إلى أن بدأت أعرف هذه القصص والحوادث على حقيقتها، وأستفهم وأغرق في الاستفهام، لأدرك أخيرا، وأخيرا جدا، بدأت خيوط فجر المشكلة تتبدى، فقد اكتشفت أن هناك في تلك العائلات عاملا مشتركا واحدا لا يتغير فيها جميعا؛ ذلك هو الأب، أو بالأصح غياب الأب، أو على وجه أكثر دقة دور الأب في ارتكاب تلك الجرائم.
اكتشفت هذا رغم أن كل تلك الحوادث لم يكن الأب فيها هو قاتل الابن أو الأم أو البنت، بل كان طوال الوقت هو المقتول أو المذبوح أو المدحرج رأسه أسفل السرير، بينما الزوجة والعشيق نائمان ملء الجفون فوقه!
وهنا بدأت أتأمل المشكلة من زاوية جديدة تماما، بل أحسست أني قد وضعت يدي على قلب المشكلة، الأب المصري أو العربي بشكل عام.
فقد لاحظت أن كل هذه الجرائم كان الابن فيها أو كانت الزوجة بعيدة عن زوجها، فهو إما يعمل في إحدى البلاد العربية، غائب له سنين، يلهث ليوفر للعائلة أكلها وملبسها ومنزلها، وهو إما في مصر مثلا، ولكنه يعمل في الصحراء أو الوادي الجديد، أو على العموم بعيدا عن مقر الأسرة، فهذا الشاب الذي أطلق عشرين طلقة على والديه كانت أمه مذيعة تعمل في قطر، وكان أبوه هناك، ونشأ الصبي وأصبح شابا، وهما بعيدان عنه تماما، ولم يعودا إليه إلا بعد أن كبر ودخل كلية الطب.
وانتهت تماما تلك الفترة التي يحتاج فيها الابن إلى أمه وأبيه؛ فترة التكوين النفسي الأولى، فترة مثلها مثل لبن الأم لا سبيل إلى تعويضها حتى بحنان العالم كله أو نقوده تتدفق من جيب الشاب بعدما جاوز مرحلة الحضانة النفسية التي تشكل تكوينه الداخلي ونوازعه.
وهذه المرأة التي كان زوجها يعمل في السعودية، وقد ترك لها ستة أطفال معلقين في رقبتها واستغاثت به أكثر من مرة لتلحقه هناك، ويعيشوا جميعا معا، ولكنه رد عليها بقول: إن تكاليف المعيشة مرتفعة جدا، وإنهم إذا جاءوا وعاشوا معه فلن يوفر مليما واحدا، وكانت النتيجة أنه صحيح بنى لها منزلا ست شقق وكتبه باسمها، ولكنها هي بنفسها كانت قد ضاعت وتعرفت بسائق تاكسي الذي استولى عليها وعلى ابنتها وعلى أولادها أيضا، وبالذات على ابنتها الشابة التي عاونتها في قتل أخيها مع العشيق السائق ودفنوه وذهبوا جميعا إلى السينما بعد هذا!
وحين عاد الزوج قابلوه بجرعة «الأتيفان» مذابة في الشاي وخدروه وذبحوه هو الآخر.
هكذا سوف تجد خلف كل مأساة من تلك المآسي «غياب» الأب هو السبب القوي المباشر.
وهو ليس أبا واحدا، هناك أكثر من مليوني أب مصري يعملون في الخارج وفي الدول العربية تاركين عائلاتهم في مصر، ولا يتركونها لفترة عام أو حتى بضعة أعوام، ولكن بالسنين الطويلة يفعلون!
قال لي أب من هؤلاء: لقد تركت ابنتي وهي تلميذة في المرحلة الابتدائية وحين عدت كانت قد أصبحت طالبة في الجامعة، وكنا نجلس معا أنا وهي فلا نكاد نجد موضوعا نتحدث فيه.
Неизвестная страница