وقاطعه أبوه: وطبعا أنا سأقدر زيادة التكاليف عليك. - أنت لا تؤخر عني طلبا. - وهل لي إلا أنت يا ابني؟
وأحس سكينا حادة وهو يقول هذا، وعاوده الضباب؛ أتراي ظلمتك حين جئت بك إلى الدنيا؟ ولم ير محمد ما يعانيه أبوه، وكان يفكر فيما يريد أن يقول، وهوم الصمت على الاثنين لحظات، ثم تنحنح محمد وقال: الحقيقة أنني أطمئن على أحمد مع أمي الحاجة أكثر مما لو كان عندي في البيت.
ونظر الأب مليا إلى ولده، وأدرك ما يريد ابنه أن يقول، ثم قال: لعلك على حق. طيب أقوم أنا. - لم تشرب القهوة. - وراءك شغلك. سلام عليكم. - مع السلامة يابا.
وقبل يده وهو يسلم عليه، ويخرج الحاج والي مرة أخرى إلى الطريق وبحر مويس. لم يعد موضوع أحمد يهمه في ذاته، وإنما كان يريد أن يرى محمدا وقد رآه، وسار في الطريق، وعاد الضباب يغشى سبيله، ولكنه نوع آخر من الضباب. رفع الحاج والي يده إلى عينه ومسح الدموع التي تراكمت على أهدابه.
الفصل الثالث والثلاثون
دأب الحاج والي منذ ذلك اليوم أن يزور بيت ابنه في كل وقت من أوقات النهار، ودهش محمد لهذه الزيارات المتكاثرة، ولكن آمال عرفت ما يريد الحاج والي أن يفرضه عليها من رقابة.
وكان الحاج والي يعتبر نفسه المسئول وحده عما يجري في بيت محمد؛ فقد حمل السر وحده، لم يبح به ولا حتى لزوجته. حمل السر وحده، شر حمل عرفه في حياته الطويلة، كان يحس به سرا أشد وطأة من الحياة نفسها، وكان كلما ضاق بسره قصد إلى الزقازيق وداهم بيت محمد، وقليلا ما كان يجد محمدا. وما كان هذا يعنيه في شيء، بل كان حين لا يجده يدخل إلى البيت، ويظل صامتا لا يتحدث، وتحضر له آمال القهوة ويشربها ويظل ناظرا إليها طوال جلسته لا ينطق، بل يترك عينيه تقولان، وقد كانتا تقولان كثيرا، وكانت آمال تستمع إلى هذا الحديث الصامت فينصب على قلبها كأنه المدى القاطعة، وتحاول ألا تنظر إلى الحاج، ولكن عينيه الهادرتين بالحديث ما تلبثان أن تفرضا عليها أن تنظر إليهما لترى وتسمع الحديث الصامت، وتواصل المدى عملها في قلبها، بل في كيانها جميعا.
ويشرب الحاج والي قهوته ويطلق تنهيدة ينتزعها من أعماق آلامه ويقوم إلى الباب لا يسلم، فإذا أقفلت آمال الباب من خلفه تهاوت في بكاء صاخب ثائر ثورة لا تدري كيف تنفس عنها.
وفي يوم بينما الحاج والي جالس معها، عيناه مثبتتان عليها قالت له فجأة: عم الحاج.
ولم يجب فواصلت الحديث: أتستطيع أن تقتلني؟
Неизвестная страница