أثبتت لنا التواريخ أن كورش الفارسي «كيخسرو»، وهو أول فاتح يعرف في تاريخ الأقدمين؛ ما تسنى له الظفر في فتوحاته الواسعة، إلا لأنه كان معتقدا بالقضاء والقدر، فكان لهذا الاعتقاد لا يهوله هول، ولا توهن عزيمته شدة، وإن إسكندر الأكبر اليوناني كان ممن رسخ في نفوسهم هذه العقيدة الجليلة، وجنكيز خان التتري صاحب الفتوحات المشهورة كان من أرباب هذا الاعتقاد، بل كان نابليون الأول بونابرت الفرنساوي من أشد الناس تمسكا بعقيدة القضاء، وهي التي كانت تدفعه بعساكره القليلة على الجماهير الكثيرة، فيتهيأ له الظفر، وينال بغيته من النصر.
فنعم الاعتقاد الذي يطهر النفوس الإنسانية من رذيلة الجبن، وهو أول عائق للمتدنس به عن بلوغ كماله في طبقته أيا كانت، نعم، إننا لا ننكر أن هذه العقيدة وقد خالطها في نفوس بعض العامة من المسلمين شوائب من عقيدة الجبر، وربما كان هذا سببا في رزيئتهم ببعض المصائب التي أخذتهم بها الحوادث في الأعصر الأخيرة، ورجاؤنا في الراسخين من علماء العصر أن يسعوا جهدهم في تخليص هذه العقيدة الشريفة من بعض ما طرأ عليها من لواحق البدع، ويذكروا العامة بسنن السلف الصالح وما كانوا يعملون، وينشروا بينهم ما أثبته أئمتنا - رضي الله عنهم - كالشيخ الغزالي وأمثاله من أن التوكل والركون إلى القضاء إنما طلبه الشرع منا في العمل، لا في البطالة والكسل، وما أمرنا الله أن نهمل فروضنا، وننبذ ما أوجب علينا، بحجة التوكل عليه، فتلك حجة المارقين عن الدين، الحائدين عن الصراط المستقيم، ولا يرتاب أحد من أهل الدين الإسلامي في أن الدفاع عن الملة في هذه الأوقات صار من الفروض العينية على كل مؤمن مكلف، وليس بين المسلمين وبين الالتفات إلى عقائدهم الحقة التي تجمع كلمتهم، وترد إليهم عزيمتهم، وتنهض غيرتهم لاسترداد شأنهم الأول؛ إلا دعوة خير من علمائهم، وإن جميع ذلك موكول إلى ذمتهم.
أما ما زعموه في المسلمين من الانحطاط والتأخر فليس منشأه هذه العقيدة (ولا غيرها من العقائد الإسلامية)، ونسبته إليها كنسبة النقيض إلى نقيضه، بل أشبه ما يكون بنسبة الحرارة إلى الثلج والبرودة إلى النار، نعم، حدث للمسلمين بعد نشأتهم نشوة من الظفر، وثمل من العز والغلب، وفاجأهم وهم على تلك الحال صدمتان قويتان: صدمة من طرف الشرق وهي غارة التتر من جنكيز خان وأحفاده، وصدمة من جهة الغرب وهي زحف الأمم الأوروبية بأسرها على ديارهم، وإن الصدمة في حال النشوة تذهب بالرأي، وتوجب الدهشة والسبات بحكم الطبيعة، وبعد ذلك تداولتهم حكومات متنوعة، ووسد الأمر فيهم إلى غير أهله ، وولي على أمورهم من لا يحسن سياستها، فكان حكامهم وأمراؤهم من جراثيم الفساد في أخلاقهم وطباعهم، وكانوا مجلبة لشقائهم وبلائهم، فتمكن الضعف من نفوسهم، وقصرت أنظار الكثير منهم على ملاحظة الجزئيات التي لا تتجاوز لذاته الآنية، وأخذ كل منهم بناصية الآخر، يطلب له الضرر ويلتمس له السوء من كل باب، لا لعلة صحيحة ولا داع قوي، وجعلوا هذا ثمرة الحياة، فآل الأمر بهم إلى الضعف والقنوط وأدى إلى ما صاروا إليه.
ولكني أقول - وحق ما أقول: إن هذه الملة لن تموت ما دامت هذه العقائد الشريفة آخذة مأخذها من قلوبهم، ورسومها تلوح في أذهانهم، وحقائقها متداولة بين العلماء الراسخين منهم، وكل ما عرض عليهم من الأمراض النفسية والاعتلال العقلي، فلا بد أن تدفعه قوة العقائد الحقة، ويعود الأمر كما بدأ وينشطون من عقالهم، ويذهبون مذاهب الحكمة والتبصر في إنقاذ بلادهم، وإرهاب الأمم الطامعة فيهم، وإيقافها عند حدها، وما ذلك ببعيد، والحوادث التاريخية تؤيده، فانظر إلى العثمانيين الذي نهضوا بعد تلك الصدمات القوية (حروب التتر والحروب الصليبية) وساقوا الجيوش إلى أرجاء العالم، واتسعت لهم ميادين الفتوحات، ودوخوا البلاد وأرغموا أنوف الملوك، ودانت لسلطانهم الدول الإفرنجية، حتى كان السلطان العثماني يلقب بين الدول بالسلطان الأكبر.
ثم ارجع البصر تجد هزة في نفوسهم وحركة في طباعهم أحدثها فيهم ما توعدتهم به الحوادث الأخيرة من رداءة العاقبة وسوء المنقلب: حركة سرت في أفكار ذوي البصيرة منهم في أغلب الأنحاء شرقا وغربا، وتألفت من خيارهم عصبات للحق كتبت على نفسها نصرة العدل والشرع، والسعي بغاية الجهد لبث أفكارها، وجمع الكلمة المفترقة، وضم الأشتات المتبددة، وجعلوا من أصغر أعمالهم نشر جريدة عربية، لتصل بما يكتب فيها بين المتباعدين منهم وتنقل إليهم بعض ما يضمره الأجانب لهم، وإنا نرى عدد الجمعية الصالحة يزداد يوما بعد يوم، نسأل الله تعالى نجاح أعمالها، وتأييد مقصدها الحق، ورجاؤنا من كرمه أن يترتب على حسن سعيها أثر مفيد للشرقيين عموما، وللمسلمين خصوصا.
الفصل الثامن
الفضائل والرذائل وأثرهما
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين . •••
قالوا: للإنسان كمال، مفروض عليه أن يسعى إليه، وقالوا: إنه عرضة لنقص يجب عليه الترفع عنه، وقالوا: كماله في استيفاء ما يمكن من الفضائل، ونقصه في التلوث برذيلة من الرذائل، فما هي الفضائل وما هي الرذائل، الفضائل سجايا للنفس من مقتضاها التأليف والتوفيق بين المتصفين بها، كالسخاء والعفة والحياء ونحوها، فالسخيان لا يتشاحان ولا يتنازعان في التعامل، فإن من سجية كل منهما البذل في الحق، والمنع إذا اقتضاه الحق، فكل يعرف حده فيقف عنده.
فلا يوجد موضوع للنزاع عند معاطاة الأعمال المالية، والأعفاء لا يتزاحمون على مشتهى من المشتهيات؛ فإن من خلق كل منهم التجافي عن الشهوة، وفي طبيعته الإيثار بالرغائب.
Неизвестная страница