Дальнейшие противоречия в аятах Корана
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب - ط عطاءات العلم
Издатель
دار عطاءات العلم (الرياض)
Номер издания
الخامسة
Год публикации
١٤٤١ هـ - ٢٠١٩ م (الأولى لدار ابن حزم)
Место издания
دار ابن حزم (بيروت)
Жанры
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم النبيين، وأشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الحمد للَّه الذي ختم الرسل بهذا النبي الكريم، عليه من اللَّه الصلاة والتسليم، كما ختم الكتب السماوية بهذا القرآن العظيم، وهدى الناس بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥)﴾ [الأنعام/ ١١٥]، فأخباره كلها صدق، وأحكامه كلها عدل، وبعضه يشهد بصدق بعض ولا ينافيه؛ لأن آياته فُصِّلت من لدن حكيم خبير، ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (٨٢)﴾ [النساء/ ٨٢].
أما بعد؛ فإن مُقيِّد هذه الحروف -عفا اللَّه عنه- أراد أن يُبَيِّن في هذه الرسالة ما تيسر من أوجه الجمع بين الآيات التي يُظَنُّ بها التعارض في القرآن العظيم، مُرتِّبًا لها بحسب ترتيب السور، يذكر الجمع بين الآيتين غالبًا في محل الأولى منهما، وربما يذكر الجمع عند محلِّ الأخيرة، وربما يكتفي بذكر الجمع عند الأولى، وربما يحيل عليه عند محل الأخيرة، ولا سيما إذا كانت السورة ليس فيها مما يُظَنُّ تعارضه إلا تلك الآية، فإنه لا يترك ذكرها والإحالة على الجمع المتقدم، وسمَّيْتُه: "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب"
1 / 5
فنقول وباللَّه نستعين، وهو حسبنا ونعم الوكيل، راجين من اللَّه الكريم أن يجعل نيتنا صالحة وعملنا كله خالصًا لوجهه الكريم، إنه قريب مجيب رحيم:
1 / 6
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة البقرة
قوله تعالى: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [البقرة/ ١، ٢]. أشار اللَّه تعالى إلى القرآن في هذه الآية إشارة البعيد. وقد أشار له في آيات أخر إشارة القريب، كقوله: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء/ ٩]، وكقوله: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [النمل/ ٧٦]، وكقوله: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ [الأنعام/ ٩٢]، وكقوله: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ﴾ [يوسف/ ٣]، إلى غير ذلك من الآيات.
وللجمع بين هذه الآيات أوجه:
الوجه الأول: ما حرَّره بعض علماء البلاغة من أن وجه الإشارة إليه بإشارة الحاضر القريب أن هذا القرآن قريب حاضر في الأسماع والألسنة والقلوب، ووجه الإشارة إليه بإشارة البعيد هو بُعْدُ مكانته ومنزلته من مشابهة كلام الخلق، وعما يزعمه الكفار من أنه سحر أو شعر أو كهانة أو أساطير الأولين.
الوجه الثاني: هو ما اختاره ابن جرير الطبري في تفسيره من أن ذلك إشارة إلى ما تضمَّنه قوله: ﴿الم (١)﴾، وأنه أشار إليه إشارة البعيد لأن الكلام المشار إليه منقضٍ، ومعناه في الحقيقةِ القريبُ؛ لِقُرْبِ انقضائه، وضرب له مثلًا بالرجل يحدث الرجل فيقول له مرَّةً: واللَّه إن ذلك لكما قلت، ومرَّةً يقول: واللَّه إن هذا لكما قلت. فإشارة
1 / 7
البعيد نظرًا إلى أن الكلام مضى وانقضى، وإشارة القريب نظرًا إلى قُرْبِ انقضائه.
الوجه الثالث: أن العرب ربما أشارت إلى القريب إشارة البعيد، فتكون الآية على أسلوب من أساليب اللغة العربية. ونظيره قول خفاف بن ندبة السلمي، لما قتل مالك بن حرملة الفزاري:
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها ... فعمدًا على عيني تيممت مالِكا
أقول له والرمح يأطِرُ مَتْنَه ... تأمل خفافًا إنني أنا ذلكا
يعني أنا هذا.
وهذا القول الأخير حكاه البخاري عن معمر بن المثنى أبي عبيدة. قاله ابن كثير.
وعلى كل حال فعامة المفسرين على أن ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ بمعنى: هذا الكتاب.
قوله تعالى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ هذه نكرة في سياق النفي رُكِّبَتْ مع "لا"، فبنيت على الفتح. والنكرة إذا كانت كذلك فهي نص في العموم، كما تقرر في علم الأصول.
و"لا" هذه التي هي نص في العموم هي المعروفة عند النحويين: "لا" التي لنفي الجنس، أما "لا" العاملة عمل "ليس" فهي ظاهرة في العموم لا نصٌّ فيه.
وعليه فالآية نصٌّ في نفي كل فرد من أفراد الريب عن هذا القرآن
1 / 8
العظيم.
وقد جاء في آيات أخر ما يدل على وجود الريب فيه لبعض من الناس، كالكفار الشاكِّين، كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ [البقرة/ ٢٣]، وكقوله: ﴿وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ [التوبة/ ٤٥]، وكقوله: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩)﴾ [الدخان/ ٩].
ووجه الجمع في ذلك: أن القرآن بالغ من وضوح الأدلة وظهور المعجزة ما ينفي تطرق أي ريب إليه، وريب الكفارة فيه إنما هو لعمى بصائرهم، كما بينه بقوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى﴾ [الرعد/ ١٩]، فصرح بأن من لا يعلم أنه الحق أن ذلك إنما جاءه مِنْ قِبَلِ عماه. ومعلوم أن عدم رؤية الأعمى للشمس لا ينافي كونها لا ريب فيها لظهورها.
إذا لم يكن للمرء عين صحيحة ... فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر
وأجاب بعض العلماء بأن قوله ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ خبر أريد به الإنشاء. أي: لا ترتابوا فيه. وعليه فلا إشكال.
قوله تعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢)﴾ [البقرة/ ٢].
خصص في هذه الآية هدى هذا الكتاب بالمتقين، وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أن هداه عام لجميع الناس، وهي قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ﴾ [البقرة/ ١٨٥].
ووجه الجمع بينهما: أن الهدى يستعمل في القرآن استعمالين:
1 / 9
أحدهما عام، والثاني خاص.
أما الهدى العام فمعناه: إبانة طريق الحق وإيضاح المحجة، سواء سلكها المبيَّن له أم لا.
ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ﴾ [فصلت/ ١٧] أي: بينا لهم طريق الحق على لسان نبينا صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، مع أنهم لم يسلكوها، بدليل قوله ﷿: ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾.
ومنه -أيضًا- قوله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ [الإنسان/ ٣]، أي بينا له طريق الخير والشر، بدليل قوله: ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (٣)﴾.
وأما الهدى الخاص: فهو تفضل اللَّه بالتوفيق على العبد.
ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ [الأنعام/ ٩٠]، وقوله: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾ [الأنعام/ ١٢٥].
فإذا علمت ذلك فاعلم أن الهدى الخاص بالمتقين هو الهدى الخاص، وهو التفضل بالتوفيق عليهم. والهدى العام للناس هو الهدى العام، وهو إبانة الطريق وإيضاح المحجة.
وبهذا يرتفع الإشكال أيضًا بين قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص/ ٥٦] مع قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢)﴾ [الشورى/ ٥٢]؛ لأن الهدى المنفي عنه ﷺ هو الهدى الخاص، لأن التوفيق بيد اللَّه وحده، ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ
1 / 10
لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ [المائدة/ ٤١]، والهدى المثبت له هو الهدى العام الذي هو إبانة الطريق، وقد بينها ﷺ حتى تركها محجة بيضاء ليلها كنهارها، ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥)﴾ [يونس/ ٢٥].
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦)﴾ [البقرة/ ٦].
هذه الآية تدل بظاهرها على عدم إيمان الكفار.
وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن بعض الكفار يؤمن باللَّه ورسوله، كقوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال/ ٣٨]، وكقوله: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء/ ٤]، وكقوله: ﴿وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ﴾ [العنكبوت/ ٤٧].
ووجه الجمع ظاهر، وهو أن الآية من العام المخصوص؛ لأنها في خصوص الأشقياء الذين سبقت لهم في علم اللَّه الشقاوة المشار إليهم بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٩٧)﴾ [يونس/ ٩٦، ٩٧]، ويدل لهذا التخصيص قوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [البقرة/ ٧].
وأجاب البعض بان المعنى: لا يؤمنون ما دام الطبع على قلوبهم وأسماعهم، والغشاوة على أبصارهم، فإن أزال اللَّه عنهم ذلك بفضله آمنوا.
1 / 11
قوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ [البقرة/ ٧] الآية.
هذه الآية تدل بظاهرها على أنهم مجبورون؛ لأن من ختم على قلبه وجعلت الغشاوة على بصره سلبت منه القدرة على الأيمان.
وقد جاء في آيات أُخر ما يدل على أن كفرهم واقع بمشيئتهم وإرادتهم، كقوله تعالى ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت/ ١٧]، وكقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ﴾ [البقرة/ ١٧٥]، وكقوله: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف/ ٢٩]، وكقوله: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [آل عمران/ ١٨٢]، وكقوله: ﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ [المائدة/ ٨٠].
والجواب: أن الختم والطبع والغشاوة المجعولة على أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم، كل ذلك عقاب من اللَّه لهم على مبادرتهم للكفر وتكذيب الرسل باختيارهم ومشيئتهم، فعاقبهم اللَّه بعدم التوفيق جزاء وفاقًا، كما بينه تعالى بقوله: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ [النساء/ ١٥٥]، وقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [المنافقون/ ٣]، وبقوله: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام/ ١١٠]، وقوله: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف/ ٥]، وقوله: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ [البقرة/ ٦]، وقوله: ﴿بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)﴾ [المطففين/ ١٤]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة/ ١٧].
أفرد في هذه الآية الضمير في قوله: ﴿اسْتَوْقَدَ﴾، وفي قوله: ﴿مَا
1 / 12
حَوْلَهُ﴾، وجمع الضمير في قوله: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧)﴾، مع أن مرجع كل هذه الضمائر شيء واحد وهو لفظة ﴿الَّذِي﴾ مِنْ قوله: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي﴾.
والجواب عن هذا: أن لفظة "الذي" مفرد، ومعناها عام لكل ما تشمله صلتها. وقد تقرر في علم الأصول: أن الأسماء الموصولة كلها من صيغ العموم.
فإذا حققت ذلك، فاعلم أن إفراد الضمير باعتبار لفظة "الذي" وجمعه باعتبار معناها، ولهذا المعنى جرى على ألسنة العلماء: أن "الذي" تأتي بمعنى "الذين".
ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم هذه الآية الكريمة؛ فقوله: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ﴾ أي: كمثل الذين استوقدوا. بدليل قوله: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ﴾.
وقوله: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣)﴾ [الزمر/ ٣٣].
وقوله: ﴿لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ﴾ [البقرة/ ٢٦٤] أي: كالذين ينفقون. بدليل قوله: ﴿لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا﴾ [البقرة/ ٢٦٤].
وقوله: ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ [التوبة/ ٦٩] بناء على الصحيح من أن "الذي" فيها موصولة لا مصدرية.
ونظير هذا من كلام العرب قول الراجز:
1 / 13
ياربَّ عبسٍ لا تبارك في أحد ... في قائم منهم ولا في من قعد
إلا الذي قاموا بأطراف المسد
وقول الشاعر -وهو أشهب بن رميلة، وأنشده سيبويه لإطلاق "الذي" وإرادة "الذين"-:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد
وزعم ابن الأنباري أن لفظة "الذي" في بيت أشهب جمع "اللَّذْ" بالسكون، وأن "الذي" في الآية مفرد أريد به الجمع. وكلام سيبويه يرد عليه.
وقول عديل بن الفرخ العجلي:
وبِتُّ أساقي القوم إخوتي الذي ... غوايتهم غيِّي ورشدهم رشدي
وقال بعضهم: المستوقدُ واحدٌ لجماعةِ معه. ولا يخفى ضعفه.
قوله تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة/ ١٨].
هذه الآية يدل ظاهرها على أن المنافقين لا يسمعون ولا يتكلمون ولا يبصرون.
وقد جاء في آيات أخر ما يدل على خلاف ذلك، كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ [البقرة/ ٢٠]، وكقوله: ﴿وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ الآية [المنافقون/ ٤]، أي: فصاحتهم وحلاوة ألسنتهم، وقوله: ﴿فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾ [الأحزاب/ ١٩]، إلى غير ذلك من الآيات.
1 / 14
ووجه الجمع ظاهر، وهو أنهم بُكْمٌ عن النطق بالحق وإن تكلموا بغيره، صُمٌّ عن سماع الحق وإن سمعوا غيره، عُمْيٌ عن رؤية الحق وإن رأوا غيره.
وقد بين تعالى هذا الجمع بقوله: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً﴾ الآية [الأحقاف/ ٢٦]؛ لأن ما لا يغني شيئًا فهو كالمعدوم.
والعرب ربما أطلقت الصمم على السماع الذي لا أثر له، ومنه قول قعنب بن أم صاحب:
صُمٌّ إذا سمعوا خيرًا ذُكِرْتُ به ... وإنْ ذُكِرْتُ بسوء عندهم أَذِنُوا
وقول الشاعر:
أصمُّ عن الأمر الذي لا أريده ... وأَسْمَعُ خلق اللَّه حين أريد
وقول الآخر:
فأصممت عمرًا وأعميته ... عن الجود والفخر يوم الفخار
وكذلك الكلام الذي لا فائدة فيه فهو كالعدم.
قال هبيرة بن أبي وهب المخزومي:
وإن كلام المرء في غير كنهه ... لكالنَّبل تهوي ليس فيها نصالها
قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ الآية [البقرة/ ٢٤].
هذه الآية تدل على أن هذه النار كانت معروفة عندهم؛ بدليل
1 / 15
"أل" العهدية. وقد قال تعالى في سورة التحريم: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم/ ٦]، فتنكير النار هنا يدل على أنها لم تكن معروفة عندهم بهذه الصفات.
ووجه الجمع: أنهم لم يكونوا يعلمون أن من صفاتها كون الناس والحجارة وقودًا لها، فنزلت آية التحريم، فعرفوا منها ذلك من صفات النار، ثم لما كانت معروفة عندهم نزلت آية البقرة، فعُرِّفَتْ فيها النار بِـ "أل" العهدية لأنها معهودة عندهم في آية التحريم.
ذكر هذا الجمع البيضاوي والخطيب (^١) في تفسيريهما، وزعما أن آية التحريم نزلت بمكة.
وظاهر القرآن يدل على هذا الجمع؛ لأن تعريف النار هنا بِـ "أل" العهدية يدل على عهد سابق، والموصول وصِلَته دليل على العهد وعدم قصد الجنس، ولا ينافي ذلك أن سورة التحريم مدنية، وأن الظاهر نزولها بعد البقرة، كما رُوِيَ عن ابن عباس، لجواز كون الآية مكية في سورة مدنية كالعكس.
قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ [البقرة/ ٢٩].
هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء، بدليل لفظة "ثم" التي هي للترتيب والانفصال، وكذلك آية حم السجدة تدل -
_________
(^١) الشربيني في تفسيره "السراج المنير" (١/ ٣٦). وأصل الجمع عند الرازي في تفسيره (٢/ ١١٢).
1 / 16
أيضًا- على خلق الأرض قبل خلق السماء؛ لأنه قال فيها: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ إلى أن قال: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ الآية [فصلت/ ٩ - ١١]. مع أن آية النازعات تدل على أن دَحْوَ الأرض بعد خلق السماء؛ لأنه قال فيها: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (٢٧)﴾ [النازعات/ ٢٧]، ثم قال: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (٣٠)﴾ [النازعات/ ٣٠].
اعلم أولًا أن ابن عباس ﵄ سئل عن الجمع بين آية السجدة وآية النازعات، فأجاب بأن اللَّه تعالى خلق الأرض أولًا قبل السماء غير مَدْحُوَّةٍ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعًا في يومين، ثم دحا الأرض بعد ذلك وجعل فيها الرواسي والأنهار وغير ذلك.
فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء، ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك بعد خلق السماء.
ويدل لهذا أنه قال: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (٣٠)﴾ ولم يقل: خلقها، ثم فسر دحوه إياها بقوله: ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (٣١)﴾ الآية [النازعات/ ٣١].
وهذا الجمع الذي جمع به ابن عباس بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه، مفهوم من ظاهر القرآن العظيم، إلا أنه يَرِدُ عليه إشكال من آية البقرة هذه، وإيضاحه: أن ابن عباس جمع بأن خلق الأرض قبل خلق السماء ودحوها بما فيها بعد خلق السماء، وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء؛ لأنه قال
1 / 17
فيها: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ الآية.
وقد مكثت زمنًا طويلًا أفكر في حل هذا الإشكال، حتى هداني اللَّه إليه ذات يوم ففهمته من القرآن العظيم، وإيضاحه: أن هذا الإشكال مرفوع من وجهين، كل منهما تدل عليه آية من القرآن:
الأول: أن المراد بخلق ما في الأرض جميعًا قبل خلق السماء: الخلق اللغوي الذي هو التقدير، لا الخلق بالفعل الذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود. والعرب تسمي التقدير خلقًا، ومنه قول زهير:
ولأنت تفرى ما خلقت وبعـ ... ـضُ القوم يخلقُ ثم لا يفري
والدليل على أن المراد بهذا الخلق التقدير: أنه تعالى نص على ذلك في سورة فصلت حيث قال: ﴿وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا﴾، ثم قال: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ الآية [فصلت/ ١١].
الوجه الثاني: أنه لما خلق الأرض غير مدحوة، وهي أصل لكل ما فيها، كان كل ما فيها كأنه خلق بالفعل؛ لوجود أصله فعلًا.
والدليل من القرآن على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع وإن لم يكن موجودًا بالفعل قولُه تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ﴾ الآية [الأعراف/ ٧]، فقوله: ﴿خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف/ ١١] أي: بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم الذي هو أصلكم.
وجمع بعض العلماء بأن معنى قوله: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ
1 / 18
دَحَاهَا (٣٠)﴾ أي: مع ذلك. فلفظة "بعد" بمعنى "مع". ونظيره قوله تعالى: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (١٣)﴾ [القلم/ ١٣]. وعليه فلا إشكال في الآية. ويستأنس لهذا القول بالقراءة الشاذة -وبها قرأ مجاهد-: (والأرض مع ذلك دحاها).
وجمع بعضهم بأوجه ضعيفة؛ لأنها مبنية على أن خلق السماء قبل الأرض، وهو خلاف التحقيق.
منها: أن "ثم" بمعنى الواو.
ومنها: أنها للترتيب الذكري، كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآية [البلد/ ١٧].
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ الآية [البقرة/ ٢٩].
أفرد هنا تعالى لفظ ﴿السَّمَاءِ﴾، ورد عليه الضمير بصيغة الجمع في قوله: ﴿فَسَوَّاهُنَّ﴾.
وللجمع بين ضمير الجمع ومفسره المفرد وجهان:
الأول: أن المراد بالسماء: جنسها الصادق بسبع سموات، وعليه فـ "أل" جنسية.
الثاني: أنه لا خلاف بين أهل اللسان العربي في وقوع إطلاق المفرد وإرادة الجمع، مع تعريف المفرد وتنكيره وإضافته، وهو كثير في القرآن العظيم وفي كلام العرب.
1 / 19
فمن أمثلته في القرآن واللفظ مُعَرَّفٌ: قوله تعالى: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ [آل عمران/ ١١٩] أي: بالكتب كلها، بدليل قوله تعالى: ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ﴾ [البقرة/ ٢٨٥]، وقوله: ﴿وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ﴾ [الشورى/ ١٥]. وقوله: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥)﴾ [القمر/ ٤٥] يعني: الأدبار، كما هو ظاهر. وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ﴾ [الفرقان/ ٧٥] يعني الغُرَف، بدليل قوله تعالى: ﴿لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ﴾ [الزمر/ ٢٠] وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (٣٧)﴾ [سبأ/ ٣٧]. وقوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢)﴾ [الفجر/ ٢٢] أي: الملائكة، بدليل قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ [البقرة/ ٢١٠]. وقوله تعالى: ﴿أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا﴾ الآية [النور/ ٣١] يعني: الأطفال الذين لم يظهروا. وقوله تعالى: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ الآية [المنافقون/ ٤] يعني: الأعداء.
ومن أمثلته واللفظ مُنَكَّرٌ: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤)﴾ [القمر/ ٥٤] يعني: وأنهار، بدليل قوله تعالى: ﴿فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ﴾ الآية [محمد/ ١٥]، وقوله تعالى: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (٧٤)﴾ [الفرقان/ ٧٤] يعني: أئمة، وقوله تعالى: ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (٦٧)﴾ [المؤمنون/ ٦٧] يعني: سامرين، وقوله: ﴿ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا﴾ [الحج/ ٥] يعني: أطفالًا، وقوله: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ [البقرة/ ١٣٦] أي: بينهم، وقوله تعالى: ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (٦٩)﴾ [النساء/ ٦٩] أي: رفقاء، وقوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة/ ٦] أى: جُنبين أو أجنابًا، وقوله: ﴿وَالْمَلَائِكَةِ
1 / 20
بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (٤)﴾ [التحريم/ ٤] أي: مظاهرون؛ لدلالة السياق فيها كلها على الجمع. واستدل سيبويه لهذا بقوله: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا﴾ [النساء/ ٤] أي: أنفسًا.
ومن أمثلته واللفظ مضافٌ: قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي﴾ الآية [الحجر/ ٦٨] يعني: أضيافي، وقوله: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ الآية [النور/ ٦٣] أي: أوامره.
وأنشد سيبويه لإطلاق المفرد وإرادة الجمع قول الشاعر -وهو علقمة بن عبدة التميمي-:
بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيضٌ وأما جلدها فصليب
يعني: وأما جلودها فصليبة.
وأنشد له -أيضًا- قول الآخر:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا ... فإن زمانكم زمن خميص
يعني: في بعض بطونكم.
ومن شواهده قول عقيل بن عُلَّفة المري:
وكان بنو فزارة شر عمٍّ ... وكنت لهم كشرِّ بني الأخينا
يعني: شر أعمام.
وقول العباس بن مرداس السلمي:
فقلنا أسلموا إنا أخوكم ... وقد سلمت من الإحن الصدور
1 / 21
يعني: إنا إخوانكم.
وقول الآخر:
يا عاذلاتي لا تردن ملامة ... إن العواذل ليس لي بأمير
يعني: لسن لي بأمراء.
وهذا في النعت بالمصدر مُطَّرِدٌ، كقول زهير:
متى يشتجر قومٌ يَقُلْ سرواتهم ... همُ بيننا فهمُ رضًا وهمُ عَدْلُ
ولأجل مراعاة هذا لم يجمع في القرآن: السمع والطرف والضيف؛ لأن أصلها مصادر، كقوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ [البقرة/ ٧]، وقوله: ﴿لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (٤٣)﴾ [إبراهيم/ ٤٣]، وقوله تعالى: ﴿يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ [الشورى/ ٤٥]، وقوله: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي﴾ [الحجر/ ٦٨].
قوله تعالى: ﴿يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ الآية [البقرة/ ٣٥]، يتوهم معارضته مع قوله: ﴿حَيْثُ شِئْتُمَا﴾.
والجواب: أن قوله: ﴿اسْكُنْ﴾ أمر بالسكنى لا بالسكون الذي هو ضد الحركة، فالأمر باتخاذ الجنة مسكنًا لا ينافي التحرك فيها وأكلهما من حيث شاءا.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ الآية [البقرة/ ٤١].
جاء في هذه الآية بصيغة خطاب الجمع في قوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا﴾
1 / 22
﴿وَلَا تَشْتَرُوا﴾، وقد أفرد لفظة ﴿كَافِر﴾، ولم يقل: ولا تكونوا أول كافرين.
ووجه الجمع بين الإفراد والجمع في شيء واحد: أن معنى ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِه﴾ أي: أول فريق كافر، فاللفظ مفرد والمعنى جمع، فيجوز مراعاة كل منها، وقد جمع اللغتين قول الشاعر:
فإذا هم طعموا فَأَلأَمُ طاعمٍ ... وإذا هم جاعوا فشرُّ جياع
وقيل: هو من إطلاق المفرد وإرادة الجمع، كقول ابن عُلَّفة:
وكان بنو فزارة شر عمٍّ. . . .
كما تقدم قريبًا.
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ الآية [البقرة/ ٤٦].
هذه الآية تدل بظاهرها على أن الظن يكفي في أمور المعاد.
وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ [يونس/ ٣٦]، وكقوله: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (٢٤)﴾ [الجاثية/ ٢٤].
ووجه الجمع: أن الظن بمعنى اليقين، والعرب تطلق الظن بمعنى اليقين ومعنى الشك.
وإتيان الظن بمعنى اليقين كثير في القرآن وفي كلام العرب.
فمن أمثلته في القرآن هذه الآية، وقوله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِينَ
1 / 23
يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ﴾ الآية [البقرة/ ٢٤٩]، وقوله: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا﴾ [الكهف/ ٥٣] أي: أيقنوا، وقوله تعالى: ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (٢٠)﴾ [الحاقة/ ٢٠] أي: أيقنت.
ونظيره من كلام العرب قول عميرة بن طارق:
بأن تغتزوا قومي وأقعد فيكم ... وأجعل مني الظن غيبًا مرجَّما
أي: أجعل مني اليقين غيبًا.
وقول دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرَّد
فقوله: "ظُنُّوا" أي: أيقنوا.
قوله تعالى: لبني إسرائيل: ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (٤٧)﴾ [البقرة/ ٤٧] لا يعارض قوله تعالى في تفضيل هذه الأمة: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران/ ١١٠]؛ لأن المراد بالعالمين عالَمو زمانهم، بدليل الآيات والأحاديث المصرحة بأن هذه الأمة أفضل منهم، كحديث معاوية بن حيدة القشيري في المسانيد والسنن، قال: قال رسول اللَّه ﷺ: "أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على اللَّه".
ألا ترى أن اللَّه جعل المقتصد منهم هو أعلاهم منزلة حيث قال: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (٦٦)﴾ [المائدة/ ٦٦]، وجعل
1 / 24