فالزوجة مشغولة بالاستمتاع بزوجيتها، والأب مشغول بعمله، والأولاد متروكون للحاضنة أو المربية وللمدارس ولجالسات الأطفال في أحيان، وهي كلها أشياء لا تعوض مثقال ذرة ربع معشار الأبوة والأمومة الحقيقية، ومن أجل هذا يهرب الأطفال مبكرا من أسرهم في الثانية عشرة أو الرابعة عشرة وربما أقل بكثير.
يهربون لأنهم يريدون «أسرة» وإذا كانت أسرهم الحقيقية قد نبذتهم فإنهم يلجئون إلى تكوين «أسرة» أو «عصابات» من الأولاد والبنات يكونون آباء وأمهات لبعضهم البعض.
ومن أجل هذا السبب وحده تكثر التقاليع ويتبوأ شاب معتوه مثل «مانسون» الذي قتل شارون تيت وآخرين، يتبوأ مكانة الأب ويسيطر سيطرة سيئة على الشبان والفتيات كأنه أصبح المعبود الأول، ولنفس هذا السبب أيضا وبطريقة أخرى يهرب أولادنا في عالمنا العربي والإسلامي (الغني والفقير على حد سواء) ويذهبون وينضمون إلى الجماعات الدينية، حتى يصبح «الأمير» هو الأب أو رمز الأب أو صورة الأب، وكلمته هي العليا، ومن ناحية أخرى يهربون إلى شلل المخدرات والجلسات والطرق المشبوهة التي تصبح بمثابة عائلاتهم، أو بالأصح تعويضا عن عائلاتهم الحقيقية. •••
وليس الأب الفعلي هو المشكلة في عالمنا العربي، ولكن رئيس الدولة والدولة هما بمثابة الأب، والرئيس في العمل يقوم مقام الأب، حتى الأم أحيانا تقوم بدور الأب، ولكن هذا كله لا يغني أبدا عن الأب الحقيقي، إنما هي تعويضات وإسقاطات ومحاولات دائبة من شبابنا وشاباتنا للبحث عن هذا الشبح المفقود: الأب.
وإذا كان معظمنا ساخطين على الحكومات ورؤساء الحكومات وشيوخ القبائل «والعمد»، والكبار بشكل عام، فليس السبب كامنا في هؤلاء بحد ذاتهم، إنما السبب أننا نبحث فيهم عن آبائنا المفقودين، بحنانهم ورحمتهم، برأيهم السديد وحكمتهم، بهذا الشعور النبيل الجميل الذي يدفعك حين تحس بالمعزة والمحبة والمودة والإكبار لإنسان ما أن تقول له: «ياه! دانت زي أبويا!»
بالحب، بالحنان، بالحسم ساعة الحسم، بهدهدة الحنان حين نحتاج إلى الحنان، وتكشيرة العبوس المحب حين نحتاج إلى حب عبوس نبحث فيهم عن آبائنا المفقودين هؤلاء، فلا نجدهم فنزداد سخطا عليهم، بينما سخطنا الأكبر ينصب على آبائنا الحقيقيين الذين تركونا بذورا بلا سيقان، وسيقانا بلا أوراق، وأوراقا وسيقانا وبذورا بلا ثمر، فكيف يعود لنا أبونا الغائب؟!
كيف؟!
ذلك هو السؤال.
ملعبة التليفزيون
أعجبتني الحكاية التي قصها علينا الأديب عبد الله الطوخي وهو يروي لنا كيف كان جالسا مع عائلته وفي منزله، ثم فجأة سمع ضجة شديدة وصراخا وعويلا في الشقة المجاورة فأسرع ودق على باب جاره لتفتح له ابنته الباب، ويجد الرجل صاحب الشقة، وهو ضخم الجثة فارع الطول ينهال بقطعة حديد على جهاز التليفزيون في بيته يحطمه ويفتته قطعا قطعا أمام زوجته وأبنائه وبناته دون مراعاة لاستعطافاتهم ورجواتهم وهم يقولون: «والنبي يا بابا، بلاش تكسره بلاش!» فيرد عليهم بصوت عال كالرعد قائلا: «أنا مش بابا! هذا هو بابا!» (قاصدا جهاز التليفزيون) منهالا عليه بشدة أكثر تحطيما وتكسيرا، حتى فتته تماما.
Неизвестная страница