لم يذهب حسين إلى الحاج والي، وإنما قصد إلى الحاج سالم فخر الدين، وهو رجل قطع من مراحل التعليم في الأزهر شوطا ليس بالبعيد، وإنما كان ما تعلمه كافيا لأن يجعل منه مفتي القرية، فإليه يقصد الناس ليفسر لهم ما غمض عليهم من شئون دنياهم ودينهم، وقد كانت الدنيا عندهم تختلط بالدين في أغلب الأمور، وقد كان الحاج سالم ذكيا يفصل في الأمور بحدة ذكائه أكثر مما يفصل فيها بعلمه، وكان جميل السمت، ذا لحية مهيبة وضاح الجبين، تتوسط جبهته تلك العلامة السمراء التي تختلف سمرتها بين الدكنة والخفة حسب كثرة صلاة صاحبها أو قلة صلاته؛ تلك العلامة التي تأخذ مكانها على جبهة المصلين جميعهم لا تفرق بين الصالح منهم والمرائي. وكان الحاج سالم إلى جانب مكانته الدينية ذا عمل آخر بالقرية؛ فقد كانت الودائع جميعها تأخذ طريقها إليه فيحفظها لأصحابها حتى إذا احتاجوا إليها وتلمسوها عنده وجدوها كما أودعوها إياه بربطتها كما يحلو لهم أن يقولوا.
كان الشيخ يجلس منفردا حين دخل إليه حسين. - السلام عليكم يا عم الحاج. - وعليكم السلام يا ابني ورحمة الله وبركاته، أهلا وسهلا. - أنا حسين بن شحاته أبو إسماعيل. - أهلا وسهلا. رحم الله أباك، كان رجلا طيبا. - أريد أن أذهب إلى الأزهر يا عم الشيخ.
وتجهم وجه الشيخ قليلا، ثم قال: وماذا بعد ذهابك إلى الأزهر؟ - وماذا بعد يا عم الشيخ؟ - أي ماذا تنوي أن تفعل؟ - أريد أن أحصل على شهادة العالمية. - العالمية؟!
وسكت الشيخ قليلا. إذن فسيأتي له منافس في القرية، نعم إن أمامه سنوات طوالا حتى ينال الشهادة ، وربما مت أنا في هذه الفترة، ولكن ماذا يكون العمل لو أنني عشت، أيأتي هذا الطفل وقد حصل على شهادة العالمية، وأصبح أنا نسيا منسيا في هذا البلد؟ - وماذا تنوي أن تفعل إذا أخذت العالمية إن شاء الله؟ - أريد ... أريد ...
وسكت. فقد أصبح لا يدري ما يقول، فما كانت آماله وأحلامه بصالحة أن تلقى على مسمعي الشيخ الجليل. وقال الشيخ: أتنوي بعدها أن تقيم هنا معنا، أم تأخذ طريقك في القاهرة بعد ذلك؟
وقال حسين مترددا: كل ما أريده الآن أن أحصل على العالمية. - يا بني إنها شهادة صعبة. - أعرف ذلك. - وقد سقط الكثيرون وهم يحاولون الحصول عليها. - أنا أريد أن أفهم كلام الله الذي أحفظه ولا أفهمه.
وأطلق الشيخ تنهدة وقال: هل تصدق أن أحدا قد فهم كلام الله كله؟ - لا بد أنه مفهوم يا سيدنا، ولكنني أنا عاجز عن فهمه. فأنت مثلا تفسره بكلام مفهوم واضح، وأنا أريد أن أفهمه كما تفهمه أنت. - يا بني فهمت شيئا وغابت عني أشياء. - لا بأس، إنما أريد أن أفهمه. - ولماذا؟
وسكت حسين قليلا ثم قال: لماذا أريد أن أفهم كلام الله؟ - نعم لماذا؟ - لأعرف ديني. - ألا تعرفه؛ الحلال بين، والحرام بين. - نعم، ولكني أريد أن أفهمه جميعه، وأن أدرس ديني على الأساتذة الكبار في الأزهر، لأني ... لأني ... - لأنك تريد أن تشرحه لغيرك. - نعم، ولأني أيضا ...
وسكت حسين لحظات حتى قال الشيخ: ولماذا أيضا؟ - ولأني أجد حلاوة في كلام الله لا أدري أسبابها ... - لعلك إذا أصبحت وكلام الله حرفتك تفقد هذا الشعور بالحلاوة. - أفقدت أنت هذا الشعور يا مولانا؟
وبهت الشيخ، ثم ما لبث أن قال ملهوفا، وكأنه يدفع عن نفسه تهمة كفر وإلحاد: لا ... لا أبدا ... أستغفر الله العظيم ... أستغفر الله العظيم ... إنه لا تغني الدنيا عن الآخرة ... لا ... لا تغني الدنيا عن الآخرة ... ماذا تريدني أن أفعل لك يا بني؟ - أريد منك توصية لأصدقائك هناك. - أكتب لك ما تريد إن شاء الله. - بارك الله لنا فيك يا عم. - بارك الله خطاك يا ابني، مع السلامة.
Неизвестная страница