ماذا يشعر به المفاخر بحليه ولباسه إذا تجرد منه وخلى بنفسه إن لم يكن لذاته حلية من الفضيلة وزينة من الكمال، ألا يكون هو وعراة الفقراء سواء؟ أولا يجد من سره عند المفاخرة أنه يجول مع الغانيات وربات الخدور، في ميدان واحد؟ ماذا يتصور الزاهي برتبته، المعجب بوسامه، إن لم يكن قبل وسمته أو الصعود لرتبته، على حال تجل، أو كمال يبجل، أليس يشعر أنه لو سلب الوسام، أو نزع عنه الوشاح، يعود إلى منزلته من الاحتقار؟ فإن نال الكرامة عند بعض السذج واللقب معلق عليه، أليس ذلك تعظيما للقب لا للملقب به، ألا تكون هذه الكرامة عارضا سريع الزوال، بل رسما ظاهرا لا يمس بواطن القلوب؟
نعم، لهذه الألقاب الشريفة شأن يرتفع به النظر إذا سبق بعمل يعترف عموم العالم بشرفه، وكان اللقب دليلا عليه أو مشيرا إليه، كما يكون لمثلها حال يسقط به الاعتبار إذا تقدمها فعلة يمقتها العقلاء من النوع البشري، وكان الوسام أو اللقب عنوانا على ما اقترف كاسبه، وعلامة على ما اجترم.
انظر وتدبر ولا تخطئ، فما أنت من الصواب ببعيد، إن عثمان الغازي الذي لقبه أعداؤه بأسد «بلاونه» نال رتبة ومنح لقبا، وحظي بمكانة رفيعة بين الطبقة العليا من العظماء في دولته، بعدما دفع بروحه للموت في المدافعة عن ملته، وجاهد في إعلاء كلمة دينه، بما شهد له الأعداء والأصدقاء.
وإن بعض الأمراء في دار إسلامية علقت عليهم ألقاب شريفة من دولة كدولة الإنجليز جزاء لهم على ما تقدموا أمام جيوش أعدائهم، لافتتاح بلادهم، حتى مكنوا الإنجليز من ديارهم، وجميع المسلمين الآن يكابدون الجهد في إيجاد الوسائل لخروجهم منها ... أين موقع النيشان من صدر عثمان الغازي من موقعه على صدور أولئك المخدوعين، أظن رجع النظر بين الموقعين يثبت لك أن النيشان يشرف بشرف العمل الذي جعل دليلا عليه ويسقط بسقوطه.
ماذا غر أولئك الواهمين على اختلافهم، ألا يعلمون أن الثياب المعلمة بالدم، الموشاة بالنجيع، الملونة بالمهج، هي التي حفظت للابسيها ذكرا حسنا لا ينقطع، وأثرا مجيدا لا يمحى، إن الذين ضرجوا بدمائهم في طلب المجد لمللهم هم الذين خشعت لذكرهم الأصوات، وأجمعت على فضلهم خواطر القلوب.
ألم يصل إليهم أن الذين قضوا نحبهم في غيابات الجب، وانتهت حياتهم في ظلمات السجن، لطلب حق مسلوب أو حفظ مجد موجود؛ هم الذين سما ذكرهم إلى شرف الشمس الأعلى، وعلت أسماؤهم على جميع الأسماء، أظن أن الذين كانوا في الغرفات العالية ينظرون إلى جناتهم وحدائقهم، ويشرفون على الناس من شرفات قصورهم، وقصروا حياتهم على التمتع بما نالوا؛ لم يبق لهم ذكر ولم يكن لهم في حياتهم شأن، إلا ما هو محصور في دوائر بيوتهم.
ولا يختلف عنهم أولئك الذين كانوا يسحبون مطارف الرفه، ويكتسبون حلل الخز والديباج، ذهبوا وذهبت معهم أكسيتهم، فارتدوا من حيث أتوا لا يعلم متى جاءوا إلى الدنيا، ومتى انكشفوا عنها.
هل سمعنا أن أحدا يذكر بين بني البشر بأنه نال نيشان كذا وحصل رتبة كذا؟ نعم، يقولون: علم وعمل ، وأعطى وبذل، ورفع ووضع، وجاهد وكافح، وأباد وأبقى، وما يشاكل ذلك من الأعمال التي لها أثر ثابت، إذا ذكر الإسكندر الأكبر هل يخطر بالبال إن كان له قصر أو لا؟ أي أبله يطلب سيرة نابليون الأول في آثار قصر كان يسكنه، أو في خرق ثياب كان يلبسها؟ وهل بلغ عظماء العالم ما بلغوا من مقامات الشرف بعدما شيدوا وزينوا وترفهوا وتنعموا، أم كان جميع ما ينالون من ذلك بعد أن يسودوا ويفتحوا ويغلبوا ويأخذوا بالنواصي؟
خدع قوم بالأحلام وغرتهم الأوهام، ففرطوا في شئون بلادهم، وباعوا مجدها الشامخ بتلك الأسماء التي لا مسمى لها، وزعموا، وإن لم تطاوعهم ضمائرهم، أنهم رقوا من مكانة الشرف وإن كان خاصا بهم بعدما علموا أن الرتب والنياشين جاوزت حدها، ونالها غير أهلها، فلو أنهم أصغوا لما تحدثهم به سرائرهم، وتعنفهم به خواطر أفئدتهم، ورمقوا بأبصارهم ما يحيط بهم؛ لعلموا أنهم في أخس المنازل وأبعد المزاجر، وأدركوا خطأهم في معنى الشرف وجورهم عن جادة الصواب في طلبه، لو أحسوا بما رزئت به أوطانهم، وما لصق من الذل والعار بذراريهم، لطرحوا الوشاحات، ونبذوا الوسامات، ولبسوا أثواب الحداد، ونفروا خفافا وثقالا لطلب الشرف الحقيقي.
الشرف حقيقة محدودة كشفتها الشرائع، وحددتها عقول الكاملين من البشر، وليس لذي شاكلة إنسانية أن يرتاب في فهمها، إلا من ختم الله على قلبه، وجعل على بصره غشاوة.
Неизвестная страница