جاءهم القرآن بمحكم آياته يطالب الناظرين بالبرهان على عقائدهم، ويعيب الأخذ بالظنون والتمسك بالأوهام، ويدعو إلى الفضائل وعقائل الصفات، فأودع في أفكارهم جراثيم الحق وبذر في نفوسهم بذور الفضل، فهم بأصول دينهم أنور عقلا وأنبه ذهنا وأشد استعدادا لنيل الكمالات الإنسانية، وأقرب إلى الاستقامة في الأخلاق. وربما يرون لأنفسهم من الاختصاص بالشرف، وما وعدوا به على لسان كتابهم الصادق من إظهار شأنهم على شئون العالم أجمع ولو كره المبطلون.
لا يرغبون بسلطة لغيرهم عليهم، ولا يحوم بفكر واحد منهم أن يخضع لذي سطوة من سواهم، وإن بلغت من الشدة أو اللين ما بلغت؛ لما بينهم من الإخاء المؤزر بمناطق العقائد، يحسب كل واحد منهم أن سقوط طائفة من بني ملته تحت سلطة الأجانب سقوط لنفسه، ذلك إحساس يشعر به وجدانه ولا يجد عنه مسليا، وبما ساخ (غاص ورسب) في نفوسهم من جذور المعارف التي أرشدهم إليها دينهم، ونالوا منها النصيب الأعلى في عنفوان دولتهم؛ يعدون أنفسهم أولى الناس بالعلم وأجدرهم بالفضل.
ذلك شأنهم الأول وهذا وصفهم الآن، ولكنهم مع هذا كله وقفوا في سيرهم، بل تأخروا عن غيرهم في المعارف والصنائع بعد أن كانوا فيها أساتذة العالم، وأخذت ممالكهم تنقص أطرافها وتتمزق حواشيها مع أن دينهم يرسم عليهم أن لا يدينوا لسلطة من يخالفهم، بل الركن الأعظم لدينهم طرح ولاية الأجنبي عنهم وكشفها عن ديارهم، بل منازعة كل ذي شوكة في شوكته.
هل نسوا وعد الله لهم بأن يرثوا الأرض وهم العباد الصالحون؟ هل غفلوا عن تكفل الله لهم بإظهار شأنهم على سائر الشئون ولو كره المجرمون؟ هل سهوا عن أن الله اشترى منهم - لإعلاء كلمته - أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة؟ لا، لا، إن العقائد الإسلامية مالكة لقلوب المسلمين حاكمة في إرادتهم، وسواء في العقائد الدينية والفضائل الشرعية عامتهم وخاصتهم.
نعم، يوجد للتقصير في إنماء العلوم، وللضعف في القوة، أسباب أعظمها تخالف طلاب الملك فيهم؛ لأنا بينا أن لا جنسية للمسلمين إلا في دينهم، فتعدد الملكة عليهم كتعدد الرؤساء في قبيلة واحدة، والسلاطين في جنس واحد، مع تباين الأغراض وتعارض الغايات، فشغلوا أفكار الكافة بمظاهرة كل خصم على خصمه، وألهوا العامة بتهيئة وسائل المغالبة وقهر بعضهم لبعض، فأدت هذه المغالبات وهي أشبه شيء بالمنازعات الداخلية إلى الذهول عما نالوا من العلوم والصنائع، فضلا عن التقصير في طلب ما لم ينالوا منها، والإعسار دون الترقي في عواليها، ونشأ من هذا ما تراه من الفاقة والاحتياج وعقبه الضعف في القوة والخلل في النظام، وجلب تنازع الأمراء على المسلمين تفرق الكلمة وانشقاق العصا، فلهوا بأنفسهم عن تعرض الأجانب بالعدوان عليهم.
هذا كان من أمراء المسلمين مع ما فيه من الضرر الفادح عندما كانوا منفردين في ميادين الوغى، لا يجاريهم فيها سواهم من الملل ولكن ضرب الفساد في نفوس أولئك الأمراء بمرور الزمان، وتمكن من طباعهم حرص وطمع باطل، فانقلبوا مع الهوى، وضلت عنهم غايات المجد المؤثل، وقنعوا بألقاب الإمارة وأسماء السلطنة وما يتبع هذه الأسماء من مظاهر الفخفخة وأطوار النفخة ونعومة العيش مدة من الزمان، واختاروا موالاة الأجنبي عنهم المخالف لهم في الدين والجنس، ولجئوا للاستنصار به وطلب المعونة منه على أبناء ملتهم ؛ استبقاء لهذا الشبح البالي والنعيم الزائل.
هذا الذي أباد مسلمي الأندلس، وهدم أركان السلطنة التيمورية في الهند، وفي أطلالها وعلى رسومها شيد الإنجليز ملكهم بتلك الديار، هكذا تلاعبت أهواء السفهاء بالممالك الإسلامية، ودهورتها أمانيهم الكاذبة في مهاوي الضعف والوهن، قبح ما صنعوا وبئس ما كانوا يعملون، أولئك اللاهون بلذاتهم، العاكفون على شهواتهم، هم الذين بددوا شمل الملة، وأضاعوا شأنها، وأوقفوا سير العلوم فيها، وأوجبوا الفترة في الأعمال النافعة، من صناعة وتجارة وزراعة بما غلوا من أيدي بنيها.
ألا قاتل الله الحرص على الدنيا والتهالك على الخسائس، ما أشد ضررهما وما أسوأ أثرهما، نبذوا كلام الله خلف ظهورهم، وجحدوا فرضا من أعظم فروضه، فاختلفوا والعدو على أبوابهم، وكان من الواجب عليهم أن يتحدوا في الكلمة الجامعة، حتى يدفعوا غارة الأباعد عنهم، ثم لهم أن يعودوا لشئونهم، ماذا أفادتهم المغالاة في الطمع والمنافسة في السفاسف؟ أفادتهم حسرة دائمة في الحياة، وشقاء أبديا بعد الممات، وسوء ذكر لا تمحوه الأيام.
أما وعزة الحق وسر العدل، لو ترك المسلمون وأنفسهم بما هم عليه من العقائد مع رعاية العلماء العاملين منهم؛ لتعارفت أرواحهم وائتلفت آحادهم، ولكن واأسفا! تخللهم أولئك المفسدون الذين يرون كل السعادة في لقب أمير أو ملك ولو على قرية لا أمر فيها ولا نهي، هؤلاء الذين حولوا أوجه المسلمين عما ولاهم الله، وخرجوا على ملوكهم وخلفائهم، حتى تناكرت الوجوه وتباينت الرغائب.
الاتفاق والتضافر على تعزيز الولاية الإسلامية، من أشد أركان الديانة المحمدية، والاعتقاد به من أوليات العقائد عند المسلمين، لا يحتاجون فيه إلى أستاذ يعلم، ولا كتاب يثبت، ولا رسائل تنشر، إن رعاة المسلمين - فضلا عمن علاهم - تتصاعد زفراتهم، وتفيض أعينهم من الدمع؛ حزنا وبكاء على ما أصاب ملتهم من تفرق الآراء، وتضارب الأهواء، ولولا وجود الغواة من الأمراء، ذوي المطامع في السلطة بينهم؛ لاجتمع شرقيهم بغربيهم، وشماليهم بجنوبيهم، ولبى جميعهم نداء واحدا، إن المسلمين لا يحتاجون في صيانة حقوقهم، إلا إلى تنبه أفكارهم لمعرفة ما به يكون الدفاع، واتفاق آرائهم على القيام به عند لزومه، وارتباط قلوبهم الناشئ عن إحساس بما يطرأ على الملة من الأخطار.
Неизвестная страница