بعد مضي شهرين، أي عند دخول التلامذة إلى المدارس، كان ولد صغير صاعدا إلى قطار بيروت مع ابن عزيز، وفي يده سلة فيها فطوره وعلى ظهره حقيبة تحتوي على كتب مدرسية.
كان هذا الولد فريد البائس الذي كثيرا ما أرهقته الأم سالم بالعذاب والجوع حتى كادت تفنيه، وقد ظهرت عليه دلائل الزهو والنشاط وتورد خداه بعد الذبول.
إن تبنيه من فارس قد دعا سكان المنزل إلى حمية غريبة حتى رغب الجميع في أن يساعدوا ذلك الفعل الجميل بكل ما أوتوه من المقدرة.
فبعد القطاف قدمت عائلة أديب إلى عائلة فارس برميلا من الخمر قائلة: إن من الضروري أن يشرب فريد الصغير! أما عائلة عزيز فقد نزعت عن بخلها الذي تعودته وعزمت أن تمنح الولد ثيابا قديمة رثت على ولدهم نبيه؛ وأما السيد بطرس تلك الروح الشاعرة فبعد أن حفرت مخيلتها لتجد هدية ذات فائدة يحتاج إليها فريد الصغير قررت أن تدبج له منديلا جميلا، فضلا عن نجيب الذي اغتنم إحدى الفرص فأخذ الولد إلى بيروت حيث اشترى له قبعة وثوبا جديدا. - ما هذا يا سيد نجيب، لقد وهبت فوق ما يتسع لك! - أية غرابة في ذلك يا سيدة فارس؟ ألم تتبني الولد أنت؟ ألم تجمعي إلى أولادك الثلاثة ولدا آخر يتطلب جهودا للقيام بأوده كما يتطلب كل ولد من أولادك؟ فلماذا لا تودين من أعزب مثلي أن يضحي بجزء قليل مما ضحيت به أنت؟ إنني ما صنعت جميلا في حياتي؛ لأنني لم أتوفق مرة إلى ذلك، أفترغبين في أن أشيح وجهي عن الرحمة كلما اتفق لي أن أصادفها في طريقي؟ ثم إن هذا الولد يا سيدة فارس ملك للجميع؛ فسيكون ولد عمال السكة.
لا أعرف أية عاطفة أبوية كانت تستيقظ في قلب هذا الغلام المسن. إن الرحمة متى ما لامست روح إنسان حركت فيها عجائب عظيمة!
وجد نجيب فيما بعد لذة عظيمة في التحدث إلى فريد، فسمح له أن يختلف إلى غرفته ويتأمل الآثار الثمينة التي جاء بها من الجزائر؛ ولم يمض وقت طويل حتى تمكنت عرى المحبة بينهما فأصبح نجيب لا يقر له قرار ما لم يجد فريدا إلى جانبه إن في مكتبه وإن في المنزل.
ففي يوم من أواخر أيام أيلول جاء نجيب إلى عائلة فارس وقال لها: إن مستقبل الولد يهمني كثيرا، فهو يرغب في أن يكون عاملا في السكة، ولكنه لا يتوصل إلى مركز سام ما لم يتلق علوما صالحة. إن مدرسة جونية لا تكفي؛ فالأحرى بنا أن نرسله إلى مدرسة كبرى من مدارس بيروت ليتلقن فيها اللغة العربية والرياضيات، وعلي دفع ما يترتب من المال!
فاستغربت عائلة فارس وحاولت أن تردعه عن تلك الحمية الكبيرة فقال: ألا تدركون يا أصدقائي أن هوى في نفسي يدفعني إلى تتميم هذا الواجب؟ كنت فيما مضى لا يلذ لي إلا جمع طوابع البريد، فملت عن ذلك إلى التصوير ثم إلى النقش ... أما الآن فقد جنحت بكل ما بي من الميل إلى الاهتمام بأمر فريد! ألا تستغربوا هذا الكرم، فأنا لم أفعله لأجله بل لأجلي ... لقد أصبحت أشعر بأن تمتعي بروح نبيلة تتدرج في مدارج التقدم والرقي يورثني من الفرح واللذة أكثر بكثير ما تورثني إياه رؤية الطوابع البريدية النادرة أو الصور الجميلة في مجموعة «مذهبة».
بدأ فريد منذ تشرين الأول بالذهاب إلى بيروت كل صباح. آه إن أبناء عملة السكة يختلفون عن غيرهم في تلقي دروسهم! ألم تروا مرة في الدرجة الثانية من إحدى غرف القطار هؤلاء الصغار المجتهدين الذين منحتهم الشركة حق المرور في قطاراتها بدون أن تتقاضى أجرة ليتسنى لهم تهيئة المستقبل؟
إنهم وقراء مجتهدون؛ لأنهم يتبعون غاية محدودة، فلا يكادون يبلغون الثانية أو الثالثة عشرة حتى يكونوا قد اختاروا مهنتهم المقبلة. إنهم يدركون أن من الواجب عليهم أن يقدموا امتحانات جيدة ليضمنوا حياتهم، ولا يجهلون أن على اجتهادهم وكدهم يتوقف أمر مستقبلهم، إنهم يعرفون كل المعرفة أنهم أبناء عملة وأن آباءهم يعانون مرارة وتعبا لكي يقدموا لهم الكساء والطعام!
Неизвестная страница