178

تركيا

ليس في التعلات أعجب مما يتعلل به الإنجليز، ولا في المحاورات أغرب مما يستدلون به، لا مقدمات بينة ولا حجج قيمة، وأقوى ما يكون من أدلتهم أولى به أن يكون في معرض الهزل من أن يكون في جانب الجد، ولكن أغرب من جرأتهم على الجهر بمداعبة الأمم بما هو أشبه بالترهات: إصغاء الآذان لما يقولون وانصراف الأذهان عن بيان الهجو فيما يوردون، وإظهار الوهن فيما به يتعللون؛ ليتهتك الستار عن أغراضهم، وتظهر خفيات مقاصدهم، وترتفع الريبة عمن يخدعون بملاعباتهم.

إن الإنجليز ساقوا جيشا إلى مصر وبوءوه أرضها مدة لا تزيد على سنتين، فكان حلول جيشهم سببا في انحلال النظام، واختلال الأحكام، وعموم الفساد في أرجاء البلاد، حتى صار الناهبون وقطاع الطرق على نحو الجيوش المنظمة سرايا وكتائب تزحف للغارة على القرى والبلدان ضاحية بلا استتار، وسرى الاختلال في عموم الأعمال الإدارية والقضائية، ففقدت الأمنية على الحقوق كافة، وسقطت البلاد بسبب ذلك إلى درك من الضيق والعسر لم يكن يخطر على بال، وما كان شيء من تلك الفظائع ولا واحد من هذه المفاسد ولا قليل من هاته الشدائد موجودا أيام الحركة التي سموها فتنة عسكرية، واخترعوا منها دليلا على الفوضى، وزعموا فيها وسيلة للتداخل بعساكرهم.

حالة مصر شاهدة على أنه لم يكن للاختلال فيها اسم ولا للفوضوية أثر إلا بعد ما وطئ الإنجليز أرضها، ومع ذلك يزعمون أنهم ما أتوها إلا لتقرير الراحة وإصلاح النظام وإزالة الفوضى، ويريدون أن تمتد إقامتهم فيها إلى أجل بعيد؛ ليتمموا القصد الذي أتوا إليه، وشرطوا جلاءهم عنها برسوخ الأمن وانقطاع شأفة الاعتداء، واجتماع خواطر الأهالي على الرضا بما يرسم عليهم من السائدين في ديارهم والتسليم لما يقضي به فيهم!

ألا يعجب من هذه التعلة؟! هل يوجد أبله في أي أمة يظن في المصريين الركون إلى السكينة ما دام الجيش الأجنبي متبوئا ديارهم؟! أليس وجود عسكر أجنبي تحت أنظارهم كافيا في نفرة قلوبهم وازدياد شغبهم؟! الطبيعة تحكم باستحالة ما يطلب الإنجليز منهم، والتجربة من مدة سنين طبقت بين الحكم العقلي وبين الواقع الحقيقي، هل يمكن سلامة خواطر المصريين من القلق بعدما علموا أن الإنجليز لم يفتتحوا بلدا من بلاد الشرق إلا تحت راية هذه الحجج وعلى هذه الطريقة التي يسلكونها في مصر؟! وهل كان لهم سلطان في جهة من جهات الشرق إلا بدعوى أنهم يريدون فيها الإصلاح ثم ينجلون عنها أتقياء الراحات أعضاء الذيول؟!

ماذا يريد الإنجليز من تقرير الراحة بعساكرهم في مصر؟ هل يريدون مكافحة اللصوص حتى يقهروهم على طرح السلاح ويقوا الأهالي شرهم؟! إن كان هذا قصدهم فيا خيبة الأمل! فإن شيئا من هذه الفظائع لم يكن إلا وجيوشهم نازلة بالبلاد، فكأنما كانت تلك الجيوش مثارا لهذا الفساد، مضى عليها سنتان وهي في معاقل مصر وهبت أعصار السوء بقدومها، وكلما طال الزمان زاد الخطر وقويت عصابات الشر، فماذا قد يكون منها في ثلاث سنين ونصف إلا مثل ما كان من أثرها في سنتين أو أشد فتنة؟

فكيف يعقل أن يكون بقاؤها في مصر مفيدا لرد الأمن إليها، وهل تكون علل المفاسد مجلبة للمصالح؟! نعم يكون هذا إذا قيل: إن حصو الرمضاء يطفئها أو إن وقود النار يخمدها! هل يقصدون من تقرير الراحة إخماد فتنة السودان؟! إن صح هذا القصد منهم فمتى سعوا إليه، وأي جيش ساقوه، وأي قوة وجهوا بها لتكسر سورة الثورة وتمحو أثرها؟

تهافتوا بجيش عظيم على منازلة رجل من رجال محمد أحمد «عثمان دجمة» في سواحل البحر الأحمر، فما كانت إلا مهارشة هرت فيها العساكر وبلغ صوت وقوف القواد إلى أقاصي المسكونة، وارتد بهم الذعر إلى البحر، وقفلوا إلى ديارهم يتلفتون إلى ما وراءهم خوفا ورهبة.

كان الواجب أن يتبعوا عثمان دجمة إلى بربر والخرطوم حتى يبددوا جنده ويلحقوا به صاحب الدعوة، فإن عجزوا عن الكل فلا أقل من أن يأتوا على بعض، فما الذي صدهم عن سبيل القصد، لو كانوا فيه من الصادقين؟ رجعوا وتركوا جوردون باشا في فم التنين ثم التجئوا إلى ملك الحبشة؛ ليثيروا به حربا صليبية تسود بها وجوه الكاذبين الذي يزعمون أنهم دعاة الإنسانية ورعاة التمدن.

فماذ يكون من عساكرهم لو أقامت في مصر أضعاف ما أقامت؟ أظن لا يختلف المستقبل عن الماضي إلا بعظم خطوبه واشتداد نوبه.

Неизвестная страница