وفي خبر آخر بالتاريخ عينه أن القسيس «سوقارو» وكهنة الرسالة الكاثوليكية في السودان وردت منهم أخبار من أهالي الخرطوم تفيد أن المدينة فتحت ووقع جوردون أسيرا، وما زال إلى الآن على قيد الحياة، ونقلت جريدة «الديلي تلغراف» أن تاجرا في القاهرة أتاه كتاب من جنوب بربر يخبره أن الخرطوم مفتوحة الأبواب لمن يقصدها بالتجارة وإن كانت في قبضة جيوش السودان. وفي رسالة من مكاتب التان بسواكن أن جماعة من الوجهاء في مدينة الخرطوم دفعتهم الحمية للانتقام من جوردون أخذا بثأر الضابطين اللذين قتلهما بتهمة الخيانة (حسين باشا وسعيد باشا)، فهجموا عليه وقتلوه، ثم اتفقوا مع المحاصرين على تسليم المدينة فدخلوها آمنين، ويزعم المراسل أن للحكومة البريطانية علما بهذه الحادثة من زمان طويل إلا أنها كتمته خيفة هيجان الأفكار عليها. ونحن لا يهمنا موت جوردون ولا حياته ولا راحته ولا عناؤه، وإنما يظهر من كل هذه الأخبار أن الخرطوم أصبحت سودانية لا إنجليزية ولا مصرية، فإن تمكنت وزارة مسيو جلادستون من تفنيد المستفيض من هذه الروايات فربما يصعب عليها المكابرة فيما يعقبها. إن شوكة الداعي تقوى بعد فتح الخرطوم، وتمهد له سبلا عديدة للوصول إلى مصر العليا أو السفلى، وإن تأثير دعائه يقطع مسافات بعيدة في هنيهات قصيرة.
ماجت خواطر المصريين واهتزت قلوبهم؛ لسماع هذه الأخبار، وربما نسمع بعد اليوم أن ريح الجنوب حملت قسطلا تثيره سنابك خيل الفتنة وجاوزت به حدود مصر، فإن كان هذا شأن الحركات في بلاد السودان فتعليق الإنجليز جلاءهم على انقطاعها يشهد برغبتهم في الاحتلال الدائم ما بقي محمد أحمد وما بقيت له خلفاء.
على أننا نرتاب في قدرة عساكرهم على صيانة التخوم المصرية، فقد ظهرت نهاية قوتها على سواحل البحر الأحمر. نعم ربما يختلج بخواطر الوزراء البريطانيين أن يخدعوا الدولة العثمانية ويحملوها على الحكم بعصيان محمد أحمد وتضليله ليحولوا القلوب عنه ثم يجنوا الثمرة كما جنوها من الحكم بعصيان أحمد عرابي، ولكن قد تبين الرشد من الغي، وظهر للدولة العثمانية سوء طوية الإنجليز وعدوانهم على حقوقها، فليس من المحتمل أن تنخدع لهم مرة ثانية ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.
كما أنه يشبه المحال أن عثمانيا يجوز سوق الجيوش العثمانية إلى السودان لتذليله وعساكر الإنجليز في القاهرة، ينتظر العثمانيون بعد انقضاء الفتنة نهاية المراوغات الإنجليزية حتى تئول مسألة مصر إلى مثل ما آلت مسألة بوسنة وهرسك مع دولة النمسا، فعلى العثمانيين وأصحاب العزيمة من المصريين أن يجمعوا أمرهم على كشف هذه النازلة؛ صونا لأوطانهم، ولاتقاء شر ربما يحدث في جهات أخرى، فإن قضى حرص دولة الإنجليز بصد أرباب الحقوق الشرعية عن أداء المفروض عليهم جهلا منها بمصلحة نفسها وبمصالح تلك البلاد؛ فعلى العثمانيين أن يقيموا الحجة بسيوفهم وجيوشهم لا بالرقائم والأوراق؛ فإن هذا فساد لو أهمل لعم وعمت زواياه، ولا نظن أن دولة بريطانيا تثبت على نفختها هذه، فإنها ستشتغل بداخل البيت عن خارجه بعد قليل.
لسنا نقول ما نقول جزافا، ولكن دعوة القائم السوداني أشربت قلوب الأكثرين في الهند وبلوجستان وأفغانستان، وقد علق شرر الثورة بأهداب الخواطر فلا تلبث أن تلتهب ، فللدولة العثمانية أن تمد نظرها إلى أعماق المسألة وتقدر قوة الإنجليز وأهبتهم العسكرية، مع ملاحظة ارتباكاتهم في ممالكهم وظهور عجزهم وضعفهم في الحوادث الأخيرة، ومراعاة آراء الغالب من الدول العظيمة.
وبعد الإحاطة بهذا كله - وهي أسهل من كل سهل - تظهر عزما ثابتا وبأسا قويا يليق بدولة عظيمة كدولة آل عثمان طالما ظهرت على يديها خوارق العادات - ولله الأمر من قبل ومن بعد.
الفصل الثامن والسبعون
الباب العالي
ذكرت جريدة إستندار أن معارضة الباب العالي لمطامح إنجلترا ليست قاصرة على الممانعة في جعل مصر حكومة بلجيكية في أفريقيا تحت حماية الدول، كما في عزم جلادستون أن يعرضه على المؤتمر، بل صرحت الدولة العثمانية لسفيرها في لندن مرزوس باشا بأنه متى وضعت لائحة جلادستون موضع البحث في المؤتمر، بعثت إليه بتعليمات للمعارضة الشديدة في هذه المادة وكل ما يكون من قبيلها (ما يمس حقوق الدولة والمصريين).
ولا نرتاب في أن الدولة العثمانية - بعزمها هذا - قد قامت بفريضة شرعية، ومثلها من يقوم بها في مصر وفي سائر الممالك العثمانية؛ فإن كل ذي بصيرة يدرك أن صيانة جزء من ممالكها موقوف على صيانة الآخر، والتفريط في شيء منها يحدث الخلل في الباقي. وكفانا عبرة أن مجرد طلب جلادستون لحرية قناة السويس حمل دولة الروس على طلب بوغاز البوسفور، كما ذكرته الجرائد الروسية، ودعا بعض سياسيي الروس أن يقول: إن المسألة المصرية قد صارت الآن مسعرا للمسألة الشرقية، ولا نظن شيئا من هذا يخفى على عقلاء العثمانيين.
Неизвестная страница