أما فرحة بهية هانم بابنتها، فقد كانت توشك أن تصبح جنونا يحتاج إلى من يكبح جماحه، وهي معذورة؛ فلم يكن إنجاب هذه البنية مجرد أنها أصبحت أما، وما هذا في ذاته بقليل، إنما هي بهذه البنية الصغيرة ترد كيد الكائدات من أهل زوجها اللواتي كن يدعين أنها عاقر لن ترى لنفسها أطفالا أبد الدهر، وكن يسرفن في الكيد فيغرين زوجها أن يتخذ لنفسه زوجا أخرى، وأن إنجابها أيضا إنقاذ لها من هذا الفراغ الذي كانت تعانيه في أيامها الطوال بالقرية. لقد أصبحت أما! أصبحت تؤدي الوظيفة الكبرى في الحياة؛ إنها تشارك الحياة في تكوين الناس، إنها، هي نفسها أصبحت حياة وتمد بالحياة روحا أخرى؛ روحا تحيا وتنبض ولها قلب يخفق وعقل سيفكر ويدان ورجلان. إنها أم! أم! قد لا تعني هذه الكلمة شيئا لسيدات كثيرات، أما لها هي ... هي التي سعت إلى هذه الأمومة بكل دقة من دقات قلبها على مدى السنوات الطوال التي تزوجت فيها، وهي ... هي التي لم تترك سبيلا إلى هذه الأمومة إلا سلكته، أما لها ... لها هي ... فكلمة أم القصيرة الحاسمة هذه تعني لها كل شيء؛ لم تعد تريد من الحياة شيئا آخر، لا ... لا تريد ولدا، لا تريد إلا أن يطيل الله عمر ابنتها هذه، فإنها هي التي منحتها هذا اللقب، وقد كانت تقول، ويا طالما قالت إنها على استعداد أن تتنازل عن إحدى عينيها لتنال هذا اللقب. وقد كانت جادة فيما تقول، ولا أحد يدري هل كان مصدر الجد فيما تقول أن أحدا لن يطلب منها عينا ليعطيها وليدا أم لا، ولكنها كانت جادة على أية حال، فكيف بها وقد جاءها الوليد، دون أن تتنازل عن عينها؟ ألا أنها لا تريد من هذه الحياة إلا أن تبقى على لقبها؛ «أم» دون زيادة. شكرا لله، شكرا لله. وفي غمرة فرحتها أمرت أن يشترى خروف وثلاثة من الديكة الرومية، وخمسة أزواج من الفراخ وعشرة أزواج من الحمام وأن ترسل جميعها إلى الدكتور نجيب محفوظ بالقاهرة. ولا يعنيها ما يصنعه الدكتور بهذه الهدية، ولا كيف سيحافظ عليها، إنما كل ما يعنيها أن ترسل إليه هذا الشكر ممثلا في هذه الحيوانات، وقد ظلت تقول في نفسها: «لو استطعت أن أرسل له الدنيا جميعا لأرسلتها وظللت مقصرة.»
الفصل التاسع
أتم حسين تعليمه في الكتاب وختم القرآن حفظا، وقد كان يحب أن يترنم بما حفظ، وكان يحلو للحاج والي أن يطلب إليه من حين إلى آخر أن يرتل بعض أجزاء القرآن؛ فكان الفتى يسارع إلى الطاعة، سعيدا غاية السعادة أنه يستطيع أن يلبي طلبا لهذا الرجل. وكان في قراءته خاشعا تدمع عيناه معا في صمت وروحانية. كانت هذه الجلسات التي يجلس فيها حسين مرتلا القرآن في غير تجويد أمام الحاج والي هي أجمل لحظات حياته؛ كان يحس أنه يستطيع أن يكون مفيدا، وأنه يستطيع أن يمتع هذا الرجل الذي يعوله في غير ضيق به، بل إنه يوسع أمامه آفاق المستقبل في إقبالة أب وفرحة كريم. وكانت السن قد تقدمت بحسين فأصبح يعرف تمام المعرفة موقفه من الحاج والي، وأصبح يشكر هذا الموقف في نفسه أعمق الشكر وأصدقه، فهو دائما حائر بهذا الشكر.
ماذا بيدي أن أفعل لأرد فضل هذا الرجل؟ وماذا بيدي أن أفعل لأرد فضل الحاجة؟ ماذا فعلت لأنال هذا الحنان منهما؟ سيد أبو عبد الكريم يعيش مع أمه وأبيه؛ فهما يضربانه في كل يوم ليترك الكتاب ويذهب إلى الغيط. إلى أي مصير كنت ألقى لو أنني عشت مع جدتي وجدي، فلاحا يصبح بالطعام لجده، ويمسي بالماشية يعود بها إلى البيت؟
وأنظر إلى نفسي الآن؛ فتى يحيط به الاحترام إن مشى، فهو لا يمشي فردا إنما يحمل كلام الله، ولكن أأحمل كلام الله ولا أفهم معناه؟! ألا أفهم معناه أنا؟! هيه، أأخادع نفسي أيضا؟ لأذهبن من فوري إلى الحاج سالم فخر الدين فآخذ عليه التفسير؛ فقد درسه في الأزهر الشريف، وليس في البلد من يفقهني فيه مثلما يستطيع هو أن يفعل. ولكن أتطول بي هذه الدراسة؟ وما لي لا أذهب مباشرة إلى الأزهر الشريف؟ لقد ختمت القرآن، وحسب الحاج والي ما أنفقه علي من طعام وملبس ومأوى حتى ختمت القرآن. أتراني أريد الذهاب إلى الأزهر لأخفف المئونة عن كاهل الرجل الطيب، أم أني أزين لنفسي أنني عفيف؟ وأنا أتحرق شوقا للذهاب إلى الأزهر لألبس العمامة والجبة والقفطان، وأروح في البلد وأعدو فلا والله ما الشيخ سالم ببالغ ما أبلغه من الفخامة والمهابة، والبنت هنية أم عبد الحميد التي لم ترض أن تلعب معي؛ لتأتين صاغرة تقبل يدي وطرف جبتي. فأي مكانة في العالم أرفع من مكانتي؟! لتكونن الجبة الخضراء فاقعا لونها يسر الناظرين، وليكونن القفطان زيتونيا. أيشتري لي الحاج والي ما أطلب؟ أيقبل أولا أن أذهب إلى الأزهر؟ سأذهب؛ فإن حبي للحاج والي لن يجعلني أغير مستقبلي كله من أجله. إنني على أتم استعداد أن أقدم له حياتي، أما مستقبلي فهو لي وحدي ما دام لا يريد حياتي. ما دمت سأعيش؛ فأنا الذي سأصنع مستقبلي بيدي ولن يصنعه لي أحد. أراه منذ اليوم يتكلم عني أني سأصير محاميا، وعن محمد أنه سيصير طبيبا، ومحمد لا يزال في الخامسة يتلقى أول دروس الكتاب، ولكن الحاج يرسم المستقبل لكلينا. لن يكون هذا ... لا ... لن يكون؛ ألا يقولون إن الثورة قد نشبت في مصر من أجل الحرية؟ ما الحرية إن لم تكن حريتي في اختيار طريق حياتي، وطريق حياتي هو الأزهر، فإني أحب أن أسير لابسا الجبة الخضراء والقفطان الزيتوني اللون ويقبل الرجال، والنساء ... نعم وخاصة النساء وعلى رأسهن هنية يدي، وأرى نفسي عظيما في القرية يحيط بي التوقير والاحترام من كل جانب، بل إني أرى المشايخ في البلد أيضا يحيط بهم ...
وصحا حسين من خواطره وأحلامه على صدمة عنيفة من حمار يحمل حملا عاليا من البرسيم ويسير خلفه طفل صغير لا يستطيع أن يرى الطريق؛ فالطفل قصير، وحمل البرسيم مرتفع شاهق في الهواء. واغتاظ حسين وهو يرى نفسه مصدوما من حمار، ولم يستطع أن يكتم غيظه، فما أسرع ما دار حول الحمار وأمسك بالطفل: ولد، أأنت الحمار أم هو؟ - دعني، اترك ملابسي. - أتترك الحمار يقودك يا ابن الحمار؟ - لا شأن لك بي. - كيف؟! أتترك حمارك يصدم خلق الله، وتقول لا شأن لك بي؟! طيب والله لأذهب بك إلى أبيك. ابن من أنت؟ - دعني، اترك ملابسي ، لا شأن لك بي.
وتجمع حول حسين والطفل نفر من القرية وراحوا ينحون على حسين باللوم حينا أو قد ينحو بعضهم باللوم على الطفل. وفجأة تقدم إلى ميدان المعركة رجل طويل القامة عريض الكتفين وأمسك بتلابيب حسين: ماذا يا ابن شحاته، ألم تجد إلا ابني لتهينه؟ - لقد ترك الحمار يصدمني. - وما له يا أخي؟! أما عجيبة! ألم يبق إلا أنت يا من تعيش عالة حتى تتعدى على طفل صغير؟
وألجمت الكلمة حسين فأطال النظر إلى الرجل، ولم يستطع أن يمنع عينه الأخرى أن ترسل دمعة، ثم ألقى برأسه إلى الأرض وأولى الجمع ظهره ومشى. وصمت الرجل العريض المنكبين كقاتل أدرك بشاعة جريمته بعد أن ارتكبها، ونظر حواليه فرأى في عيون الناس جريمته مجسمة في نظرات آلمة؛ فما استطاع مكثا، وخف خطاه وراء حسين: يا حسين، يا حسين.
ولم يقف حسين. فعاد الرجل ينادي: يا شيخ حسين.
وأحس حسين حلاوة كلمة «شيخ» فتلكأ هونا وأدركه الرجل: أزعلت مني.
Неизвестная страница