بعض النساء يتفوقن على سواهن بترتيب الأشياء وإتقان العمل والنظافة، أما السيدة بطرس فقد امتازت عن غيرها بالسرعة المدهشة.
لم تحتج إلى أكثر من دورتين أو ثلاث في غرفتها حتى أعادت كل شيء إلى مكانه، فاطمأن بالها عندئذ فأخذت تحت ذراعها قماشتها المطرزة وخفت إلى مجلس الثرثرة المنعقد تحت ظلال شجرة الطلح.
كانت السيدة بطرس تنظر إلى القرويات اللواتي كن يجالسنها نظرة ملكة إلى ما دونها؛ لأنها كانت تفتخر بانتسابها إلى أسرة عاشت في المدن، وبأنها المرأة الوحيدة التي أطلق عليها لقب «سيدة» في منزل عملة السكة، إلا أنها استاءت من مجيء عزيز وحلوله في ذلك المنزل، لا سيما عندما وقع نظرها على ابنته حواء وولده آدم، وخطر لها أنها ستنخسف أمام جمال تلك وذكاء هذا؛ ولكنها ما لبثت أن اطمأنت وعادت إلى سكينتها.
كانت السيدة عزيز وهي قروية لا تعبأ بسوى العمل والإنتاج، تهتم جد الاهتمام بمعزها وخنازيرها؛ تارة تمثل دور الرجل فتقلب بمحفرها حديقتها الصغيرة، وطورا تأخذ على عهدتها غسل ثياب الغير لقاء أجرة، وخلاصة القول كانت لا تخجل بعمل مهما كان حقيرا. وكانت ابنتها حواء فتاة صلبة عديمة الأناقة، قطوبة الوجه، تكثر من المطالعة والدرس، يتراوح عمرها بين الخامسة عشرة والسادسة عشرة، تبدو على محياها أمارات العجب والكبرياء! وعلى الجملة فهي من تلك الفتيات اللواتي لم تحدثهن نفوسهن يوما بأن يخلعن عن عرش الجمال امرأة حسناء كالسيدة بطرس.
بقيت السيدة بطرس في وسط ذلك المجتمع المؤلف من الأنفس الساذجة المستغرقة في المادة، تلك الأرواح الخيالية المشبعة بالجمال والفن، ذات الأصابع الناعمة التي لم تبدع إلا لتطوي أوراق كتاب أو لترسم أزهارا على نسيجة من الكتان الثمين.
4
جاء يوم الأحد فلم تأبه له السيدة بطرس؛ لأن إيمانها الديني الذي لم يؤسس على دعائم متينة كان قد فتر من يوم إلى يوم تحت نفوذ قراءتها الروايات المفسدة، ففي ذلك الصباح الجميل عادت السيدة أديب من القداس الأول وخلعت عنها وشاحها الأبيض بتؤدة واحترام، فتقدمت إليها السيدة بطرس وطلبت منها أن تعيرها ثلاث مغارف من الطحين ومغرفة من الزيت قائلة: لقد تراخيت في تجديد المئونة يا سيدة أديب، ويجب علي أن أعد الغداء قبل الساعة الحادية عشرة؛ لأن زوجي يود أن يذهب إلى جونية عند ظهيرة النهار، فيظهر لي أن هنالك فندقا يؤمه غواة القمار، وزوجي أصبح منهم؛ لأنه ينقاد إلى أصدقائه الذين عودوه الاختلاف إلى الحانات كلما سنحت له الفرص.
قالت ذلك ونظرت بحزن إلى ردائها المخرق في مواضع عديدة، وبينا هي عائدة إلى غرفتها وفي يدها مغارف الزيت والطحين أبصرت السيدة فارس خارجة من المنزل بأبهى ما لديها من الزينة، يتبعها أولادها الثلاثة ذوو الوجوه الرخصة الطريئة والشعور المصقولة النظيفة مرتدين أردية بيضاء، أحدهم يحمل مظلة أمه، والآخر كتاب صلواتها ويتجهون جميعهم إلى الكنيسة الكبرى في جونية، فصرخت قائلة: آه! إن هؤلاء المائتين السعداء لا يزال يتسع لهم الذهاب إلى الكنيسة! أما أنا فلم يبق لي آحاد أسر بها! فجاوبتها السيدة فارس برقتها المعهودة: إنك تأخذين علي دائما استغراقي في الحياة المادية، فأنا لا أكتمك أنني أصرف ستة أيام في العمل والكد، ولكن الأحد هو يوم الراحة من التعب، لا بل عيد جميل، لقد طالما ذقت في حياتي لذة الآحاد السعيدة حتى أصبحت اليوم أرغب في إذاقة حلاوتها لأولادي الصغار.
ثم التفتت نحو المنزل وقالت: من يتبعني إلى الكنيسة؟ فأسرعت فتاة جميلة في نحو العاشرة من عمرها، هي ابنة أديب ذات المقلتين الحلوتين والبشرة الناعمة التقية التي لا تكاد تقع عليها أعين عملة السكة حتى يقولوا في نفوسهم: اصبروا حتى تبلغ السادسة عشرة من عمرها فتبصروا الهائمين يخفون إليها كما تخف الشحارير إلى المرايا. •••
وعندما انتهت الذبيحة عادت السيدة فارس إلى المنزل يحيط بها أولادها الأحداث كفراش تحوم حول زهرة؛ وفيما هم في الطريق أخذت تقص على المسامع حكايات يوسف الصديق، وضحية إسحق وانتصار داود على جليات وحداثة المسيح ونبيذ قانا وضريح لعازر والذبائح في الدياميس ورمي المسيحيين فريسة للأسود، حتى انتهت إلى قصة «تارسيسيوس» الولد القديس، فسألتها الفتاة الصغيرة عما إذا كان هذا الولد جميلا، وسألها فريد عما إذا كان رث الثياب، وشفع ذلك بقوله: إن من التعزية أن نشاهد أجساما هزيلة وثيابا رثة تنطوي على قلوب نبيلة حساسة.
Неизвестная страница