حسر أكمام جبته إلى قرابة إبطيه. وطلب مني أن أحضر له المحبرة والريشة وأوراقا. كان يجلس متربعا فوضع الأوراق على فخذه وانحنى فوقها، وأخذ يكتب. وعندما انتهت الصفحة ألقاها جانبا وتناول غيرها.
اكتشف نفاد الحبر فاستدعى خادما وأرسله إلى الحسينية ليشتري من الحبارين. تغلب علي فضولي فسألته عما يكتب. قال وهو يبعد الناموس عن وجهه: أسجل ما ذكرته لي الآن. سأكتب مدة الفرنسيس في مصر؛ فقلبي يحدثني أننا مقبلون على أحداث جسام.
سمعنا دقا على الباب الخارجي؛ انزعج وجمع الصحف وأخفاها تحت حشية الأريكة، نهضت واقفا منزعجا أنا الآخر.
ظهر جعفر عند باب القاعة وخلفه الشيخ المهدي الذي يحرر منشورات بونابرته في القالب العربي. فك الشيخ المست الجلدي الذي يغطي نعليه ثم خلعهما، وترك عصاه بجوار الباب. نهض أستاذي مرحبا بالشيخ، وأفسح له مكانا بجواره. كان يرتدي عمامة كبيرة ملفوفة حول قاووق طويل تبدو قمته ظاهرة في أعلاها . وحول عنقه فرو سمور تدلى طرفاه فوق كتفيه.
خلع الفرو والعمامة متشكيا من الحر وألقاهما على الأريكة، ومسح رأسه وجبينه بكم قفطانه. أحضر له خادم كوبا من شربات الورد، ثم وضع أمامه صحنا من الفواكه المجففة التي كانت ترد من تركيا قبل وصول الفرنساوية.
قال إنه حضر اجتماع الديوان قبل يومين ببيت قائد أغا قرب الرويعي، وحضر معه الفرنساوية، وبعض المشايخ مثل عبد الله الشرقاوي، وخليل البكري، وسليمان الفيومي، والصاوي، والسرسي. - ماذا فعلوا؟ - طلب الفرنساوية خمسمائة ألف ريال سلفة من التجار. ووضعوا اشتراطات محصلها التحايل على أخذ الأموال. وأخذ يعد على أصابعه: أن يأتي أصحاب الأملاك بحججهم وتمسكاتهم الشاهدة لهم بالتمليك، فإذا أحضروها وبينوا وجه تملكهم لها إما بالبيع أو الانتقال لهم بالإرث؛ يؤمر بالكشف عليها في السجلات، ويدفع الواحد منهم على ذلك الكشف قدرا معينا من الدراهم، فإن وجد تمسكه مقيدا بالسجل طلب منه بعد ذلك الثبوت، ويدفع على ذلك الإشهاد بعد ثبوته وقبوله قدرا آخر، ويأخذ بذلك تصحيحا، ويكتب له بعد ذلك تمكين، وينظر بعد ذلك في قيمته، ويدفع على كل مائة اثنين. فإن لم يكن له حجة، أو لم تكن مقيدة بالسجل، أو مقيدة ولم يثبت ذلك التقييد؛ فإنها تضبط لديوان الجمهور وتصير من حقوقهم.
قال الجبرتي: خرجنا من بلوة لنقع في واحدة أشد. هل تذكر عندما فرض الأتراك ضريبة الحماية على الأرض؟ جعلوا على كل فدان عشر بارات، فكل من كان تحت يده شيء يكتب له عرضحال، ويذهب به إلى ديوان الدفتردار فيعلم عليه علامة، ثم يذهب بذلك العرضحال إلى كاتب الرزق فيكشف عنه في الدفاتر المختصة بالإقليم الذي فيه الأرصاد بموجب الإذن بتلك العلامة، فيكتب له تحتها علامة بعد أن يأخذ منه دراهم، فيرجع إلى الدفتردار فيكتب تحته علامة غير الأولى، فيذهب إلى كاتب الميري؛ فيطالبه حينئذ بسنداته وحجج تصرفه، ومن أين وصل إليه ذلك، فإن سهلت عليه الدنيا ودفع له ما أرضاه كتب له تحت ذلك عبارة بالتركي لثبوت ذلك، وإلا تعنت على الطالب بضروب من العلل، وكلفه بثبوت كل دقيقة يراها في سنداته وعطل شغله، فما يسع ذلك الشخص إلا بذل همته في تتميم غرضه بأي وجه؛ فيستدين أو يبيع ثيابه.
سألته بعد انصراف الشيخ المهدي عما إذا كان سيحضر اجتماعات الديوان. تفكر قليلا وهو يتحسس لحيته، قال: لن نخسر شيئا، ستكون فرصة ثمينة للحصول على الأخبار من منبعها.
2
الجمعة 17 أغسطس
Неизвестная страница