كنا نعلم أن جميع المسلمين وعموم الوطنيين يرون من فروض ذمتهم السعي في معاكسة سير الإنجليز وإقامة الموانع في طريقهم بقدر الطاقة والإمكان؛ قياما بما يوجبه الدين والوطن، ولا يحتاجون في الانبعاث لهذا العمل الشريف إلى أمر سلطاني؛ فإن الشريعة الإلهية والنواميس الطبيعية في كل ملة وكل قطر من أقطار الأرض تطالب كل شخص بصيانة وطنه والذود عن حوزته وتبيح الموت دونه، بل توجبه في مدافعة الباغين عليه، وتدعو كل ذي عقل لأخذ الحذر من حيل المحتالين، والتوقي من الأرواح الشريرة الخبيثة التي تتجلى في أشكال من الصور، منها ما يخطف برونقه الظاهر لب الألباب ويهذب بهوه الصوري بنور الأبصار، وهي منابع الشر ومصادر الفساد ومهب رياح الفتن والاختلال، تلك أرواح الأجانب ونفوس الأباعد الذين يهتكون حرم البلاد ويخفضون شئون العباد ويغمطون الحقوق ويفسدون الأخلاق ويذلون النفوس.
المدافعة عن الوطن أمر طبيعي، وفرض معاشي يكاتف في دعوة الطبيعة إليه الميل إلى الطعام والشراب، فليس يمدح القائمون به ولا يثنى عليهم في أدائه. نعم، تتجلى صورهم الجميلة محلاة بأوصافها الفاضلة في مزايا التواريخ عندما يمر النظر إليها على تماثيل الخائنين الذين جاوزوا تخوم الطبيعة وصيغت لهم هياكل من اللعن الأبدي مسربلة بالخزي والعار السرمدي، هكذا يعرف الشيء بضده.
لسنا نعني بالخائن من يبيع بلاده بالنقد ويسلمها للعدو بثمن بخس أو بغير بخس - وكل ثمن تباع به البلاد فهو بخس - بل خائن الوطن من يكون سببا في خطوة يخطوها العدو في أرض الوطن، بل من يدع قدما لعدو تستقر على تراب الوطن وهو قادر على زلزلتها، ذاك هو الخائن، في أي لباس ظهر وعلى أي وجه انقلب.
القادر على فكر يبديه، أوتدبير يأتيه، لتعطيل حركات الأعداء ثم يقصر فيه؛ فهو الخائن، من لم يستطع عملا وأمكنه أن يرشد العامل وتهاون في النصيحة؛ فقد خان، من سوف عمل اليوم إلى الغد وتوانى في تضليل كيد الأعداء بقول أو فعل؛ فقد ارتكب خطيئة الخيانة. وكل خائن لوطنه أو ملته فهو ملعون على ألسنة الأنبياء والمرسلين وممقوت في نظر العالم أجمعين.
ما أعظم جريمة الخيانة (المساهلة في شئون الأوطان) يأتي الزمان بطوله على كل شيء فيمحو أثره ويطمس رسمه إلا وصمة الخيانة، فلا تطويها الأدهار، ولا يخفيها تطاول الأعصار، محيت أسماء العظماء والملوك والسلاطين، ولكن لم تمح أسماء الخائنين ، لوث على وجه الزمان ودرن في صفحة الإمكان مكتنفة باللعنة محفوفة بالمقت إلى أبد الآبدين، لا يحيط القلم بوصف الخائن وما يتبعه من الشنائع، ولكن النفوس مهما تدانت في الإدراك تشعر بعظم جرمه، فلنرجع إلى موضوع كلامنا.
كنا على يقين ولا نزال عليه، أن الذات الشاهانية وهي الأب الأكبر لعموم المسلمين، وهي الكافلة للشريعة الحافظة للدين؛ هي أجدر الناس بالالتفات إلى حركة الأعداء في البلاد الإسلامية، وهي لا تألو جهدا في تعويق سيرهم وإحباط أعمالهم، ولا يمكن أن يطمئن للسلطان قلب وهو يرى أن أمة عظيمة من أخلص الأمم في الولاء له والخضوع لشوكته سقطت تحت السلطة الأجنبية، وإنه لحرج الصدر من أعمال الحكومة الإنجليزية وعدوانها على الحقوق العثمانية والإسلامية والمصرية بلغت غشمرة الإنجليز إلى حد لا يحتمل، فليس من الغريب أن تضيق بها الصدور وتفيض بالغيظ منها القلوب وتبلى منها دروع الصبر وتذوب سابغات الجلد.
فيا أيها المصريون، هذه دياركم وأموالكم وأعراضكم وعقائد دينكم وأخلاقكم وشريعتكم، قبض العدو على زمام التصرف فيها غيلة واختلاسا، زحف العدو إليكم تحت راية المحبة، ثم قلب لكم ظهر المجن، وتناول بيده الظالمة شئونكم العامة، من عسكرية ومالية وإدارة وقضاء، ولم يبق لكم شيئا إلا الحرمان من خدمة أوطانكم، وأنتم أحق بها وطالما دافعتم عنها في الأيام السابقة.
هذا، وهو لم يأمن طوارق السياسة الخارجية ولم يمح القوى الداخلية، يطلب استمالة القلوب إليه، وجمع النفوس عليه، فكيف به إذا رسخت أقدامه، وارتكزت أعلامه، وخلا له الجو من المعارضين؟! ماذا ترجون من مطاولته، وماذا تؤملون في إرخاء العنان له، وماذا تهابون في معارضته والأخذ على يده؟!
أما رجاء الخير منه فوهم فاسد وخيال باطل؛ فقد رأيتم أنه أفسد شئونكم، وأقلق راحتكم، وحرم رجالكم من الخدم، وأفقر آلافا مؤلفة من العائلات، ووهب من بلادكم لأعدائكم، وأضر بمنافعكم العامة من زراعة وتجارة وصناعة، فأغلق أبواب الكسب في وجوهكم، وقصد إلى التدخل فيما يختص بأمور دينكم (كالأوقاف)، وعمد إلى خرق سياجكم وإزالة قوتكم بطرد جنودكم، وهذه أوائل أعماله ، فكيف تكون نهايتها؟! فماذا تخشون منه؟
هل تخشون أن تنقص أموالكم، وثمرات كسبكم إذا أديتم حقوق وطنكم وحاربتم عدوكم؟! ربما يختلج هذا بخاطر بعضكم، وهو من عجيب الخواطر، أنتم واقعون بسكونكم فيما تخافون منه، انتقصت الأموال والثمرات، وفاضت العبرات وزادت الحسرات، وإن زدتم في الخضوع زادكم عدوكم خسارا وأوسعكم خرابا ودمارا، إن رسخت قدم العدو بينكم لا يبقى منكم غني إلا افتقر، ولا عظيم إلا احتقر، وإن شئتم فانظروا مستقبلكم في مرآة حاضركم، واقرءوا حالكم في تواريخ من سبقكم.
Неизвестная страница