فليكن ابتلاؤك في المال، كل المال، أما البنون فما عندي من بنين إلا محمد هذا فدعه لي؛ فما أنا بالذي يصبر لهذا البلاء. إني أعلم وإنك تعلم أنني أقل من هذا البلاء. يا رب ... يا رب ...
كان الدعاء والدواء والصبر هو كل ما يملك الحاج والي، وكانت الحاجة بمبة هي التي تقوم بتمريض الطفل في حنان وأناة وامتثال تكاد لا تذكر إلا أنه ابنها، فما عرفت لنفسها ابنا إلا بالتبني، وما عرف هو أما إلا هي.
وفي بطء شديد شفي محمد، وعادت الابتسامة إلى الحاج والي، وعاد النوم إلى الحاجة بمبة. أحس الحاج والي سعادة ... سعادة لم يعرف لها مثيلا في حياته. ما أحلى أن يكون لي ابن يحيط به الخطر ثم ينجو! كأنما أصبح لي ولد جديد. إنهم ليمدون قلوبنا بالسعادة والجدة هؤلاء الأطفال ... لا ... لا شيء يعدل أن يشفى ابني من مرض خطير ... لا ... لا شيء يعدل هذا في الوجود.
وواجهت الحاج والي مشكلة أخرى؛ أيعود محمد إلى المدرسة فيتعرض للبرد مرة أخرى وللمرض؟ وسرعان ما حسم المشكلة، فماذا يصنع محمد إن لم يذهب إلى المدرسة؟!
ومن جديد عاد الحاج والي يوقظ محمدا في الفجر فيصليان جماعة، ثم ينفتل محمد إلى مدرسته ليواجه البرد الشديد، والحر الشديد، والعلم الثقيل.
الفصل الرابع عشر
كان زين العابدين جالسا في شرفة داره ينتظر عربته أن تعود من المحطة حاملة حماته وحماه الذي أبرق إليه أنه قادم في يومه هذا.
وكان زين العابدين سعيدا في انتظاره هذا؛ فقد تولت ثلاثة كلاب أو كلبان وكلبة تسليته بتمثيلهم أمامه قصة الثلاثي الخالد الزوج والزوجة والعشيق، وقد اندمج ثلاثتهم في أدوارهم اندماجا أنساهم المتفرج الوحيد زين العابدين.
وقد اختارت الكلبة دور المنتظر لا تجنح بعواطفها أو تصرفاتها جنوحا ينبئ عن حقيقة مشاعرها، بينما راح الكلبان يعتركان ويتجه كل منهما إلى الكلبة كلما خيل إليه أنه بلغ من عدوه ما يشتهيه له من هزيمة؛ فما يلبث الآخر أن يلحق به في منتصف الطريق يرده عن الكلبة أن يصل إليها. ولم يكن زين العابدين يعلم أي الكلبين هو الزوج وأيهما العشيق، فإنهم في دنيا الحيوان يتقاربون فيختلطون، ولكن زين العابدين رأى في عيني أحد الكلبين ذلة وانكسارا، ورأى في عيني الآخر توقحا وجرأة، وكاد يعرف من هذه النظرات حقيقة كل منهما، إلا أنه عاد فاختلط عليه الأمر، لا يدري مدى ما أصابه من صدق النظرة وقوة الاستنتاج. واستطاع أحد الكلبين ذو النظرة المتقحمة أن يصل إلى الكلبة آخر الأمر؛ واستقبلته العاهرة استقبالا حارا جعل الكلب الآخر الكسير النظرات مذهولا محجما عن محاولة كان قد بدأها ليرد الكلب المنتصر، وكأنما أصاب هذا الترحيب من الكلبة كبرياءه، فهو ينعم النظر، وتبدو عليه ألوان من الحيرة والذلة والرغبة والزهد، ثم يولي الكلبين والمتفرج ظهره وينصرف عن المسرح جميعا.
ولو كان للمسرح ستار لأسدل على الكلبين الآخرين؛ فإن الرواية كانت بلغت ما يجب عنده أن تتخفى شخوصها بين الكواليس، ولكن زين العابدين ظل يرنو إلى الكلبين متشوقا إلى القاهرة وصديقته الجديدة سنية شخلع حسيرا في الوقت نفسه لقلة المال معه، أسيفا أنه لم يعد يستطيع أن يبيع أكثر مما باع، فقد تضاءلت أرضه فأصبحت أربعين فدانا، وما يستطيع بعد ذلك أن يبيع منها شيئا، ولا يستطيع كذلك أن يواجه ما تحتاج إليه سنية من مصاريف، ولا هو مطيق أن يهجر سنية أو البار، فهو في دوامة من الحيرة يتخبط بين جدران من خوف الفقر، ومن الرغبة العارمة في بقاء محبوبته، ومن قلة الأرض لا تستطيع أن تغل له ما يكفي رغباته، ولا تستطيع أيضا أن تتضاءل أكثر مما تضاءلت. وقد كانت حيرته هذه قديمة، ليس للكلاب فيها شأن إلا تذكير بحقيقة تسيطر عليه أغلب الوقت، وقد كان بقاؤه بالقرية أكثر ما يضيق له، ولكنه لا يملك إلا أن يبقى بها، وإن كان هو لا يتولى زراعة الأرض بنفسه، بل يؤجرها إلى الفلاحين، فإشرافه على المستأجرين إشراف هين لا يستغرق من وقته إلا أقل وقته، ثم يفرغ بعد ذلك إلى هذه الحيرة وهذا الضيق بالقربة، وهذا الشوق اللاهف للقاهرة وسنية والبار.
Неизвестная страница