أما الدولة العثمانية، فلو حولنا النظر عن حقوقها الثابتة في الأراضي المصرية من وجوه كثيرة، فليس يخفى علينا أن الولاية على تلك الأراضي هي الركن الأعظم للسلطة العثمانية في سوريا، وقسم عظيم مما يتصل بها من آسيا الصغرى وفي الحجاز واليمن، فمن المفروض على العثمانيين أن يبذلوا وسعهم لصيانة مصر؛ دفاعا عن حقوقهم المقررة وحفظا لشوكتهم في معظم ممالكهم، ولا يسوغ لهم شرائع الملك أن يفرطوا في المسألة المصرية لا في جزئي منها ولا كلي، فإن مصر عقدة تتصل بها أطراف السلطنة العثمانية، فإذا انحلت، فقد انحلت - والعياذ بالله - سائر العقد.
ليس لعثماني أن يتوسد وسادة السيادة البسماركية الناعمة؛ فإن الحاجات الطبيعية والدواعي الجوهرية هي الحاكمة على الأمم، ولا اعتبار في السياسة بالأطوار العارضة، ربما يهم بسمارك أن يشتري بمصلحة العثمانيين وداد الإنجليز لتأييد سياسته وترك فرنسا منفردة بلا حليف، وله أن يلقي بمصلحة العثمانيين في أيدي الروس إذا مست الحاجة ليدفع عن نفسه شرا يتوقعه، وليس لبسمارك أدنى غاية في الاتصال بالعثمانيين إلا بهذا المقدار يفدي بهم منفعة من منافعه، ومن نظر إلى أحوال الأمم بما تقتضيه طبائعها؛ حكم بذلك حكما قاطعا.
نعم، من الدول دولة فرنسا كانت لها مزايا في أرض مصر أشرفت على الزوال وليس بالسهل علينا ضياعها، ولها أملاك واسعة فيما وراء البحر الأحمر ولا تصان سلطتها على تلك الأملاك إذا نشبت أظافر الإنجليز في أحشاء مصر بأي اسم كان وتحت أي عنوان؛ فأصول السياسة الفرنسية لا تسمح للفرنسيين بالتساهل في المسائل المصرية.
ودولة الروس تسابق دولة إنجلترا في النصر والغيب بشرقي آسيا، وتنافس الألمان في القوة بأوروبا، ولها مع ألمانيا مزاحمات خفية ثابتة في عناصر الأمتين لا يزيلها هذا التآلف الظاهري؛ فقد يكون من أحكام سياستها الانضمام إلى دولة فرنسا لمضايقة إنجلترا في البلاد المصرية، بل النظر في طبيعة حال الأمتين يقضي بلزوم اتحادهما في المشكلات الأوروبية أيضا، وربما تكون هذه المسألة بداية الارتباط بين هاتين الدولتين.
ولعل هذه الفرصة لا تفوت العثمانيين ولا تحجبهم الحوادث الماضية عن إدراك هذه النكتة، وهي أن الروسيين هم أشد الناس حاجة إلى الاتحاد مع الدولة العثمانية في هذه الأوقات؛ لما فتح لهم من أبواب للغنم في آسيا، ويرون الإلف مع العثمانيين أعظم عضدا لهم في نيل مطامحهم بتلك الأقطار، بما للسلطان من المنزلة العليا في قلوب مسلميها، ولا تأخذ العثمانيين رجفة من إرعاد الإنجليز وإبراقهم؛ فليس لهم سلاح يشهرونه على الدولة العثمانية سوى الترهيب، ومن المحال أن يفاتحوها بحرب وإلا تقلصت سلطتهم عن البلاد الشرقية بأسرها، فإذا ثبتت الدولة في مطالبها واشتدت في إرجاع حقوقها لجأ الإنجليز للخضوع والاستكانة إليها، وهذا من البديهيات الجلية عند كل من وقف على أحوال الإنجليز في الهند وعلى مكانة السلطان العثماني في قلوب الهنديين عموما، والحكم لله يفعل ما يشاء.
الفصل التاسع الأربعون
العروة الوثقى
لا يظن أحد من الناس أن جريدتنا هذه بتخصيصها المسلمين بالذكر أحيانا ومدافعتها عن حقوقهم تقصد الشقاق بينهم وبين ما يجاورهم في أوطانهم ويتفق معهم في مصالح بلادهم ويشاركهم في المنافع من أجيال طويلة؛ فليس هذا من شأننا ولا مما نميل إليه ولا يبيحه ديننا ولا تسمح به شريعتنا، ولكن الغرض تحذير الشرقيين عموما والمسلمين خصوصا من تطاول الأجانب عليهم والإفساد في بلادهم، وقد نخص المسلمين بالذات؛ لأنهم العنصر الغالب في الأقطار التي غدر بها الأجانب وأذلوا أهلها أجمعين، واستأثروا بجمع خيراتها، وسنكتب مقالة مفردة في هذا الباب إن شاء الله.
الفصل الخمسون
إسماعيل باشا
Неизвестная страница