ماذا يصنع المشفقون على الأمة والزمن قصير؟ ماذا يحاولون والأخطار محدقة بهم؟ بأي سبب يتمكنون ورسل المنايا على أبوابهم؟ لا أطيل عليك بحثا ولا أذهب بك في مجالات بعيدة من البيان، ولكني أستلفت نظرك إلى سبب يجمع الأسباب ووسيلة تحيط بالوسائل، أرسل فكرك إلى نشأة الأمة التي خملت بعد النباهة، وضعفت بعد القوة، واسترقت بعد السيادة وضيمت بعد المنعة، وتبين أسباب نهوضها الأول حتى تتبين مضارب الخلل وجراثيم العلل، فقد يكون ما جمع كلمتها وأنهض همم آحادها ولحم ما بين أفرادها، وصعد بها إلى مكانة تشرف منها على رءوس الأمم وتسوسهم، وهي في مقامها بدقيق حكمتها؛ إنما هو دين قويم الأصول محكم القواعد شامل لأنواع الحكم، باعث على الألفة داع إلى المحبة مزك للنفوس، مطهر للقلوب من أدران الخسائس، منور للعقول بإشراق الحق من مطالع قضاياه، كافل لكل ما يحتاج إليه الإنسان من مباني الاجتماعات البشرية، وحافظ وجودها، وينادي بمعتقديه إلى جميع فروع المدنية.
فإن كانت هذه شرعتها ولها وردت وعنها صدرت، فما تراه من عارض خللها وهبوطها عن مكانتها إنما يكون من طرح تلك الأصول ونبذها ظهريا وحدوث بدع ليست منها في شيء، أقامها المعتقدون مقام الأصول الثابتة، وأعرضوا عما يرشد إليه الدين وعما أتى لأجله وما أعدته الحكمة الإلهية له، حتى لم يبق منه إلا أسماء تذكر وعبارات تقرأ، فتكون هذه المحدثات حجابا بين الأمة وبين الحق الذي تشعر بندائه أحيانا بين جوانحها.
فعلاجها الناجع إنما يكون برجوعها إلى قواعد دينها والأخذ بأحكامه على ما كان في بدايته، وإرشاد العامة بمواعظه الوافية بتطهير القلوب وتهذيب الأخلاق، وإيقاد نيران الغيرة، وجمع الكلمة، وبيع الأرواح لشرف الأمة، ولأن جرثومة الدين متأصلة في النفوس بالوراثة من أحقاب طويلة، والقلوب مطمئنة إليه، وفي زواياها نور خفي من محبته؛ فلا يحتاج القائم بإحياء الأمة إلا إلى نفخة واحدة يسري نفثها في جميع الأرواح لأقرب وقت، فإذا قاموا لشئونهم ووضعوا أقدامهم على طريق نجاحهم وجعلوا أصول دينهم الحقة نصب أعينهم؛ فلا يعجزهم بعد أن يبلغوا بسيرهم منتهى الكمال الإنساني.
ومن طلب إصلاح أمة - شأنها ما ذكرنا - بوسيلة سوى هذه؛ فقد ركب بها شططا، وجعل النهاية بداية وانعكست التربية وخالف فيها نظام الوجود، فينعكس عليه القصد ولا يزيد الأمة إلا نحسا ولا يكسبها إلا تعسا.
هل تعجب أيها القارئ من قولي: إن الأصول الدينية الحقة المبرأة عن محدثات البدع تنشئ للأمم قوة الاتحاد وائتلاف الشمل وتفضيل الشرف على لذة الحياة، وتبعثها على اقتناء الفضائل وتوسيع دائرة المعارف، وتنتهي بها إلى أقصى غاية في المدنية؟ إن عجبت فإن عجبي من عجبك أشد! هل نسيت تاريخ الأمة العربية وما كانت عليه قبل بعثة الدين من الهمجية والشتات وإتيان الدنايا والمنكرات، حتى إذا جاءها الدين فوحدها وقواها وهذبها ونور عقولها وقوم أخلاقها وسدد أحكامها، فسادت على العالم وساست من تولته بسياسة العدل والإنصاف، وبعد أن كانت عقول أبنائها في غفلة عن لوازم المدينة ومقتضياتها نبهتها شريعتها وآيات دينها إلى طلب الفنون المتنوعة والتبحر فيها، ونقلوا إلى ديارهم طب بقراط وجالينوس وهندسة إقليدس وهيئة بطليموس وحكمة أفلاطون وأرسطو، وما كانوا قبل الدين في شيء من هذا، وكل أمة سادت تحت هذا اللواء إنما كانت قوتها ومدنيتها في التمسك بأصول دينها؟
وقد تكون نشأة الأمة قائمة بدعوة الملك وافتتاح الأقطار وطلب السيادة على الأمصار، وتلك الدعوة؛ لما تستدعيه من عظم الهمم وارتفاع النفوس عن الدنايا وبعد الغايات وعلو المقاصد؛ هي التي هذبت أخلاقهم، وقومت أفكارهم، وكفتهم عن معاطاة الرذائل وخسائس الأمور وسوافلها، ثم بعد مضي زمان من نشأتها أصابها من الانحطاط ما أصابها.
فبيان أسباب الخلل فيها وعلاته نفرد له فصلا مستقلا في عدد آخر - إن شاء الله، وهو الموفق للصواب.
الفصل الثالث
النصرانية والإسلام وأهلهما
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد . •••
Неизвестная страница