الإنشاء الإنشاء هو الكتابة وعرفها بعضهم بأنها ( صناعة روحانية تظهر بآلة جثمانية دالة على المراد بتوسط نظمها ) (1)
إذا كان المرء بأصغريه قلبه ولسانه فلا شك أن القلم أحد اللسانين بل هو أفضلها وأحقها بالعناية والاعتبار ؛ لأن عمله عام دائم ، فعمل اللسان الأصلي من الأعراض السيالة ، قد لا ينتفع به إلا من يخالط صاحبه ويسمعه . أما عمل القلم فهو من الصفات الثابتة ينتفع به من يخالط صاحبه ومن لا يخالطه ولو كان بينهما بعد المشرقين ، بل وينتفع به من في عصره ومن يأتي بعده على ممر الليالي والأيام .
(1) صبح الأعشى عن البيان
ولئن قامت الحاجة إلى الكتابة في كل عصر ففي هذا العصر أشد كما أنه وإن احتاج إليها جميع الناس فإن العالم أشدهم احتياجا لأنها من أهم أسلحته التي يقضي بها أغراضه ويقيم بها من دعائم الإصلاح ما شاء الله .
فضل الإنشاء معلوم من أول الدولة الإسلامية ، وقد كان سابقا لأصحاب الأقلام النصيب الأوفر من التقدم والرفعة بل كان هو الميدان الذي يتسابق فيه الفضلاء من أهل العلم والأدب .
لا ينكر فضل الإنشاء وقيمته العالية أحد ، حتى الجهال والبسطاء والأميون الذين يحبون الكتابة المستمرة إلى أهليهم وأصدقائهم بعبارات إنشائية بليغة وقد يدفعون في سبيل ذلك أجورا عظيمة .
وفائدته في التأثير أشهر من أن تذكر ، فقد تفعل الجملة الواحدة من جمل الإنشاء ما تعجز عنه السيوف والحراب والمدافع .
وطالما أورث الإنشاء غنى وجاها وجلب سلاما وأقام حروبا ونجى من الموت ، وطالما كانت له اليد الطولى في توبة العاصي وإنابة الفاسق (1) ، ومن العجيب أن يجهله مع ذلك كثير ممن يدعون العلم ويعدون أنفسهم في مصاف الفحول جهلا فاحشا وصل بهم إلى حد أن تضرب بهم الأمثال وتلوكه الألسنة في المحافل ، وتتخذ بعض مكتوباتهم سخرية واستهزاء بين الناس .
Страница 54