الفصل الثلاثون
أسطورة
ذكروا في أساطير الأولين أن هيكلا عظيما كان خارج مدينة إصطخر، وربما أوى إليه بعض سراة الليل إذا اشتدت بهم وحشة الظلام، وما أوى إليه أحد إلا غالته المنية، فيأتي طلاب أثره لفحص خبره فيدخلون الهيكل في ضوء النهار فيجدونه به ميتا، ثم لا يهتدون لسبب موته لسلامة بدنه من كل ما يعهد سببا للموت، واشتهر أمر الهيكل بين السابلة والقطان وأخذ كل قاصد حذره من المبيت به، حتى ضاقت الدنيا برجل، فاختار الموت على الحياة، وصعب عليه انتحار نفسه بيده فذهب إلى الهيكل لعله يصادف منيته، فإذا بالقرب منه رجال نصحوه وحذروه عاقبة الهلاك فلم يصغ إليهم، وقال: إنما أتيت لتلك العاقبة، وانفلت من نصحائه إلى حيث يظن مهلكه.
فلما توسط الهيكل فاجأته أصوات مزعجة هائلة كأن جمعا عظيما يخاطبه: ها نحن قد أتينا لإتلافك، ها نحن قد أتينا لإزهاق روحك، ها نحن وصلنا لتمزيق بدنك وسحق عظامك، فصاح البائس ألا فأقدموا فقد سئمت الحياة، ولم يتم كلامه إلا وقد حدثت فرقعة شديدة وانحل الطلسم وانشق الجدار وتناثرت منه الدراهم والدنانير وتفتحت أبواب الكنوز، فاطمأن الخائف ونام حتى أصبح، ولما أضحى النهار، وجاء الواقفون على خبره ليحلموا جنازته، وجدوه فرحا مستبشرا يسألهم بعض الأوعية لحمل ما وجده من الذهب والفضة، فاستخبروه قصته ... فبعد البيان علموا أن هلاك من هلك إنما كان بالفزع من تلك المزعجات التي لا حقيقة لها.
بريطانيا العظمى هيكل عظيم يأوي إليه المغرورون إذا أوحشت مظلمات السياسة، فتدركهم المنية بمزعجات الأوهام، وكم هلك بين جدرانه من لا مريرة لهم، ولا ثبات لجأشهم، وأخشى أن يسوق اليأس إليه قوي المريرة، ضاقت الحياة، فما يكون إلا هنيهة يصعد فيها صوت اليأس، فينقض الجدار، وينحل الطلسم الأعظم.
الفصل الحادي والثلاثون
القوة للحق
أخذت دولة بريطانيا في معاملة الشرقيين لهذه الأيام طريقا غير طريقها المعروف، وهي تعلم أن نجاحها في أعمالها لديهم، وبسطة ملكها فيهم، واقتطاف ثمرات جنانهم؛ إنما كان بذاك الطريق المعهود، كأني أراها اليوم اكتنهت حقائقهم، وسبرت خلائقهم، ووصلت إلى مكنونات صدورهم، تجاوزت من ظواهرهم إلى ضمائرهم، وأدلت بخراطيمها إلى قلوبهم، فأحست سكوتا، فحسبته يبسا من شدة الجبن، وسرت بدقتها في أوعية دمائهم، فشعرت منها بفتور ظنته وقوفا من شدة الضعف، فكان من حسبانها أنهم في نهاية العجز عن أعمالهم، والقيام بشئونهم.
أو أنست منهم الركون إلى المراتب التي نقلت عن معانيها الأصلية، وجردت عن مدلولاتها: كناظر، ووزير، ووال، وأمير، وهي أشبه بقباب عالية، إلا أنها خاوية خالية، فكان من زعمها أن أمراء الشرق شغلتهم بهرجة هذه الصور الظاهرية حتى أنستهم منافعهم الحقيقية، وضرورات حياتهم الجنسية أو الملية، وقنعوا بما يشيده الوهم ويزينه الخيال، هكذا ظنت كما تدل عليه أعمالها، ولم يكن ذلك معهودا منها.
دخلت دولة الإنجليز بلاد الهنديين، ومدت عينها إلى ما متعهم الله به من أراضيهم، وطمحت إلى اختطافها من أيدي المسلمين، إلا أنها ذهبت مذهب اللين واللطف، وخفض جناح الذل، والظهور في ألبسة الخضوع والخشية، وصابرت على هذا السير أزمانا تقطع مسافات كثيرة في مدة طويلة.
Неизвестная страница