتقييم العام - قد ينظر للضمير بوصفه حالة خاصة من الحديث نفسه: حديث داخلي يخدم سيدين - إذا جاز التعبير - وهما الذات والآخر. وبناء على ذلك فهو يظل أداة فعالة لإدراك الذات، لكنه أيضا قوة عنيدة لا يمكن التنبؤ بأفعالها.
صوت ضعيف؟
في العقود المضطربة التي شهدها القرن السابع عشر، كتب إدوارد، إيرل كلاريندون (في الاقتباس الذي ذكر في مطلع هذا الفصل) مشيرا إلى أن الضمير قد يستمر في الحديث لكن بصورة ضعيفة أو واهنة. وقد يختفي صوت الضمير بطرق مختلفة، أحدها أن يسقط فريسة للعادة («عادة ارتكاب الخطيئة» كما يقول كلاريندون) أو الاستسلام المتكرر للنزعات المعارضة. بل الأسوأ من ذلك هو الشك، الذي يتضح في طريقة تناول ستيفنسون لضمير ماركهايم، في أن الضمير قد يكون غير جدير بالثقة أو فاسدا أو أن نصائحه تصطبغ بمصالح أخرى. وكان الضمير دائما واثقا من نفسه، لكن ضمير ماركهايم شديد الوعي والفصاحة والخدمة لمصالح الآخرين بدلا من مصلحته الخاصة، وصوته هو صوت الحية الخبيث المغوي في الجنة أو صوت الشيطان وهو يغوي المسيح، صوت يغزو أفكار ماركهايم بطريقة تؤدي به إلى تدمير ذاته.
وتعد السخرية والولاء المشكوك فيه خصائص تشترك فيها تجسيدات متعددة للضمير في وسائل الإعلام الجماهيرية، وهي ضمائر تغوي وتشمت وتهدد بتدمير أصحابها بطرق أخرى. وأنا أعتقد أن هذا مثل «تأثير لامونت كرانستون»، وهو برنامج إذاعي كان يبث أيام طفولتي وكان يقدم شخصية كرانستون «الظل»، وهو شخصية معاصرة تجسد الضمير، وكان شعاره «من يعرف ما الشر الذي يكمن في قلوب البشر؟ الظل يعرف!» ويعقبه ضحكة ساخرة. وبالطبع كان الظل هو صاحب الموقف الأقوى؛ حيث كان ضحايا سخريته (مثل ماركهايم) من الآثمين بلا ريب. لكن شيئا ما في الابتهاج الخبيث للضمير كان ينفي أن يكون هدفه تعزيز الكمال الأخلاقي. والظل بدوره له العديد من النسخ المقلدة في فئة أفلام الرعب الخاصة بالمراهقين والتي يتحدى فيها شخص غير مرئي أو متنكر ضحيته ساخرا بشيء من قبيل «أعلم ما فعلت» أو تحديدا «أعلم ما فعلت الصيف الماضي». ويمتلك الصوت الذي يتحدث من موقع قوة خارج الذات - لكنه ذو معرفة غير عادية بالذات - موهبة خاصة في إحداث الدمار والمتاعب الشخصية. وفي حين أنه يعلم عنا كل شيء، فهو يظل بمعزل عن مخططاتنا الهادفة للمصلحة الشخصية دون أية مبررات. وهكذا يمكن لإحدى الخصائص الدائمة للضمير - وهي أنه غير محبوب ولا يمكن رشوته أو شراؤه وأنه يظل بمعزل عن الأشخاص الذين يهتم بهم - أن تفسر تعطله الجزئي إلى حد ما.
ويستمر الضمير في عمل ما كان يعمله دائما، وعلى مستويات ثقافية متنوعة، لكنه أصبح يحظى باحترام أقل. وما زال نداؤه مسموعا، لكن حديثه غالبا ما يبدو خافتا أو غامضا أو فارغا من المحتوى الأخلاقي المقنع الذي يستحق الإعجاب. وفي أوساط فلسفية محددة ما زال الضمير يملك صوتا ونداء، لكنه لا يستطيع الفرار من الشك في أن نداءه فارغ: فهو نداء من الذات للذات، للوعي الذاتي - كما كان الأمر دائما بطريقة ما - لكنه الآن نداء محاصر داخل الذات بطريقة ما، ولا تسمعه إلا الذات، وهو مجرد من أنواع المضمون الواضح التي بوسعها أن تضمن قوته وأهميته الاجتماعية. وفي النظام الخاص بفيلسوف القرن العشرين مارتن هايدجر، يعد نداء الضمير فارغا بطبيعته، فهو أكثر اهتماما بالتمييز الذاتي للذات عن العامة من اهتمامه بأي مضمون أخلاقي مميز: «يوقظ الضمير الذات من ضياعها في الآخرين.» ويدعو نداء الضمير الذات إلى الوعي الأخلاقي، ومع ذلك يظل غير محدد فيما يتعلق بمضمون هذا الوعي (وربما كان ذلك ملائما للمعضلة التي تواجه مهنة هايدجر سيئة السمعة).
ويمثل صاحب الضمير المهووس بذاته اليوم - والذي يمكننا أن نقول إنه من أتباع مذهب هايدجر - شخصية كلامانس في رواية كامو التي تحمل عنوان «السقوط» (1956)، وهي شخصية وصفها كامو في مكان آخر بأنها «نموذج دقيق لضمير نادم». ويتشكل ضمير كلامانس بسبب «صرخة» أطلقتها امرأة تلقي بنفسها في نهر السين، وهي صرخة «انتظرتني حتى اليوم الذي قابلتها فيه» و«كان علي أن أخضع لها وأعترف بذنبي». وهي صرخة لم يكن كلامانس في بداية الأمر قادرا على الاستجابة لها، والآن يمنعه عجزه عن الاستجابة لها - حتى معرفة من أين صدرت أو ماذا تريد منه بالضبط - من العودة إلى حياته الهادئة. ولا تعد محنته دعاية لقوة الضمير التخليصية، فنحن نقابله ونتركه وهو في حالة من الشلل والضعف.
لكن صوت الضمير ما زال يصارع الظروف كي يكون مسموعا. كما في أغنية إمينم الشهيرة «الضمير النادم» التي يسمع فيها صوت الضمير، بل يقدم أيضا بصورة محترمة، لكنه لا يحظى سوى بنجاح محدود. وقد ألف مغني الراب الأمريكي إمينم ممثل الثقافة الشفهية المعاصرة عرضا تمثيليا متعدد الأصوات يتم فيه تشجيع العديد من ممثلي المجتمع الأقل تمتعا بالضمير بواسطة إمينم (بوصفه متحدثا باسم ثقافة الشارع والغريزة الأكثر انحطاطا)، وتقييدهم من قبل إمبراطور الهيب هوب والمتحدث الأكبر سنا د. دري (في دور الضمير).
وفي السيناريو الأول من بين ثلاثة سيناريوهات، نتعرف على شخصية إيدي وهو على وشك سرقة متجر كحوليات:
المذيع :
هذا هو إيدي، 23 عاما.
يائس من الحياة ومن الطريقة التي تجري بها الأمور،
فيقرر أن يسرق متجر كحوليات.
إيدي :
لا أستطيع أن أتحمل أكثر من ذلك. لا أستطيع أن أتحمل.
المذيع :
لكن في طريقه غير رأيه فجأة،
وفجأة استيقظ ضميره ...
إيدي :
تبا! علي أن أقوم بذلك ... علي أن أقوم بذلك.
د. دري :
حسنا، توقف.
إيدي :
ماذا؟!
د. دري :
الآن قبل أن تدخل من باب متجر الكحوليات،
وتحاول الاستيلاء على النقود من الدرج،
من الأفضل أن تفكر في العواقب.
إيدي :
لكن من أنت؟
د. دري :
أنا ضميرك اللعين ...
ويتدخل إمينم (في دور سليم شيدي) كي يقاوم نصيحة الضمير الصالحة، مقترحا في تلك الحالة أن يسرق إيدي المال و«يطلق الرصاص على تلك العاهرة».
ويعد د. دري - في دور صوت الضمير - عصريا جدا: فهو مقنع من ناحية لكنه ضعيف بعض الشيء وليس من الصعب إطلاقا تنحيته جانبا. ويتنازع الضمير مع سليم على روح إيدي، ثم في نهاية الأمر يلقي بحجة عتيقة الطراز حول التعقل والعواقب «حسنا، لكن إذا تم كل شيء كما يفترض، فسوف يعرف الحي بأكمله ويفضحونك»، وهي حجة من المستبعد أن تنتصر في العالم الأقل تقبلا الخاص براب العصابات. وعلى الرغم من أنه يلقي مواعظ أخلاقية لأبطال إمينم المريبين، فإن دري لا يبلي بلاء حسنا في دور الضمير. ولما كان الضمير مجردا من التفويض الإلهي، فهو نفسه عرضة للهجوم على شخصه، مثلما حدث عندما «يدعوه» سليم باسمه ويستشهد بسيرته الذاتية المختلطة:
السيد دري؟ السيد إن دابليو إيه؟
السيد إيه كيه يخرج مباشرة من كومتون ...
كيف بحق الجحيم ستطلب من هذا الرجل ألا يكون عنيفا؟
وللمفارقة، كاد ذكر الماضي العنيف لدري/الضمير يعيد إليه مصداقيته، لكن في نهاية الأمر أصبح كل ما يتعلق بالضمير مبتذلا، بما في ذلك حقيقة ذهاب هذا الدور إلى دري، وهو شخصية موقرة لكنه أصبح الآن إحدى «الشخصيات الثانوية» في عالم الراب. وما زلنا نتعرف على صوته عندما نسمعه ونثني على منطقه المدروس، لكنه لم يعد يملك الأثر القديم الذي يسبب شحوب الوجه وارتجاف الساقين وكل الأعراض الأخرى التي كانت تصيب ضحايا الضمير في الماضي.
منافسو الصوت
يمكننا دائما تكبير الصوت الخافت للضمير، كما حدث في مسرحية شكسبير «ريتشارد الثالث». فعندما كان ريتشارد على وشك خوض معركة بوزوورث وتؤرقه الكوابيس، سمع ضميره يتحدث بألف لغة: «ضميري له ألف لغة، وكل لغة تأتي بقصص عديدة، وكل قصة تحكم علي بالشر.» وحتى إذا كان الصوت مضاعفا أو مرتفعا، ففي بعض الأحيان لا يستطيع القيام بالمهمة وحده؛ إذ نحى ريتشارد ضميره جانبا بوصفه «ليس سوى كلمة يستخدمها الجبناء» وهو بذلك نموذج يستدل به. وهو مهزوم أمام الضمير، لكن في حالات أخرى عندما يخمد أو يخفض صوت الضمير قد تستدعى مصادر اتصال أخرى. وكثيرا ما كانت الكتابة والتصوير البصري يخدمان أهداف الضمير، على الرغم من أن علاقتهما به قد تكون أحيانا تنافسية بالإضافة إلى كونها تعاونية.
تعد الكلمة المكتوبة حليفا عنيدا - وفي الوقت ذاته مهما - للضمير، فلطالما كان للضمير صلة مؤكدة بالكتابة. ومنذ سفر دانيال حيث كانت أصابع يد إنسان تكتب على حائط بلشاصر ملك بابل، كان اتخاذ المطلب الأخلاقي صورة مكتوبة فكرة منتشرة. وبلا ريب فاليد الخفية في سفر دانيال كانت تكتب نبوءة تتعلق بالإطاحة بالملك وليس أمرا شخصيا. لكن رد الفعل الجسدي للملك الذي تتغير فيه ملامحه وتضطرب أفكاره وتصطك ركبتاه يبدي كل العلامات التي عادة ما تصاحب هجوم الضمير في المعتقدات المسيحية اللاحقة. وعلى الرغم من أن اللغة العبرية لم تكن بها كلمة واحدة مرادفة للضمير بعد، فسوف تبنى الصلة الضمنية بين تلك الكتابة السحرية وإملاءات الضمير في نهاية الأمر ويعاد بناؤها. وفي أطروحة شهيرة يرجع تاريخها للقرن السابع عشر تحمل عنوان «فتح كتاب الضمير وقراءته»، يربط جون جاكسون بين كتابة دانيال «إملاءات الضمير على جدار، وهو جدار الضمير» وبين الجدار النحاسي الذي يقاوم الإدانة الذاتية غير الضرورية وأطروحة «فتح كتاب الضمير وقراءته» نفسها. وطوال تاريخه، سعى الضمير إلى أن يجعل نفسه ومبادئه شيئا مدونا أو مغروسا في الذهن.
كانت فكرة «كتاب» الضمير قوية جدا حتى إنها قسمت نفسها إلى معتقدات متعددة، وطبقا لأحد تلك المعتقدات فإن كتاب الضمير هو كتاب الله ذاته، الذي سوف يفتح عند الحساب، أي إنه كدفتر أو سجل الشهادة الذي تسجل فيه أعمال المرء كما ذكر في الآية 12 من الإصحاح العشرين من سفر الرؤيا الذي يستشار فيه كتاب الحياة من أجل الحكم على الأرواح التي تمثل أمام عرش الله:
ورأيت الأموات صغارا وكبارا واقفين أمام الله وانفتحت أسفار وانفتح سفر آخر، هو سفر الحياة، ودين الأموات مما هو مكتوب في الأسفار بحسب أعمالهم. وسلم البحر الأموات الذين فيه وسلم الموت والهاوية الأموات الذين فيهما ودينوا كل واحد بحسب أعماله.
في أيقونات الكنيسة الشرقية، في تراث التصوير بالفسيفساء الذي يبلغ ذروته في المثال الرائع الذي يتجلى في كنيسة آيا صوفيا، هذا هو الكتاب الذي يحمله المسيح في يده. هذا هو الكتاب الرسمي الخاص بإرميا دايك الذي يرجع تاريخه للقرن السابع عشر ويحمل عنوان «الضمير الصالح» الذي يعلن فيه قائلا:
الضمير كتاب، وهو أحد الكتب التي سوف تفتح يوم الحساب وتوضع أمام الناس ويحكم عليهم طبقا لها.
وثمة معتقد بديل يشجعه التأكيد الجديد على داخلية الاعتراف بعد القرن الثالث عشر والممارسات العلمانية الناشئة الخاصة بحفظ السجلات المكتوبة، ويتخيل هذا المعتقد كتبا عديدة - بمعدل كتاب لكل مسيحي - يقوم فيه ضميره بدور الكاتب طوال حياته محتفظا بنسخة أمينة من أعماله. وهذا الرأي ثابت في كتاب دان ميشيل الذي يرجع تاريخه لأوائل القرن الرابع عشر ويحمل عنوان «وخز الضمير » والذي يجد فيه المسيحي الضال خطاياه مذكورة في «كتاب ضميره المقيد على مخطوطة أو على جلد الغنم». وهو أيضا «كتاب الحساب» الذي يطلبه الموت من إفريمان (الذي يمثل الشخص العادي) في المسرحية الأخلاقية التي يرجع تاريخها للقرن الخامس عشر، حيث يقول ديث: انظر إلى ... ... كتاب الحساب الخاص بك الذي تحضره أنت ...
وانظر فيه كي تتأكد من حسابك
فسوف تسأل أمام الله، وتعرض عليك
سيئاتك الكثيرة وحسناتك القليلة.
شكل 5-1: محاسبة الموتى المبعوثين الذين يحمل كل منهم «كتاب الضمير» الخاص به، لوحة جدارية جصية في كاتدرائية ألبي يرجع تاريخها للقرن الخامس عشر.
1
يعلن إفريمان أن كتابه غير جاهز للعرض ويطلب اثني عشر عاما كي يصلح من شأنه، وبالطبع فلن يمنح تلك السنوات. ويظهر هذا التقليد الذي يجمع فيه كل ضمير مسيحي كتابه بنفسه في سجل دائم في وصف يوم الحساب على اللوحة الجدارية في كاتدرائية «ألبي» التي ترجع لأواخر القرن الخامس عشر، والتي نرى فيها الهالكين في حالة ضيق بالمجلدات التي تدينهم، وموكبا من الناجين يعرضون كتبهم أمام العرش مفتخرين بها: «أمام العرش تفتح الكتب.»
يعد القاسم المشترك بين تلك المعتقدات أن الضمير الفردي - بعد أن يجمع ملاحظاته في مجلد واحد شديد الخصوصية - يحول هذا المجلد والدليل عليه في نهاية الأمر إلى حساب عام. وفي قصيدته التي تحمل عنوان «الفلاح بيرس» التي يرجع تاريخها للقرن الرابع عشر، يقدم لنا ويليام لانجلاند ضميرا يقوم بدور «كاتب الإله وموثقه»، حيث يؤدي عمله من حصن داخل الذات لكنه يدون الملاحظات حول سلوك الفرد كي تعرض في محكمة الإله الأخيرة. وتشكل تلك الكتب الفردية كلها حلقات عديدة من مجموعة مقتطفات أدبية مجمعة يصفها روبرت بيرتون في كتابه «تشريح السوداوية» بأنها «دفتر ضخم كتبت فيه كل خطايانا، وهو سجل يؤكد على أهميتها». ويثبط المتهمون الآخرون من معنوياتنا، لكن «الضمير وحده هو من يعد ألف شاهد يتهموننا».
وهكذا يعد الضمير الكاتب عاملا منقسما بطبيعته وعميلا مزدوجا ومستشارا مؤتمنا في الوقت ذاته على مستحقات شخص آخر، وهو محاور يعود إلى مكانه كي يدون ما يعلمه عنا ويعرضه مكتوبا أمام القاضي النهائي. وعلى غرار الصوت الذي يقع على الحدود بين الداخل والخارج، قد يفيد الضمير المكتوب صاحبه أو يضره. وتبدو تلك الازدواجية في كتاب أندرو جونز الذي يرجع تاريخه للقرن السابع عشر ويحمل عنوان «كتاب الضمير الأسود» الذي يقوم فيه الضمير بدور «نائب الله داخل الروح»، حيث يدون ملاحظات مكتوبة لأهداف مستقبلية: «ثمة ضمير داخل كل إنسان يرى كل أعماله ويراقبها ويحتفظ بسجل دقيق لها، وهكذا يصبح شاهدا سواء مع الروح أو عليها يوم الحساب.» وسوف تقدم شهادته مرة أخرى في صورة كتاب: «إن الضمير يلاحظ كل أعمالك ... ويدونها كلها في هذا الكتاب الأسود.»
وتماشيا مع نزعة السجل المكتوب للتملص من تحكم الكاتب أو حتى الفرار منه، يقوم الضمير (الذي يسدي النصيحة لسبب ويسجل لسبب آخر) بعملية سرية إلى حد ما من خلال مجموعة أدوار تتضمن خدع تجسس صريحة. وفي «رسالة العاطفة» التي كتبها إدوارد رينولدز في القرن السابع عشر، «يهدف الضمير ... إلى مراقبة أفعالنا سرا» وتسجيل اكتشافاته بالحبر السري: «عندما تعرض تلك الكتابة التي تبدو خفية وغير مقروءة كالحروف التي كتبت بعصير الليمون أمام نيران الحساب الإلهي، فسوف تصبح شديدة الوضوح.» وعلى الرغم من الولاءات المختلطة لصناعها والاحتمال الدائم للتفسيرات المختلفة، تظل الكتابة في نهاية الأمر ثابتة لا يمكن محوها: فتأنيب الضمير «قد كتب بحروف يستحيل إزالتها ولن تمحى أبدا».
وما زالت فكرة كون الكتابة وسيلة للتعبير عن الضمير فكرة قائمة حتى الآن، والمؤيد العصري الواضح لفكرة الضمير المكتوب أو الضمير المعبر عنه من خلال الكتابة هو بالطبع جيمس جويس الذي توضح روايته «بورتريه فنان شاب» (1914-1916) الطريقة التي تساعد بها الكتابة على تشكيل الضمير الحقيقي. ومما لا جدال فيه تفضيل جويس للكلمة المكتوبة، لدرجة أنه بالنسبة له يعد الضمير المعبر عنه كتابة منافسا قويا للضمير المعبر عنه شفهيا، بل إنه يتفوق عليه في النهاية. وبالنسبة لشخصية ستيفن ديدلوس التي رسمها جويس، لا بد وأن تنتصر الكتابة على تنافر الأصوات الذي يهاجم ستيفن باستمرار: ... كان قد سمع حوله الأصوات المستمرة لوالده ومعلميه يحثونه على أن يصبح كاثوليكيا صالحا قبل أي شيء ... وسمع صوتا آخر يحثه على أن يصبح قويا شجاعا صحيح البنية ... لكن صوتا آخر أمره أن يصبح مخلصا لبلده ... وصوتا دنيويا يأمره بأن يرفع مستوى والده المتدني بجهده، وفي الوقت ذاته صوت رفاق المدرسة يحثه على أن يصبح زميلا مهذبا ... وكان اللغط الذي تحدثه كل تلك الأصوات الجوفاء هو ما أدى به لأن يتوقف حائرا.
يأتي في المقام الأول بين تلك الأصوات صوت الضمير التقليدي، وله موقف ثابت يتضح في موعظة داخل الرواية: «كان لديك الوقت والفرصة كي تتوب لكنك لم تفعل ...» ويمكن مقارنة تلك الأصوات المسببة للشلل بالأنا العليا لدى فرويد، فهي صوت داخلي ذو أصل أبوي مؤثر وغريب عن صاحبه في مطالبه العنيدة ... ومن ثم فهي بالنسبة لجويس صوت أو أصوات يجب أن تستبدل. وثمة صوت آخر محوري بالنسبة لستيفن، وهو صوت يخاطب روحه مباشرة، هو «نداء الحياة لروحه لا الصوت الفظ المتبلد للعالم المثقل بالواجبات واليأس، ولا الصوت غير الإنساني الذي استدعاه إلى صلاة المذبح الكئيبة». ويزين هذا الصوت الفن الإبداعي للكلمة المكتوبة ويجيزها، فالكتابة هي الأداة التي يخاطب بها الضمائر الأكثر تقليدية لنظرائه الأيرلنديين: «كيف يمكنه إزعاج ضمائرهم أو الإلقاء بظلاله على تخيلات بناتهم ...؟» والإجابة الشهيرة بالطبع هي: «إنني أذهب للمرة المليون لأواجه حقيقة التجربة ولأصنع في ورشة روحي الضمير الأزلي الخاص بالجنس الذي أنتمي إليه.» وللضمير هنا معنى مزدوج مشتق من التاريخ القديم لكلمة
conscience : حيث دمج معنى كل من
consciousness «الوعي» و
conscience «الضمير» في كلمة واحدة وهي «الضمير» قبل القرن السابع عشر. (وما يعلمه جويس بالطبع أن كل كلمة تستمر في الاحتفاظ بمعانيها إلى حد ما). وبالإضافة إلى «الوعي» فإن جويس يعني «الضمير» أيضا، وبالنسبة لجويس تعد الأداة المميزة للتعبير عنه هي الكتابة وليس الحديث.
قد يضاف للضمير الصوتي والمكتوب - وأحيانا ينافسهما - المزيد من الدوافع الوثائقية والمرئية للاستجابة التي تعتمد على الضمير. وفي تلك الصورة ، بدلا من أن يتجسد الضمير في الكلمة المنطوقة أو المكتوبة، فإنه يتجسد بالتصوير: سواء أكان تصويرا بالرسم أم النحت أم صورة ملصقة في كتاب، لكن أيضا وخاصة في الأشكال الأحدث والأكثر إلحاحا بشكل فوري للنسخ الإلكتروني.
للدوافع المرئية للضمير تاريخ طويل، حيث تصف صور صلب المسيح التي ترجع لأواخر القرون الوسطى بالإضافة إلى التراث المشابه في فن الباروك وفن أمريكا الجنوبية بالتفصيل الدقيق معاناة المسيح من أجل التماس رد فعل إنساني نادم. وغالبا ما كانت تلك الصور تجعل مطالبها أكثر وضوحا بالنسبة للمشاهد عن طريق المزج بين وسائل العرض، بإضافة القصائد والكتابات التي تخبر المشاهد بأن تلك الآلام قد احتملت لأجله، ومطالبته بإصلاح نفسه. وقد زينت قنطرة المذبح في العديد من كنائس القرون الوسطى برسوم تصور مشاهد الصلب تبدو فيها عينا المسيح المصلوب - على نحو مدهش - كما لو كانتا تنظران مباشرة إلى رعايا الكنيسة كل على حدة، داعية كلا منهم إلى اتخاذ رد فعل شخصي تجاه المعاناة المصورة فيها. وقد سعى كل من جويا وبارلاخ وكولويتز وديكس ومجموعة من الفنانين التشكيليين الآخرين إلى استثارة الضمير وإثارة المشاعر السلمية عن طريق تصويرهم السخي لفظائع الحروب.
تتقاسم رؤية صليب منحوت أو لوحة جدارية أو نقش أساسا مشتركا مع استقبال صورة فوتوغرافية أو أي صورة سينمائية أو رقمية أخرى، لكن الإنتاج الميكانيكي والإلكتروني يثير أيضا قضايا جديدة متعلقة بالكثافة والسرعة و«المقياس» المجرد. وقد حسنت الأشكال الجديدة من التوافر والكمية وسهولة الإنتاج كثيرا من حالة الصورة المرئية بوصفها منتجا للضمير وحافزا له. فالصور التي تلتقط بواسطة الهاتف المحمول تنتشر حول العالم في دقائق أو ثوان معدودة، ولا يمكن التنبؤ بتأثيرها لكنه قد يكون ضخما.
وتتفق تلك السرعة والوفرة في الإنتاج وسرعة التأثير تماما مع رؤية للضمير طالما كانت حاضرة ضمنيا، لكنها حققت هيمنة إضافية في القرون القليلة الأخيرة: أنه لا يعبر عن نفسه في صورة تفكير هادئ لكن في لحظة خاطفة من البصيرة المفاجئة المدركة بالحدس. وعلى العكس من منظر مثل جوزيف بتلر - الذي رأى في القرن الثامن عشر أن الضمير ناتج عن التفكير الجيد في «ساعة هدوء» - رأى آخرون أن الضمير ملكة فطرية أو غريزية، مفاجئة في مخاوفها، وقاطعة في مطالبها، فعلى سبيل المثال مرت بطلة لوحة هولمان هانت المسماة «يقظة الضمير» بالتأكيد بهذه الهجمة من ضميرها. وتعد وسائل الإعلام الحديثة التي تتدفق فيها الصور فجأة ثم تختفي فجأة بالطبع متجانسة تماما مع تلك الرؤية للضمير بوصفه قناعة أكثر تسرعا (مع أنها ليست أقل يقينا).
تشترك الصور أو الصور الفوتوغرافية، حتى الإلكترونية التي تنتشر بسرعة البرق من الهاتف المحمول إلى الشاشة مع الصوت والكلمة في القدرة على استدعاء رد فعل طبقا لما يمليه الضمير. وفي بعض الحالات قد يكون ما تستدعيه الصورة ناتجا عن هدف ما - سواء هدف المتحدث أو المؤلف أو المصور الفوتوغرافي الوثائقي. فعلى سبيل المثال، يصف روبرت كولز الدافع الوثائقي بأنه راسخ في ضمير المصور الفوتوغرافي الوثائقي، مثل جيمس أجي «الذي يشعر بالإثارة والتحدي نتيجة أوامر كل من وعيه الفني وضميره ومطالبهما». وهو يصف آلة التصوير بأنها «سلاح» و«أداة» و«استدعاء للخدمة» تستخدم كلها ببراعة بواسطة مصور فوتوغرافي له هدف معين ويحركه الضمير. لكن الصورة الفوتوغرافية فور التقاطها ونشرها تصبح لديها قدرة هائلة على الانفصال عن الهدف منها، أو حتى إذا أبدت هدفها الأصلي فلديها القدرة على العمل باستقلالية عن ذلك الدافع. ويتخيل المنظر المعاصر إم جيه تي ميتشل أعمالا فنية لها رغبات مستقلة ولها أغراض معينة من مشاهديها ولها نوع خاص من «تأثيرات ميدوسا». وكما يدرك ميتشل، فإن المصور الفوتوغرافي أيا كان هدفه يترك الصورة الفوتوغرافية كي تقوم بعملها. ويعد هذا صحيحا بالطبع أيضا بالنسبة للحديث فور أن يقال والكتاب فور أن يكتب، لكن الصورة التي تنتشر في الحال بسرعة البرق حول العالم يقل ارتباطها أكثر بأهداف صانعها. وأيا كانت نية صانعها، فسوف تقبل الصورة في نهاية الأمر - أو لا - نتيجة لرد فعل المشاهدين. وهكذا يتلقى صوت الضمير إضافة مهمة من وسائل الإعلام المطبوعة والأحدث من ذلك ... لكنه أيضا يواجه خطر التغيير أو حتى الذوبان أثناء تلك العملية.
خفوت صوت الضمير: أبو غريب
ثمة نموذج معاصر على كبت الضمير في صورة تقترب على نحو خطر من إخراسه التام يتمثل في التقارير الخاصة بالفظائع التي ارتكبت في سجن أبو غريب. فقد عمدوا إلى استخدام التسجيلات الصوتية والصور والمطبوعات، لكن بتأثير مشوه طوال الوقت.
شكل 5-2: سابرينا هارمان تشير بإصبعها بعلامة التشجيع بجانب جثة المعتقل مناضل الجمادي في سجن أبو غريب.
2
فلنأخذ مثلا حالة سابرينا هارمان، وهي السيدة التي التقطت معظم صور أبو غريب، وتظهر أيضا في العديد من تلك الصور مؤدية حركتها الشهيرة (الإشارة بإبهامها للأعلى علامة على التشجيع) بجوار الجثث الممثل بها. وعند تقديم هذه الحالة للبحث، تبدو كما لو كانت تقترب من حالة تطرقنا إليها بإيجاز عدة مرات خلال هذا الكتاب، وهي حالة شخص بلا ضمير. لكن هارمان تظهر نفسها بأنها صاحبة ضمير معاصرة، فما زالت تزعجها العديد من صوره، كما أنها ما زالت تشعر بالضيق في حالتها عديمة الضمير.
لم تكن صورها بالطبع نتيجة لأي مبادرة مبنية على الضمير إطلاقا، بل كانت دوافعها توثيقية - لا على طريقة كولز أو أجي بالطبع - بل بنفس الطريقة التي تسعى بها صور الحفلات التي يجري تحميلها على موقع الفيس بوك إلى توثيق لحظات المرح الصاخب والأفعال الفاضحة، أو بالطريقة التي يتداول بها طلاب المدرسة الثانوية الآن الصور الخليعة على الهواتف المحمولة. وهكذا ثمة شيء يتعلق بتجسيد الصورة الفوتوغرافية يمكنه أن يثير التفسيرات أو حتى يشجع على إعادة النظر. تأمل رواية هارمان الخاصة عن نشأة الدافع الوثائقي لديها:
لا يمكنني أن أنسى هذا الأمر. أهبط الدرج بعد أن أنفخ في الصافرة وأقرع على الزنازين بعصا فأجد «سائق سيارة الأجرة» مكبل اليدين للخلف ومقيدا في نافذته عاريا، بينما وضع لباسه الداخلي على رأسه ووجهه. كان يبدو كالمسيح، وكنت في بداية الأمر أضحك ثم ذهبت لإحضار آلة التصوير والتقطت له صورة. ثم أخذ أحد زملائي عصاي وبدأ في «لكز» عضوه التناسلي بها. وفكرت مرة أخرى في أن ذلك يبدو طريفا، ثم صدمني الأمر: إنها صورة من التحرش. يجب ألا أفعل ذلك. فالتقطت المزيد من الصور تلك المرة من أجل «تسجيل» ما يحدث.
يبدو أن شيئا من التأديب الذاتي وقع هنا، حيث تتكرر ردود أفعالها الأولية المرحة ثم تتحول إلى أنواع أخرى من التصرفات. وهي تؤجل المسئولية أو تتخلى عنها عند حملها آلة التصوير والتقاط الصور. وفي حقيقة الأمر تعد صورتها الأولى أحد الدلائل على الابتهاج «الوحشي» بالنصر الذي تصفه سونتاج في كتابها الذي يحمل عنوان «عن التصوير الفوتوغرافي» (1977): «كنت في بداية الأمر أضحك ثم ذهبت لإحضار آلة التصوير والتقطت له صورة.» لكن دافعها بعد التفكير هو التقاط الصور «من أجل «تسجيل» ما يحدث». لكن هذا لا يمكن وصفه بأنه خطة لاستثارة الضمير في الآخرين. وهي تقول في موضع آخر: «كنت أرغب فحسب في توثيق كل ما أراه.» وفي موضع ثالث: «إذا جئتك وقلت لك «هذا ما يحدث» فلن تصدقني على الأرجح ... لكن إذا قلت «هذا ماذا يحدث، وانظر لدي الدليل» فلا أعتقد أن بوسعك الإنكار.» والفكرة المتعلقة بهذا النوع من التوثيق أنه لا يحقق سوى نصف المرجو من هذه الاستجابة المبنية على الضمير؛ فهو لا يسمح باتخاذ أي إجراء إضافي، بل إنه يتطلب عدم اتخاذ أي إجراء، وكان الدافع لديها «مجرد عرض ما يحدث وما يسمح بفعله».
ونجد في عبارتها «ما يسمح بفعله» تلميحا عن المشكلة الكبرى المتمثلة في الأزمة الأخلاقية التي انتهت إليها تلك الأحداث: إهمال كبار المسئولين وغياب المجتمع الرادع - بل الأسوأ من ذلك اشتراك المجتمع في الجريمة. ومع ذلك فإلى جانب المستويات الواضحة لندم هارمان المغرض ومحاولتها التهرب ملقية اللوم على أطراف أخرى، يمكننا تمييز محاولتها المتأخرة لالتماس موقف أخلاقي. ويقدم لنا الموقف مشهدا مزدحما موحيا تتدافع فيه النزعة نحو التوثيق المرئي مع الابتهاج بالنصر والمرح في غير موضعه، والنزعة الاستعراضية على الفيس بوك والسياحة والمذهب الحسي والتحرش الجنسي والسادية ومجموعة من الدوافع والمثيرات الأخرى. وبمعنى آخر، يصعب الفصل بين الدافع لتوثيق الضمير وبين مجموعة من الحوافز الأخرى للتصويرات «المرئية». ومع ذلك يبدو أن التقاط الصور قد ساهم في تشكيل العقل الأخلاقي على الأقل بعض الشيء، حتى عندما بدأ نوعا من التسلية.
يمكننا رؤية نفس تتابع الأحداث في حالة جو داربي الذي قام بالإبلاغ عما حدث من انتهاكات في سجن أبو غريب، حيث مر داربي أيضا بتجربة مماثلة بدأت بإحساسه بالبهجة عند مشاهدة الصور، ثم بشعور من الاضطراب غير المألوف، وبلغ الأمر ذروته في لحظة أخلاقية («لا يبدو هذا الأمر مقبولا بالنسبة لي») ثم اتخذ قرارا بتسليم الصور إلى السلطات التي قد توجد في ذلك الموقع الجهنمي:
كنت أتصفح الصور مراجعا تلك التي التقطها زميلي في مدينة الحلة حيث كنا نقيم قبل أبو غريب عندما ظهرت تلك الصور الأخرى فجأة. وكي أكون صادقا، ظننت في بادئ الأمر أنها صور شديدة الطرافة. أنا آسف، يمكن أن يغضب مني الناس إذا أرادوا، لكني لست فتى كشافة، فبالنسبة لي كانت رؤية ذلك الهرم من العراقيين العراة لأول وهلة أمرا طريفا للغاية، وعندما ظهر فجأة هكذا ضحكت قائلا: «يا للهول! إنني أنظر إلى هرم من المؤخرات!» لكن بعض الصور الأخرى لم تكن مقبولة بالنسبة لي، وهي الصور التي يظهر فيها السجناء وهم يتعرضون للضرب أو التي يبدو فيها رجل عراقي عاريا يجثو على ركبتيه أمام رجل عراقي عار آخر، وبعض الصور الجنسية الأكثر إباحية لإذلال السجناء - لم يكن هذا مقبولا بالنسبة لي. ولم أستطع التوقف عن التفكير في هذا الأمر، وبعد حوالي ثلاثة أيام اتخذت قرارا بتسليم الصور.
قد ينشأ وصفه للصور بأنها «غير مقبولة» وإظهار تدخله الإصلاحي من دافع آخر بخلاف قوانين «الضمير»، وهو التزام البطل الأمريكي ب «قانونه» أو شعوره بما إذا كان شيء ما لائقا أم لا. وشخصيات مثل ناتي بامبو بطل روايات كوبر وهاكلبري فين - بالإضافة إلى عدد لا يحصى من الغربيين المنعزلين مثل شخصيتي شين وويليام ماني في فيلم «غير المغفور له» - تعود في نهاية الأمر إلى كتاب القواعد غير المدونة والمواثيق التي يجب ألا تخالف، ويمكننا رؤية تفسير داربي الموجز نسبيا لصنيعه في ضوء ذلك. ومع ذلك فصنيعه يحمل علامات الضمير، وخاصة الضمير المستثار عن طريق صورة تقدم دليلا دامغا على حدوث سلوك غير مقبول. ولا يستخدم داربي نفسه كلمة «الضمير» كي يصف تجربته، لكن المحاور والمؤلف ويل إس هيلتون يفعل، فقد استعان بها في عنوان مقاله «سجين الضمير».
ثمة شيء في الصور «لم يكن مقبولا»، وكان بمثابة وخزة أو وسيلة للحث على فعل لم يكن داربي يفكر فيه في بادئ الأمر لكنه قام به في النهاية. وكأن شيئا في عملية التسجيل يجسد الأحداث؛ ومن ثم فقد أتاح لهارمان أن ترى معاملة السجناء بهذا الشكل صورة من صور «التحرش». لكن أين منظور الضمير أو صوته من كل ذلك؟ لقد قلت إنه سوف يكتم، وحدث ذلك بالفعل، لكنه قد يكون بالكاد مسموعا في تعليقها عن «التحرش» - وهو مصطلح نقدي يبدو أنها لم تكن أول من استخدمه، ربما علق في ذهنها من دورة تدريبية سابقة غير مكتملة، أو ذكره محامي الدفاع. ويسمع صوت الضمير خافتا أيضا في جملة هارمان المتكررة «يجب عدم فعل ذلك»، وهو صوت صادر من الخارج لكنه يسمع في الداخل، صوت الحظر المتأخر. وبالطبع فإن الظهور المتأخر لصوت الضمير ينطوي على تنازل أخلاقي ما، يذكرنا بشرائط تسجيل المكتب البيضاوي في عهد نيكسون التي اقترح فيها تدبير مكائد شريرة أثناء مناقشة بعض الأمور المتعلقة بفضيحة ووترجيت، ثم تذكر أن الاجتماع قيد التسجيل فأضاف على عجل: «لكن هذا سيكون خطأ». وعلى الرغم من ذلك، فقد يكون صوت الحظر المتأخر أفضل من لا شيء.
إذا استطعنا القول بأن صوت الضمير في أبو غريب كان مسموعا، فهو لم يكن مسموعا سوى على نحو خافت ومتأخر؛ مما أفضى إلى نتيجة ضعيفة. والفكرة بشأن الضمير مرتفع الصوت أو المعرفة المشتركة (con-scientia) - كما يوحي أصل الكلمة - أن الضمير ينطوي على معرفة مشتركة أو اتفاق بشأن الرأي الاجتماعي أو الكنائسي الذي يقنع الشخص المخطئ ويوبخه من أجل تعديل سلوكه. وكان هذا الأمر صحيحا بالنسبة للرومان والكنيسة في القرون الوسطى، وفي صورة معدلة بالنسبة لآدم سميث ومؤيدي مذهب المنفعة. إلا أن الصوت الذي تسمعه هارمان صوت وحيد منعزل، وهو لا يتحدث باسم أي جماعة مميزة على الإطلاق.
ترك موظفو أبو غريب ليعملوا في فراغ اجتماعي ثقافي مربك، شبيه بذلك الذي وصفه الروائي ويليام جولدنج في روايته «أمير الذباب» والتي يتدهور فيها حال مجموعة من التلاميذ الإنجليز في ظل غياب الرقابة الاجتماعية. وكانت النزعة التوثيقية منقوصة، وعلى أحسن تقدير كانت هدفا في حد ذاتها وليست مقدمة لفعل آخر، وكان اللجوء لوسائل الإعلام المطبوعة (عبر الحوارات الصحفية) بهدف التبرئة الذاتية أكثر منه للشهادة طبقا لما يمليه الضمير. وأخطر ما في الأمر أن الصوت القائل «لا يمكنك القيام بذلك» يحل «محل» الضمير، لكنه لم يعد يسمى «ضميرا» ويفتقر إلى السلطة الممنوحة للضمير في تعاليمه المتعددة. وهو لا يكفي أداة للمنع، ولم يعد يمثل «نداء» بأي معنى يمكن أن نتوقعه؛ حيث يوجه «نداء» الضمير - على الأقل في الحالة المثالية - إلى شخص فاعل من المحتمل أن يتصرف؛ أي شخص قد يقدم حقا على فعل شيء، بينما الأنشطة التي تمت في أبو غريب تحدث دون أي استجابة.
وبالطبع يعد سجن أبو غريب حالة محدودة، وهو أكثر مكان غير ملائم يمكن تخيله للاستماع إلى صوت الضمير أو البحث عن التوثيق طبقا لما يمليه الضمير أو عوامل تحفيز مكتوبة للضمير. وقد عدت من هذا البحث الموجز ببعض الاكتشافات، لكنها اكتشافات ضئيلة بالفعل. وثمة أمثلة أكثر تشجيعا يدوي فيها صوت الضمير على نحو أكثر تأكيدا في لحظات الأزمات الأخلاقية والقرارات المؤلمة. فقد ضحى لازانثا ويكراماتونج - وهو صحفي شجاع من سريلانكا - بحياته من أجل كشف الفساد، فكتب تقرير وداع كان شبيها بخطاب نعيه اختتمه قائلا: «ثمة نداء أسمى من المنصب الرفيع والشهرة والربح والأمن، وهو نداء الضمير.» وأوضح فريد دابليو ثيل الابن - العضو الجمهوري بمجلس ولاية نيويورك - مفسرا أسباب تصويته لصالح مشروع قانون متعثر يبيح زواج المثليين قائلا: «ثمة صوت ضعيف داخلك يخبرك متى فعلت شيئا صحيحا ومتى فعلت شيئا خاطئا ... وظل هذا الصوت الضعيف يزعجني.» وصرح سلمان تيسير حاكم إقليم البنجاب في باكستان في مقابلة تليفزيونية يوم الأول من يناير عام 2011 قائلا: «إن لم أؤيد ضميري، فمن سيفعل؟» وذلك قبل ثلاثة أيام من اغتياله. كذلك أوضح آن كاو عضو الكونجرس الجمهوري الوحيد الذي صوت لصالح مشروع قانون الرعاية الصحية الأمريكي الذي أثيرت حوله معركة - والذي هزم في الانتخابات التالية - قائلا: «كان علي أن أتخذ قرارا طبقا لما يمليه علي ضميري بناء على احتياجات أهالي دائرتي.» وثمة آخرون يتخذون يوميا قرارات صعبة من أجل الضمير، لكن صوت الضمير - كما حدث في أبو غريب - لا يسمع غالبا إلا خافتا مشتتا، وتخمد طاقته على التغيير وتتبدد وتضيع.
ربما كان الضمير دائما في أزمة، وسبب الأزمة قبل كل شيء هو الوسط الذي يعيش فيه ويستدعى فيه فيصل أو يخفق في الوصول. لكن الضمير اليوم، نظرا لانفصاله عن جذوره التقليدية في الفضيلة الرومانية والأخلاقيات المسيحية وفلسفة التنوير، وانجرافه في عالم يحفل بحوادث الانتهاك، قد يكون مهددا أكثر من أي وقت مضى. لقد اعترفت بالفعل أن الضمير يعاني مما قد يطلق عليه «مشكلة هوية»، فهو لا يملك أي مضمون ثابت أو متأصل خاص به، وقد يحفز للدفاع عن موقف ما أو الموقف المضاد له على حد سواء. وثمة مجتمعات أخرى أدت مهامها من الناحية الأخلاقية بلا أي ضمير على الإطلاق. فما الذي نفقده حقا إذن إن وجدنا أنفسنا بلا ضمير مثل شخصية أنطونيو في مسرحية شكسبير الذي لم يشعر قط بوجود هذا الكيان المقدس داخل صدره وكان يعتبره أقل أهمية من تورم إصبع قدمه؟
ليس الشخص المحافظ على الأخلاق بحاجة إلى مفردات الضمير أو تعاليمه كي يشعر بالصدمة والاستياء لرؤية إنسان عار مقيد مغطى الرأس يتعرض للتعذيب بمعزل عن الدعم البشري وعرضة لكل أشكال السخط والسخرية، فبالطبع سوف يستنكر كل فرد محترم أخلاقيا في «أي» مجتمع ذلك المشهد معبرا عن ذلك بالكلمات والمفاهيم المتاحة في ثقافته. وفي حقيقة الأمر، لا يمكن القول إن التعاليم الغربية للضمير قد أيدت مرتكبي هذه الجرائم البشعة في سجن أبو غريب، سواء في حالة المجندين الفاسدين الذين كان سلوكهم مخزيا وحقيرا إلى أقصى درجة، أو الضباط، أو تساهل الحكومة مع تلك الأفعال أو حتى تشجيعها لها. لكن يظل الضمير هو المجال الأخلاقي الذي تستند إليه في الغالب صرخات الغضب، وذلك بالنسبة للتعاليم الأنجلو أمريكية والأوروبية. وعندما تضعف تعاليم الضمير ويخفت صوته أو لا يسمع مثلما حدث في أبو غريب، سوف نصبح الأفقر أخلاقيا.
كنت قد أشرت في نهاية الفصل السابق إلى أن قوة الضمير الخاصة تكمن في التزامه بالفعل الإصلاحي، وإذا ما قيمنا سجن أبو غريب بهذا المقياس، فسيتحتم علينا بالطبع أن نحكم على أبو غريب بالفشل الذريع. لم يتم عقاب أي مسئول عالي الرتبة؛ وأغلق السجن ثم أعيد فتحه تحت رعاية جهة أخرى؛ وأقرت الإدارة الأمريكية الحالية صورا جديدة من الاعتقال الجبري؛ ولا يعلم أحد ما الذي حل ب «سائق سيارة الأجرة» الذي كان يتعرض للتعذيب. وكي يزدهر الضمير ويكون على مستوى أفضل تعاليمه وأقواها، يجب ألا يقتصر على أحاسيس بغض الخطأ الفطرية، بل عليه أن يتعلم من جديد القدرة على التعبير عن نفسه من خلال الأفعال أيضا.
هوامش
المراجع
مقدمة
Henry Chadwick,
Some Reflections on Conscience: Greek, Jewish and Christian (London: Council of Christians and Jews, 1968). I am indebted to conversations with Robert Alter of University of California, Berkeley, on the Hebrew conscience and the etymology of
matzpun.
Ethics in the Confucian Tradition (Indianapolis: Hackett, 2002);
Confucian Moral Self-Cultivation (Indianapolis: Hackett, 2000). I am indebted to conversations about
liangxin
with Lydia Liu of Columbia University, and also Xiao Han.
On
al-zãjir , see D. S. Margoliouth, 'Conscience (Muslim)’, in
Encyclopaedia of Religion and Ethics (New York, 1908).
I am indebted to Cathy Popkin of Columbia University for her observations on Russian
sovest .
الفصل الأول
My comments on
syneidesis
are informed by Dominic Mangiello, 'Conscience’, in
A Dictionary of Biblical Tradition , ed. David L. Jeffery (Grand Rapids, MI: Eerdmans, 1992). Also see Mangiello’s excellent summary of traditions of conscience in works of English literature.
Selected Works , tr. Hugh Feiss (Kalamazoo, MI: Cistercian Publications, 1987).
A. V. C. Schmidt (ed.),
Vision of
, 2nd edn. (London: Everyman, 1995).
Derek Pearsall (ed.),
A New Annotated Edition of the C-text (Exeter: University of Exeter Press, 2008).
John Wyclif, Sermon 49, in
Sermones, Latin Works , vol. 7:3 (London, 1890).
On Fisher’s rejoinder, see Richard Rex,
The Theology of John Fisher (Cambridge: Cambridge University Press, 1991).
More’s letters are cited from
The Correspondence of Sir Thomas More , ed. Elizabeth Frances Rogers (Princeton: Princeton University Press, 1947). Henry’s
Censurae
are printed in
The Divorce Tracts of Henry VIII , ed. Edward Surtz and Virginia Murphy (Angers: Moreana, 1988). Other period documents are cited from
Letters and Papers ... of the Reign of Henry VIII , vols 4:1 and 5 (The Stationery Office, 1878-80).
Luther’s words are quoted from
D. Martin Luthers Werke, kritische Gesamtausgabe , vol. 7 (Weimar: Böhlaus, 1897).
On Luther and Erasmus, see
Luther and Erasmus: Free Will and Salvation , ed. E. G. Rupp and P. S. Watson (Philadelphia: Westminster Press, 1969). For Luther’s comparison of conscience to sexual organs, see
Works , ed. J. Pelikan, vol. 27 (St Louis: Concordia, 1955-96). For Calvin’s Institutes, see
Institution of Christian Religion , tr. Thomas Norton, 1578 (EEBO). The full modern English text is available at (
http://www.ccel.org/ccel/calvin/institutes ) (accessed 31 January 2011).
I thank Katherine R. Cooper for introducing me to the sonnets of Anne Vaughan Lock. See (
http://newmedia.alma.edu/ottenhoff/psalm51/meditations.htm ) (accessed 31 January 2011).
Richard Hooker,
Of the Laws of Ecclesiastical Polity , ed. Christopher Morris, vol. 1 (London: Everyman’s Library, 1907).
Max Scheler,
Formalism in Ethics (Evanston, IL: Northwestern University Press, 1973);
(Dordrecht and Lancaster: Nijhoff, 1987).
Reinhold Niebuhr,
The Nature and Destiny of Man (New York and London: Nisbet, 1941).
For Tillich, see below.
الفصل الثانى
For Locke’s
Letter Concerning Toleration , see (
http://www.constitution.org.jl/toleration.htm ). For the
Essay Concerning Human Under-standing , see (
http://www.oreganstate.edu/instruct/phl302/texts/locke/locke1/Essay_contents.html ) (accessed 31 January 2011).
Anthony Ashley-Cooper, Earl of Shaftesbury,
Characteristiks of Men, Manners, Opinions, Times (1737), vol. 2, sec 1. (
http://www.oll.libertyfund.org/index ) (accessed 31 January 2011).
Joseph Butler’s celebrated 'cool hour’ occurs in Sermon 11,
Fifteen Sermons Preached at the Rolls Chapel , ed. W. R. Matthews (London, 1953).
Immanuel Kant,
The Metaphysics of Morals , ed. Mary Gregor (Cambridge Texts in the History of Philosophy, 1996).
Adam Smith,
The Theory of Moral Sentiments , ed. Knud Haaksonssen (Cambridge Texts in the History of Philosophy, 2002).
John Stuart Mill,
Essay on Liberty: (
http://etext.virginia.edu/toc/modeng/public/MilLib2.html ) (accessed 31 January 2011).
الفصل الثالث
Fyodor Dostoevsky,
Crime and
, tr. R. Pevear (London: Vintage Classics, 1993);
The Brothers Karamazov , tr. R.
Cathy Popkinhas assisted me with comments on the intimate relation of Russian
sovest (etymologically, 'with’ + 'knowledge’) with Western (and, ultimately, Greek and Greek Orthodox) ideas of conscience.
Basic Writings of Nietzsche , tr. Walter Kaufmann (New York: Modern Library, 2000). On the letter to Overbeck, see Kaufmann,
Nietzsche: Philosopher, Psychologist, Antichrist (Princeton: Princeton University Press, 1950).
Freud’s various essays are found in the
Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud , tr. J. Strachey (London: Hogarth Press, 1953-74).
الفصل الرابع
Among many pertinent studies of conscientious objection are
Records of Conscience: Three Autobiographical Narratives by Conscientious Objectors, 1665-1865 (York: William Sessions, 1993); John Rae,
Conscience and Politics: The British Government and the Conscientious Objector to Military Service, 1916-1919 (Oxford: Oxford University Press, 1970); A. Keim and G. Stoltzfus,
The Politics of Conscience: The Historical
(Scottdale,
Liberty and Conscience: A Documentary History of Conscientious Objectors in America through the Civil War (Oxford: Oxford University Press, 2002).
I am indebted to
Records of Conscience
for the instance of the objecting Quaker.
On 'conscience clauses’, see especially Ben Smith, 'Coakley’s Conscience Clause’,
, 44, (
http://www.politico.com/blogs/bensmith/0110 ) (accessed 31 January 2011).
For the
Universal Declaration of Human Rights , see (
http://www.un.org/en/documents/udhr ) (accessed 31 January 2011).
Alan Gewirth,
Human Rights: Essays on Justification (Chicago: University of Chicago Press, 1982) contributed valuably to my thinking about this chapter. I am indebted to him for the Supreme Court citation. See also Henry Shue,
Basic Rights (Princeton:
1996). For a lively discussion of 'rights’ as a basis for justice, see Joseph R. Slaughter,
Human Rights, Inc (New York: Fordham University Press, 2007).
R. Panikkar’s discussion of Western concepts of civil liberty and their applicability to non-Western cultures appears in
Diogenes , 120 (1982).
Hannah Arendt,
Eichmann in Jerusalem: A Report on the Banality of Evil (London: Penguin, 1977).
William Tyndale,
Obedience of a Christian Man , ed. David Daniell (London: Penguin, 2000). I thank Holly Crocker for bringing Tyndale to my attention.
For Hobbes on conscience, see
Leviathan , ed. J. C. A. Gaskin (Oxford World’s Classics, 1996), especially part 1, chapter 7. A stimulating blog by Stanley Fish adduces Hobbes as a proponent of public (versus private) conscience in relation to discussions of religiously based medical conscience clauses. In his acute analysis, Fish observes that 'one can (and should) relax the obligations of faith when one is not in church’. See
New York Times Opinion , 12 April 2009: (
http://www.opinionator.blogs.nytimes.com/2009/04/12/conscience-vs- conscience ) (accessed 31 January 2011).
For Aquinas, see St Thomas Aquinas,
Summa Theologica , tr. Fathers of the Dominican Province, vol. 1 (New York: Benziger Brothers, 1947), Part 1, Question 79, Article 13.
The commentator who wants 'a little human rights just now’ is Slaughter,
Human Rights, Inc,
previously cited.
الفصل الخامس
Edward, Earl of Clarendon,
Miscellaneous Works , 2nd edn. (London, 1751). I thank Laura Perille for this reference.
Augustine’s
Confessions
is available in numerous editions; the Latin text is conveniently found in Loeb Classical Library, 2 vols (1989).
Robinson Crusoe
is also widely available; see Oxford World’s Classics, ed. Keymer et al. (2008). 'Markheim’,
The Complete Short Stories of Robert Louis Stevenson , ed. Barry Menikoff (New York: Modern Library, 2002).
Seventeenth-century works by Andrew Jones, Jeremiah Dyke, and John Jackson may be found in Early English Books Online (hereafter, EEBO).
For a discussion of conscience 'written on the heart’, see Eric Jager,
The Book of the Heart (Chicago: University of Chicago Press, 2000).
Ayenbite of Inwit , Early English Text Society, Original Series, no. 278 (Oxford, 1987). 'Everyman’,
Medieval Drama , ed. David Bevington (Boston: Houghton Mifflin, 1975).
Martin Heidegger,
Being and Time , tr. Joan Stambaugh (New York: SUNY Press, 1996).
Camus’s characterization of Clamance is from
Charles Rolo , 'Albert Camus: A Good Man’,
The Atlantic Monthly (May 1958), 32.
James Joyce,
A Portrait of the Artist as a Young Man (London: Penguin, 1992).
On documentary photography, see Robert Coles,
Doing Documentary Work (Oxford: Oxford University Press, 1997). For the agency of images, see W. J. T. Mitchell,
What Do Pictures Want? (Chicago: University of Chicago Press, 2005).
The Sabrina Harman quotations are from Philip Gourevitch and Errol Morris, 'Exposure: The Woman Behind the Camera at Abu Ghraib’,
New Yorker , 28 March 2008. Also see Gourevitch and Morris,
The Ballad of Abu Ghraib (New York: Penguin, 2009).
Wil S. Hylton, 'Prisoner of Conscience’, appeared in
GQ
magazine, September 2006.
Susan Sontag,
On
(New York: Anchor Books, 1990).
النصوص الواردة داخل إطارات
محكمة «الضمير»
In addition to works cited above, see J. Swift, 'On the Testimony of Conscience’,
Irish Tracts and Sermons , ed. Louis Landa (Oxford: Blackwell, 1948).
صرصور الليل المتكلم
The Pinocchio of C. Collodi , tr. J. T. Teehan (New York: Schocken Books, 1985).
تحديد جنس الضمير
Jane Eyre
is available in many editions; see Oxford World’s Classics (2008).
الضمير: هل هو مثير للمتاعب أم ذات أخرى؟
See William Perkins, A
Discourse of Conscience , 1596; Early English Books Online. I thank Abraham Stoll for this reference.
أقوال توما الأكويني حول الضمير بوصفه «معرفة تطبيقية»
Thomas Aquinas,
Summa Theologica ,
قراءات إضافية
For the origins of conscience in legal pleading, I am indebted to C. A. Pierce,
Conscience in the New Testament (London: SCM Press, 1955). This notably perceptive study abounds in fresh insights and is especially to be recommended.
Valuable observations on Christian traditions of conscience and the predicaments of conscience today are to be found in Paul Tillich, the 'Transmoral Conscience’, in
Morality and Beyond (New York: Harper Torchbooks, 1966), pp. 65-81.
For a fine discussion of conscience in Luther’s early theology, see Michael G. Baylor,
Action and Person: Conscience in Late Scholasticism and the Young Luther (Leiden: Brill, 1977). Some of the possible extremities of Protestant conviction are discussed by Steven E. Ozment,
Mysticism and Dissent: Religious Ideology and Social Protest in the Sixteenth Century (New Haven and London: Yale University Press, 1973).
Many of the writings considered in my second chapter, together with other subjects of importance, are treated with impressive depth in Edward G. Andrew,
Conscience and Its Critics:
Subjectivity (Toronto and London: University of Toronto
Especially pertinent to Kant, and also richly engaged with other themes treated in this book, is Thomas E. Hill, 'Four Conceptions of Conscience’,
Human Welfare and Moral Worth: Kantian
(Oxford: Oxford University Press, 2002).
Additional perspectives on issues treated here are to be found in Charles Taylor,
Sources of the Self (Cambridge: Cambridge University Press, 1989) and Paul Ricoeur,
Oneself as Another (Chicago and London: University of Chicago Press, 1992).
Неизвестная страница