الضباب
الضباب
تأليف
ثروت أباظة
الفصل الأول
بكرت الحاجة بمبة زوجة الحاج والي عبد الهادي، فلبست معطفها ووضعت على رأسها خمارا مما تضعه زوجات الأعيان في الريف، وأسقطته على وجهها، وخرجت إلى الطريق العام تسير في تؤدة وفي صحة مكتملة؛ فما كانت الست بمبة قد تعدت الأربعين من عمرها، وما كان بطء المشية إلا التزاما بما تمليه عليها مكانتها في القرية.
ولم يطل المسير بالست بمبة؛ فقد توقفت عند باب أحال وجهه لقاء الزمن، فهو كالح باهت لا استواء في ألواحه ولا نعومة، فكأنما ألقت عليه الأيام غضونا كهذه التي تلقيها على وجوه البشر. وطرقت بمبة الباب؛ فانشق عن امرأة في خريف العمر، وفي وجهها قناعة وطيبة، وفيه أيضا بعض غضون من العمر تزكيها خصلات من الشعر الأبيض جمحت فأبت أن تبقى حبيسة المنديل القديم الذي تعصب به رأسها. وقد دهشت سيدة أم عسل أن تقصد إليها الست بمبة في زيارة صباحية بغير داع إليها، ولكن دهشتها لم تمنعها أن ترحب بالزائرة أعمق ترحيب وأصدقه.
لم تكن الحاجة بمبة لتزور بيت سيدة أم عسل في الصباح، ولا حتى في المساء؛ إذا لم يكن هناك سبب ملح للزيارة؛ كأداء واجب في عزاء أو تهنئة لزواج، أما أن تسقط عليها كما يفعل الأصدقاء - رفعوا بينهم الكلفة والمواعيد - فهذا ما لا يتفق ومكانة الست بمبة أو الحاجة بمبة كما يدعوها الجميع؛ فهي زوجة الحاج والي عبد الهادي من أعيان قرية الحمدية، يملك في زمام القرية ثلاثين فدانا، وهو إلى هذا رجل ذو رأي صائب يلجأ إليه القوم في الملمات، وهو كذلك على صلات وطيدة بذوي الشأن في المديرية - مديرية الشرقية - وليس أدل على وجاهته ومكانته المرموقة من أن زين العابدين بك الدرملي وجيه القرية، بل المنطقة؛ لا يزور في القرية إلا قلة قليلة، من بينها - إن لم يكن في مقدمتها - الحاج والي عبد الهادي. فزيارة الحاجة بمبة إذن لسيدة أم عسل زوج محمدين أبو علي، زيارة من شأنها أن تثير الدهشة والعجب والحيرة.
والزيارة في الصباح تزيد من هذه الدهشة والعجب والحيرة؛ فما تعودت النساء في القرية أن يتزاورن في الصباح، فكيف بهذه الزيارة التي تقوم بها الحاجة بمبة إلى هذا البيت المتواضع؟ فما يزيد محمدين أبو علي على رجل طيب يملك فدانين اثنين وخمسة أولاد بين بنات ونساء وبنين، وهو بعد يزرع الفدانين بيديه؛ فالصلة إذن بين الحاجة بمبة وسيدة، صلة تقوم على العطف أكثر مما تقوم على الصداقة، وزيارة الحاجة بمبة لبيت محمدين في أي وقت، إنما تعتبر تنازلا يتلقاه أهل هذا البيت الطيب بكل امتنان وزهو، وزيارة سيدة أم عسل لبيت الحاجة أمر تستعد له سيدة استعدادا كبيرا، ثم هي لا تقوم بهذه الزيارة وحدها، إنما تحرص في غالب الأمر على أن تصحب معها ثلة من نساء القرية. وهذه الزيارات تتكرر مرات كثيرة في الأسبوع، في حين لا تتم زيارة الحاجة بمبة لسيدة إلا مرة في العام على الأكثر، ولا بد أن يكون هناك داع لتتم الزيارة؛ إذن فقدوم الست بمبة لا بد أن يكون مصحوبا بالخطير الجليل من الأمر.
قالت سيدة: أهلا ستي الحاجة، نورت. أهلا وسهلا، تفضلي.
Неизвестная страница